نسوانية لأجل الــ 99% – بيان: أطروحة 5. في المجتمعات الرأسمالية، جذور اضطهاد الجندر  قائمة في إخضاع إعادة الإنتاج الاجتماعية للإنتاج السلعي. نريد إرجاع الأمور إلى وجهتها السليمة

النساء23 سبتمبر، 2019

بقلم، تشينسيا  أروتسا  Cinzia Arruzza * تيتي باتاشاريا  Tithi Bhattacharya**  نانسي فرايزر Nancy Fraser***

نعلم جيدا أن المجتمعات الرأسمالية هي، بالتعريف، مجتمعات طبقية:  حيث تُراكم أقلية من الأشخاص أرباحا باستغلال مجموعات أوسع بكثير ملزمة بالعمل للحصول على أجر.  ما يُفهم بدرجة أقل هو أن المجتمعات الرأسمالية هي أيضا، في جوهرها، مصدر أوجه اضطهاد الجندر. ليس الميز الجنسي حادثا عرضيا، إنه راسخ بعمق في بنية الرأسمالية ذاتها. 

طبعا لم تخترع الرأسمالية إخضاع النساء. فقد كان قائما، بأشكال متباينة، في كل المجتمعات الطبقية السابقة. لكن الرأسمالية أتت بأشكال جديدة، حديثة ومختلفة من الميز الجنسي، على أساس بنيات مؤسسية غير مسبوقة. كانت مبادرتها الرئيسة فصل نشاط “صنع أشخاص” عن ذاك الذي يتيح “صنع أرباح”، وذلك بإسناد العمل الأول للنساء وإخضاعه للثاني. وبفعل هذا، أعادت الرأسمالية تشكيل اضطهاد النساء وقلبت نظام العالم. 

 يتجلى الطابع الشرير الماكر في عند تبين درجة حيوية عمل”صنع الأشخاص” هذا وتعقده. فهذا النشاط يخلق الحياة ويُديمها، بالمعنى البيولوجي، لكنه يخلق أيضا ويُديم مقدرتنا على العمل- ما كان ماركس يسميه “قوة العمل”. يستتبع ذلك تربية الناس كي يتبنوا المواقف والتوجهات والقيم “السليمة”، والمهارات والكفايات والمؤهلات “الصالحة”. على هذا النحو، يعطي هذا العمل المتطلبات القبلية- المادية والاجتماعية والثقافية- اللازمة للمجتمعات البشرية عامة، وللإنتاج الرأسمالي بوجه خاص. وبدون هذا، لا يمكن للحياة ولا لقوة العمل أن تتجسد في الكائنات البشرية.

 نطلق على مجموع هذه الأنشطة الحيوية إعادة الإنتاج الاجتماعية.

يجري في المجتمع الرأسمالي طمس الدور الحاسم لإعادة الإنتاج الاجتماعية وإنكارها.  وبعيدا عن تقديره بقيمته الحقة، يُعتبر صنع الأشخاص مجرد وسيلة لتحقيق ربح. ولأن الرأسمال يتفادى قدر مستطاعه أداء مقابل لهذا العمل، إذ المال أسمى قيمه، يقوم بتنحية من ينهضن وينهضون به إلى موقع خضوع- ليس لمالكي الرأسمال وحسب، بل أيضا للأجراء الأرفع وضعا ممن بوسعهم إلقاء عبء تلك المسؤوليات على آخرين. 

 معظم هؤلاء “الآخرين” نساء. لأن تنظيم إعادة الإنتاج الاجتماعية، في المجتمع الرأسمالي، يرتكز على الجندر: يستند على أدوار مجندرة ويديم أوجه الاضطهاد الجندرية. هذا ما يجعل إعادة الإنتاج الاجتماعية مسألة نسوانية. لكنها مخترقة في كل نقطة بخطوط التشقق المرتبطة بانتماءات الطبقة والعرق والجنس والقومية. يتعين على كل نسوانية متمسكة بحل الأزمة الراهنة أن تفهم إعادة الإنتاج الاجتماعية عبر منظور يأخذ بالحسبان كل محاور السيطرة هذه ويربط بينها. 

أقام المجتمع الرأسمالي دوما قسمة عرقية لعمل إعادة الإنتاج. قام هذا النظام، سواء بالعبودية أو بالاستعمار، أو العنصرية أو الامبريالية الجديدة، بإجبار النساء ضحايا العنصرية على بذل هذا العمل مجانا- أو بكلفة زهيدة جدا- لفائدة “أخواتهن” البيض أو المتحدرات من عرق الأغلبية. وبفعل إرغامهن على العناية بأطفال وبيوت سيداتهن ومشغلاتهن، اضطررن للكفاح بكل قواهن للتمكن من الاعتناء بالخاص بهن من أطفال وبيوت. ومن جهة أخرى، سعت المجتمعات الرأسمالية دوما إلى جعل عمل النساء لإعادة الإنتاج في خدمة ثنائية الجندر واعتبار الغيرية معيارا Hetéronormativité. وشجعت الأمهات والمدرسين والأطباء، ضمن آخرين، على التأكد من صرامة تكييف الأطفال كي تطابق هويتهم الجندرية مع جنسهم البيولوجي، وكي يكونوا متغايرين جنسيا. وبالنحو ذاته، غالبا ما حاولت الدول الحديثة استعمال صنع الأشخاص لخدمة مشاريع قومية أو إمبراطورية. وبحفز ولادة الطراز “الجيد” مع ردع ولادة الطراز “السيئ”،  وضعت سياسات تعليمية وأسرية ليس فقط لصنع “أشخاص” بل أيضا لصنع “ألمانيين/ات” و”إيطاليين/ات” أو “أمريكيين/ات” مثلا، يمكن دعوتهم/هن للتضحية بالنفس من أجل الأمة عندما يبدو الأمر ضروريا. كما أن المعيار الطبقي أساسي لإعادة الإنتاج الاجتماعية. يُنتظر من نساء الطبقة العاملة ومدرسيها/تها أن يعدوا أطفالهم ليكونوا “عمالا” جيدين و”عاملات” جيدات يطيعون ويحترمون رب عملهم (أو ربة عملهم)، ويقبلون “منصبهم” ويتقبلون الاستغلال. لم تشتغل قط هذه الضغوط بأكمل وجه- بل فشلت أحيانا فشلا مذهلا- وبعضها يخف اليوم. لكن إعادة الإنتاج الاجتماعية مشبوكة بعمق مع السيطرة- ومع النضال ضدها. 

عندما ندرك أن إعادة الإنتاج الاجتماعية توجد في صلب المجتمع الرأسمالي، نكف عن النظر إلى الطبقات بنفس الكيفية. ليس ما يصنع الطبقة في المجتمع الرأسمالي هو حصرا العلاقات التي تستغل “العمل” مباشرة، كما تعرض التحاليل الكلاسيكية، بل أيضا العلاقات التي تتيح إعادة إنتاج هذا العمل وتجديده. لا تتكون الطبقة العاملة العالمية حصرا من أجراء /ات المصانع والمناجم. فمن يشتغل، ذكورا وإناثا، في الحقوق والبيوت والمكاتب والفنادق والمطاعم والمستشفيات، ورياض الأطفال، والمدارس، والقطاع العام والمجتمع المدني، وأجراء الهشاشة، والعاطلون، ومن لا يحصلون على أجر مقابل عملهم، هم أيضا جزء من الطبقة العاملة. إن الطبقة العاملة العالمية، بعيدا عن اقتصار على الرجال البيض المتغايرين جنسيا كما ألفنا كثيرا تخيلها، تتكون أساسيا من مهاجرين/ات وضحايا العنصرية ومن نساء وأشخاص ذوي مقدرات متنوعة، تنكر الرأسمالية حاجاتهم ورغباتهم وتشوهها. كما يوسع هذا المنظور رؤيتنا للصراع الطبقي. إذ لم يعد منحصرا في مطالب مرتبطة بالعمل(عقود عمل لائقة أو أجر أدنى مضمون، مثلا) ترفعها نقابات ومنظمات للعمال والعاملات، بل يهتم بمختلف أوجه المجتمع. بنظرنا تكمن النقطة الأساسية ومفتاح فهم الحاضر في كون الصراع الطبقي يشمل النضالات المرتبطة بإعادة الإنتاج الاجتماعية: من أجل تغطية صحية شاملة وتعليم مجاني، ومن أجل عدالة بيئية وطاقة نظيفة، ومن أجل السكن والنقل العموميين. كما أن النضالات السياسية من أجل تحرر النساء، وضد العنصرية، وضد كره الأجانب، وضد الحرب والاستعمار، هامة أيضا ضمن الصراع الطبقي. كانت هذه النزاعات دوما في صلب المجتمع الرأسمالي الذي يرتكز على عمل إعادة الإنتاج مع نزع القيمة عنه. لكن النضالات من أجل إعادة الإنتاج الاجتماعية بلغت اليوم مستوى تفجرية بالغ. إن الأسر والجماعات، وبوجه خاص النساء، مخنوقات أكثر فأكثر من قبل النيوليبرالية التي تتطلب زيادة ساعات العمل المأجور في كل آسرة وخفض مساعدات الدولة الاجتماعية.  لقد اتخذت النضالات من أجل إعادة الإنتاج الاجتماعية، في شروط نزع الملكية الشامل هذا، مكانة مركزية. وباتت تشكل رأس رمح مشاريع من شأنها تغيير المجتمع جذريا. 

ترجمة: جريدة المناضل-ة

==========  

  • تشينسيا أروتسا Cinzia Arruzza : أستاذة فلسفة في New School for social Research  في نيويورك. لها مؤلفات عديدة تستكشف العلاقات بين الاشتراكية والنسوانية.

**  تيتي باتاشاريا  Tithi Bhattacharya:  أستاذة ومديرة برنامج Global Studies  في جامعة بوردو Purdue [انديانا]. تقيم مؤلفاتها تقاطعا بين النظرية الماركسية ومسائل الجندر.

*** نانسي فرايزر  Nancy Fraser: أستاذة الفلسفة والسياسة في  New School for social Research بنيويورك. لها مؤلفات عديدة، وهي إحدى الممثلات الرئيسة للنظرية النقدية  في العالم الناطق بالانجليزية . 

شارك المقالة

اقرأ أيضا