كميل داغر عن مصلح مصلح: الفارس الثوري النادر والجميل(*)

كان ذلك في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي. لم يكن لبنان في حالة انتفاضة شعبية عارمة، كالتي يشهدها الآن، لكن كل شيء كان يبشر بأن الأوضاع تأخذ منحىً ما قبل ثوري، على الأقل: فالصراع الطبقي على أشده ضد سلطة رأس المال المشوبة، عدا تأزمها الاقتصادي- الاجتماعي المتنامي، بسمات ذات طبيعة طائفية قاتلة. والتظاهرات الاجتماعية والوطنية لا تهدأ إلا لتعود مجدداً: في المصنع، كما على صعيد الارياف الزراعية، وفي المدارس والجامعات. إضرابات في اكثر من موقع ومكان، من بيروت ومصنع غندور، على سبيل المثال، مروراً بالنبطيه، وتحركات فلاحي الجنوب، وصولاً إلى المسيرات الشعبية التي كانت تعلن التضامن مع المقاومة الفلسطينية، او مع أي من شعوب العالم تشهد تحركات جماهيرية، او تتعرض للقمع والسحق، كما الحال خلال انقلاب الجزار بينوشيه في التشيلي على سلطة الليندي الديمقراطية الشعبية. ناهيكم عن التظاهرات الطلابية التي لم تكن تتوقف، سعياً وراء مطالب متقدمة لصالح التعليم الرسمي، سواء منه ما قبل الجامعي، او بعد الجامعي، فضلاً عن إضرابات المعلمين والمعلمات.

في هذا الجو الحار جداً، التحق الشاب مصلح مصلح بمنظمة صغيرة كانت لا تزال تحبو آنذاك، وهي على بُعد سنوات قلائل من تأسيسها، باسم” التجمع الشيوعي الثوري”، كمنظمة متأثرة جداً بالصعود الشعبي في اكثر من قارة وبلد، وخاصة في اميركا اللاتينية، حيث لم يكن دم غيفارا المسفوح في غابات بوليفيا قد برَد بعد، على الاقل في أذهان ملايين الشبان والشابات، عبر العالم، وفي ارواحهم الثائرة على الظلم والقمع والاستعباد. فضلاً عن تأثرها كذلك بالتطلعات الاممية، كما سبق ان ظهرت، بوجه اخص، في الاممية الثالثة، أيام كان لينين وتروتسكي لا يزالان يمسكان عن كثب بدفة القيادة فيها، ومن ثم في الاممية الرابعة، التي كتب الأخير نصَّها التأسيسي، المتمثل في كراس البرنامج الانتقالي، ذلك البرنامج الذي اعتبر في مقدمته أن الظروف الثورية في العالم لم تنضج وحسب بل بدأت تتعفن، بسبب غياب القيادة الثورية، بعد أن تمكنت البيرقراطية السوفييتية، في ظل ستالين، من تصفية كل من بقي من قادة ثورة اكتوبر، في روسيا، ومن تحويل الأممية الثالثة عن خطها الثوري الاساسي، في اتجاهٍ إصلاحي يميني، قبل حلها، نهائياً، في العام 1943.

وحين انضم مصلح إلى ذلك التجمع، كان يفعل ذلك، فيما هو مرتبط، في الوقت ذاته، بسلكٍ، هو سلك الأمن الداخلي، يحرِّم على أعضائه الاشتغال في السياسة، فكيف حينما تكون هذه الاخيرة سياسة ثورية! لقد قفز مصلح على هذا الواقع واعتبر أن انتماءه الاساسي هو هنا، وليس في دهاليز جهاز يتأكله الفساد، والعداء الممنهج لقضايا الشعب الكادح. وكان يتقد حماساً، بلا انقطاع، لبناء قاعدة راسخة لمنظمته، في الجبل، ليس فقط، ضمن قضاء عاليه، بالذات، حيث بلدته كفرمتى، بل أيضاً في الشوف. وعلَّمَنا، من فطرته وتجربته الشخصيتين، في آن، كيف يمكن ان نفعل ذلك، في الريف اللبناني، وإن كسرنا، أحياناً، على طريقته، نماذج تلقيناها من تجارب بلدان أخرى، ولا سيما روسيا القيصرية، واوروبا المتقدمة. حتى أنه، بنتيجة ذلك، تولد اعتقاد، في إحدى الفترات، اعتقادٌ ليس دقيقاً، حتماً، ولكنه مؤثر، لدى كثيرين، مفاده أننا ربما نكون تمكنا من تحقيق انتشار واسع في المنطقة المشار إليها.

وكان مصلح يهجس دائماً بموضوعة بناء الكادر، أو بالضبط ما سبق ان سماه لينين “دزينة الأذكياء، في كتابه “ما العمل؟”. فلقد كان يشدد كثيراً على التثقيف النظري والسياسي، والتنظيمي. ولاجل ذلك، كثرت في اكثر من بلدة في الجبل مدارس التكوين ، سواء الابتدائية منها أو المتقدمة. وحرص هو شخصياً على حضور مدارس كادر، في الخارج، كانت إحداها في باريس بالذات، في ثمانينيات القرن الماضي، والاخرى، في تونس، في العام 2014 . وكان دأبَه باستمرار القراءةُ بنهم، سواء للكتب النظرية، أو لمقالات الصحف والمجلات رفيعة المستوى، والتدربُ على الكتابة، بحيث يتمكن من إيصال افكاره بسلاسة وسلامة إلى الآخرين.

هذا وقد شدد على حضور رفيقة من قرية بريح في الشوف، المدرسة العربية التي اقيمت على مدى سنوات في باريس، وكان يحضرها رفاق ورفيقات من بلدان عربية شتى، ولا سيما من المغرب الكبير. وبهذه المناسبة سأمرر هذا الخبر اللافت جداً عن تأثير تلك المدرسة على الرفيقة، آنذاك، وإن لم يكن بين موضوعاتها اي شيء عن قضية تحرر المرأة. لقد ذهبت الرفيقة ناديا وعلى رأسها منديل ابيض يغطي شعرها بالكامل، فيما عادت إلى قريتها من رحلتها هذه حاسرة، وبقيت كذلك، تماماً مثلما سبق ان فعلت، في مصر، في تاريخ بعيد، السيدة الرائدة، هدى شعراوي.

وقد ترافق ذلك كله مع واقع بالغ الاهمية، يتمثل في مستوى الرقي الاخلاقي، لدى مصلح، المتلازم مع شجاعةٍ منقطعة النظير ظهرت لديه، في مناسبات شتى، ولكن قبل كل شيء، خلال الاجتياح الصهيوني لبيروت والجبل.

فخلال الاجتياح، كان يساعدنا مصلح، من موقعه في السلك العسكري، في نقل رفاق واصدقاء من اكثر من جنسية، على شتى الحواجز، سواء منها الإسرائيلية، أو اللبنانية الرسمية، أو حتى حواجز الميليشيات المتقاتلة. أكثر من ذلك، كان ينقل مختلف الاسلحة الصغيرة منها والمتوسطة، المعدَّة للمشاركة في المقاومة، في سيارته العسكرية، وحتى أحياناً في سيارته الشخصية. ولعب دوراً مؤثراً في تنظيم أكثر من عملية ناجحة ضد المحتلين، قام بإحداها الرفيق، “فهد”، الذي سيستشهد فيما بعد، في اعالي بلدات الشحار الغربي، خلال الانسحاب الإسرائيلي من الجبل.

وليست نافلة الإشارة إلى ان الرفيق ساهم، في إحدى المراحل، في الكتابة المميزة للصحافة الثورية، ولا سيما لجريدتنا، حتى أوائل هذا القرن، “ما العمل؟”. لا بل كتب ايضاً للصحافة العادية اليومية. وحين بدأت موجة الانحسار الكبرى من صفوف اليسار المحلي كما العالمي، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومته – بما كان ينسجم مع مقولة فوكوياما البائسة جداً، والتي تراجع عنها في ما بعد، ولكن متاخراً جداً، مقولة نهاية التاريخ – صمدَ مصلح في صفوفنا ببطولة، على غرار رفاق عديدين آخرين، وجنَّد نفسه كلياً للدفاع عن افكارنا، وتوجهاتنا. وحين استقدمْنا المفكر والمناضل الثوري الروسي، الكسندر بوزغالين، في شتاء العام 1993، ليقدم سلسلة من المحاضرات ضد نظرية فوكوياما، ومع استعادة الصراع الطبقي في كل مكان، بما فيه في روسيا بالذات – إحداها تمت في دار الندوة في بيروت، والاخرى في مقر مركز معروف سعد الثقافي، في صيدا، واخرى في الرابطة الثقافية، في طرابلس، والاخيرة في مركز الحركة الثقافية في انطلياس – اصر مصلح على استضافته في بيته في كفرمتى، حيث قدم تحليلاً مستفيضاً حول الوضع في روسيا بعد العودة إلى الرأسمالية، ومهام الثوريين، للمرحلة اللاحقة، وسط حضورٍ اكتظَّ بهم بيت الرفيق كانوا متعطشين لمعرفة أي شيء بخصوص ذلك العالم الذي انهار، وينبغي إعادة بنائه على أسس مختلفة تماماً، تضمنُ صموده أمام هجمات الاعداء الطبقيين.

ولا يمكن ان انسى فرح مصلح الهائل، حين انحسرت موجة الكآبة واليأس، مع عودة الصراع الطبقي إلى الاحتدام في أواخر التسعينيات، وما بعدها، بحيث عاد حتى الاقتصاديون الرأسماليون يعترفون، إزاء احتدام أزمات رأس المال، بأنه لا غنى إطلاقاً عن العودة إلى تحليلات ماركس بخصوص تلك الازمات، وطرق مواجهتها. عاد وجهه يمتلئ بِشْراً، وتزايدت متابعته الحثيثة لكل التطورات السياسية والاقتصادية، عبر العالم. واستعاد روحية الهجوم بعد ان انكفأ على مدى سنوات قاحلة إلى وضعية الدفاع.

ولقد تضاعفت مذاك اهتماماته بالنقاش، في كل مكان، ولا سيما بعد تقاعده من العمل في السلك العسكري. باتت حياته سياسة لا أكثر، بحيث يمكن ان ينطبق عليه الوصف المعروف لشريحة من الناس، وصفُ الإنسان السياسي، او باللاتينية ال Homo Politicus. وهو وضع طالما أثر عكسياً على حياته العائلية، وإن كان سعى باستمرار لتكثيف عمله بحيث يتمكن من تلبية حاجاتها، المعيشية كما الدراسية.

بيد انه إذا كان انطبق دائماً على مصلح، وإن بصورة متفاوتة، وصفه بـ”الإنسان السياسي”، فلا يكتمل هذا الوصف إلا إذا أضفنا صفة الثوري على كلمة السياسي.

ولكي تكون الصورة اكثر وضوحاً، سوف أقرأ رسالة الدكتور علي الموسوي،رئيس الجمعية اللبنانية لعلم الاجتماع، سابقاً” وقد بعث بها لهذه المناسبة من النمسا، وفيها يلخص بامتياز تصوره لرفيقنا الراحل. يقول الموسوي:

“مصلح صديق عزيز وانسان طيب وخلوق، متجاوز كل العصبيات على انواعها، يمثل الانسان النقي الصادق، في زمن عزت فيه هذه الصفات بين البشر. كان في السلك العسكري في قوى الامن، وكأنها نقيض طبيعته، فقوى الامن سلطة بأي رتبة كان الانسان فيها، بينما مصلح يثير لديك التناقض: البزة ُ عسكرية ٌ، والسلوك نقيضٌ للسلطة التي ترمز اليها البزة. أفتقِد ضحكته الدائمة والخفية. سُمْعَتُه مِسْكْ، وستبقى تفوح في الارجاء، ولو ابتعد جسدياً”.

ولكي لا تكون الصورة ناقصة، سأخبركم عن مصلح، في آخر نضالاته المطلبية الاجتماعية، وهو يتقدم صفوف العسكريين المتقاعدين، الذين اعتدت دولة العصابة الحاكمة، التي يناضل الشعب اللبناني الآن لإطاحتها – على الطريق لبناء مجتمع ودولة علمانيين ديمقراطيين، يضمنان الحرية والكرامة والعدل الاجتماعي للجميع – اعتدت على معاشهم التقاعدي، بطريقة شديدة الخساسة، تماماً مثلما فعلت بخصوص معاشات باقي المتقاعدين. فلقد تمثل هذا الدور بمسألتين اساسيتين:

– كان مصلح الوحيد الذي وقف بصلابة بوجه صلف الضباط الكبار المتقاعدين الذين تنطحوا لقيادة تحرك العسكريين المشار إليهم، وسعوا للتعامل معهم بنفس الطريقة الاستعبادية التي كانوا يستعملونها مع مرؤوسيهم خلال مزاولتهم لمهامهم العسكرية، حين كانوا لا يزالون في الخدمة.

– كما سعى كذلك لبناء نقابة للجنود وذوي الرتب العسكرية الدنيا، وإنِ الأعلى قليلاً، وظلَّ يناضل لهذه الغاية حتى رحيله.

أخيراً، كثيرون هم الذين يفتقدون مصلح الآن، وليس عائلته الصغيرة فقط. كل الذين عرفوه واقتربوا منه بَكُوه، ولو في قرارة انفسهم، ولا سيما رفاقه الذين ناضلوا معه، جنباً إلى جنب. وأكثر ما يحزّ في نفوسهم أن ما عاش حياته بكاملها لأجله، بدأ يزهر بهذه الطريقة الرائعة، المتمثلة بنزول الملايين منذ تسعة ايام إلى الآن، إلى الشوارع، هاتفين ضد كل الطبقة الحاكمة، بشعار: “كلن يعني كلن”، وذلك بعد مرور أقل بقليل من ثلاثة أشهر، على مغادرته لنا، بطريقةٍ بالغة العبث: سقط مصلح وهو يسقي زريعته الصغيرة، وراء سطح بيته، على حجرٍ شقَّ رأسه، وتركه ينزف، وحيداً، حتى الموت.

لكن ما يعزينا، مع ذلك، هو أن مصلح أدى دوره بصدق ونقاء وشجاعة، لأجل أن يحصل ما يحصل الآن. وهو يستحق، غداً، عندما ينتصر فقراء بلدنا ومعذَّبوه على أعدائهم الطبقيين، أن تكون له بصمة عميقة على اي نصب تذكاري يؤرخ لهذه الملحمة الرائعة، وغير المسبوقة، التي تتم كتابتها، حالياً، في شوارع لبنان!

(*) كلمة ألقاها المحامي كميل داغر في اللقاء التكريمي للمناضل الراحل مصلح مصلح الذي عقد في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي.

المصدر: https://www.almodon.com/culture/2019/10/26/fbclid=IwAR3rCOu_k8byoGUDLwqMrMYpqfXrOcPy6O8gRRObDl4jEQY9DFfp4KryYG0

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا