سعرُ غاز البُوتان ومآزق التصديات الجُزئية، بِلاَ بديل إجمالي، وبصُفوف مُشتتة

الافتتاحية7 نوفمبر، 2022

جرى في سياق إعداد ميزانية العام 2023 ترويج أرقام عن ضخامة ما يبتلعه صندوق المقاصة لدعم أسعار غاز البوتان، معززةً بمقارنات مع نظيرها للسنة الماضية، وبرسم منحنى تطور هذا الانفاق في أمد طويل. إنها عين الطريقة المستعملة عند كل تحضير للإجهاز على مكسب شعبي، أي القصف الإعلامي لتمهيد الطريق، لاسيما أنه قلما يصطدم بحملة تنوير مضادة.

تكاثر، منذ العام 2012، حين بلغت مخصصات صندوق المقاصة ذروة تاريخية، الإعلان الرسمي، بألسنة متباينة المكانة، عن العزم على وقف نهائي لدعم غاز البوتان. واستعملت حجة استفادة فئات غير مُسْتحِقّة، منها كبار المستثمرين في الزراعة، لعرض بديل الدعم المباشر للمستحقين. هذا الدعم الذي لا ينتظر سوى جاهزية ما يسمى بالسجل الاجتماعي الذي سيحصر الفقراء “الحقيقيين”.

مُنذ ما لا يقل على 40 سنة وصندوق المقاصة عرضة لبتر متدرج سيرا نحو الغاء تام. ما أثار ردود فعل شعبية، منها العفوي المغرق في الدماء، أبرزه بالدار البيضاء في يونيو 1981، ومنه ما كان الغلاء الناتج عن الإلغاء المتدرج خلفية غير مباشرة لتحركات عمالية وطنية وحراكات شعبية بالمناطق المهملة، وحتى ظهور حركة تنسيقيات مناهضة الغلاء.

ورغم أشكال التصدي لمخطط الإلغاء المتدرج لصندوق المقاصة، نجحت الدولة فعلا في خطة كان آخر فصولها إلغاء دعم سعر الوقود، ما عدا الغاز، سنة 2015، وقبله الغاء دعم زيت المائدة. ولا شك انها مجدة فيما تعلن بشأن غاز البوتان، ولن تتردد في ظل ميزان القوى السياسي القائم، عن السير حتى النهاية.

ثمة عاملان مساعدان لها، أولهما ما سيكون من منح دعم مباشر للمعتبَرين معوزين من إبطال محتمل لمقاومتهم لرفع سعر الغاز، وثانيهما التعاون التقليدي الذي تحظى به الدولة من القيادات النقابية التي باتت سندا لها في الاجهاز على مكاسب تاريخية كما يدل ما سمي “الاتفاق الاجتماعي” ليوم 30 ابريل 2022.

طبعا تبقى لحظة التنفيذ غير محددة لارتباطها بالسياق السياسي، إذ من شأن أي انبثاق لمقاومة عمالية وشعبية على نطاق كبير ان يؤجل تلك اللحظة. لكن دولة البرجوازية سائرة بإصرار في تعميق مجمل السياسة النيوليبرالية المدمرة اجتماعيا. فليست مسألة صندوق المقاصة غير وجه لتلك السياسة مُكمِّل لما تتعرض له الخدمات العمومية، ومجالات أخرى مثل ملكية الأرض، وشروط الاستثمار الخاص، وتدبير قوة العمل، العاملة والمعطلة.  ومن ثمة ليس سعر غاز البوتان أمرا قابلا للمعالجة بمفرده. فالسياسة البرجوازية، في خدمة رأس المال المحلي الكبير وربيبه الاستعماري الجديد، تستوجب مشروعا بديلا إجماليا يوحد الصف العمالي والشعبي.

إن التصدي لهجمات جزئية متتالية يشتت الرد العمالي والشعبي مسهلا هزمه. أليس هذا ما حصل طيلة عقود؟ ليس ربع قرن الأخير، غير عينة، منذ هزيمة ما يسمى “ميثاقا وطنيا للتعليم”، وتمرير مدونة الشغل، وما سمي التغطية الصحية بوجهها القبيح المسمى “مساعدة طبية للمعوزين (راميد)، و”إصلاح التقاعد، وفرض التعاقد على أجراء الدولة… غيض من فيض.

لا مشروع بديل للسياسة النيوليبرالية السارية غير مشروع مناهض للرأسمالية، فهذه نقيض تلبية الحاجات الاساسية بما يحقق حياة لائقة. وتاريخيا لم يكن التصدي للمسألة الاجتماعية المترتبة عنها غير سعي لإلغائها. وقد دلت التجربة التاريخية عدم قابليتها لإصلاح بما يجعلها اجتماعية، فكل المكاسب التي انتزعها نضال العمال والشعوب المضطهدة عرضة للتدمير الدوري بوتيرة دورية أزمات الرأسمالية. وقد أتاحت لها الهزيمة التاريخية للحركة العمالية العالمية ولحركات التحرر الوطني نفسا وتوسعا جديدين، لكن ها هي اليوم موضوع طعن متزايد الشدة عبر العالم بفعل ما سببت من كوارث اجتماعية وبيئية وحروب باتت تهدد وجود البشرية ذاته.

نحن في بلد استبداد سياسي، هو أحد الاشكال الممكنة لخدمة مصلحة البرجوازية والامبريالية. وببلدان أخرى شبيهة أنظمة أقل استبدادا دون أن تقل خدمة لنفس المصلحة. وقد دأب معظم اليسار المغربي على تركيز الطعن على شكل السلطة السياسية للرأسمالية المحلية بلا مساءلة للرأسمالية في حد ذاتها. بعض هذا اليسار برجوازي لا يروم غير تنقية الرأسمالية المحلية من شوائب يعزوها إلى سلطة الملكية المطلقة (الفساد، الريع، انتهاك قواعد المنافسة الحرة …)، وبعض آخر، منتسب لقضية تحرر الشغيلة، ظل سجين تصورات مراحلية أثبت التاريخ بطلانها (مرحلة تغيير وطني ديمقراطي تتيح تطور رأسمالية وطنية، تمهيدا لأفق اشتراكي).

لا حل للمسألة الاجتماعية بالمغرب سوى بنضال مناهض للرأسمالية، بالتعبئة العمالية والشعبية ضد هجمات رأس المال برؤية شمولية تتصدى لمعضلات الاقتصاد والمجتمع بمقدمتها مسألة الديون ومجمل روابط التبعية، من أجل بديل اشتراكي بيئي على نطاق مغاربي.

عود على بدء: مسألة رفع سعر الغاز رافعة للتعبئة من شأن نجاح مقاومته أن يبعث نفسا في الحركة النضالية العمالية والشعبية ويعزز ثقتها بالذات بما يؤهلها للتقدم في بناء ذاتها، وتبلور قيادتها السياسية العمالية. خارج هذا الطريق، وهذا البديل الإجمالي، سنظل محكومين بويلات النظام الاقتصادي الاجتماعي الظالم، ورديفه النظام السياسي الاستبدادي وإن بألوان أخرى.

المناضل-ة

 

 

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا