إرث ثورة أكتوبر (لذكراها الرابعة بعد المائة)

بلا حدود12 نوفمبر، 2021

ديفيد ماندل (*)

ليس إرث ثورة أكتوبر، بالنسبة لليسار اليوم، مسألة بسيطة، بالنظر إلى صعود الستالينية بعد بضع سنوات فقط، و إلى عودة الرأسمالية بدون مقاومة شعبية جدية.  وقد كان من نتائج طبيعة النظام السوفييتي المتناقضة أن كل الجوانب الايجابية كان لها أيضا وجه سلبي، ما يجعل الإرث ملتبسا، وهذا أقل ما يمكن قوله عنه.

وبالرغم من هذا، ثمة عنصر في الإرث – هو الرئيس بنظري- لا يشوبه لبس، ألا وهو أن البلاشفة، بتنظيمهم الاستيلاء الثوري على السلطة السياسية والاقتصادية والدفاع عنها بوجه الطبقات المالكة، منحوا الطبقات الشعبية القيادة التي كانت تتمنى وتحتاج. لقد تجرأ البلاشفة على فعل ما كان واجبا لإنقاذ الثورة، طِبْــق ما كانت الطبقات الشعبية تتوق اليه.

ومع ذلك، غالبا ما تُعتبر ثورة أكتوبر فعلا غير مشروع، يحركه مشروع ايديولوجي لتحقيق يوتوبيا اشتراكية. وحتى عند اليسار، ثمة من يرفض الاستراتيجية الثورية المسماة “لينينية” بالاستشهاد بالدينامية الاستبدادية و بالحرب الأهلية اللتين أطلقتهما الانتفاضة.

لكن المثير، عند دراسة جدية للثورة، هو قلة ما كان البلاشفة والعمال والعاملات المساندون لهم يتحركون بدافع  مشروع ايديولوجي في اتجاه حركة خلاصية نحو الاشتراكية. لقد كان أكتوبر، في المقام الأول، جوابا عمليا من العمال والعاملات على ما واجهوا من مشاكل اجتماعية وسياسية فعلية وملموسة جدا.

وكما نعلم، تلكم أيضا مقاربة ماركس: يجب أن تأتي الاشتراكية بحلول للمشاكل الفعلية التي يعيشها العمال و العاملات. ما جعله يرفض إعطاء “وصفات لطنجرات المستقبل” على حد قوله.

كان هدف أكتوبر الآني والرئيس قطع طريق ثورة مضادة مدعومة بالتخريب الاقتصادي الذي يمارسه أرباب العمل، وهي ثورة مضادة كان من شأنها إغراق مكاسب ثورة فبراير ووعودها الديمقراطية في الدماء، وتمديد مشاركة البلد  في المذبحة الامبريالية للحرب العالمية الأولى.

لم يكن البديل تطورَ البلد نحو ديمقراطية ليبرالية، بل صوب ديكتاتورية عسكرية ذات ميول فاشية، وانتقاما على طريقة فرساي إبان كومونة باريس.  وفي الآن ذاته، كان البلاشفة، ومن يناصرهم من عمال وعاملات، واعين بخطر حرب أهلية وساعين إلى تفاديها.  وعندما اتضحت استحالة ذلك التفادي، سعوا إلى الحد من حجمها.

وكانت رغبة اتقاء حرب أهلية سبب مساندة البلاشفة والعمال والعاملات لنظام” ازدواجية السلطة” في فبراير 1917، أي تسليم السلطة لليبراليين، لكن تحت رقابة مجالس العمال (السوفييتات)، ما كان سيضمن احترام برنامج الثورة الديمقراطي. وقد كان هذا البرنامج يتضمن أربعة عناصر ليس أي منها اشتراكيا: جمهورية ديمقراطية، وإصلاح زراعي بلا تعويض لكبار ملاكي الأراضي بعد نزع ملكيتهم، ويوم عمل من ثماني ساعات، وديبلوماسية تروم ابراما سريعا لسلم عادل وبلا تعويضات و لا ضم أراض.

كانت المساندة الأولية للسلطة المزدوجة قطعا مع موقف حزب البلاشفة القديم، الذي كان الحزب المهيمن داخل الحركة العمالية قبل الحرب. كان ذلك الموقف يرفض الليبراليين كحلفاء محتملين في النضال ضد الاوتوقراطية، بناء على التعاون المديد بين أرباب العمل والدولة ضد تطلعات العاملات والعمال الديمقراطية و الاجتماعية. لكن الأمر انتهى بالطبقات المالكة إلى الانضمام إلى الثورة بعدما باتت أمرا واقعا في فبراير العام 1917.  هذا ما كان يبدو  بالأقل.

وهذا ما سهل كثيرا انتصار الثورة سلميا عبر هذا البلد الفسيح. كان من شأن صد الطبقات المالكة في تلك اللحظة أن يسبب حربا أهلية. ولم يكن أحد يريدها. كان ثمة إذن استعداد لمنح اللبراليين فرصة، لكن تحت رقابة السوفييتات، تلك المنظمات الديمقراطية للطبقات الشعبية.

لكن سرعان ما اتضح أن الوحدة الوطنية مجرد سراب. إذ لم تتأخر الحكومة الليبرالية عن التعبير عن مساندتها للحرب، بما في ذلك أهدافها الامبريالية. وسرعان ما انكبت الصحافة البرجوازية على التنديد بـــــــ”أنانية” “المطالب المبالغ فيها” لدى العمال والعاملات- يوم عمل من 8 ساعات وزيادة في الأجور تعويضا عن التضخم الطيار. وكانت تلك الحملة ترمي إلى مصادمة الجنود مع العمال والعاملات. وفي غضون ذلك، كان الاقتصاد ينهار تحت ثقل الحرب، ورفضت الحكومة الليبرالية، الصاغية دوما لأرباب العمل، أي مشروع جدي لتنظيم الاقتصاد.

وكان ذلك بنظر العمال والعاملات اغلاقا جماعيا مُموَّها، حيث كان اغلاق المصانع سلاحا مأثورا لدى البرجوازية قبل الثورة. وفي الآن عينه كانت شخصيات برجوازية معروفة تطالب بتخليص الحكومة من تأثير السوفييتات الضار.

منذ مطلع يونيو1917، انضمت أغلبية عمال العاصمة وعاملاتها إلى موقف البلاشفة، المتبنى في متم شهر أبريل: يجب نقل السلطة إلى السوفييتات، واستبعاد تأثير الطبقات المالكة المضاد للثورة من الحكومة.

عند هذه الدرجة، باتت الطبقة العاملة بالعاصمة تدرك حتمية حرب أهلية- بين الطبقات الشعبية (العمال و الفلاحين) والطبقات المالكة ( البرجوازية و الارستقراطية العقارية).

ولم يكن ذلك المنظور مرعبا، لأن الطبقات الشعبية كانت سواد السكان الأعظم. وما كان أشد إفزاعا هو منظور حرب أهلية داخل الطبقات الشعبية نفسها. وقد بات هكذا منظور واقعيا في مطلع شهر يوليو عندما نظم العمال والعاملات، مع قسم من جنود ثكنة العاصمة، مظاهرات للضغط على لجنة السوفييتات التنفيذية، التي لا زالت بقيادة الاشتراكيين المعتدلين، أنصار التحالف مع البرجوازية، للاستيلاء على السلطة.  وكانت تلك المظاهرات، الفاشلة، أول فرصة إراقة دماء جدية منذ فبراير,  وأعقبت هزيمتَـها موجةُ قمع للبلاشفة ولعمال العاصمة وعاملاتها، وهو قمع جرى بمباركة الاشتراكيين المعتدلين.

ترك هذا الانعطاف البلاشفة وعمال العاصمة وعاملاتها بلا استراتيجية دفاع عن الثورة، لأن الفلاحين وعمال الأقاليم وعاملاتها لا زالوا يدعمون الاشتراكيين المعتدلين. وتلك كانت بنحو أكبر حالة المثقفين، والناس المتعلمين، الذين كانت لمعظمهم  ميول إلى الليبراليين أو أكثر يمينا.  لكن إدارة الدولة والاقتصاد  شبه مستحيلة بدون الناس المتعلمين. كانت الثورة تبدو في مأزق.

بدا أن انقلاب كورنيلوف الفاشل، في متم أغسطس، الذي كان أمل الطبقات المالكة الكبير، قد أتاح للحظة وجيزة، مخرجا من المأزق، إذ بدا أن الاشتراكيين المعتدلين باتوا معترفين بضرورة قطع مع الليبراليين الذين ساندوا محاولة الانقلاب. منح لينين الاشتراكيين المعتدلين، الذين لا زالوا على رأس معظم سوفييتات المناطق، دعم حزبه، الذي سيتصرف كمعارضة مخلصة إذا ما قرروا استلام السلطة. لكن الاشتراكيين المعتدلين فضلوا مشاركة في حكومة تحالف جديدة مع الليبراليين.

تبعا للمحاولة الانقلاب الفاشلة، وبوجه تأكُـد خطر ثورة مضادة، تجذرت الجماهير الشعبية خارج العاصمة بسرعة، دافعة البلاشفة  إلى قيادة  كل السوفييتات الهامة.  وكان جليا أنهم سيكونون أغلبية في مؤتمر السوفييتات الوطني المرتقب في 7 نوفمبر.

قام لينين، المواصل اختباءه بفعل قرار باعتقاله، بمطالبة قيادة حزبه بإعداد انتفاضة لمساندة قرار المؤتمر الذي سيصوت بلا شك على الاستيلاء على السلطة. لكن أغلبية القيادة الحزبية كانت تتردد، مفضلة انتظار مجلس تأسيسي سبق أن أجلت الحكومة الليبرالية ثلاث مرات انتخابه لعلمها أنه سيصوت لصالح إصلاح زراعي وانسحاب من الحرب.

يمكن فهم التردد إذ لاشك أن استيلاء السوفييتات على السلطة سيُطلق حربا أهلية لا تزال باطنة، ما سيفرض على الطبقات الشعبية مسؤولية حكم البلد في وضع أزمة اقتصادية وسياسية عميقة وبلا دعم من فئات السكان المتعلمة. لكن، من الجانب الآخر، كان واهما كل أمل في أن يتمكن مجلس تأسيسي منتخب من قبل كل الطبقات من تجاوز التقاطب السياسي العميق، أو أن تقبل الطبقات المالكة قراراته. وفي غضون ذلك كان انهيار الاقتصاد والمجاعة يدنوان بسرعة جنونية.

إن كانت الانتفاضة قد جرت مع ذلك، فالأمر يعود إلى ضغط قاعدة الحزب البلشفي التي لجأ اليها لينين ضد القيادة. كان هذا الحزب يضم 000 34 عضو في العاصمة، ثلثيه عمال وعاملات على استعداد للتحرك. في اليوم التالي للانتفاضة، انتخب مؤتمر السوفييتات حكومة من البلاشفة حصرا، بلا تمثيل للطبقات المالكة.

وفورا انطرحت من جديد مسألة تركيب الحكومة السوفييتية الجديدة.  أجمعت كل المنظمات العمالية، حتى البلاشفة، على فكرة ائتلاف عريض لكل الأحزاب الاشتراكية. وكان هذا تعبيرا عن حرصها على تفادي حرب أهلية، بالأقل داخل الطبقات الشعبية. لكن المفاوضات فشلت، إذ كان الاشتراكيون المعتدلون مصرين على اعتبار أن حكومة مستندة “حصرا” على الطبقات الشعبية (التي تمثل مع ذلك أغلبية السكان)، وبلا دعم من الليبراليين والفئات الوسطى، لاسيما الناس المتعلمين، المساندين لهم، لن تستطيع حكم البلد، وستكون ميالة إلى “تجارب اشتراكية” لا تتوافر شروطها الاقتصادية والسياسية في روسيا.

إزاء رفض الاشتراكيين المعتدلين المشاركة في حكومة مسؤولة حصرا أمام السوفييتات، أي الطبقات الشعبية، شكل البلاشفة حكومة ائتلاف مع الاشتراكيين الثوريين اليساريين، وهم جناح راديكالي انفصل عن الحزب الفلاحي.

هذا معنى العبارة المستهلة لهذا المقال :”لقد تجرؤوا”. اتبع البلاشفة حكمة الثوريين الحقيقيين:”إفعلْ ما يجب، وليحصل ما يمكن أن يحصل”.

ولم يكونوا طوباويين ولا مغامرين. حاولوا تفادي حرب أهلية، ولما اتضحت استحالة ذلك، سعوا إلى تحقيق أفضل شروط النصر.

إن تاريخ القرن العشرين مفعم بأمثلة أحزاب يسارية أخرى لم تتجرأ لما كان ذلك مطلوبا منها. ونادرا ما يلقي عليها المؤرخون/ات مسؤولية العواقب الوخيمة لتلك الخيانات.

واليوم، وقد باتت البدائل متقاطبة بهذه الدرجة من العمق، وحيث الاختيار قائم بين الاشتراكية  والهمجية، لاسيما مع أزمة المناخ، يجب على اليسار أن يستلهم من البلاشفة. ليس المقصود طبعا تخطيط انتفاضة.  لكن يجب رفض سراب قدرة نضال في ظل الرأسمالية على تفادي  الكارثة البيئية أو تحقيق عودة الى دولة الرعاية ” للثلاثين سنة المجيدة”. المطلوب أن نضع استراتيجية تكون الاشتراكية هدفها النهائي ، وأن نقبل كون تحقيقها سيتطلب في لحظة حاسمة قطعا حاسما مع سلطة البرجوازية الاقتصادية والسياسية ومع الدولة الرأسمالية.

المصدر :

https://www.pressegauche.org/David-Mandel-L-heritage-de-la-revolution-d-Octobre

ترجمة المناضل-ة

==================================

*- ديفيد ماندل:

استاذ بجامعة كبيك في مونتريال، ومنسق مدرسة الديمقراطية العمالية في روسيا واوكرانيا، وهي مؤسسة تكوين نقابي غير حكومية.

بالرابط التالي فيديو  عرض لدافيد ماندل عن ثورة أكتوبر في ندوة دولية في ذكراها المئوية.

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا