رفض الخبرة الجينية لإثبات النسب: حيف قانوني ضد الأمهات العازبات وأطفالهن.

النساء26 أكتوبر، 2025

بقلم: قدس.

تشغل الأسرة مكانة هامة في كل المجتمعات الرأسمالية الأبوية، وهي مكان تتعلم فيه مجموعات الأفراد قيم الخضوع والامتثال لعلاقات الاستغلال والسيطرة الطبقية، كما تعد آلية لإعادة إنتاج الاضطهاد الجندري والحفاظ على الملكية الخاصة. ولأهمية الأدوار التي تقوم بها الأسرة، يتم إيلائها حيزا هاما في التشريعات التي تنظم حياة المجتمعات البشرية. تسعى قوانين الأسرة التي يتم وضعها إلى تحديد العلاقات الأسرية بما يتماشى وبنية القيم السائدة في المجتمع. وتعد قضايا البنوة والنسب من الأمور التي حظيت بجزء كبير من النقاشات والتجاذبات التي رافقت مسار وضع وتغيير التشريع الأسري في المغرب. ولازالت مسألة النسب محط نقاش متضارب، يعكس الطبيعة الطبقية والأيديولوجية للأطراف المتصارعة، وتبقى مسألة الاعتراف القانوني بنسب أطفال الأمهات العازبات، باستعمال التحليل الجيني، إحدى القضايا التي تصطدم بأحكام فقهية، حريصة على حماية نموذج الأسرة الأبوي السائد.

لم يمس مقترح تعديلات مدونة الأسرة المعلن عنه بتاريخ 24 دجنبر 2023 من طرف الهيئة المكلفة المادة 148، وبقي مضمونها كما هو، بحيث لا يترتب عن ازدياد أطفال خارج إطار الزواج أي آثار قانونية تخول لهم حق الانتساب لآبائهم البيولوجيين. وعلل المجلس العلمي الأعلى الذي أوكلت له هذه المسألة، رفضه مطلب إقرار العمل بالخبرة الجينية لإثبات نسب هؤلاء الأطفال، كون ذلك يخلق أسرة بديلة للأسرة القائمة على الزواج الشرعي، والتي تعد الخلية الأساسية للمجتمع، وفق الفصل 32 من الدستور. لكن هذا الفصل ينص كذلك على التزام الدولة بضمان الحماية القانونية والاعتبار الاجتماعي لكل الأطفال، بشكل متساو بغض النظر عن وضعيتهم العائلية. وتستعمل الرجعية الدينية فقرة من منطوق هذا الفصل تتماشى ومنظورها الأبوي السائد للأسرة، سواء للدفاع عن رفضها الصريح لحق الأطفال خارج الزواج في الاعتراف القانوني بنسبهم وما يترتب عنه من حقوق، أو لتبرير موقف متدبدب لدى قسم من هذا الطيف الرجعي إزاء هذا الأمر. ونجد أن من يستند على الدستور والمواثيق الدولية، يتمسك من جهته بالجزء الذي ينص فيه ذات الفصل على حقوق الأطفال غير المشروطة بوضعهم العائلي، وهكذا يجمع هذا الفصل بين اتجاهين متعارضين، أحدهما يتصدى لهذا الميز القانوني الذي يرتكب في حق الأمهات العازبات وأطفالهن، والطرف الآخر يحارب بعداء إنصاف من يتحملون تبعات هذا الظلم القانوني.

استبعاد الخبرة الجينية: ولاء لمورث ذكوري ظالم بذل إنصاف أطفال الأمهات العازبات.

تنظم المواد من 152 إلى 162 من مدونة الأسرة قيد التعديل النسب ووسائل إثباته.  وتحدد هذه المواد الوسائل الشرعية لإثبات النسب بالترتيب في: “الفراش، والإقرار وشهادة عدلين، وبينة السماع”. وبالنسبة لأطفال ولدوا خارج مؤسسة الزواج وحتى في حال الإقرار لا يتم إلحاق نسب الطفل لأبيه البيولوجي، لأن حق الطفل في النسب القانوني مقيد بوجود علاقة زواج شرعي، كما تم استبعاد اللجوء لتحليل البصمة الوراثية، وعند إجرائها لا يؤخذ بها قضائيا لتمكين الطفل من نسبه القانوني. ولقد اقتصر التعديل في هذه المسألة على تحميل الأب البيولوجي بمعية الأم المسؤولية المادية تجاه الطفل عند ثبوت النسب. غير أن هذا التعديل المقترح لا يضع حدا للحيف الذي يلحق الأمهات العازبات وأطفالهن، بحيث لا يوفر الحماية القانونية اللازمة، ولا يعيد أي اعتبار اجتماعي لهن ولأطفالهن. تحافظ الأحكام الفقهية المتحكمة في البنوة والنسب في مدونة الأسرة على إرث ذكوري ظالم، يسحق إنسانية الأمهات العازبات وأطفالهن، رغم أن العلم أتاح إمكانية انصافهن وأبناءهن قانونيا. إن رفض اللجوء لوسائل العلم المتطورة، مثل التحليل الجيني لإثبات النسب قانونيا، يكشف تحيزا ذكوريا ترسخه المدونة. ويتيح هذا التحيز للذكور، سواء كانوا متزوجين أم لا، إقامة علاقات جنسية دون تحمل تبعات قانونية، بينما يستمر انتهاك الحقوق القانونية والاجتماعية لأبناء الأمهات العازبات.

وفق مواد المدونة، تعطى الأولوية دائما للوسائل المعتبرة شرعية، وهكذا فإنه حتى في حال النزاع حول نسب الطفل الذي له حق النسب تلقائيا، لا يستدعى في الغالب التحليل الجيني، رغم أنه الوسيلة العلمية الأكثر دقة من حيث إثبات وجود تطابق أو عدمه في الصفات الوراثية بين المولود والأب. ويبقى رفض الاعتراف القانوني بنسب الأطفال ولدوا خارج علاقات الزواج باللجوء للخبرة الجينية، إعلاء لأحكام فقهية ولى زمانها، وتكريس لاضطهاد قانوني على حساب تمتيع الطفل بحقوق إنسانية أولية كيفما كانت العلاقة التي جاء منها.

يجد الاضطهاد القانوني الذي يطال أطفال مولودين خارج مؤسسة الزواج أساسه في طبيعة مجتمع طبقي أبوي، قائم على الملكية الخاصة. يشترط الاعتراف الاجتماعي بالطفل انتسابه القانوني لأبيه، حتى ضمن علاقات الزواج الشرعي، بينما لا يظهر نسب الأمهات في كنية أطفالهن، رغم أنهن من ينجبن ويتحملن كل مشقات الاعتناء بهم داخل الأسرة. ولا يحظى نسب الأم أساسا في العلاقات المعترف بها في التشريع الأسري، والقانون الجنائي بنفس الاعتبار الاجتماعي والمعنوي الذي يحظى به نسب الأب بالنسبة للأطفال، ويرجع ذلك إلى أن الانتساب للأب ينجم عنه الحق في الإرث، وبالتالي الإبقاء على الملكية الخاصة وعلى أساسها القائم على الاضطهاد الجندري.

في المجتمعات التي تترسخ وتتعدد فيه أشكال الميز والاضطهاد، تمنح الحقوق الإنسانية وفق التطابق والمعايير المجتمعية السائدة، وقد يحرم من تلك الحقوق كل من لا يستجيب وجوده في المجتمع لتلك المعايير. ويفسر هذا حجم الاحتقار والدونية التي يعامل بها مجتمع السيطرة الذكوري الأمهات العازبات وأطفالهن، لأن منظومة الأخلاق المهيمنة ترى في انتساب الطفل لأمه فقط شتيمة، علاوة على تجريم الإطار التشريعي للعلاقات خارج إطار الزواج، وتحميل التبعات للأطفال الناجمين عنها.

انصافا للأمهات العازبات وأطفالهن، نعم لإقرار الخبرة الجينية، لا لتجريم حقهن في الوقف الإرادي للحمل.

تفرض فصول القانون الجنائي المجرمة للوقف الإرادي للحمل غير المرغوب فيه وصاية على أجساد النساء، وتنكر عليهن حريتهن في اتخاذ القرار فيما يخص حياتهن الإنجابية والجنسية. وبالنظر إلى الحالات التي يسمح فيها إجراء عملية إجهاض فإنه جرى استثناء حالة وقف الحمل خارج الزواج، ويفاقم هذا مآسي الأمهات العازبات وأطفالهن، فمن جهة يمنع على الأمهات العازبات وقف حملهن، وعند خروج هؤلاء الأطفال إلى الحياة تجردهم مواد مدونة الأسرة من أولى حقوقهم الإنسانية المتمثلة في الهوية، وتجبر الأمهات وفق تشريعات رجعية على تحمل المسؤولية القانونية وحدهن.

باسم الدفاع عن حياة الجنين وحماية أخلاق الأسرة، يتصدى الاتجاه الرجعي الذي تكرسه التشريعات بدورها لإعمال الخبرة الجينية وحق النساء في وقف حمل غير مرغوب فيه. ويتم في المقابل تجاهل الكوارث الاجتماعية والإنسانية الناجمة عن انتشار ظاهرة الأطفال المتخلى عنهم، وجزء منهم أطفال ولدوا خارج علاقات الزواج. تداس حياة وكرامة هذه الفئة الاجتماعية العريضة، ويتلقفهم عالم الجريمة والمخدرات، كما يصبحون عرضة لأبشع جرائم العنف الجنسي والتي تصل حد الاغتصاب الجماعي والمتكرر. يجري التضحية بحق الأمهات العازبات وأطفالهن في حياة كريمة وعادلة وآمنة حفاظا على تشريعات بالية تتعارض مع مبدأ العدالة والإنصاف والمساواة.

  يكشف رفض إقرار الخبرة الجينية واستبعاد الأمهات العازبات من الحالات المتاح فيها إجراء عملية الإجهاض سيطرة منظومة أخلاقية أبوية، والتي تصادر كرامة النساء وحقوقهن ومنها حق سلامتهن البدنية والنفسية وتقرير نوع الحياة التي يردن عيشها، كما لا يمكن الاستمرار في تقديم قطعية النص، كمبرر لرفض يقينية وواقعية وقطعية التحليل الجيني. ويعد رفض مراجعة نصوص المدونة التي تقيم الميز بين البنوة الشرعية وغير الشرعية، وما يترتب عنها، كالحق في النسب القانوني تعسفا قانونيا، إبطالا لمبدأ تحقيق العدالة والإنصاف للأمهات العازبات وأطفالهن.

يعد النضال من أجل إقرار الخبرة الجينية ورفع التجريم عن الحق في الوقف الإرادي للحمل غير المرغوب فيه من أولى الحقوق الإنسانية، ولا ينفصل النضال من أجلها عن النضال ضد كافة أشكال اضطهاد النساء القانوني، ولا بد لنضال نسوي يرنو تحقيق مساواة قانونية تامة، وتحرير النساء من كل أشكال السيطرة والاضطهاد، أن يتصدى وبقوة لترسانة قانونية رجعية تجد سندها في سلطة سياسة أبوية مستبدة.

شارك المقالة

اقرأ أيضا