(9) يجب أن نناضل من أجل تهذيب أسلوبنا

غير مصنف15 نوفمبر، 2017

لقد تقرر، خلال اجتماع عام في مصنع أحذية ” كومونة باريس “، وضع حد لفظاظة الأسلوب ومعاقبة الذين يتلفظون ب ” كلمات نابية “، إلخ.

بالمقارنة مع ” كلمات ” اللورد كورزون[1]، الذي لا نستطيع بعد أن ننزل به عقابا، فإن القرار الذي إتخذته الجمعية العامة لمصنع الأحدية قد لا يعدو حدثا صغيرا في دوامة عصرنا، بيد إنه حدث له دلالاته. ولن يأخذ كامل أهميته إلا بمقدار ما تخلفه هذه البادرة من أصداء.

إن جلافة الأسلوب – الجلافة الروسية بشكل خاص – موروثة عن عهد العبودية، والإذلال، واحتقار الكرامة الإنسانية لدى الآخرين ولدى الذات. ويجب أن نسأل فقهاء اللغة وعلماءها والمختصين في الشؤون الفولكلورية إن كانت توجد في الأقطار الأخرى جلافة منفلتة، منفرة، ومزعجة، كالتي عندنا. وعلى حد علمي، ليس ثمة مرادف لجلافتنا في الخارج. لقد كانت الجلافة لدى الطبقات الشعبية تعبر عن اليأس، وعن الغضب، وأيضا، وقبل أي شيء آخر، عن وضع عبودية لا أمل فيه ولا مخرج منه. لكن هذه الجلافة كانت لدى الطبقات العليا، في فم سيد مالك أو مفتش عقاري، تعبر عن التفوق الطبقي، عن حق لا جدل حوله في إستعباد البشر. يقولون عن الأمثال أنها تعبر عن الحكمة الشعبية، لكنها تعبر أيضا عن الجهل، والأفكار المسبقة والعبودبة. فثمة مثل روسي قديم يقول ” الكلمة النابية تنسى بسرعة “، وهذا المثل لا يعكس فقط العبودية، وإنما أيضا تقبلها السلبي. وثمة نمطان للجلافة – جلافة السادة والموظفين والبوليس، وهي جلافة متخمة وبذيئة، وأخرى جائعة ويائسة – قد لونا الحياة الروسية بلونهما المنفر. وقد ورثتهما الثورة، كما ورثت أشياء عديدة أخرى.

بيد أن الثورة هي قبل أي شيء آخر يقظة الشخصية الإنسانية لدى طبقات كانت، فيما مضى، تفتقر إليها كليا. وعلى الرغم من قساوة أساليبها وشراستها الدموية، فإن الثورة هي قبل أي شيء يقظة الحس الإنساني. فهي تسمح بالتقدم، وبمنح قدر أكبر من الإهتمام للكرامة الذاتية ولكرامة الآخرين، وبمساعدة الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة. فالثورة لن تكون ثورة إن لم تعمل، بكل قواها ووسائلها، على مساعدة المرأة المستلبة مثنى وثلاث ورباع على التقدم ذاتيا واجتماعيا. والثورة لن تكون ثورة ما لم تعر الأطفال بالغ الإهتمام: فهم المستقبل الذي باسمه تتم وتتحقق. فهل نستطيع أن نشيد – ولو على نحو مجزأ ومحدود – حياة جديدة قائمة على الإحترام المتبادل، على احترام الذات، على حق المرأة في المساواة، على اهتمام حقيقي بالأطفال، في جو يدوي فيه ويهدر وينفجر أسلوب السادة والعبيد والاجلاف، هذا الأسلوب الذي لم يوفر قط لا الأشياء ولا الأشخاص؟ إن الثقافةالروحية تحتاج إلى مكافحة جلافة الأسلوب وفظاظته حاجة الثقافة المادية إلى مكافحة القذارة والقمل.

وليس من السهل على الأخلاق القضاء على هذه الإباحية اللغوية لأن جذورها ليست في الكلمة بحد ذاتها، وإنما في النفسية وفي نمط الحياة. لا ريب في أن محاولات مصنع “كومونة باريس” تستحق منا كل التشجيع، لكن علينا أن نتمنى للقائمين عليها الصبر والمثابرة، لأن العادات النفسية التي تنتقل من جيل إلى آخر، والتي تتأثر بها أجواؤنا حتى اليوم، ليست سهلة الإستئصال. فغالبا ما نعقد العزيمة على تحقيق التقدم بأي ثمن كان، لكننا نرهق أنفسنا لنستسلم في نهاية المطاف تاركين الأمور على ما كانت عليه من قبل.

نأمل أن تقابل مبادرة ” كومونة باريس ” بالدعم من قبل العمال، ولا سيما من قبل الشيوعيين. وما يمكننا قوله هو أن الكلمات النابية توجه بشكل عام ( هنالك استثناءات طبعا ) إلى المرأة والأولاد، وذلك لا في أوساط الجماهير المتخلفة فحسب وإنما في صفوف الطليعة، بل أحيانا في صفوف ” المسؤولين “. ولا يسعنا أن ننكر أن هذه الطريقة في التعبير ما تزال حية لدى أصحاب ” المناصب العالية ” بعد انقضاء ستة أعوام على ثورة أكتوبر. وثمة ” شخصيات ” تعتبر أنه من واجبها، عندما تكون خارج العاصمة أو خارج المدينة، التحدث بأسلوب جلف، لأنها ترى فيه وسيلة اتصال بالطبقة الفلاحية …

إن حياتنا متناقضة تماما، على الصعيدين الاقتصادي والثقافي على حد سواء. ففي قلب البلاد، غير بعيد عن موسكو، تمتد مستنقعات شاسعة غير سالكة الدروب، وعلى مقربة منها تنتصب مصانع تلفت الإنتباه بسويتها التقنية الأوروبية أو الأميركية… تناقضات ومفارقات مماثلة نلمسها في عاداتنا، فإلى جانب كيت كيتيتش[2] الشاب الذي اجتاز الثورة وعرف المصادرة، والمضاربة السرية والمضاربة الشرعية، والذي حافظ بأمانة على جميع سمات طبقته، نجد النموذج الأمثل للعامل الشيوعي الذي لا يعيش إلا من أجل مصالح الطبقة العاملة، والمستعد دوما، في أي لحظة وفي أي بلد، لأن يقاتل من أجل الثورة. بالإضافة إلى هذه المفارقة الاجتماعية – الجلافة البليدة والمثالية الثورية – فإننا غالبا ما نلاحظ مفارقات نفسية عند الشخص الواحد، وداخل الوجدان الواحد. ومثالنا على ذلك شيوعي أصيل، مخلص لمهمته، لا يعتبر النساء أكثر من ” بابا“[3] (يا لها من كلمة فظة ) لا تستحق الحديث الجدي. أو مقاتل قديم في كومونة باريس يطلق، بصدد المسالة القومية، رشقة شتائم جديرة بأوغريوم – بورتشيف[4]، وكفيلة بأن تجعل الناس تهرب من حوله. وهذا ناجم عن كون ميادين الوعي المختلفة لا تتحول وتتطور على نحو متواز وفي آن واحد. هنا أيضا نجد تركيبا خاصا، فالنفسية تكون محافظة تماما، أما بالنسبة إلى الوعي فإن العناصر الخاضعة لمقتضيات الحياة هي وحدها التي تتحول. فالتطور الاجتماعي والسياسي خلال العقود الأخيرة تم بإيقاع جنوني، مع قفزات وتقلبات لا سابق لها. لهذا السبب تعاظم شأن الفوضى والفساد عندنا إلى هذا الحد. لكن لن نكون منصفين إذا ما توهمنا بأن هاتين الآفتين لا تهيمنان إلا على الإنتاج وعلى جهاز الدولة. كلا، يجب أن نعترف بأنهما تؤثران أيضا على العقليات حيث تمتزج آراء طليعية ورزينة ( في هذا المجال نستطيع أن نعطي دروسا لأوروبا ولأميركا ) مع طبائع وعادات وأفكار موروثة مباشرة عن دوموستروج[5]. إن تسوية الجبهة الإيديولوجية وتمهيدها، أي تحليل سائر ميادين الوعي بواسطة النهج الماركسي، هي الصيغة العامة للتربية ولتربية الذات التي ينبغي تطبيقها على حزبنا في المرتبة الأولى، ابتداء بالقادة. ومرة أخرى نعود فنقول أن هذه المهمة هي في غاية التعقيد، ولن تحل بطريقة مدرسية ولا أدبية، لأن تناقضات النفسية واضطراباتها ترسي جذورها البعيدة في فوضى نمط الحياة وفساده. فالوعي يتحدد في نهاية المطاف بالوجود. لكن الإرتباط هنا ليس ميكانيكيا ولا آليا، وإنما متبادل. لذلك ينبغي مواجهة المشكلة من عدة جوانب، بما فيها الجانب الذي اختاره عمال مصنع ” كومونة باريس “.

فلنتمنَ لهم التوفيق !

***

إن النضال ضد الجلافة جزء من النضال من أجل صفاء اللغة ووضوحها وجمالها.

[1] اللورد كورزون: دبلوماسي بريطاني كان من بين منظمي التذخل المسلح ضد الإتحاد السوفياتي،وقد سبق أن أتى المؤلف بذكره في مقالته عن ” الصحيفة وقارئها “.(م)

[2] كيت كيتيتش : إسم جماعي ظهر في مطلع القرن التاسع عشر وكان يشار به إلى التاجر المستبد والمتميز بجلافته ومكره.(م)

[3]  “بابا” : تسمية جماعية مهينة للمرأة تضعها في مرتبة البهيمة. (م)

[4] أوغريوم بورتشيف : إحدى شخصيات رواية سالتيكوف- شيدرين:” قصة مدينة “. وهو نموذج للمستبد الذي لا يعبر عن آرائه إلا بهمهمات وزمجرات فظة.(م)

[5] “دوموستروج” : كتاب مصنف من القرن السادس عشر، جمعت فيه القواعد الأساسية للحياة اليومية، والقائمة على مبدأ الخضوع المطلق لرب الأسرة.(م)

شارك المقالة

اقرأ أيضا