ثلاثة أسئلة جوهرية حول موقف القيادات النقابية من إصلاح أنظمة التقاعد بالمغرب

نشر هذ النص ضمن مواد العدد 64 من الجريدة الورقية المناضل-ة.

انخرطت القيادات النقابية منذ المناظرة الوطنية حول التقاعد سنة 2003 بجانب أرباب العمل وممثلي الدولة ومدراء الصناديق في إعداد إصلاح لأنظمة التقاعد لتحويلها إلى أنظمة تشتغل أساسا بالرسملة، بعد أن تكون قد خضعت في مرحلة أولى لتعديل لمقاييسها نحو خفض المعاشات وتمديد سن التقاعد. الهدف واضح، هدم نظام التقاعد بالتوزيع، أو على الأقل تحجيم دوره إلى أقصى حد. ويفضي هذا الإصلاح، إذن، في آخر المطاف، إلى إضرار بمعاشات المتقاعدين وضرب للحماية الاجتماعية.
وظلت الأجهزة العليا للنقابات طيلة مدة إعداد هذا الهجوم خرساء كليا. فلم تصدر خلال ما يناهز 12 سنة من هذه السيرورة أي موقف حول ملف التقاعد، بل ضربت حصارا شديدا حول مضمون النقاشات والوثائق والخلاصات التي كان يجري الإعداد لهذا بتعاون تام بين الأطراف داخل تلك اللجان الرسمية. ولذلك ظل العمال والموظفون ومناضلي النقابات في غفلة بما يجري التحضير له بمشاركة ممثلي النقابات.
غير أنه في يونيو 2014 تصدر مذكرة مشتركة لثلاثة مركزيات نقابية، هي الاتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل والفيدرالية الديمقراطية للشغل، موجهة للحكومة، ونشرتها في الصحافة. وتعبر القيادات النقابية، من خلال تلك المذكرة، عن موقفها من مشاريع إصلاح نظام المعاشات المدنية التي أعدتها الحكومة. فما الجديد بالنسبة لهذه القيادات؟ هل يمكن أن نعتبر ذلك تعبيرا عن معارضة حقيقة لمشروع الإصلاح الحالي لأنظمة التقاعد؟ ذلك ما سنتطرق إليه في الثلاثة أسئلة الرئيسية التالية:
أولا: كيف انزلقت القيادات النقابية لتتبنى التشخيص الرسمي لبرنامج إصلاح أنظمة التقاعد؟
تعيد النقابات في مذكرتها المرفوعة للحكومة تكرار نفس خلاصة التشخيص الأولي الذي تتبناه برامج الإصلاح الرسمية: “ضعف نسبة التغطية الاجتماعية وتعدد وعدم انسجام أنظمة التقاعد” وضرورة “رفع عدد المنخرطين”.
إن الملفت للانتباه إن كل برامج الإصلاح النيوليبرالي لأنظمة التقاعد التي طبقت في مختلف أنحاء العالم ابتداء من الثمانينات قد استندت على هذا التشخيص كأحد المنطلقات الرئيسية لتحويلها من أنظمة للحماية الاجتماعية قائمة على التوزيع إلى أنظمة تشتغل جزئيا أو كليا بالرسملة.
لقد تبين الآن بعد عقود من تحويل أنظمة التقاعد بالتوزيع إلي أنظمة التقاعد بالرسملة بأغلب دول أمريكا اللاتينية أن مشكل التقاعد لا يكمن في تعدد الصناديق وغياب انسجام للمقاييس التي تشتغل وفقها، وإنما في ربط مصير معاشات المتقاعدين بمداخيل الأسواق المالية، أي في تحويل الاشتراكات إلى ادخار فردي وغياب ضمان اجتماعي للحق في الاستفادة من المعاش، خاصة إبان الأزمات المالية. ولهذا لم تؤدي، على سبيل المثال، عملية توحيد صناديق التقاعد بالأرجنتين(التي كانت تبلغ قبل الإصلاح عشرات الصناديق تتوزع بين القطاعين العام والخاص بالإضافة إلى عدد من الأنظمة الخاصة بالعسكريين وأفراد البوليس والقضاة والمستخدمين التابعين للدولة وغيرهم) إلى أي تحول على مستوى خفض تكلفة التسيير ومساواة في الحصول على المعاش، بل العكس هو الذي حدث.
تعتقد القيادات النقابات(انسجاما مع التشخيص الرسمي لبرنامج الإصلاح) أن تجاوز ضعف التغطية الصحية لتشمل ثلثي السكان النشيطين المحرومين منها يمكن أن يتم عبر دمج فئات غير أجيرة في نظام التقاعد.
إذا كان المقصود بهؤلاء ذوي المهن الحرة من مهندسين وأطباء ومحامين وصيادلة وأرباب سيارات النقل الحضري(تاكسي) وغيرهم، فهم يعدون بمعظمهم أرباب عمل. إن المطلوب هو إجبارهم على التصريح بأجرائهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لتوسيع التغطية للمقصيين منها. وبهذا يمكن حتى لسائقي التاكسي الاستفادة من التغطية.
أما إذا كان المقصود بذلك الذين يعيشون بطالة مقنعة بامتهان أعمال بالغة الهشاشة كالباعة بالتجوال وعلى الرصيف وأصحاب الحوانيت الصغيرة، فهذا استغفال لهذه الفئات، لأن انخراطهم في أنظمة ادخار فردي وفق مبادئ الرسملة لن تضمن حصولهم على معاش عندما يبلغون سن التقاعد ما دام أن شروط مراكمتهم لادخار معدومة. وسيبقى المشكل مطروحا، من سيمول معاشاتهم؟
إن المقصود “بتوسيع أعداد المستفيدين من التغطية الاجتماعية” هو إدماج غير المستفيدين من التغطية ومن بينهم عدد كبير من العمال في وضعية هشة(سائقون، عمال حرفيون، مستخدمون لدى ذوي المهن الحرة…) في أنظمة ادخار فردي بالرسملة، كما هو مطروح في مشروع القانون. ويكمن هنا انزلاق للقيادات النقابية نحو موقف شركات التأمين والبنوك الساعية للمزيد من جلب الزبناء للقطاع المالي.
ما الهدف من تشخيص “ضعف نسبة التغطية وعدم انسجام أنظمة التقاعد” كما جاء في مذكرة النقابات؟ لا هدف من ذلك، في سياق الإصلاح، غير إضفاء مشروعية على برامج الإصلاحات. فخلق عوامل الانسجام بين الأنظمة ستتم من خلال تطبيق مقاييس تضرب المكتسبات الحالية.
إن التشخيص السليم لضعف أنظمة التقاعد بالقطاع الخاص يكمن في القضايا الرئيسية التالية:
1) البطالة الواسعة في صفوف العمال والتي تجعل من المستحيل توسيع الحماية الاجتماعية دون وضع حد لمظاهر التخلف الاقتصادي لبلد رأسمالي تبعي ومندرج تحت سيطرة الرأسمال العالمي.
2) اتساع نطاق العمل الهش بالقطاع الخاص وشروع الدولة في إدخال هشاشة التشغيل للوظيفة العمومية.
3) الضعف الشديد لمعدل الاشتراكات للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الذي لا يضمن حصول أغلبية المتقاعدين على معاشات كافية لتلبية حد أدنى من متطلبات العيش. إضافة إلى ذلك يغيب إعادة تقدير المعاشات حسب تطور الأجور من جهة وحسب تطور غلاء المعيشة من جهة أخرى، فحالما تمضي بعض السنوات على تلقي المعاش يفقد على الفور قدرته الشرائية.
4) غياب الحقوق الديمقراطية للعمال بفعل استمرار نظام الحكم الاستبدادي لطبقة أرباب العمل البرجوازيين، ويوفر هذا الغياب حماية لأرباب العمل الرافضين تطبيق قانون الشغل بصفة عامة وضمنه أساسا التصريح القانوني بالأجراء وبأجورهم الحقيقة. إن مدى استفادة عمال القطاع الخاص من التغطية الاجتماعية وضمنه التقاعد تضل مرتبطة بالنضال من أجل فرض الحقوق الديمقراطية للشغيلة وإلغاء الاستبداد.
أما التشخيص السليم لوضعية صناديق الوظيفة العمومية فيتجلى فيما يلي:
1) وثيرة توظيف سنوية منذ أواسط الثمانينات تقل عن تطور الحاجيات السنوية لقطاعات الخدمات الاجتماعية والوظائف الإدارية المدنية نتيجة لتطبيق سياسات تقشفية، وهذا يدل عليه تراجع معدل التأطير في الصحة والتعليم وبالوظائف المدنية مقارنة ببلدان عربية وبالمتوسط العالمي.
2) خفض العدد الإجمالي للموظفين مقارنة بنسبة التزايد السكاني طيلة فترة 2003-2012: سجل عدد سكان المغرب ارتفاعا سنويا بمعدل 1,11%، في حين عرف، برسم نفس الفترة، عدد موظفي الدولة نموا سنويا متوسطا بلغ 0,62% ، حيث انتقل من 836395 سنة 2003 إلى 883916 سنة 2012. أي بمتوسط تزايد سنوي لا يتجاوز 5280 منصب فعلي. وقد سجل منذ 2006 انخفاضا ملحوظا في العدد الإجمالي للموظفين بمعدل ناقص 3,2% على إثر مغادرة 40 ألف موظفا في إطار عملية المغادرة الطوعية لموظفي الدولة المدنيين. واستمر الانخفاض لمدة 3 سنوات وفي سنة 2009 يصل إلى نفس المستوى المسجل بالنسبة لسنة 2005. وقد انعكس هذا الخفض الإجمالي لعدد الموظفين في تراجع فوري للمعامل الديمغرافي لنظام المعاشات المدنية لصندوق المغربي للتقاعد من 4,8 إلى 3,6.
إن جواب القيادات النقابية على أزمة صناديق الوظيفة العمومية يكون بالنضال الفعلي لوقف مسلسل السياسات التقشفية وبالنضال ضد السياسة الحالية الساعية لتهشيش الوظيفة العمومية. وهذا النضال هو الكفيل بوقف النزيف الديمغرافي لهذه الصناديق ومواجهة تدهور وضعيتها المالية.
ثانيا: هل تعارض القيادات النقابية مشروع مراجعة مقاييس أنظمة التقاعد؟
عبرت القيادات النقابية(راجع المذكرة) عن رفضها لمشروع إصلاح نظام المعاشات المدنية، لكن يكمن المشكل في المبررات الموضوعة لهذا الرفض. يمكن اعتبار المبرر الأول منطقي حيث تطرح النقابات أن سيناريو مراجعة المقاييس “يحمل تبعات هذا الإصلاح للموظفين”. مقابل ذلك يحمل التبرير الثاني قدرا كبيرا من الغرابة. فالقيادات النقابية تطالب بالحرف “بأن يشمل الإصلاح المقاييسي كل أنظمة التقاعد لخلق التقاطبات الممكنة، فكيف يعقل أن نتحدث عن إصلاح مقياسي في الصندوق المغربي للتقاعد دون الحديث عن النظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد”. مطلب القيادات النقابية هنا واضح: امتداد مراجعة المقاييس إلى باقي أنظمة التقاعد والشروع في إنجاز الإصلاح الشمولي لأنظمة التقاعد وفق ما اتفق عليه داخل اللجنة التقنية.
يا لها من مفارقة ! تبدو الأجهزة التنفيذية للنقابات أكثر حرصا من الدولة على الشروع في الإصلاح الشمولي لأنظمة التقاعد ! الذي يرمي إلى تحقيق هدفان: الهدف الأول مراجعة المقاييس لخفض المعاشات وتمديد سن التقاعد، أما الهدف الثاني فيكمن في إحداث انقلاب جذري لنظام التقاعد بالتوزيع عبر سن نظام تقاعد يشتغل بالرسملة وفرض إجبارية انضمام جميع الموظفين والعمال إليه. وهذا ما تقصده المذكرة النقابية الثلاثية “بنظام تكميلي” لقطبي التقاعد لكل من القطاعين العام والخاص بجانب “نظام أساسي”.
تتبدد هذه المفارقة وتزول تلك الغرابة حالما نعلم أن ممثلي الأجهزة التنفيذية للنقابات شريك أساسي لأرباب العمل والدولة في الهجوم الحالي على أنظمة التقاعد بالتوزيع. لم تبدي هذه الأخيرة قط، طيلة أكثر من عقد من الزمان على إعداد هذا الإصلاح، أي معارضة لخلاصات “سيناريوهات إصلاح أنظمة التقاعد” التي وافقت عليها اللجنة التقنية ورفعتها إلى اللجنة الوطنية التي صادقت عليها بدورها، دون أن تعبر أي نقابة مركزيا عن أي اعتراض أو تحفظ.
إن هذه الشراكة وهذا الانخراط في برنامج إصلاح أنظمة التقاعد تؤكده القيادات النقابية حينما تعرض مختصرا لمشروع الإصلاح الرسمي في مذكرتها النقابية الثلاثية: إدماج الصناديق وفق قطبان الأول مخصص للقطاع العمومي والثاني موجه للقطاع الخاص. وكل قطب يعتمد نظام أساسي ونظام تكميلي. لكن النقابات هنا أخفت إن هذا النظام الأخير سيشتغل وفق مبادئ الرسملة.
كيف نجيب حاليا على التساؤل المطروح، هل تعارض القيادات النقابية مراجعة مقاييس أنظمة التقاعد التي تطرحها الحكومة؟ كل ما قلناه سالفا عن انخراط النقابات في المشاركة في وضع هذه الإصلاحات وفي تبنيها يدعم أن هذه المعارضة للمقاييس، خاصة في حالة الصندوق المغربي للتقاعد، هي معارضة “شكلية” و”كلامية” حصرا. فقد جاء في مضمون مذكرة النقابات الثلاثة أن المرحلة الثانية لسيناريو الإصلاح الذي ينبغي تطبيقه تشمل ما يلي: “تراجع فيها المقاييس المعتمدة بعد تقييم المرحلة الأولى بهدف تقارب أكثر بين النظامين”. تغيب هنا أية معارضة لمراجعة مقاييس أنظمة التقاعد، بل نلمس انخراطا بجانب الدولة وأرباب العمل في مشروع هدم نظام التقاعد بالتوزيع.
تقتصر المعارضة الشكلية” على الوثيرة التي ينبغي أن تنجز فيها الإصلاحات. ربما أن القيادات النقابية تفضل وثيرة للتطبيق أبطا شيئا ما، في حين أن الحكومة ملزمة أمام توجيهات صندوق النقد الدولي بتكثيف تطبيق الإصلاحات.
لكن لماذا تصر القيادات التنفيذية للنقابات على ضرورة أن تكون الإصلاحات المقاييسية جزء من الإصلاح الشمولي؟ يعد ذلك خداع فعلي لمناضلي النقابات، أن الإصلاح الشمولي هو ما تطبقه الحكومة حاليا وشرعت فيه انطلاقا من مراجعة مقاييس التقاعد . وتدرك القيادات النقابية جيدا أن الإصلاحات المطروحة حاليا هي فعلا جزء من مرحلة أولى لمراجعة مقاييس أنظمة التقاعد تتلوها مرحلة أخرى لتحويل هذه الأنظمة(إصلاحات هيكلية)، بحيث يكون نظام التقاعد بالرسملة طاغيا. إن هذا “النقد” المخادع للإصلاحات موجه أساسا لمخاطبة الدولة قصد إقناعها بجدوى مواصلة مشاركة النقابات في وضع و تنفيذ تفاصيل الإصلاحات عبر “استئناف أشغال اللجنة التقنية”(راجع نص المذكرة) التي ألفت الاشتغال داخلها طيلة أكثر من 12 سنة الماضية.
وإضافة إلى ذلك، ترمي النقابات إلى استثمار وجودها بتلك اللجان أو عبر “الحوار الاجتماعي” من أجل الحصول على بعض الفتات من التنازلات، كي يمكنها التغطية عن خيانتها السياسية لمصالح طبقة الأجراء في قضية التقاعد. وهذا ما تشير إليه النقابات في مذكرتها وفي العديد من التصريحات لقادتها عندما تؤكد على “خلق أجواء يشعر من خلالها الجميع أننا ندشن لبداية الإصلاح الشمولي”. إن صدور المذكرة النقابية وما تلاها من مواقف حول ضرورة حوار اجتماعي يشمل ملف إصلاح التقاعد خطاب موجه أساسا للدولة وأرباب العمل لتنبيههما بالتالي: هجومكما على التقاعد يجب أن يكون مرفوقا بدر الرماد في عيون الشغيلة !.
ثالثا: هل تعارض القيادات النقابية نظام التقاعد بالرسملة؟
يبدو مفيدا قبل أن نجيب عن هذا التساؤل المركزي أن نوضح أولا، ما هي الغاية النهائية من الإصلاحات الجارية؟
ليست الإصلاحات المطروحة حاليا لمراجعة المقاييس والتي ستمتد كذلك عما قريب لتطال الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي غير تمهيد أولي لإصلاح أكثر عمقا وعصفا بمصالح الموظفين والعمال يفضي في نهاية المطاف لتحويل أنظمة التقاعد بالتوزيع إلى أنظمة تعتمد في اشتغالها على قدر كبير من الرسملة. وقد كان هذا المخطط الرسمي للإصلاح معدا مسبقا قبل انطلاق أشغال المناظرة الوطنية حول التقاعد في سنة 2003. وكان يطرح ضرورة اعتماد نظام للتقاعد يقوم على ثلاثة دعامات أساسية: نظام أساسي يقوم على التوزيع ونظام تكميلي يشتغل بالرسملة الجزئية و نظام اختياري يقوم على الرسملة الكاملة. وكان هذا التصور الساعي لهدم نظام التقاعد بالتوزيع مدرجا منذ دجنبر 2001 في وثيقة رسمية للدولة بعنوان “سيناريوهات إصلاح نظام التقاعد بالمغرب”. إن مضمون هذه الوثيقة ووثائق أخرى ودراسات اكتوارية رسمية عديدة مصاغة وفق منظور الرسملة هو الذي وجه أعمال المناظرة الوطنية حول التقاعد سنة 2003 وأشغال اللجية التقنية لإصلاح أنظمة التقاعد. وكانت حصيلة عمل اللجنة التقنية التي تضم ممثلي القيادات النقابية بجانب ممثلي أرباب العمل والدولة ومدراء الصناديق أن خلاصاتها لم تبتعد كثيرا عن منظور الرسملة هذا في تشخيص أنظمة التقاعد بالمغرب وفي وضع معايير اشتغالها والمقاييس التي يجب أن يحتسب على أساسها المعاش وفي الهيكلة المقترحة.
إن الغاية النهائية و الوحيدة من الإصلاحات المعد لها سلفا لأكثر من 12 سنة هي توطيد نظام الرسملة، وليس إصلاح مقاييس أنظمة التقاعد عبر تقليص مبلغ المعاشات وتمديد سن التقاعد غير تطبيق لمنظور الرسملة هذا. فمنطق الرسملة هذا لن يشتغل إلا بعد نسف المبادئ والمقاييس التي يشتغل وفقها حاليا نظام التقاعد بالتوزيع. هذا هو الهدف تحديدا من الشروع في المرحلة الأولى من مراجعة المقاييس، أي وضع مقاييس أخرى منسجمة مع منطق اشتغال أنظمة التقاعد الرسملة.
هل تعارض القيادات النقابية هذا المنظور السياسي لتحويل أنظمة التقاعد الحالية إلى أنظمة تعتمد بشكل كبير على نظام الرسملة؟
لم يصدر عن القيادات النقابية طيلة مدة تواجدها في اللجان الرسمية لإعداد الإصلاح أي موقف رافض للنتائج المتوصل إليها. ولم تبدي أي اعتراض تحديدا على عزم الدولة إدراج الرسملة في أنظمة التقاعد بالمغرب. ليس هذا وحسب، بل إنها تتشبث حتى الآن بإخفاء هذه الحقيقة عن إدراك أغلب مناضلي النقابات. لقد تأكد أن القيادات النقابية موافقة على هذا التحويل ومنخرطة في عملية نسف نظام التقاعد بالتوزيع.
إن المفارقة تكمن في أن المشروع الرسمي للإصلاح الذي تدعمه القيادات النقابية لم يتبث، حتى الآن، جدوى الرسملة بالنسبة لأنظمة التقاعد بالمغرب وتفوقها المزعوم على أنظمة التقاعد بالتوزيع. ويعد دمجها في الإصلاحات المقترحة اعتباطيا وغير مستند على تقييم لمزاياها المزعومة ضمن التشخيص الرسمي.
وتأكد تجارب العديد من البلدان فشل نظام التقاعد بالرسملة في ضمان معاشات الملايين من العمال، كما هو الشأن بالنسبة للعديد من بلدان أمريكا اللاتينية التي كانت سباقة لاعتماد هذا النظام. وقد تراجعت العديد من هذه البلدان على تبني هذا النظام في تدبير أنظمة تقاعدها. ففي سنة 2008 ، على سبيل المثال، و مواجهة لأزمة صناديق المعاشات الخاصة اضطرت حكومة الأرجنتين لتطبيق إصلاح مضاد أممت بمقتضاه صناديق التقاعد الخاصة التي كانت تسير بالرسملة وحولتها إلى أنظمة عمومية وألغت بموجبها دور الصناديق الخاصة. وعلى هذا المنوال أيضا تدخلت حكومة الشيلي لوقف تدهور المعاشات لتلغي دور صناديق المعاشات الخاصة. كما تدخلت حكومات أخرى للحد من دور نظام الرسملة داخل بلدانها كالبيرو والأروغواي والمكسيك وغيرها.
إن مسايرة القيادات النقابية للدولة في عملية نسف نظام التقاعد بالتوزيع في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية التي تتبث الآن فشل نظام التقاعد بالرسملة دليل على خيانة سياسية واضحة لأحد قضايا الشغيلة الأساسية.
ما العمل في ظل خيانة القيادات النقابية؟
تأكد الآن، من خلال الجواب على الأسئلة الجوهرية المطروحة، بأن خيانة القيادات النقابية ثابتة. وتلقي هذه المسألة مهمة تاريخية حاسمة على المناضلين النقابيين: يجب على النقابيين الذين باتوا يشعرون بهذه الخيانة أن يتدخلوا لفتح نقاشات واسعة حول قضية الهجوم الحالي على التقاعد ويتخذوا الموقف الملائم الذي يمليه عليهم واجبهم النضالي، وهو الرفض الكلي لهذا “الإصلاح” سواء على صعيد مراجعة المقاييس أو على صعيد الإصلاح الهيكلي الساعي لتحويل أنظمة التقاعد بالتوزيع إلى أنظمة تشتغل كليا أو جزئيا بالرسملة. لا بد من تشكيل معارضة نقابية لهذا المخطط الثلاثي(دولة، أرباب عمل، قيادات نقابية) داخل النقابات وخارجها. لكن لا بد أن تسعى المعارضة النقابية إلى امتلاك تصور نقدي إجمالي لهذا الهجوم، إذ بدونه ستكون منزوعة السلاح. كما يتطلب الأمر، من جهة أخرى، صياغة شعارات مطلبية واضحة لصد الهجوم ومن أجل الدفاع عن أنظمة التقاعد بالتوزيع. ويمكن أن تتمحور هذه المطالب حول مالي:
– معارضة تطبيق السياسات النيوليبرالية التي أدت إلى تقليص عدد المناصب في الوظائف المدنية، مقابل رفع عدد المناصب العسكرية والأمنية. ولهذا لا بد من النضال ضد الهجوم على الخدمات العمومية من صحة وتعليم وغيرهما عبر المطالبة، مثلا، برفع العدد الفعلي السنوي للمناصب بأكثر من الضعف(لا يتجاوز المتوسط السنوي للمناصب الجديدة الفعلية في الوظيفة 5280 منصب). وهكذا فإن تشكيل معارضة نقابية من أجل الدفاع عن الحق المجاني في الصحة والتعليم يخدم كذلك توطيد التوازن الديمغرافي والمالي لصندوقي الوظيفة العمومية. ومن النضالات المستعجلة والمصيرية التي يجب خوضها، كذلك، هي تلك الموجهة للدفاع عن الوظيفة العمومية أمام سيرورة جارية لتهشيشها منذ بضع سنوات.
– أما بالنسبة للقطاع الخاص فتكتسي المطالبة برفع الاشتراكات الاجتماعية أهمية بالغة في توطيد مختلف التعويضات والتأمينات الاجتماعية لعمال وعاملات هذا القطاع. إن هذه الاشتراكات هي حاليا بالغة الضعف بحث تدر مبالغ هزيلة. و هذه المبالغ الهزيلة ليست ناتجة فقط عن انخفاض معدل هذه الاشتراكات، وإنما مرتبطة أيضا بانخفاض عام للأجور بالقطاع الخاص. لا بد أيضا من النضال من أجل رفع الأجور ومن أجل سن مبدأ إعادة تقدير معاشات المتقاعدين كلما ارتفعت الأسعار أو أجور الناشطين. وهناك الكثير من المطالب الأخرى التي تصب في تعزيز أنظمة التقاعد بالتوزيع، كالمطالبة باسترداد أموال الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي المنهوبة أو رفع سقف الاشتراكات المرتبطة بهذا الصندوق أو وضع سقف أعلى للمعاشات، وغيرها من المطالب لا يتسع المجال هنا لذكرها بتفصيل.
حمزة، أبريل 2016

شارك المقالة

اقرأ أيضا