اللحظة السياسية الراهنة والأفاق النضالية

سياسة16 أغسطس، 2017

بقلم: أبناي حسن

تشهد منطقة الريف بالمغرب (أقصى شمال البلد) نضالا شعبيا مند أكتوبر 2016، مفجره المباشر؛ قتل وحشي بالطحن في شاحنة نفايات لشاب إحتج على مصادرة سلعه. أثارت همجية الحدث غضبا شعبيا في أغلب مناطق البلد، لكن بؤرته الأكثر إشتعالا كانت منطقة الريف،  وخصوصا قطاعه الغربي.

استمرار الإحتجاجات الشعبية وتوسع رقعتها، وحجم التضامن الشعبي، ومواقف المنظمات العمالية، وسياسة الدولة ومواقف الدول الإمبريالية، كل ذلك يجبرنا على طرح السؤال عن حقيقة ميزان القوى الطبقي الحالي، على ضوء بركان الريف المتفجر؟ هل دخلنا طورا نضاليا جديدا بما هو عودة للسيرورة الثورية المنطلقة منذ 20 فبراير 2011 لمواصلة ديناميتها؟ والأهم ما التكتيكات السياسية المطلوبة من زاوية التحويل الجذري للمجتمع؟
الوضع السياسي العام
المغرب، بالنظر إلى طبيعته التابعة للمراكز الإمبريالية، عرضة للتأثيرات الخارجية بشدة ومباشرة، ونرى أن هناك عاملين يسمان الوضع عالميا وإقليميا:
1- الأزمة الإقتصادية العالمية البادئة منذ 2008، ورغم أن تأثيرها على المغرب لم يكن فوريا، فإنه يَخضع لنتائج إجراءات بلدان المراكز الإمبريالية كبلد لإستقبال الصادرات ومُصدر لرؤوس الأموال.
2- الإضطراب السياسي العالمي المتجلي إقليميا في سيرورة ثورية بعموم المنطقة اندلعت أواخر سنة 2010. وغرضنا ليس عرض تفصيلي لكل من العاملين، بل لأجل استخلاص مركز جدا لما نراه دالا فيما له صلة بموضع نقاشنا.
إن النتائج المترتبة عن الأزمة والإضطراب السياسي المنوه به تبدو متضاربة. فقد عمل النظام على استغلال الأزمة الإقتصادية من أجل إعادة رسم إستراتيجيته الإقتصادية في إطار نفس الموقع من قسمة العمل الدولية للعمل، وأغرى الشركات الإمبريالية بمعدلات ربح أضحت منعدمة في موطنها بتأمين أجور متدنية وتوفير شروط الإنتاج (تهيئة مناطق صناعية، بنية تحتية ضخمة من سكك وطرق وموانئ، إعفاءات ضريبية، ترحيل الأرباح….)، وجعل البلد منصة تصدير إلى أسواق هائلة في آسيا وأخرى ناشئة في إفريقيا. لكن انكماش الأسواق الامبريالية التقليدية، وعدم بروز بدائل لأسباب ليست محض اقتصادية بل تاريخية لكون المغرب مجال استراتيجي للامبريالية الفرنسية، يحبط آمال التدفق المفتوح نحو أسواق جديدة، وقد أجبر البحث المضني عن أسواق للاستثمار وتصريف الإنتاج النظام للتوجه نحو إفريقيا كوكيل ومقدم خدمات للرأسمال الامبريالي في ما يسميه «المغرب منصة نحو إفريقيا» ولا شك أن الحماس الذي يبديه يعكس حجم الفرص الممكنة لكن المخاطر والتناقضات لن تتأخر في التصاعد.
إن أثر الأزمة يَظهر بشكل واضح في انحسار أعداد الشباب المُهاجر بشتى الطرق إلى أوربا بل عودة مؤقتة، وكذا تأثر تحويلات العمال المهاجرين المالية بسياسة الانكماش الاقتصادي. إن قسم من الشبيبة لا تجد منافذ للشغل سواء بالبلد أو في الخارج مما يجعل تراكم أعدادها قنبلة اجتماعية بالغة الخطورة على استقرار النظام.
– تراجع وتوقف دينامية النضالية لحركة 20 فبراير:
لم تنتصر حركة 20 فبراير 2011 بفرض مطالبها كاملة إلا أنها لم تتعرض لهزيمة ساحقة. لقد خمدت ديناميتها بفعل تنازلات من فوق وضغطِ صعود الثورة المضادة واندلاعِ حروب أهلية أشعلتها فصائل الثورة المضادة. إن الجيل الذي انخرط في نضالات 20 فبراير، وشاهد انتفاضة شعبية تقارع أنظمة بالغة الديكتاتورية وتجبرها على تصريف زعماء لا يزيلهم إلا الموت، هذا الجيل يستحيل أن يعود إلى الروتين اليومي والخمول السياسي بمحض خاطره.
استعاد النظام رباطة جأشه التي اضطربت جراء شدة الصدمة التي نالت من كل الأنظمة بالمنطقة. مرر وثيقة دستورية بالطريقة وبالمضمون الذي يُبقي الملك حاكما منفردا للبلد، ويكرس قانونيا كل آليات الاستبداد وتغطية ذلك بتنازلات شكلية.
كما أن التنازلات الاقتصادية سرعان ما استعادها بتجميد الأجور ورفضه أي مفاوضات لتقديم أدنى تنازلات مادية رغم توسلات القيادة النقابية. لا بل استأنف النظام التقدم على جبهات الهجوم الرئيسية بإصرار: إصلاح الوظيفة العمومية (التشغيل بالعقدة) و”إصلاح” أنظمة التقاعد، و تمرير قانون شراكة القطاعين العام والخاص، وبلوغ طور متقدم في تمرير قانون منع الإضراب، وتحرير أسعار المحروقات ومخططات قطاعية عديدة جوهرها تمكين الرأسمال من التراكم…
بدءا من 2012 شهدت الدينامية النضالية تراجعا دالا، من علاماته تقلص عدد نضالات 20 فبراير وكثافة المشاركة فيها وانتشارها الجغرافي، وتَحول مركز ثقل الحياة السياسية إلى مُؤسسات النظام (الدستور والانتخابات وتشكيل الحكومة) بالنسبة لأقسام واسعة من الجماهير. أما المقاطعون فظلوا في وضع المترقب دون نشاط سياسي. طبعا نرصد المنحى العام للأحداث رغم وجود وقائع تشذ عنه على سبيل المثال نضالات شعبية بمناطق متفرقة منها في بني بوعياش وتازة.
كما خيضت نضالات عمالية دفاعية (منجم جبل عوام، مغرب ستيل للصلب، محطة تكرير النفط لاسمير النقل الحضري (الرباط-اكادير) وأخرى انهزمت (شركة ضحى للمصبرات..)، كما المناوشات المضبوطة للقيادة النقابية طلبا لمأسسة الحوار الاجتماعي.
ليس الوضع تراجعا إلا بمنحاه العام بحيث شهدنا نضالات فئوية قوية في صدام مركزي مع الدولة بلغت درجة خلق حالة توثر سياسي شد أنظار المجتمع (إضراب طلاب الطب، الأساتذة المتدربين، وطلاب الهندسة التطبيقية وبدرجة اقل الممرضون- ات… )، لكنها ظلت نضالات فئوية دفاعية، كان أشدها قتالية فعل فَوج مُتخرج كان رافضا لحرمانه من الدمج بسلك الوظيفة العمومية وليس ساعيا إلى إلغاء القانون المؤسس لذلك الحرمان، ما أفسح في المجال لمناورة الدولة. ويمثل ضعف المنظمات النقابية وتفككها وافتقادها لاستراتيجية نضال أم الكوارث وسبب الهزائم الماحقة التي آلت إليها جل النضالات البطولية التي خاضتها القاعدة العمالية.
أثار ارتفاع اسعار الكهرباء المنزلية موجة غضب شعبية عارمة بمدينة طنجة. استندت على لجان شعبية بالأحياء السكنية، وتنظيم أشكال احتجاج قوية، كالمسيرات الشعبية، وإطفاء الانوار ليلا، والوقفات الاحتجاجية، والامتناع الجماعي عن الأداء. استنفرت الحكومة جهودها بالتنقل إلى المدينة وتنظيم مفاوضات مباشرة، وتسوية بعض المشاكل الخاصة بالمستهلكين الأفراد.
كانت تلك النضالات إنذارا قويا للنظام، ولكن بشرى باستئناف النضال الشعبي، مشيرا إلى أن التجربة النضالية التي كسبتها الجماهير لن تذهب ادراج الريح وان شعلتها لم تنطفئ بعد.
لقد أعاد النظام تنشيط إيديولوجية الإجماع الوطني إبان رده على مواقف الأمين العام السابق للأمم المتحدة وفي سياق ما حققه النظام إقليميا من مكاسب ديبلوماسية في الصحراء الغربية والعودة إلى الاتحاد الإفريقي وقبله تنظيم مؤتمر المناخ بمراكش كوب 22، إلا أن ذلك لم يحد من تفجر نضالات شعبية منفلتة من كبح القيادة النقابية والجهاز الحزبي الرسمي.
كما أبانت الانتخابات الأخيرة كل الطرق والأساليب التي راكمتها الدولة في فرض خيارتها على أحزابها كما عزمها استعادة ما انتزعته نضالات 2011 الشعبية، ونظمت انقلابا فجا على حزب عدالتها وتنميتها انتهى بعزل عبد الاله بن كيران عن رئاسة حكومة الواجهة.
النضال الشعبي بمنطقة الريف، حاله وآفاقه
من خصائص نضالات الريف الجارية امتدادها زمنيا (8 أشهر)، وانتشارها الجغرافي بأجزاء واسعة من منطقة الريف، وما حظيت به من تضامن غير مسبوق وطنيا عم ما يفوق 50 مدينة وبلدة وهي حالة ليس لها نظير إلا في 20 فبراير. وعلى صعيد عالمي، نظم المغاربة المهاجرون احتجاجات لا سابق لها في أغلب عواصم أوربا الغربية وأمريكا الشمالية ضمت الآلاف في بعضها (بروكسيل ولاهاي..)
كان إقليم الحسيمة بؤرة الاحتجاجات الحالية، وبدرجة أدنى باقي منطقة الريف. لكن طيلة الشهور الماضية لم ينل الإنهاك ولا حد القمع من حجم النضالات بل زاد من اتساعها وقوتها .
إن حجم انخراط جماهير النساء أمر جديد ومثير للانتباه. فالطابع المحافظ اتجاه وضع النساء غالب بالريف، ما لم تستطع حركة 20 فبراير زعزعته. إلا أن الدينامية الحالية قلبت هذا الوضع كليا، فبتنا نشهد مناضلات قياديات ومسيرات نسائية ومعتقلات ومتابعات ومواجهات ونساء صامدات في وجه القمع.
إن منطقة الريف التي تشكل مركز النضال الشعبي الراهن «مهمشة»، فليس بها قطاعات إنتاج رئيسية (صناعية – فلاحية – معدنية)، ولا بنيات تبادل هامة ذات بعد وطني أو دولي (موانئ تصدير، مطارات دولية، محاور طرق رئيسية). ترتب عنهذا انعدام كثيف لطبقة عاملة خارج مستخدمي الوظيفة العمومية، ما يجعل الدينامية الجارية نضالا شعبيا تكمن قوة ضغطه في ما قد أن يستثير من تضامن عمالي وشعبي أي أي في مقدرة خلق ميزان قوى طبقي على الصعيد الوطني.
تعدد سياسي غير متبلور
رغم اقتصار النضال الحالي على أهداف اجتماعية، سرعان ما اصطدم بالدولة وأحزابها وإعلامها. وزاده القمع والاعتقالات اللاحقة أبعادا سياسيا جلية في ربط التفاوض بتنفيذ شروط تحرير المعتقلين وسحب قوات القمع ورفض مفاوضة «الحكومة» وأحزاب حرقت أوراقها بخفة بعد عداء أرعن للريف.
ولا شك أن توظيف علم ثورة الريفية بكثافة، وانعدام خطاب التزلف للنظام، والامتناع عن استعمال رموزه، ودور المسيرات المنظمة من أنصار الملكية (العياشة)، مظاهر أضفت على المعسكر المناضل صبغة مضادة للملكية، و كل ذلك يجعل نضالات الريف ذات مضمون سياسي كثيف وغير مسبوق.
رغم الحذر المنتشر اتجاه المنظمات السياسية، وجهود بعض العناصر القيادية إبعاد النضالات الحالية عن أي خط سياسي وايديولوجي، الا أن ثمة توجهات سياسية تتدخل في النضالات الجارية يمكن تحديدها في وجود مناضلين قوميين أمازيغيين بخصوصيات مناطقية (منطقة الريف) مستلهمين تجربة محمد بن عبد الكريم الخطابي رمزا للشهامة القومية، مستعيدين ما يسم خطابه من ميولات إسلامية مع رفض عميق للاستبداد.
يعبر علم جمهورية الريف وعلم الامازيغية عن خيارين يخترقان هذا التيار، بين أمازيغية في اطار الريف وأمازيغية في ما يسمي بلد الامازيغ. إلا أن الانتماء القومي يجمع هذين الخيارين ضمن منظور قومي وعداء لليسار كمنافس خطر .إن انعدام الاستقلال الطبقي وتعويضه بنزعة قومية سيرمي بهذا التيار إلى مساومات وحتى إلى استسلام لهدف النظام في إخماد النضال، و ربما أخرها لحد ألان ضعف التماسك التنظيمي حاليا .
ينخرط في النضالات مناضلون ماركسيون متحدرون من تجارب يسارية، يخصبون النضال الشعبي بتجاربهم المكتسبة في النضالات النقابية والشبيبية ونضالات 20 فبراير. بيد نقص تبلور تجاربهم التنظيمية والسياسية يحد من درجة تأثيرهم في قيادة النضالات رغم جسامة تضحياتهم. هذا ما يطرح بإلحاح مهمة استخلاص الدروس الجوهرية من منظور عمالي اشتراكي وفي خضم أعباء النضال الضاغطة.
رغم ضعف أحزاب «المعارضة» الإصلاحية فهي موجودة، وإن كانت شدة التقاطب بين صعود نضالي وقمع الدولة ينسف امكانية عرض خدماتها فليس مستحيلا اضطلاعها بدور تمرير مساومات من تدبير النظام عبر منظمات جماهيرية تهيمن عليها.
لا شك أن أهم مثير الانتباه هو الضعف البين للأحزاب الرجعية الدينية في النضال الشعبي بالريف. ومرد ذلك أن قوتها في منطقة الشمال متركزة بمدن طنجة ومحيطها وتطوان ومحيطها، أما الريف الأوسط فقد شكل دائما نقطة ضعفها التنظيمي، ما انعكس في قدرتها على القيام بدور رئيسي. غير أن هذا الوزن الضعيف ليس وحده عنصر تفسير دورها الضئيل، بل ثمة أيضا تحاشيها التصادم مع الدولة الذي يجعلها حريصة على تجنب ان تجبرها الوقائع على تبوء قيادة صريحة لنضالات جماهيرية .
هل عاد الوضع إلى حال دينامية نضالية سياسية شبيهة ب20 فبراير2011؟
لا شك أن نضالات منطقة الريف، وما أطلقت من حملة تضامن وطنية ودولية، تعد تغيرا ملموسا في الوضع النضالي بالمغرب ودليل نهاية منحدر التراجع الذي طبع الوضع منذ 2012. ونستدل على ذلك بمؤشرين؛ الأول حجم الاحتجاجات الشعبية وكثافتها ووتيرتها، حيث أن مسيرة الرباط الوطنية يوم 11 يونيو 2017 ضمت أزيد من 100 ألف متظاهر، ما لم يسبق لمسيرة تضامن مع نضال محلي أن بلغته. أما المؤشر الثاني، فيعبر عنه تمحور النقاش السياسي بشكل حصري على ما يجري بالريف وانكباب الدولة بكل قوتها على سبل إنهائه، فكل المجالس الحكومية ومجلس الوزراء واجتماع الهيئات القيادية للأحزاب والنقابات تتناول نضالات الريف، بل أن رعب المثقفين الليبراليين بلغ ذروة وهو مقياس استشعار مزاج البورجوازية ودولتها.
لا شك أن مآل النضال الشعبي بالريف أمر حاسم في تحديد الوضع النضالي وآفاقه. وثمة احتمالات عديدة سيكون لكل منها مستتبعات فعلية نضاليا والوضع مفتوح على خيارات عديدة:
إما انتصار يحقق أهدافا واضحة لصالح لمحتجين ويجبر الدولة على الخضوع (بغض النظر عن الطريقة). سيمثل هذا قفزة هائلة تضاف إلى درس الأساتذة المتدربين والذي مفاده أن الدولة المستبدة والفاسدة لا تجبر على الخضوع إلا بالنضال الفعلي.
إما الاكتفاء بما تحقق لحد الآن (إجبار الدولة على الإقرار بشرعية المطالب بعد حملة تشكيك مخجلة وتسريع تنفيذ ما أهملته من مشاريع وإطلاق المعتقلين وفق مساومات ما)، وهذا بدوره يعتبر نصف خطوة مهمة رغم أنها ليست انتصارا كاملا وليست هزيمة ماحقة. وسيعزز الوعي العمالي والشعبي بأهمية النضال ويعيد الثقة إليه. إنه دور النضال الطبقي كمدرسة للجماهير تستمد منها الثقة في قواها وتتعرف على حقيقة الدولة ودورها الطبقي.
أما الخيار الأخير فهزيمة تامة لا نرى إمكانيتها نظرا لكلفتها السياسية وما تنطوي عليه من مخاطر على استقرار النظام ذاته. فالهزيمة الماحقة تستدعي قمعا مفتوحا بشراسة نوعية وفرض قانون استثنائي بالمنطقة ومزيد من تشديد القمع في كل المدن. إنه خيار مستبعد لسببين الأول انه يحبل باحتمالات إثارة ردود فعل نضالية أعظم وبتجذير المطالب ونقل أساليب النضال إلى مستويات أرقى،وقد يجرف مدن ومناطق التركزات العمالية الهائلة ويخلق وضعا شبه ثوري يزعزع عميقا مجمل النظام الاقتصادي والسياسي للمالكين، و سينسف أحد ركائز الدعاية الخاصة بالدولة الموجهة للخارج أي كون المغرب نموذج استقرار في منطقة مضطربة ورائد التحولات بالمنطقة (في الحماية القانونية والتصديق على الاتفاقيات الدولية).
من اجل معارك طبقية اشمل وأعمق واقوى ضد الاستبداد والفساد.
يظهر النضال الشعبي الحالي أوجه النقص الجوهرية التي كشفتها حركة 20 فبراير متمثلةً في ضعف تنظيم الطبقة العاملة وانعدام تام لمنظمات كفاح نقابي حقيقية، وبقاء القائم من منظمات أسير سيطرة أجهزة قيادية حريصة على استقرار نظام الاستبداد، وخائنة باستمرار مصالح القاعدة العمالية، ووفي فشل ذريع لليسار العمالي في بناء توجهات نقابية ديمقراطية ذات انغراس فعلي.
يظهر بجلاء حجم كارثة التضحية بالتوجه الديمقراطي على مذبح التصالح مع البيروقراطية،ذلك التوجه الذي تشكل جراء حملات التظهير التي باشرتها البيروقراطية المسيطرة على نقابة الاتحاد المغربي للشغل. وأخيرا أم المعضلات المجسدة في غياب حزب عمالي اشتراكي يبسط رايته الطبقية المستقلة ويضم أنشط طلائع النضال الطبقي والشبيبي، ويقاتل لقيادة النضالات العمالية والشعبية. وإن كان اندلاع نضالات وحتى ثورات ممكنا دون حزب من ذلك الطراز، فلا بد منه لضمان نجاحها على طبقة ودولة شديدة المركزة والانضباط وذات تجربة هائلة في الحكم وتحوز وسائل كبيرة تتيح لها الفكاك من أشد الأزمات حدة.
إن جهود التضامن العمالي والشعبي التي ستظهر خلال الأيام القادمة سيحدد ما سيؤول إليه الوضع بالريف، كما سيكون لحصيلة هذا الأخير وقع نوعي على مستقبل النضال العمالي والشعبي في الفترة القادمة. إننا إزاء مقدمات معارك طبقية كبرى ستعيد طرح الأسئلة الجوهرية لإعادة تشكيل الحياة السياسية والاقتصادية على أسس جديدة ستكون الطبقة العاملة مطالبة بتقديم جوابها المستقل وتنخرط في تجسيده.
إننا، أنصال التحرر الشامل والعميق من نظام الفساد والاستبداد، مطالبون بالعمل على استمرار النضال الشعبي في الريف، وبتجنب أن يصاب بالإنهاك، ومدعوون لإفشال محاولات النظام تطويقه بالقمع أو تخريبه من الداخل، وملزمون بالحرص على تامين قيادة متمرسة مسنودة شعبيا وتجنيبها ما أمكن الوقوع في أيدي النظام، مع الحرص على بناء لجان شعبية في كل الأحياء وأمامكن العمل لتنسيق الخطوات النضالية وتنظيم بريد النضال الشعبي (نقاش –نقل أخبار النضال- ..) وإعادة تشكيل لجنة الإعلام والاتصال تكون لسان حال الحراك وباسمها تصدر البلاغات والإعلانات للرأي العام المناضل . إن معركة الريف حاسمة في خلق ميزان قوى طبقي على صعيد وطني ، ما يضع مسؤولية جسيمة على عاتق قوى اليسار الاشتراكي في تأجيج النضالات في كل مدينة وبلدة، ليس للتضامن مع الريف وحسب بل أساسا للتقدم بمطالب تعبئ الشعب حولها ردا على سياسة الدولة بالانفراد بالريف. فانتشار الحراك تشتيت لجهودها وفك للحصار على الريف. ان جسامة الوزن الاقتصادي، إنتاجا وتبادلا، و الطبيعة العمالية الكثيفة لمدن الدار البيضاء وطنجة، وبالنظر إلى تجربتهما في حركة 20 فبراير 2011 ، لكل يجعلان صعودا نضاليا بأحدهما آو كليهما سيعدل بشكل نوعي ميزان القوى الطبقي بالبلد، وحينها ستنطرح على جدول الأعمال شعارات وأساليب نضال وطموحات وبطولات طبقية لا يمكن حتى توقعها.
ان كل طور من النضال يستدعى إغناء برنامج المطالب التي عليها أن تستند على الحاجات الملموسة للجماهير العمالية والشعبية بربطها بمجمل النظام الاقتصادي والسياسي .فالأكيد أن مذكرة المطالب التي تبنتها تنسيقية الحسيمة لن تعبر عن مطالب باقي منطقة الريف، ناهيك أن تشكل برنامج مطالب على الصعيد الوطن يستوجب الامر طرح عناصر برنامج عام يوجه النضال الشعبي ويجرى تدقيقه وتفصيله بما يراعى خصوصيات كل منطقة دون فصله عن المطالب المركزية الموحدة في السياق الراهن.
لأجل برنامج مطالب وشروط تحقيقها؟ 
– لا عفو ولا تقادم جرائم المال العام:من أجل تدقيق شامل ومستقل في جرائم نهب الثروة العامة بدءا بالقضايا التي عرضت على القضاء ومصادرة أملاك كل اللصوص المباشرين وكل المستفيدين من سرقة المال العام.
– الديون العمومية : أموال ضخمة تسرق بطرق احتيالية وتهدب لجيوب الرأسماليين منهم مغاربة وأجانب عبر الدين الداخلي والخارجي يجب تدقيق شروط الحصول علي الدين؟تتبع مصيره؟ الجهة المستفيدة منه؟ وأخيرا رفض تسديد الديون التي تأكد أنها مجرد سرقة موصوفة لقوت الشعب المغربي.
– تدقيق الجيل الحالي من المشاريع والجاري تمويل قسم هام منها عبر الدين العمومي وعبر شراكة قطاع عام وخاص (المخطط الأخضر- برنامج الإقلاع الاقتصادي- مخطط الاستراتيجي للطاقة…) وتحديد الجدوى الوطنية والجهات الخاصة المستفيدة ودراسة التلاؤم بين الأموال التي صرفت وكلفة المشاريع تلك .
– الفساد سرطان مستشر في مسام النظام القائم، يخنق أنفاس الشعب. يجب التدقيق في كل المشاريع والصفقات التي يصرف فيها درهم من أموال الشعب على الصعيد المحلي والجهوي وتقديم صغار اللصوص أولئك للسجن ومصادرة ما سرقوه.
– رفع السر التجاري عن كل استغلال للثروة المعدنية الوطنية واستغلال المياه : مكان تواجدها؟ من يستغلها؟ كم ينتج ؟مبلغ أرباحه؟ كم يدفع من الضرائب؟ ما الذي تستفيد منه ساكنة المناطق المنجمية؟ احترام مجمل المعايير البيئية؟.
– الماء الصالح للشرب حق لجميع المواطنين ويجب تحديد حد ادني للمياه لكل مواطن لا يتعدى ثمنه كلفة الإنتاج .
– كشف الملكية العقارية الجماعية(ملك الدولة-الملك الغابوى – أراضي الجموع..؟ دور شركات العقار المستفيدة؟ بأي شروط؟ ما تربحه؟ وحقيقة وعدالة سعر السكن مقارنة بكلفته؟ احترام معايير التهيئة الحضارية؟ وفرض شروط ملزمة دفاعا عن حق السكن للجميع؟
– الصيد البحري: ثروات تنهب من مافيا بالغة القوة مجالات لترضية رأسمال إمبريالي مقابل استنزاف خطير للثروة البحرية، رفع السر عن المستفيدين من الرخص وما يستغلونه وما يقدمونه للدولة؟ وفرض سياسة مغايرة بخلق قطاع عام قوي ومراقب.
تأمين دخل للجميع: شغل أو تعويض عن البطالة لم يعد ممكنا مطلقا إجبار شعبنا على أن يعيش حياة الكلاب المهملة بحرمانه من حق العمل ولن نقبل بكذبة لا يمكن تشغيل الجميع.
– إجبار الرأسماليين و الدولة على تسديد واجبات أنظمة صناديق التقاعد التي بذمتها و تشديد فعلى للرقابة على عدم التصريح بأيام العمل الفعلية ورفض كل الإعفاءات التي تقدمها الحكومات لهم بدون وجه حق.
– الحد الأدنى للأجور والحريات النقابية و باقي الحقوق الشغلية وسحب مشروع قانون الإضراب الخطير.
– الصحة العمومية: رفع استثنائي لماليتها وحق الجميع في صحة عمومية جيدة ومجانية ومراقبة نهب ماليتها والفساد الذي ينهكها من الصغير الى الفساد الكبير مركزيا.
– المدرسة العمومية : المدرسة الوطنية العمومية الجيدة والمجانية لا يمكن القبول بإقبارها مهما بلغت خطط الخوصصة الشاملة والعميقة التي تسارعت بقوة مند مدة .إن الميزانية الضخمة المخصصة لقطاع التعليم والتي يبتلع قسما وافرا منها الفساد يجب أن تنعكس في تحسين ظروف المدرسة لكن الأهم رفعا استثنائيا لتلك الميزانية والقطع مع سياسة كل هدفها تقوية قطاع التعليم الخاص على حساب المدرسة العمومية.
– برنامج استعجال اجتماعي للمناطق الأشد عرضة للتهميش يبلور ويراقب من طرف لجان شعبية وعمالية ويتم تمويله من طرف الدولة .
– الحريات السياسية الديمقراطية : ترتكز الحياة الاقتصادية للبلد على سيطرة أقلية مالكة على مجمل الثروات الثابتة والمنقولة وبفرط استغلال لليد العاملة ونهب للمالية العامة باسم قانونها الخاص وغالبا ضده ،ويبقى جمهور الشعب يدبر يومه كيفما اتفق في شروط هدر الكرامة وشظف العيش. لا يمكن إن يستمر هدا الوضع إلا باستبداد شرس مهما غير واجهته الخارجية ،هنا جذر الربط بين الاستبداد السياسي والفساد الاقتصادي الذي لا يمكن التخلص منه إلا بتحولات اجتماعية وسياسية عميقة حصيلة نضال طبقي ضاري.إن مطلب حق الشعب المغربي في تقرير مصيره عبر مجلس تأسيسي ديمقراطي مستند على تعبئة شعبية مهمة مصيرية لإعادة تشكيل البلد سياسيا واقتصاديا بما يضمن تحقيق مطلب التحرر الديمقراطي والسيادة والوطنية عبر بديل مجتمعي يستجيب لحاجيات غالبية المجتمع.
الرفع الفوري للعسكرة وسحبها من منطقة الريف وإطلاق المعتقلين وإسقاط كل المتابعات والكف عن تسخير البلطجية، حق التظاهر والتجمع والاحتجاج والتعبير عن الرأي السياسي للجميع والكف عن المس بحرية التنقل والإعلام .
ثمة سؤال يفرض نفسه، ما الظروف التي تسمح تنفيذ هدا البرنامج وما أدوات التي ستعمل على تطبيقه؟ هدا البرنامج يستحيل أن يجرى تطبيق إلا عبر حكومة عمالية شعبية قادمة من تعبئات نضال عارمة مسنودة على لجان عمال ولجان شعبية تراقبها وتقويها في وجه مناورات أجهزة الرأسماليين المحليين والعالميين، ولا تمثل تعبئات نضال 20 فبراير إلا نقطة من بحره الهائل.
علينا الجواب على الانفضاح الملموس لأحزاب الملكية ولحكومة واجهة الاستبداد ولمؤسسات الكذب على الشعب من برلمان وجماعات محلية وإعلام رسمي بالنهوض بمهمة بناء أدواتنا الطبقية المستقلة. وعلينا الرد على إفلاس الدولة، ورفضها تلبية الحاجات الأساسية للشعب، بالتقدم ببديلنا وشرحه والدعاية له في معمعان النضال. فليس التغيير الاشتراكي طوبى جميلة للمستقبل بل بديل ملموس يجرى اكتشافه في المعارك التي تخوضها طلائع النضال. علينا إيجاد الجسور بين النضال من اجل انتزاع مكاسب تحسن وضع شعبنا، وتعزز ثقته في قوته النضالية بربطها بمجمل النظام الاقتصادي والسياسي، وغرس منظور التغيير الاشتراكي الشامل. ولن يتأتي هذا إلا بتعاون وثيق بين المناضلين الاشتراكيين في خضم المعارك الجارية وتوحيدها على أساس منظور اشتراكي عمالي للثورة المغربية.

شارك المقالة

اقرأ أيضا