الماركسية والممارسة السياسية في المغرب: جدل الانكسارات و الإمكانات.
بقلم: عبد الله حداد
قبل الدخول في الموضوع، أود أولا أن أعبر عن امتناني العميق لرفيقاتي ورفاقي في جريدة المناضل-ة على رحابة صدرهم واستعدادهم الدائم لفتح صفحات الجريدة أمام النقاش والنقد الرفاقي. لقد كانت تجربة المناضل-ة على مدى أزيد من عقدين مدرسة فكرية حقيقية ساهمت في تثوير وعي جيل كامل من المناضلين والمناضلات، ومنحتنا البوصلة الفكرية الأولى لفهم العالم من منظور ماركسي تحرري. وقد كنت واحدا من هؤلاء الشباب الذين تكون وعيهم داخل هذا الفضاء الجدلي، الذي يضع الفكر في تماس دائم مع الممارسة، ويعتبر النقاش وسيلة لتقارب الرؤى وليس للمزايدة بالمواقف.
وبعد
إن الماركسية، في جوهرها، منهج لتحليل الواقع من أجل تغييره، وليست نصوصا محفوظة أو عقيدة جامدة. وما يكشفه الواقع المغربي اليوم هو مأزق مركزي: مأزق النظر إلى الماركسية كجهاز مغلق، وإلى السياسة كإدارة شكلية للثوابت الطبقية، بدلا من رؤيتهما كمنهج حي للتفاعل مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وعندما تختزل النظرية في صيغتها التنظيمية “القديمة”، تختزل السياسة بدورها في مفاهيم جامدة كمفهوم “تبعية النظام السياسي” الخطية للإمبريالية، والدولة الثابتة، والطبقة العاملة كمفهوم جامد. هذه الرؤية تؤدي إلى جمود فكري، والذي يفضي تلقائيا إلى جمود سياسي وعجز عن ابتكار أدوات تنظيمية ملائمة للواقع المعاصر.
ليس دقيقا اليوم أن نستمر في الحديث عن الدولة المغربية كما لو كانت مجرد “أداة في يد طبقة واحدة” أو “وسيط محلي ينفذ أوامر الإمبريالية”. هذا التصور، الموروث عن مراحل سابقة من الصراع، لم يعد يفسر واقع الهيمنة كما تشكل اليوم. فالدولة لم تعد فقط جهازا قمعيا أو واجهة للسيادة الخارجية، بل أصبحت مركز عقد لشبكة من القوى الاقتصادية والمالية والإعلامية والتكنولوجية، تشتغل كلها في منطق واحد هو تثبيت النيوليبرالية كأفق لا بديل عنه.
إذن لا يمكن اختزال علاقة النظام بالإمبريالية في “تبعية” جامدة ترجع إلى زمن الاستعمار. فالتبعية لم تعد قيدا خارجيا يحد من سيادة النظام، بل غدت إحدى آليات استقراره وإعادة إنتاجه. لقد صار الإندماج في السوق الرأسمالية العالمية خيارا واعيا واستراتيجية استقرار، لا مجرد نتيجة للإكراه الخارجي. الرأسمال المغربي، ممثلا في مجموعة القصر والبرجوازية الكمبرادورية، لم يعد “تابعا” فحسب، بل أصبح شريكا صغيرا في عملية التراكم الإمبريالي، يشارك في توزيع الأرباح على حساب الطبقات الشعبية.
لا يمكننا النظر إلى النظام كوسيط محلي يخدم الإمبريالية فحسب، بل يجب فهمه كبنية تشارك فعليا في إنتاج وتكييف السياسات النيوليبرالية على المستوى الإقليمي. وهذا يستدعي تجاوز مفهوم “التبعية” بمعناه التقليدي نحو مقاربة تدرس الهيمنة المركبة، حيث تتداخل السلطة السياسية مع السوق بوصفهما أداتين متكاملتين للسيطرة الاجتماعية.
بهذا المعنى، يمكن فهم ملامح المرحلة الراهنة في ضوء ما يسميه جيوفاني أريغي بـ«الإمبريالية الفرعية»، أي تموقع دول الأطراف الصاعدة كقوى وسيطة داخل النظام الرأسمالي العالمي، تمارس شكلا من التوسع الإقليمي الرأسمالي بالوكالة، دون أن تتحرر من تبعيتها البنيوية للمركز الإمبريالي. وتشكل البرجوازية المغربية مثالا دالا على ذلك، من خلال استثماراتها الكثيفة في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء عبر مجموعات مالية ضخمة مثل مدى، التي تحتكر قطاعات المال، والتأمين، والمناجم، والتجارة الزراعية، والخدمات. هذه الدينامية لا تعبر عن قوة وطنية مستقلة بقدر ما تجسد تكيفا طيعا مع منطق التراكم المعولم، حيث تتحول الدولة إلى مقاول رأسمالي إقليمي، يدير الهامش الإفريقي باسم المركز.
ويواكب هذا التحول في الاقتصاد السياسي إعادة هيكلة في جهاز إنتاج النخب والرموز. فـ “مدرسة التميز” و “جامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية” تمثلان اليوم مختبرا مركزيا لتصميم الكوادر الجديدة، المكلفة بإدارة هذا النمط من التراكم. هنا لا يعاد فقط تكوين النخبة الإدارية والتقنية محليا بدل الاعتماد على المدارس الفرنسية، بل يعاد تعريف معنى “التميز” ذاته في خدمة مشروع “الدولة–المقاولة”، حيث تصهر المعرفة التقنية في منطق الولاء السياسي.
أما في المجال الرمزي، فتتولى مشاريع مثل «تامغرابيت» مهمة هندسة التماسك الثقافي داخل منطق الهيمنة نفسه. فهي تسعى إلى دمج التعدد الثقافي واللغوي في هوية رسمية مصممة من فوق، تقدم كإجماع وطني بينما تعمل فعليا على تحييد الصراع حول المعنى والاختلاف. بهذا الشكل، تتحول “تامغرابيت” إلى ما يشبه الواجهة الثقافية للإمبريالية الفرعية: تنظم التنوع وتفرغه من محتواه التحرري، لتعيد إنتاج دولة منسجمة ظاهريا، لكنها أكثر مركزية وتحكما في الفضاء الرمزي والاجتماعي. ويكمل هذا البناء الرمزي عبر ضبط الحقل الديني الرسمي وإعادة توظيفه في إنتاج الطاعة الرمزية، بما يضمن تماسك منظومة الهيمنة الثقافية
وبهذا المعنى، لم تعد مواجهة السلطة السياسية تنحصر في مقاومة القمع أو الاستبداد، بل تتطلب فهما أعمق لشبكة العلاقات بين الدولة والرأسمال والسوق، ولفهم الكيفية التي تُحوَّل بها الأزمات الاقتصادية والاجتماعية إلى أدوات لإعادة تشكيل التوازن الطبقي بما يضمن دوام النظام. إن من يصر اليوم على اختزال الصراع في مواجهة التبعية وحدها، يتجاهل أن الإمبريالية لم تعد فقط في الخارج، بل تعمل من داخل البنية الاجتماعية نفسها.
وعلى المستوى الطبقي، لم تعد الطبقة العاملة كيانا متماسكا. فالشغل المؤقت، والعمل الرقمي، والعمالة المنزلية، وفواعل الريع… إلخ، يمثلون شبكة متفتتة تتفاعل مع الدولة والسوق بطرق متعددة. أي مشروع يساري لا يأخذ بعين الاعتبار هذا التفتت يظل رهين الماضي، غير قادر على مواجهة الواقع المعقد أو ابتكار أدوات سياسية فعالة. ولهذا، فإن مهمة اليسار اليوم ليست تكرار اللغة الثورية القديمة، بل بناء عقل نقدي جديد يرى في الانكسارات إمكانات، وفي التحولات فرصة لإعادة اكتشاف الذات الثورية.
لكن، ما المقصود أولا ب”الانكسار” و“الإمكان“؟ وكيف يمكن“العبور“ بينهما؟
الانكسار ليس مجرد لحظة جزر أو تراجع، بل لحظة انفتاح قسري على ما لم يكن متصورا من قبل. إنه الحدث الذي يكسر انتظام التاريخ، ويفضح محدودية الأشكال القديمة في تفسير الواقع أو تغييره. قد يكون الانكسار اجتماعيا، حين تنهار أشكال التنظيم التقليدية، أو اقتصاديا، حين تفشل الدولة في احتواء تناقضات السوق، أو ذاتيا، حين يدرك المناضل أن اللغة القديمة لم تعد قادرة على التعبير عن تجربة جيله.
أما الإمكان، فهو ما يولد من رحم هذا الانكسار، أي القدرة على إعادة بناء الأفق من داخل التصدع ذاته. الإمكان ليس وعدا طوباويا، بل هو واقعية جديدة تنبثق من الفشل الجزئي، من التجارب المنهارة، ومن المبادرات الصغيرة التي تفتح مساحات جديدة للفعل الجماعي. الإمكان هو أن نرى في ما يبدو خسارة أو هزيمة نواة تحول قادم.
أما العبور، فهو ليس مجرد انتقال ميكانيكي من وضع إلى آخر، بل هو فعل تاريخي واع، تمارسه الذات الجماعية حين تدرك أن ما انكسر في الواقع لا يستعاد، وأن الممكن الجديد لا يتحقق إلا عبر تجاوز نوعي لشروط الانسداد. العبور بهذا المعنى هو الزمن الثالث بين الانكسار والإمكان، زمن الفعل الثوري الذي يختبر فيه المجتمع قدرته على إعادة تركيب ذاته من جديد، إنه المسافة التي يحول فيها الوعي النقدي الهزيمة إلى لحظة تفكير في الأفق، لا في الماضي، ويحول الإمكان من مجرد تصور طوباوي إلى مهمة تنظيمية ملموسة. في العبور يتجسد الماركسي كذات تاريخية تمارس النظرية لا كنسق جاهز بل كأداة لفتح الطريق.
انطلاقا من هذا الفهم، يمكن القول إن ما نعيشه اليوم في المغرب ليس مجرد أزمة ظرفية، بل سلسلة من الانكسارات المتراكمة التي تفتح إمكانات جديدة لإعادة بناء الفعل اليساري. فالتحولات البنيوية التي عرفها الاقتصاد المغربي، من اندماجه في السوق النيوليبرالية إلى تفكك العلاقات الطبقية التقليدية، أنتجت وضعا معقدا يتجاوز أدوات التحليل والتنظيم القديمة. لم تعد مفاهيم البروليتاريا الكلاسيكية والتبعية المطلقة كافية لشرح تناقضات المجتمع المغربي الراهن، حيث تشتبك الدولة والرأسمال العالمي في إنتاج نمط خاص من التراكم يعتمد على الديون، الريع، والعمل غير المستقر، وعلى إعادة هندسة المجال الاجتماعي عبر أشكال جديدة من السيطرة.
المفارقة الكبرى في المغرب تكمن في أن ما ينظر إليه على أنه استقرار سياسي هو في الحقيقة لحظة مؤقتة ضمن أزمة هيكلية أعمق. فتراكم المديونية، وتدهور الخدمات العمومية، وارتفاع البطالة، وتفكك الروابط الاجتماعية، ليست مؤشرات على ضعف الدولة فحسب، بل على اهتزاز مشروعية السلطة، أي على التناقض بين قوة الدولة المادية وضعف قدرتها على إنتاج الرضى السياسي. لم تعد السياسة في المغرب تختزل في مواجهة المخزن أو فضح استبداده، لأن السلطة تغيرت هي أيضا، ووسعت أدواتها خارج الدولة نفسها. بل تتطلب بناء أدوات جديدة لقراءة الشبكات الاجتماعية-الاقتصادية المتغيرة، واستثمار الإمكانات التي تولدها الانكسارات اليومية. إن التحولات الاجتماعية الجارية في الأحياء الهامشية في المدن، وفي المناطق القروية، وفي أماكن العمل غير الرسمية، هي مختبرات حية لإعادة بناء الفعل السياسي. فكل تنسيقية مطلبية، وكل شبكة تضامن اجتماعي، هي إمكان جنيني لولادة يسار جديد، لكن هذه البذور لا تصير قوة تاريخية إلا إذا وضعت في أفق المشروع الاشتراكي التحرري العام. والتنظيم السياسي، في هذا المنظور، لا ينبغي أن يكون سلطة فوقية، بل أداة ترجمة جماعية للتجارب الميدانية ومنصة لتبادل الخبرات وبناء الوعي التاريخي المشترك.
الانكسارات الاجتماعية، كما في الهشاشة الطبقية، والتحولات الاقتصادية، وتقسيم العمل المعاصر، هي مادة خام لإعادة بناء التنظيم السياسي. والشبكات القطاعية، والتنسيقيات المحلية، واللجان الميدانية في المصانع والمرافق العمومية، والمبادرات الشعبية التراكمية، هذه الشبكة الأفقية هي أداة عبور تسمح بتحويل الانكسارات إلى إمكانات عملية. تنسيقيات الشباب في المدن الكبرى، مجموعات النساء العاملات، أو شبكات عمال المناولة الرقمية، يمكنها أن تصبح وسائط لإنتاج تجربة مشتركة تجمع بين استقلالية الفئات والمرونة التاريخية. من هنا، يتعين أن تُكَوَّن أدوات عبور أولية قابلة للتوسع، أدوات تشتمل على شبكات قطاعاتية مكانية وافتراضية، لجان عمل في المصانع والمصالح، تنسيقيات قطاعية تجمع طلائع النضال، ومنصات تضامن شعبي. هذه الأدوات لا تعمل كتجارب منعزلة، بل تنتج شرعية نضالية، وكوادر، وهي تمثل الوسائط الملموسة بين الانكسار والإمكان.
في الوقت نفسه، لا يمكن تصور العملية السياسية دون مشروع حزبي طويل الأمد، فالحزب مشروع تاريخي يقتضي تراكم الخبرة والقيادة القاعدية، وليس ولادة من أعلى فورا. الحزب في هذا الإطار يجب أن يفهم كأداة تترجم الطاقات الميدانية المنبثقة عن أدوات العبور إلى قدرة تنظيمية قادرة على خوض معارك أوسع زمنيا ومؤسسيا. والأفقية المركبة تبقى قاعدة أساسية، إلا أنه يجب دمجها مع آليات اتخاذ قرار موحد عبر مجالس مفوضين أو ممثلين ذوي ولاية محدودة وخاضعين للمساءلة القاعدية، هذا الدمج يخلق توازنا بين المرونة والقدرة على تنسيق الصراع، ويحول الديمقراطية القاعدية من مبدأ أخلاقي إلى ممارسة تنظيمية عملية.
لكي تصبح الإمكانات قوة ملموسة، يجب توجيه الخطاب والبرنامج نحو مطالب انتقالية قابلة للقياس، لا يكفي الدعوة إلى بديل شامل، المطلوب شعارات انتقالية محددة تربط يوميات الناس بالبرنامج الاشتراكي، مثل رفع الأجور، ضمان اجتماعي شامل، تجميد أو رفض خوصصة مؤسسات استراتيجية، وقف بيع الأملاك العامة، وفرض ضريبة على أرباح الرأسمال الكبير المتحالف مع القصر. هذه المطالب تؤدي وظيفة مزدوجة، فهي تسهل التعبئة اليومية وتعمل كسلم لبناء الثقة والربط بين القطاعات المختلفة من الشغيلة والفئات الشعبية.
غير أن أي تصور للانتقال لا يكتمل دون إدراج المطالب النسائية والإيكولوجية والثقافية-اللغوية في صميم البرنامج، لا كملحق أخلاقي أو قضية ثانوية، بل كجبهات مادية للنضال الطبقي ذاته. فالنظام النيوليبرالي لا ينهب العمل فقط، بل ينهب كذلك الطبيعة، وجسد المرأة، وذاكرة الشعوب وثقافاتها، عبر آليات إعادة إنتاج غير مدفوعة الأجر، واستغلال بيئي ممنهج، وهيمنة رمزية تسعى لتوحيد السوق عبر محو التعدد اللغوي والهوياتي. لذلك، يصبح من الضروري طرح مطالب انتقالية تربط بين العدالة الاجتماعية والجندرية والبيئية والثقافية، مثل الاعتراف بالعمل المنزلي كعمل منتج تقابله أجرة أو ضمان اجتماعي شامل، وتوسيع البنية العمومية لخدمات الرعاية (الحضانات، المراكز الصحية، النقل…)، إلى جانب مطالب إيكولوجية انتقالية كوقف نهب الأراضي والمياه وتسخيرها لخدمة الرأسمال الكبير الدولي والمحلي، وفرض رقابة عمومية على استغلال الموارد الطبيعية، وإقرار حق الجماعات القروية في تدبير مواردها المائية والزراعية بشكل ديمقراطي. مع مطالب لغوية وثقافية انتقالية تضمن العدالة اللغوية والمساواة في التعليم والإدارة والإعلام، ورد الاعتبار للتعدد الثقافي باعتباره رافعة للتحرر الجماعي لا عقبة أمامه. إن هذه المطالب ليست تفصيلية أو فئوية، بل تمثل الحلقة التي تربط بين الدفاع عن شروط الحياة اليومية وبين المشروع الاشتراكي التحرري، وتحول قضية الجندر والبيئة والثقافة من هوامش إلى قلب المعركة ضد منطق التراكم الرأسمالي ذاته.
على مستوى العمل الميداني، ينبغي وضع خطة عمل مشترك قصيرة ومتوسطة المدى، تؤطر عمل النقابيين المكافحين، ويسار الميدان، ومناضلي/ات الحركات الاجتماعية، والشبيبة الرقمية…إلخ، تنبني على ملفات تركز على الصحة العمومية، التعليم، السكن، تشغيل الشباب، وملفات المناطق المنكوبة بيئيا مثل مناطق المناجم ومناطق مشاريع البنيات التحتية الصناعية واللوجيستية. كما يجب تشكيل لجان قطاعية في المصانع والمرافق العمومية تشتغل على ملفات ميدانية محددة ثم تنسق على المستوى الإقليمي والوطني، مع دعم مبادرات محلية تربط بين الحركة الأمازيغية، والحركة النسائية، وحراك الشباب عبر مشاريع مطالبية مشتركة، مثل مشاريع خدمات عامة لجهة ما تجمع بين المطالب اللغوية والاقتصادية. هذه المختبرات الميدانية هي التي تبني القاعدة الميدانية اللازمة لأي مشروع حزبي مستقبلي.
إعادة إنتاج القيادة جزء لا يتجزأ من هذه العملية، لكن لا بوصفها سلطة فوقية بل كوظيفة جماعية تمارس بالثقة والكفاءة والمساءلة. لذلك، ينبغي إنشاء مدرسة سياسية جهوية لتأهيل المناضلين والمناضلات، تكون مفتوحة ومتاحة للقاعدة، وترفق بآليات تقييم دورية تضمن التداول وتجديد الكفاءات. بهذه الطريقة، تتحول “القيادة” من امتياز نخبوي إلى طاقة جماعية قادرة على المزج بين الفهم النظري والمهارة التنظيمية، وعلى استيعاب تحديات العمل الرقمي والهش وقضايا الجندر والشباب… إلخ.
الأفق الفلسفي للنقد يكمن في إدراك الصيرورة، الماركسية ليست ثباتا بل حركة، والسياسة ليست إدارة رمزية بل إنتاجا للواقع، والانكسارات ليست فشلا نهائيا بل لحظة تاريخية تحمل إمكانات التحول. الوعي النقدي هو الذي يربط النظرية بالواقع، والممارسة بالتحليل، ويحول الانكسارات إلى أدوات عبور، والفرص المتفرقة إلى مشروع تحرري شامل. مثال واقعي على هذا الربط هو التحولات الفلاحية منذ التسعينات، الرأسمال الزراعي المغربي أصبح جزءا من استراتيجية إدماج نيوليبرالية عبر تصدير الخضروات والفواكه إلى أوروبا واستغلال اليد العاملة القروية الهشة، هذا التحول يخلق انكسارات اجتماعية، لكنه في الوقت نفسه يتيح بناء شبكات مقاومة جديدة في البوادي المغربية عبر الجمع بين الدفاع عن الأرض والمياه والمطالبة بالحق في الخدمات الأساسية، ودمج هذه المبادرات مع الحركات الحضرية للمطالبة بحقوق العمال والفئات الهامشية.
من هذا المنظور، يصبح بناء اليسار اليوم عملية تاريخية مستمرة تربط بين النقد الفكري والنقد السياسي، بين الانكسارات اليومية والإمكانات التاريخية. المهمة ليست مجرد الدفاع عن التراث أو صيغ التنظيم القديمة، بل خلق عقل تنظيمي وتكتيكي جديد قادر على قراءة التحولات البنيوية، وتصميم أدوات مناسبة لها، وربط الذكاء اليومي للفئات الشعبية بالمشروع الاشتراكي التحرري. إن تحويل الانكسارات إلى إمكانات عملية، وإعادة اكتشاف الذات الثورية في المغرب اليوم، هو الطريق الوحيد لإحياء الماركسية كمنهج حي وقوة تحريرية فعلية. فالماركسية لا تموت حين تتعرض للأزمة، بل حين تفقد قدرتها على تحويل أزماتها إلى إمكانات.
اقرأ أيضا


