حرية الصحافة بالمغرب: تكميم وخنق واعتقال

سياسة5 نوفمبر، 2025

بقلم: أنور أحمد

“الحرية هي دائما حرية من يفكر بشكل مختلف”روزا ليكسمبورغ  (1)

أحكمت الدولة قبضتها على الإعلام عموما، وخنقت الصحافة، وضيقت حريات التعبير بطرق متنوعة وبأساليب ماكرة عديدة. تقدم الدولة للخارج صورة براقة لا تعكس الحقيقة. فالنصوص القانونية تصاغ لتطرب هوى المنظمات الحقوقية الدولية أما في الواقع فالتضييق والقمع نصيب كل إعلامي اختار عدم السير مع قطيع التطبيل للسياسة الرسمية.

حرية الصحافة مضمونة بشرط عدم انتقاد مركز الحكم

ترتبط الحريات الديمقراطية بالمغرب بطبيعة النظام السياسي المرتكز على ملكية حاكمة تقرر في جميع المجالات الحيوية للبلد، وتحوز بقوة الدستور على سلطات مطلقة، يجرم قانونيا تعريضها لأي نقد أو اعتراض، سواء صدر عن مؤسسة أو أفراد. خداع الادعاء بضمان ممارسة حقيقية لحرية الصحافة في حين أن الدستور يمنع منعا صريحا نقاش خطب الملك التي تحدد السياسة العامة للدولة وهي أيضا بمثابة أوامر للتنفيذ دون نقاش؟

لكن الأدهى من ذلك أن الحريات الصحافية بالمغرب تخنقها أيضا أعراف كرسها الاستبداد المديد كخطوط حمراء لا تستطيع الصحافة الاقتراب منها. مثلا رغم أنها مجرد قطاعات ومؤسسات أمنية بمختلف أسلاكها، لكنها تضل فوق النقاش والنقد لتوفر كل منها على جهاز استخباراتي، ولها القدرة على إلحاق الضرر بالصحفيين-ات فيضطر هؤلاء للتغاضي وممارسة رقابة ذاتية بالغة الحيطة والحذر.

لكن قمع الصحافة والتضييق على الحريات يشارك فيه أيضا كبار البرجوازيين/ات، بتعمدهم/ن إخراس الصحافة عبر رفع دعاوى للقضاء بتهمة التشهير والمس بالشرف والمطالبة بتعويضات مالية طائلة لتركيع الصحفيين ودفعهم للإفلاس المالي.

إن حرية الصحافة والتعبير مستحيلة طالما لا تخضع كل السلط للنقاش، وما لم تخضع كل القرارات التي تتعلق بالشأن العام للنقد، إنها حرية زائفة وطلاء لإخفاء حقيقة الاستبداد الذي لا يسمح إلا بحرية مدحه.

لا يتم إخضاع الصحافة بالقمع فقط، بل أن إغداق المال هو أحد الطرق الأكثر نجاعة لترويض الصحافة وجعلها تنبطح. شهدت الأموال المقدمة للصحافة ارتفاعا مضطردا منذ جائحة كوفيد 19 ، وبلغت 314 مليون درهم سنة 2023، ثم سجلت أقوى ارتفاع لها سنة 2024، حيث بلغت 325 مليون درهم، قسمها الأكبر عبارة عن أجور ومستحقات صناديق التقاعد، وقسم آخر لدعم المقاولات الصحافية التي تستحوذ على حصة الأسد فيها مقاولات تابعة لكبار الرأسماليين، هكذا تحصلت شركات في ملكية مجموعات مالية على ذاك الدعم.

تعديلات قانونية لا تحمي حرية التعبير والصحافة

تتعالى خطابات الدولة حول التزامها بحقوق الإنسان وحرية الإعلام، مدعومةً بإصلاحات قانونية كقانون الصحافة والنشر لعام 2016، الذي ألغى العقوبات السالبة للحرية في قضايا النشر. لكن سرعان ما اتضح أن هذه الإصلاحات لم تكن سوى واجهة قانونية تتناقض مع واقع تحكم أمني، وتوظيف للقضاء لقمع من يخرج عن الصف.

حرية الصحافة مضمونة بما لا يُزعج الدولة، أي الالتزام بالحدود المسموح بها فقط، أما من تجاوز ذاك الحد غير المحدد قانونًا، فإنه يواجه بالمتابعة القضائية، وحملات التشهير الإعلامي، وإغلاق مصادر التمويل، ونشر الحياة الخاصة للتدمير اللاأخلاقي بتوظيف منابر واسعة الانتشار تتجند بدورها لأداء دورها الوضيع.

فالترسانة القانونية الجديدة مثل قانون الصحافة والنشر تحوي ما يعزز ممارسة الحريات الصحافية، لكن في الآن نفسه، تستعمل فصول في القانون الجنائي كسيف مسلط على الإعلاميين بتهم التشهير والمس بالأمن العام، وهي فصول كتبت بلغة تعمدت الغموض لاستعمالها في قمع الصحافة. مثلا أُدين حميد المهدوي بثلاث سنوات سجنًا نافذًا سنة 2017 بتهمة “عدم التبليغ عن جريمة تمسّ بأمن الدولة”، استنادًا إلى مكالمة هاتفية تلقاها من شخص مجهول يُخبره بمخطط وهمي لإدخال دبابات إلى المغرب. يعرف واضع التهمة أنها غريبة لكن القصد منها بعث رسالة للصحفيين أن الدولة ستمارس قمعا ضد الصحافة بتهم جنائية. كما تزايدت حالات متابعة صحفيين بتهم الاغتصاب الجنسي والمتاجرة بالبشر وزادت حملات التشهير بالحياة الخاصة ضد صحفيين-ات واعلاميين-ت مع تجنب محاكمتهم في إطار قانون الصحافة والنشر.

الاستبداد يقف بالمرصاد للصحافة الجديدة

لم يعد الإعلام يقتصر على الصحافة التقليدية (جريدة-إذاعة-تلفزة)، فقد أثر تطور الأنترنت على الصحافة بشكل جوهري، فظهرت الصحافة الالكترونية وبعدها أصبح البودكاست واليوتويب يستقطب جمهورا أكبر من القراء والمتابعين، ومع تطور الذكاء الصناعي دخلنا في طور آخر لازلنا في بدايته.

يبدو موضوعيا أن التطور التقني يعزز الحريات الديمقراطية ومنها حرية الإعلام إلى مستويات لم تحلم بها الأجيال السابقة، لكن الأنظمة الشعبوية والديكتاتورية تتكيف مع التحولات الجديدة بدورها لإحكام قبضتها بنفس الطريقة التي حاولت بها استدراك استعمال منصات الفايس بوك وتويتر خلال موجة الانتفاضات الشعبية في شمال افريقيا والشرق الأوسط سنة 2011.

عملت الدولة على خنق ما شكل متنفسا جديدا للتعبير، سواء بخلق مدونات خاصة أو قنوات أو مواقع سمحت بنقاش قضايا متعددة بطرق تحررت من قيود الصحافة التقليدية، لكن الدولة سارعت إلى إغلاق ذاك القوس، فحركت المتابعات القضائية التي لا تقتصر على الصحافيين المحترفين، بل أيضا نشطاء رقميين ومدونين عاديين كما وقع مع سعيدة العلمي المحكومة بثلات سنوات سجنا بعد أن غادرت السجن منذ وقت ليس بعيد بنفس التهم، بل أن  أفرادا سجنوا بمجرد وضعهم إشارة إعجاب على منشور، بغاية إفهام الجميع أن كل حركة أو كلمة حتى على شبكة الانترنيت قد تجر عليك المتاعب.

الصحافة الليبرالية ضحية العسف الاستبدادي

استعملت  المعارضة البرجوازية الصحافة المكتوبة للتأثير على أقسام واسعة من الشعب. ظل خطابها المعارض مركزا على نقد السيطرة المطلقة للحكم الفردي التي جرى التعبير عنها ب”احتكار الثروة والسلطة”، وهو خطاب يستجيب لمصالح الفئات البرجوازية المتضررة من سيطرة الرأسمال الكبير القريب من مركز الحكم. ينسجم نقد المعارضة الليبرالية مع مصالح القيادات النقابية وخطها السياسي المرتكز على انتزاع تنازلات جزئية عبر المفاوضات أساسا. كانت المعارضة البرجوازية التقليدية تحظى بدعم شعبي وعمالي تستعمله لممارسة ضغط محسوب على النظام بغاية دفعه لتقديم تنازلات، مع حرص شديد ألا يؤدى ذلك لبناء حركة جماهرية جبارة قد تذهب حد تهديد أسس النظام القائم.

عمدت الملكية بدورها الي نهج أسلوب مضاد قائم على السماح بوجود صحافة ليبرالية معارضة مع رسم خطوط حمر يجرم تخطيها، ويتم ترسيمها كل مرة بأساليب عديدة: تمنع الرقابة مقالات من النشر- تسحب الجريدة من الاكشاك- محاكمة صحفيين- اقتحام المقرات الصحفية- المنع من الصدور.

انهارت صحافة المعارضة الليبرالية وفقدت مصداقيتها حاليا، واستمرارها المصطنع رهين بما تضخه الدولة في حساباتها وليس من دعم قراءها. لقد فقدت هذه الصحافة كل المقومات التي سمحت لها بالوجود، سياسيا وتنظيميا وماليا. إن ما انتهت اليه صحافة المعارضة التاريخية وجه آخر لمصير أحزاب “الكتلة الديمقراطية” الليبرالية التي انتهت إلى استسلام ناجز لنظام الحكم القائم ونهاية أوهام الإصلاحية الليبرالية وإفلاس خياراتها السياسية وتفسخها التنظيمي وتفكك قاعدتها رغم ما يغدقه النظام للإبقاء عليها حية.

الصحافة العمالية ضعيفة

الصحافة العمالية الاشتراكية بالمغرب نادرة جدا، وتعكس التخلف السياسي لعمال-ات المغرب في بناء أدواتهم الطبقية المستقلة والتقدم بوجهة نظرهم الطبقية في كل القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية. كان تأسيس الحزب الشيوعي المغربي وميضا بسيطا انطفأ بسرعة بعد انحطاطه إلى حزب ليبرالي. أما الصحافة الاشتراكية، أثناء تجذر اليسار السبعيني، فأغلبها  كان محدود الانتشار لسريته وعزلته عن الطليعة العمالية وقضاياها التي ظلت تحت هيمنة المعارضة الليبرالية.

شكل العقدان الاخيران محاولة لظهور صحافة عمالية اشتراكية، بفضل عاملين أساسين أولهما، تراجع سيطرة المعارضة الليبرالية شعبيا، وأزمة قيادتها للحركة النقابية، وثانيا التطور التقني الذي أنهى احتكار عمليات الطبع والنشر والتوزيع من طرف المقاولات البرجوازية الكبرى، وقلص من قدرة الدولة على التحكم في ما ينشر وما لا ينشر.

ليس ضعف الصحافة العمالية الاشتراكية إلا وجه آخر لانعدام الاستقلال السياسي والتنظيمي للطبقة العاملة المغربية، أي تخلفها عن بناء أدوات نضالها الطبقي من نقابات ديمقراطية وجماهرية، وجمعيات عمالية، وحزب عمالي اشتراكي وصحافة مستقلة قائمة على مؤسسات إعلام قائمة الذات تقارع آلة الكدب البرجوازية وتشهر بالحكم الاستبدادي وتفضح فساده وتبعيته وعدائه لطموحات الشعب التحررية.

إن النضال الايديولوجي مسألة حيوية ودائمة بالنسبة لمشروع تغيير عمالي اشتراكي، أي النضال لتحرير الوعي العمالي والشعبي، من التخبيل ونشر الأكاذيب، والافتراءات، والحملات المغرضة، وكل المجاري الآسنة التي تتدفق في كل لحظة وحين من إعلام الاستبداد.

إن تطور الصحافة العمالية هي الطريقة الوحيدة والأكثر فعالية لفضح القمع  الموجه ضد الصحافة، بما فيها الصحافة البرجوازية التي تبدي نوعا من الاستقلال، كقضية مبدئية بالنسبة للطبقة العاملة، لكن في الآن نفسه لا تتوقف للحظة واحدة عن النضال ضد الصحافة البرجوازية ،حتى المعارضة منها، وما تبثه من أوهام حول التوافق مع الاستبداد والاستغلال الرأسمالي للعمال.(2)

النضال لأجل حرية التعبير عن الرأي جزء من النضال لأجل الديمقراطية الشاملة

يمثل النضال لأجل حرية التعبير وضمنه حرية الصحافة ميدان صراع طبقي.

تثبت النظرية، وكذلك التجربة التاريخية، أن أي تقييد للديمقراطية في المجتمع البرجوازي، سيكون في النهاية موجها ضد الطبقة العاملة والشعب الكادح، فليس للديمقراطية البرجوازية من قيمة بالنسبة للبروليتاريا إلا بمقدار ما تفتح الطريق أمام تطور الوعي والتنظيم عند العمال والكادحين.

ومن دون صحافة حرة وغير مقيّدة ومن دون نشاط جمعوي وحق الاجتماع من دون عوائق، يصبح حكم الجماهير الشعبية الواسعة أمرا   مستحيلا كليا.

ندافع على الحرية الكاملة لجميع التنظيمات والأفراد في التعبير عن رأيهم دون أي قيد قانوني، طالما لا يترتب عنه ضرر ثابت في حق الأشخاص، ونعتبر كل نقد لهيئات أو أشخاص يتولون مسؤولية في الدولة أو الأحزاب والمنظمات السياسية والتنظيمات الجماعية، حقا لا يجرم بأي شكل من الأشكال، بل أن ممارسة تلك الحرية ناقصة ما لم تتح لكل رأي، يحظى بدعم في المجتمع، الحق في استعمال الوسائل والأدوات الجماعية لايصال رأيه بكل حرية للجمهور. لكن يستحيل التمتع بالحريات الديمقراطية وضمنها حرية الصحافة والتعبير عن الرأي في ظل نظام حكم استبدادي، ما يجعل من الطبقة العاملة مناضلا طليعيا لأجل الديمقراطية شاملة، دون فصل عن مهام تحررها من هدف الثورة الاشتراكية التي وحدها تتيح حرية فعلية لمن لا يملكون إلا قوة عملهم.

(1)- كتابعن الثورة والحزب وافول الرأسمالية – نصوص مختارة ص 263 

https://www.rosalux.ps/wp-content/uploads/2016/

(2)- تروتسكي: حرية الصحافة والطبقة العاملة

شارك المقالة

اقرأ أيضا