مملكة الصمت

سياسة26 فبراير، 2021

بقلم: أزنزار

“هذه الإعدامات تخدم كرسالة، مفادها أن “روما” ستخمد أيًّا من يثور على حكمها. وأنا سأبعث برسالة خاصة بنا، ستشعل الأمل بقلوب كل من لا يزالون عبيدا”. [سبارتاكوس]

أجبرت انتفاضة الشعوب سنة 2011، الملكية على التكيف مع مناخ رفض الاستبداد والسعي لإسقاطه. بعد سنوات من رفض الملكية استجداءات الأحزاب الليبرالية بشأن إصلاحات دستورية، ومن أجل كبح دينامية حركة 20 فبراير، أعلنت الملكية دستورا جديدا، من ضمن ما شمله إسقاط صفة القدسية عن الملك (الفصل 19 من دستور 1962)، وعوضتها بصيغة “شخص الملك لا تنتهك حرمته، وللملك واجب التوقير والاحترام”.

لم يكن للأمر إذن علاقة بـ”الإرادة السياسية” ولا “بالتوافق”، بل بميزان قوى اجتماعي مائل لصالح الكادحين- ات في عموم المنطقة؛ أي في التحديد الأخير بصراع أجبر الملكية على التخلي عما كان يشكل هالتها: “القدسية”… لكن محتفظة بما يضمن بقاء تلك الهالة: القوة المادية متمثلة في الجيش والشرطة.

ولأن الحرب سجال، ويوم لك ويوم لعدوك، فإن الملكية تبادر لاسترداد ما تنازلت عنه، ليست فقط بألاعيب دستورية، وإنما بالقوة المادية الملموسة. ما أن خفتت الاندفاعة الثورية حتى قامت الملكية بما تسميه المعارضةُ البرجوازية بالمغرب بـ”سَدِّ قوس 20 فبراير”. وكأن نضال الجماهير محض قوس أو جملة اعتراضية في إطار السعي لتوافق هذه المعارضة مع الاستبداد.

استغلت الصحافة الموالية للنظام ما أسمته “تطاول قناة جزائرية موالية للعسكر على شخص الملك”، لتبرز إلى الواجهة ما يريده الاستبداد: “الملك خط أحمر… شعار يوحد المغاربة أمام سعار الإعلام العسكري الجزائري”. [هسبريس 13 فبراير 2021].

الوجه الآخر لهذه الحملة هو أن الملكية لن تكون “خطا أحمر” بالنسبة لمنتقديها من الخارج فقط، بل حتى أيضا في الداخل. فلا يمكن في عقيدة الاستبداد رفض انتقاده من الخارج والتسامح مع معارضيه في الداخل. وهذه الحملة موجهة ضد “هنا” أكثر مما هي موجهة ضد “هناك”.

تكميم أفواه الصحافة وجه آخر لقمع الاحتجاج

تتالت حملات قمع النضال الجاري وتقويض مكاسب الاحتجاج الميداني وتطويق حرية التعبير المنتزَعة باستكمال ترسانة قانونية (مدونة الصحافة والنشر). تواتر اعتقال الصحفيين- ات وفبركة تهم غير سياسية لتصفية خصوم سياسيين: توفيق بوعشرين، سليمان الريسوني، هاجر الريسوني، عمر الراضي، المعطي منجب وهشام خريبشي وعبد الصمد أيت عائشة… فضلا عن مدونين لا تطفو أسماءهم على سطح تقارير انتهاكات الدولة لحقوق الإنسان.

طبعا لا تقمع الملكية حرية الصحافة لدواعي خاصة بإدامة حكمها السياسي فحسب. فهذا بدوره يحتاج إلى تفسير. تشكل الملكيةُ القسمَ الحاكم من البرجوازية، قسمها الأكثر استحواذا على مقاليد الثروة والاقتصاد. لكنها تحكم نيابة عن طبقة الرأسماليين كلها، إضافة إلى كونها حليفا موثوقا للإمبريالية وحارسها الأمين بالمنطقة ومنفذا لتوصيات مؤسساتها.

البرجوازية واعية بأن دوام الاستغلال الرأسمالي واغتناءها على حساب كدح الشغيلة والكادحين- ات، رهين بإبقاء هذين الأخيرين في حظيرة الطاعة واحترام “سلطة القانون البرجوازي” التي تشكل الملكية رأسها المتوج.

عَبَّرَ حوار بين مفتش شرطة ورجال أعمال في سلسلة peaky blindersK، بشكل موفق عن هذا:

– “أيها المفتش، استجبت لدعوتك لأنني أريد أن يفهم بعضنا بعضا. أنا رجل أعمال، وأريد أن تكون أعمالي ناجحة”.

– “وأنا أود أن تتسم مدينتي بالسلام”.

– “إن كانت المدينة بسلام، تزدهر الأعمال”.

– “إذن نحن في خندق واحد؟”.

– “ربما بإمكاننا ذلك”.

الفرق أن “الشرطي” بالمغرب هو ذاته رجل أعمل، بل أغنى رجل أعمال.

تدرك الملكية حجم الاحتقان الاجتماعي والاستياء الشعبي الكامن، وهي على تمام اليقين بأن تفجره قد يعتمد على شرارة لا يعرف أحد من أين تأتي؛ وقد تكون من خبر يتسرب إلى الصحافة. هذا هو سبب قمع الصحفيين وليس عدم احترام الاستبداد لمواثيق حقوق الإنسان الدولية، فلكلا الأمرين معنى واحد، وتكراره محض حشو سياسي، ما دام لا ينفذ إلى الأعماق الطبقية للقمع والعسف البوليسي.

إن التسامح مع حرية التعبير يقف عند الحدود التي تهدد فيها باستثارة الجماهير إلى النضال والكفاح. لذلك تعمل الملكية على ضرب الصحفيين- ات الذين يظهرون بأنهم- هن أكثر جرأة من الآخرين- ات، وذلك لإعطاء المثال وزرع رقابة ذاتية في الصحافة التي تأبى الانقياد الكلي.

ثم يسمونه “إجماعا وطنيا”

في جو الاضطهاد السياسي والفكري يُعتقل الصحافيون- ات الرافضون- ات للانقياد، بينما يركن الأقل صلابة إلى الصمت وتطفو على السطح طفيليات تجعل من تملق الاستبداد وظيفتها التي تعتاش عليها. ويجري قمع أدنى بوادر الاحتجاج العمالي والشعبي وكبت الآراء السياسية المعارضة للاستبداد، فتخلو الساحة للمعبرين السياسيين والفكريين عن مصالح هذا الأخير. ثم يسمونه “إجماعا وطنيا”.

هل الاستبداد بهذه القوة؟

ليست القوةُ صفةً لَدُنِيَّةً تنبع من ذات الشيء أو المؤسسة أو الشخص. القوة علاقة اجتماعية وسياسية، وقوة الاستبداد تُقاس بضعف نقيضه أو قلة استعداده. تنبع “قوة الاستبداد” من غياب القوة العمالية والشعبية القادرة على إسقاطه، ويعود هذا إلى القضاء على أي معارضة ذات نفس جمهوري منذ سبعينيات القرن العشرين، وهيمنة قوى سياسية برجوازية على مقاليد المنظمات العمالية والشعبية واستئثارها بمقود المعارضة التي تركز نيرانها على واجهة الحكم.

لكن ضعف الطبقة العاملة وعموم الجماهير ليس بدوره صفة ثابتة لا تتغير، فقد أثبت تاريخ المغرب أنها تنتفض كلما ضاقت بها الأحوال وأصبح العيش بنفس الطريقة السابقة مستحيلا. وإن قمع الصحافة وحرية التعبير سبيلٌ لإبقاء الجماهير في عماها السياسي، حتى إذا انتفضت هبت دون وعي إجمالي بما يجب أن يحل محل المجتمع والنظام الذي انتفضت ضده. ويسهل بذلك قمعها وردها إلى حظيرة الطاعة.

الاستبدادُ واعٍ بذلك تمام الوعي. لذلك فإن تشديد القبضة القمعية تنم عن الرعب الكامن في أعماقه من الطبقة العاملة والجماهير التي إذا وقفت على قدميها وامتلكت زمام أمورها، ستعصف بالمجتمع الطبقي وتركيبه السياسي الفوقي الذي يمثله الاستبداد.

للملكية سوابق في إدراك قوة الشعب الكامنة: أجبرها حراك سنة 2011 على التخلي عن حكومة كانت تعدها ليتولاها تحالف حزبي على رأسه حزب الأصالة والمعاصرة ونصبت بدله حكومة حزب كانت تسعى لتقليم أظافره، واضطرت تحت لهيب حراك الريف (2016) للتضحية بهذا الذراع الحزبي، في حين أجبرتها حملة المقاطعة (2018) على تنحية حزب الأحرار/ أخنوش الذي كانت تعده ليحل محل العدالة والتنمية. ذات الشيء مع تأجيل تصفية صندوق المقاصة سنة 2011 بل وضخ أكثر من أربعة ملايير درهم لامتصاص النقمة الشعبية التي كانت ستزيد نار حراك 20 فبراير استعارا… وسيتمكن الاستبداد من استعادة هذه التنازلات بعد خمود تلك النار.

من أجل تنظيم القوة العمالية والشعبية

من أهم دروس كفاحات الشعب المغربي منذ النضال ضد الاستعمار، أن استئثار قوى طبقية غير عمالية بقيادة النضال يؤدي دائما إلى الفشل، ما دامت تلك القوى تشترك مع الاستبداد في نفس الأرضية الطبقية (دوام المجتمع الرأسمالي) وكل ما تقوم به هو استعمال محسوب لطاقة الكفاح الشعبي من أجل مناوشة الاستبداد لكي يتنازل عن جزءِ من سلطاته ويشركها في الحكم وليس القضاء عليه.

لا يعوز الواقعَ نماذجُ نضال شعبي تمكن الاستبداد من هزمها أو ردها على أعقابها دون نيل المراد. أهمها في العقد الأخير هي حركة 20 فبراير والحراك الشعبي بالريف. والسبب الجوهري هو ضعف تنظيم ذلك النضال وعدم انخراط الطبقة العاملة المنظمة كطبقة فيه. ففي 20 فبراير تمكنت الملكية من تحييد الحركة النقابية بمساومة مع قياداتها البيروقراطية (اتفاق 26 أبريل 2011). وفي حراك الريف لم تحتج الملكية إلى صفقة، فالبيروقراطيات النقابية الحريصة على الاستقرار السياسي والملتزمة السلم الاجتماعي، ظلت تتفرج على الاحتجاج الجماهيري بالريف حتى طواه القمع والنسيان. وهو ذات ما تقوم به هذه القيادات إزاء كفاحات عمالية أهمها نضالات شغيلة الوظيفة العمومية (التعليم والصحة والبريد…).

تنظيم الطبقة العاملة الجماهير الشعبية وانخراطهما في نضال عام ضد الاستبداد ليس مناوشات ضد واجهاته المؤسساتية، ومن أجل إسقاطه وليس “دمقرطته”، ومن أجل القضاء على الاستغلال الطبقي وليس تلطيفه؛ كلها مهام طليعة سياسية ثورية يجب أن تتبلور في معمعان الكفاح الشعبي والنضال العمالي اليومي. حين تنصهر هذه الطليعة في حزب اشتراكي عمالي ثوري، ستنتصر السياسة الحقيقية التي وصفها لينين بـ”تدفق الجماهير، ليس بالآلاف، بل بالملايين”. هذه هي المهمة الملحة المطروحة علينا إن أردنا درء الكارثة المحدقة.

أزنزار

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا