الاقتطاع الإجباري من الأجر؛ اعتراضات مُغَلِّطَة

سياسة18 أبريل، 2020

أزنزار

أثار المنشور الحكومي القاضي باقتطاع إجباري لأجرة 3 أيام من رواتب الموظفين- ات، استياءً واسعاً، وثارت اعتراضات ركز مجملها على شكليات القرار، القانونية بالدرجة الأولى، شكليات يسهل دائما على الدولة استغلالها لإضفاء الطابع القانوني على هجماتها. ولا اعتراض من منظور طبقي عُمالي.
اعتراضات القانونيين- ات
يقوم جوهر هذه الاعتراضات على التعارض بين منشور رئيس الحكومة ومرسوم إحداث صندوق تدبير جائحة كورونا من جهة، وتعارضه من جهة أخرى مع منطوق الفصل 40 من الدستور الذي لا ينص على إلزامية المساهمة في التكاليف الناتجة عن الأعباء المرتبطة بتدبير الأزمات.
يقوم الاعتراض الأول على أن مرسوم صندوق كورونا لم ينص صراحة على إلزامية التبرع، بينما يستند الثاني على شكليات خرق الضوابط الدستورية: “فصول الدستور تُفَعَّل بقوانين تنظيمية وليس بمناشير صادرة عن رئاسة الحكومة”، [ما مدى مشروعية قرار الاقتطاع من أجور الموظفين؟ خالد أوباعمر، موقع لكم 15 أبريل 2020].
يضاف إلى ذلك اجتهادات لغوية حول الفرق بين الكارثة المنصوص عليها دستوريا والجائحة غير المنصوص عليها.
وكلها اعتراضات شكلية تتغافل عن أن القانون لا يعكس إلا واقع ميزان القوى الطبقي، وأن الطبقة السائدة ونظام حُكمها يدرجان في القانون مصالحهم ويسعون لتقليص ما يعكسه من مصالح الشغيلة.
ليس كل ما هو قانوني واقعيا، وليس كل ما هو واقعي قانونيا. العديد من الحقوق تنص عليها القوانين (وأهمها مدونة الشغل) لكنها لا تجد منفذا للتنفيذ، لأن أرباب العمل يستغلون البطالة لابتزاز الشغيلة، أو تغض دولتهم الطرف عن خرق القانون.
كما أن العديد من إجراءات الدولة وطرق أرباب العمل في استغلال الشغيلة لا ينص عليها نص قانوني صريح. إن أرباب العمل في حرب طبقية ضد الطبقة العاملة، والحرب خدعة، تستعمل فيها القوة المادية، وفي هذه الحرب يطوّع أرباب العمل ودولتهم القانون بما يلائم مصالحهم.
ومن خدع الحرب، أن تأخذ عدوك على حين غرة، وليس من مصلحة المهاجِم أن يُعلم بتوقيت شن غارته. لهذا نرى بيان المكتب التنفيذي لكدش والمكتب الوطني لجامعة تعليم التوجه الديمقراطي، يعلنان صيغة “إلا أننا فوجئنا بصدور منشور رئيس الحكومة القاضي بالاقتطاع”. ما يتناقض مع واجب اليقظة الطبقية الواجب توفرها في قيادات منظماتنا النقابية.
أن تواجه الدولة بمبرر “لا قانونية” إجراءاتها، أشبه بمن يعترض على تكتيكات حرب جديدة بمبرر تعارضها مع القانون الدولي. فعندما يشهر العدو بندقية في وجهك، فمن العبث أن تلوح في وجهه ببند قانوني، بدل امتشاق السلاح. فقط بعد أن تهزم عدوك وتطرحه أرضا، تُفرغ إرادتك ومصالحك في قوالب قانونية ودستورية.
مشكل هذه الاعتراضات القانونية، أنها تمنح أرباب العمل ودولتهم فرصة تصحيح ثغرات قوانينهما. فعندما يقول أستاذ جامعي: “لا يحق لأي جهة كانت الاقتطاع من أجر الموظف، إلا بناء على نص قانوني غير قابل للتأويل أو حكم قضائي اكتسب قوة الشيء المقضي بها” [طاهر كركري، “باحث يضع قرار الاقتطاع من أجور الموظفين تحت مجهر القانون”، هسبريس، 17 أبريل 2020]، فهو ينصح الدولة بإصدار ذلك “النص القانوني غير القابل للتأويل”.
أيعني هذا أننا سنقبل بالاقتطاع الإجباري إذا نص عليه الدستور صراحة؟ هذا هو ما تفضي إليه مثل هذه الاعتراضات الشكلية.
ثم إن أصحاب هذه الاعتراضات القانونية يغفلون عن أمر جوهري: ستمضي الدولة في هجومها، سواء نص عليه القانون أم لا، ما دامت لا تُوَاجَه بمقاومة طبقية شرسة. إنه “منطق فرض الأمر الواقع” كما تحدثت عنه رسالة المكتب التنفيذي- كدش إلى رئيس الحكومة 15 أبريل 2020. ولن تلتفت للاعتراضات القانونية إلا إذا كانت تساهم في تجويد هجماتها وتعمية أعين الكادحين. فالاقتطاع الإجباري سيستمر ما دامت الشغيلة لم تجبر الدولة بالنضال على التراجع عنه.
إن الأيديولوجية القانونية مُشبعة حتى التخمة بالروحية البرجوازية، فالقانون دائما ذو نزعة محافظة، لضمان سير المجتمع والاقتصاد الذين “اكتسبا قوة الشيء المقضي بها”، ولا تغير البرجوازية القانون إلا إذا أصبح عائقا أمام تطورها أو تحت ضغط نضالات شعبية.
إن تطويعَ القانونِ قاعدةٌ وليس خرقا، بل إن تطويعه هو أحد طرق تطبيقه. فعندما يقف عائق قانوني أمام مصالح الطبقات، فإن هذه الأخيرة تعبئ كل قوتها المادية والمعنوية لتعديله أو إسقاطه. ولا تقوم البرجوازية ودولتها إلا بتطبيق هذه القاعدة القانونية على أمثل وجه.
اعتراضات القيادات النقابية:
استند منشور الاقتطاع الإجباري على بلاغ أصدرته قيادات مركزيات نقابية يوم 19 مارس يطالب الشغيلة بالتبرع لصالح مواجهة كورونا.
قامت اعتراضات على الأمر وكان أهمها موقف المكتب التنفيذي للكونفدرالية الديمقراطية للشغل، في رسالة إلى رئيس الحكومة 15 أبريل 2020.
ركزت اعتراضات الرسالة على شكليات اتخاذ القرار:
– “تغييب المركزيات النقابية من التمثيلية في لجنة اليقظة الاقتصادية، وتغييب رأيها ومقترحاتها في كل القرارات والتدابير الاقتصادية والاجتماعية”، واعترضت على الاقتطاع الإجباري بمبرر أنه “لم يكن مطروحا أبدا في جدول أعمال” اللقاء بين الحكومة والنقابات الأكثر تمثيلية يوم 30 مارس 2020.
إنه اعتراض حريص على سياسة “التوافق الطبقي” و”الشراكة الاجتماعية” بدل منطق النضال الطبقي. فانتقاد التغييب يعني بالضرورة مطالبة بإشراك النقابات في هذه الإجراءات، وليس رفضا صريحا لها. منذ مدة وبيروقراطيات النقابات تعترض على هجمات طبقية شرسة بنفس المنظور: “تهريب مشاريع القوانين خارج طاولة الحوار الاجتماعي”، فتنتهي النقابة بهذا المنظور إلى المطالبة بإشراكها في عملية تقييد حق الإضراب وحق تأسيس النقابات… إلخ.
– اعتبرت رسالة الكونفدرالية خلق صندوق مواجهة كورونا “مبادرة إيجابية” ورفضت تحول عملية التبرع من “طابعها التطوعي إلى اقتطاع إجباري”. إن المنطق الطبقي العمالي يقتضي رفضا جازما لتحميل الشغيلة أي سنتيم لمواجهة جائحة تسببت فيها الرأسمالية، وليس المطالبة بإشراكها في تحمل أكلافها (طوعا كان أم قسرا).
تلتهم كل أشكال الضرائب قسما مهما من أجور الشغيلة، وكان مفروضا أن تُصرف تلك الضرائب في تقوية البنية التحتية الوقائية والعلاجية والاجتماعية، لكن دولة أرباب العمل صرفتها في أداء الدين العمومي ودعم القطاع الخاص وأجور الموظفين- ات السامين- ات السمينة.
يقتضي الموقف الطبقي العمالي رفض كل مساهمة في أي صندوق رسمي، والمطالبة بتمويل مواجهة الجائحة عبر إجراءات تُحَمِّلُ البرجوازيةَ كلفة المواجهة بفرض ضرائب تصاعدية على الثروة والأرباح، واسترداد الأموال المنهوبة، وتخفيض جذري للنفقات الطفيلية…، مع وقف تسديد الدين العمومي وافتحاصه.
تظهر رسالة المكتب التنفيذي للكونفدرالية مدى رسوخ الأيديولوجية البرجوازية في المنظمات العمالية، فالرسالة تعترض على الاقتطاع الإجباري، لأن من شأنه أن “يعمق فقدان الثقة في المؤسسات”، أي في الدولة في آخر المطاف. إن دور المناضل-ة العمالي-ة هو فتح أعين الشغيلة عما تمثله حقيقةً “المؤسسات”: إنها أجهزة حكم البرجوازية لإدامة استغلال الشغيلة، والهدف هو تعميق فقدان الثقة في تلك المؤسسات، وتحول فقدان الثقة ذاك إلى نضال واعي بضرورة “مؤسسات” طبقية بديلة.
جاء اعتراض آخر، لكن ضد بلاغ المركزيات النقابية الذي استند عليه المنشور الحكومي بمبرر أن تلك النقابات لا تمثل إلا نسبة %5 من الشغيلة، وبالتالي فالقرار لا يمثل الشغيلة. وهو بدوره اعتراض ينأى عن الجوهر وينتقد القشور: فهل سنقبل اقتطاعا إجباريا استند على بلاغ لقيادات نقابية تمثل أغلبية الشغيلة؟
المنظور العمالي للتضامن
جاء في خاتمة رسالة المكتب التنفيذي- كدش: “نذكركم باقتراحنا القاضي بضرورة تطوير مفهوم هذا الحساب الخاص بتدبير جائحة كورونا وتعويضه بصندوق وطني للطوارئ بموارد قارة يخضع إلى آليات الحكامة المتعارف عليها”.
نفس الموقف عبر عنه مكتب الجامعة الوطنية للتعليم- التوجه الديمقراطي: “لقد سبق لنا… أن طالبنا بجعل مساهمات الموظفين مع صندوق كورونا تطوعيا”، هو بعيد عن المنظور الطبقي العمالي الذي عليه أن يصر على تحميل كلفة الجائحة لأرباب العمل ودولتهم.
لكن الشغيلة رفضت الاقتطاع الإجباري، الذي لم يستثن شغيلة قطاع الصحة الموجودة في الصفوف الأمامية معرضة حياتها للخطر، وقد قامت هذه الشغيلة بوقفات وحمل الشارة للتعبير عن رفضها للقرار.
إن المطلب العمالي في وجه الجائحة هو صندوق تعويض عن البطالة دائم يمول من الضرائب على أرباب العمل. أما التضامن الطبقي فيقتضي مبادرة النقابات ومنظمات النضال بإنشاء صندوق تضامن عمالي تسيره هيئة منتخبة مُراقَبة من طرف الشغيلة، وينشر تقارير دورية في بلاغات رسمية حول طرق جمع التضامن وأوجه صرفها.
تقبل الشغيلة تضامنا إجباريا إذا فرضته دولة عمالية، ويكون آنذاك قرارا واعيا واختياريا متخذا بعد نقاش ديمقراطي من القاعدة (لجان معامل، فروع نقابية، لجان أحياء شعبية)، أما فرضه إجباريا من طرف دولة أرباب العمل فمرفوض، بكل بساطة لأن من فرضه هو دولة البرجوازية.
لسنا ضد التضامن الإجباري مبدئيا، فهذا ليس مبدأ مجردا. تقبل الشغيلة تضامنا إجباريا إذا فرضته دولة عمالية، ويكون آنذاك قرارا واعيا واختياريا بعد نقاش ديمقراطي من القاعدة (لجان معامل، فروع نقابية، لجان أحياء شعبية)، أما فرضه إجباريا من طرف دولة أرباب العمل فمرفوض، بكل بساطة لأن من فرضه هو دولة البرجوازية.
إن التضامن المطلوب في مجتمع متناحر طبقيا، هو تضامن الشغيلة الجماعي الواعي فيما بينها، وليس إجبارها على التخلي عن قسم من أجورها لصالح صندوق سيستفيد منه أرباب العمل بدورهم.

شارك المقالة

اقرأ أيضا