إضرابات مشتتة بقطاع التعليم: ما مانع توحيدها؟ وما السبيل إلى ذلك؟

“الاتحاد قوة”: لا أحد يرفض هذا الشعار قولا، ولكن تجسيده عمليا يصطدم بتقاليد الفئوية الراسخة في صفوف الشغيلة، وتخوف القيادات من دينامية أي بادرة وحدوية قد تتجاوز حدود المناوشة المضبوطة التي لا تكسر الالتزام بالسلم الاجتماعي في قطاع التعليم.

سيعرف شهري نوفمبر وديسمبر 2022 إضرابات وأشكال احتجاج دعت لها مختلف تنظيمات شغيلة التعليم:

* الجامعة الوطنية للتعليم- التوجه الديمقراطي: إضراب عام وطني عن العمل بالتربية الوطنية وإدارات التعليم العالي يومي 16 و17 نوفمبر 2022، ووقفات احتجاجية يوم الأربعاء 16 نوفمبر 2022، ووقفة أمام مقر الوزارة وفي المسيرة نحو البرلمان.

* تنسيقيات المقصيين- ات من خارج السلم والزنزانة 10 وضحايا النظامين: إضراب 15 و16و 17 نوفمبر 2022 ووقفة 17 نوفمبر 2022 أمام الوزارة والمسيرة إلى البرلمان، وإضراب ومسيرة 10 ديسمبر 2022، و إضراب تنسيقية المقصيين- ات من خارج السلم يوم 10 ديسمبر.

* تنسيقية أجراء التعاقد المفروض: إضراب ووقفة يوم 25 نوفمبر 2022.

* النقابة الوطنية للتعليم- كدش: المشاركة في التجمعات الاحتجاجية ليومي 13 نوفمبر، التي دعا إليها المكتب التنفيذي لكدش.

واجبنا وواجب كل النقابيين- ات ومناضلي- ات شغيلة التعليم التعبئة لهذه المحطات النضالية والمشاركة فيها. إنها خطوات متقدمة خصوصا من طرف نقابتي جامعة التوجه الديمقراطي والنقابة الوطنية للتعليم- كدش التي التزمتا سلما اجتماعيا داخل القطاع منذ توقيع اتفاق 18 يناير 2022. الدعوة للإضراب والاحتجاج هي الترجمة الفعلية لقول عبد الرزاق الإدريسي “ضرب الطاولة”، ويجب استكمال الواجب النضالي برفض أي تعاون مع الوزارة تحت مسمى “مقاربة تشاركية” لتمرير أكبر تعدِّ تاريخي على مكاسب شغيلة التعليم: إصدار النظام الأساسي الجديد.

ما الذي يمنع من توحيد هذه الخطوات النضالية والإضرابات ما دامت كل تنظيمات الشغيلة هذه (نقابات وتنسيقيات) تدبج عبارات التمسك بالنضال الوحدوي في بياناتها وتصريحات قادتها؟ ألن يكون من المجدي مركزة ذلك النضال وتزامنه، بدلا من هذا التشتت، الذي يبدد طاقة كفاح الشغيلة، في مناوشات معزولة ومشتتة، لا تتمكن من التأثير على سير القطاع ولا تعبئ شرائح أخرى للنضال؟

القيادات النقابية: لا زال الإضراب أبغض الحلال

تقوم استراتيجية القيادات النقابية على تفضيل “الحوار” بل والمطالبة بمأسسته، على “المجازفة” بدينامية نضالية تصدمها مع جهاز الدولة، أو تهدد السلم الاجتماعي العزيز على قلوب الأحزاب والبيروقراطيات الساطية على مقاليد بعض تنظيمات الشغيلة تلك.

توغلت كل قيادات نقابات شغيلة التعليم في التعويل على أن التعاون مع الوزارة لإصدار نظام أساسي جديد، سيكون بابا للاستجابة لعشرات الملفات المطلبية الخاصة بالفئات التعليمية، بل تتجدر هذه القيادات النقابية على الوزارة مُظهِرة إياها الرافضة لإصدار ذلك النظام.

كان وجه التعاون الرئيسي هذا هو ضمان سلم اجتماعي في القطاع طيلة أكثر من سنة. ولكن للدولة منطقها الخاص: رفض أي زيادة في النفقات العمومية التي ستهدد التوازنات المالية، وهو مبدأ دستوري منذ سنة 2011 (الفصل 77).

كانت القيادات النقابية إذن تبحث عن تنازلات “مالية” (ترقيات وتسويات) لتقايض بها قبولها بتمرير النظام الأساسي الجديد. لكن الوزارة المستفيدة من قطاع مضبوط نضاليا من طرف هذه القيادات، رفضت في الأخير متذرعة بحدود مالية الدولة.

أصيبت القيادات النقابية بالذعر، لأن حجم الآمال التي استثارتها بكون المشاركة في صياغة النظام الأساسي الجديد سيحقق المطالب، قد يثير خيبة أمل مضاعفة وفقدانَ مصداقيةٍ مهزوزة أصلا. استاءت هذه القيادات من رفض الوزارة منح الفتات المُعوَّل عليه لإقناع الشغيلة بمسار المشاركة في صياغة نظام أساسي جديد تراجعي. وهو ما وضحه يونس فيراشين (كدش) بقول: “إن رد الاعتبار وإصلاح القطاع يحتاج كلفة، فالإصلاح ليس مجرد خطاب… أن إصلاح هذا القطاع المهم لا بد له من ميزانية، مع إخراج نظام أساسي عادل ومحفز”، وطالب مجلس FNE الوطني الوزارة بـ”تحمل مسؤوليتها في الوفاء بالتزاماتها وتعهدتاها والتعجيل بتسوية الملفات العالقة…”. “الكلفة المالية” هي المقابل الذي ستقبضه هذه القيادات لقبول النظام الأساسي الجديد.

هذا سببٌ رئيسي وراء عدم الاهتمام بتوحيد هذه الخطوات النضالية، فهي محض مناوشات مؤقتة في انتظار إبداء الوزارة “حسن نيتها” مرة أخرى كي تلتحق القيادات النقابية بركب “المقاربة التشاركية”، ما لم تمنعها هبة نضالية من أسفل ترغمها على سلوك طريق النضال.

وهذا هو سبب اقتصار توحيد النضالات من أسفل ومن أعلى على مجرد دعوات، في حين أن التنسيق النقابي الخماسي مستمر في ما يخص متابعة “الحوار القطاعي”، هذا التنسيق الذي ثمنته قيادتا FNE و”ن. و. ت- كدش”.

طيلة سنة لم تستثر إجراءات الوزارة الهجومية وقمع طلائع شغيلة التعليم ومتابعتها أمام قضاء الاستبداد، ولو نزرا يسيرا من هذا الاستياء والدعوة إلى إضرابات ونضال. ولكن رفض الوزارة الإفراج عن الفتات دفع هذه القيادات إلى اللجوء (الظرفي طبعا) إلى أبغض الحلال: الإضراب والاحتجاج. لقد أضاعت القيادات النقابية زمنا طويلا، أشاعت طيلته أوهام التعويل على “الحوار الجدي والمسؤول” وهو ما عبر عنه بيان المكتب الوطني لـ “ن. و. ت- كدش”: 07 نوفمبر 2022 بقول: “يتابع بقلق شديد مستجدات الحوار القطاعي مركزيا وقطاعيا، وانتظارات الشغيلة التعليمية لما ستسفر عنه مخرجات الحوار حول النظام الأساسي، بأمل أن تنتصر إرادة الإنصاف ورفع الحيف”.

وظلت صيغة “التحلي باليقظة والدعوة للاستعداد لخوض الأشكال النضالية” مجرد دعوة للاستمرار في السلبية والانتظارية. كيف ستستجيب شغيلة مستكينة ومستبطنة لتلك الأوهام لدعوة فجائية للإضراب؟ وقد انبرى منذ الآن عدد كبير من أنصار هذه القيادات إلى تحدِّ الشغيلة بأن النقابات قد أدت مهمتها بالدعوة إلى الاحتجاج وأن “الكرة حاليا في ملعب القواعد” لتُثبِت نضاليتها بدل الإصرار على انتقاد القيادات النقابية.

كان الأجدر بالقيادات النقابية هو “ضرب الطاولة” منذ زمن طويل ورفض أي إشراك لتنظيمات الشغيلة في مهازل الحوار القطاعي، وإعداد تراكمي نضالي يضع الإضراب العام الوحدوي هدفا له.

تخوف القيادات من تجذر دينامية نضالية وحدوية

تتخوف القيادات النقابية (الحالية) من أي دينامية وحدوية، لأنها قد تتجذر وتتجاوز استراتيجيتها القائمة على المطالبة بمأسسة الحوار الاجتماعي. لا يقتصر هذا على توحيد النضالات، بل على النضال بحد ذاته. إذ تحرص القيادات النقابية على ضبط تنفيذ الإضراب عبر إصدار دليل له.

دعا المجلس الوطني لـ FNE إلى الوحدة النضالية ودقق صيغ ذلك: “دعوته الفروع المحلية والإقليمية والجهوية إلى تفعيل شعار الوحدة النضالية الميدانية وخلق دينامية نضالية وكفاحية عبر فتح قنوات التواصل مع فروع النقابات والتنسيقيات المناضلة وتفجير المعارك النضالية في جميع أماكن التواجد”. إلا أنه استدرك الأمر بقول: “اعتباره أن المرحلة تستدعي تنظيم المقاومة عبر النضال الوحدوي التراكمي وفي هذا الإطار تم تخويل الصلاحية للمكتب الوطني في تدبير المرحلة سواء في الشق المتعلق بالنضال الوحدوي مع النقابات والتنسيقيات أو في الشق المتعلق بالإعلان عن المحطات النضالية (إضرابات مسيرات، وقفات بالمؤسسات التعليمية وغيرها، الانسحاب من المجالس…)”.

فكيف تستقيم دعوة الفروع إلى فتح قنوات التواصل وتفجير المعارك، مع إعطاء الصلاحية للمكتب الوطني… إلخ؟ إما هذه أو تلك. وعادة ما تكون صيغة “إعطاء الصلاحية للمكتب الوطني لتقرير ذلك؟” مَنْفَذًا لعدم تقرير أي شيء. ألا يترجم ذلك تخوف القيادة النقابية من انفلات أي دينامية وحدوية من أسفل؟

التنسيقيات: رسوخ المنطق الفئوي

يمنع رسوخ المنطق الفئوي تنسيقيات شغيلة التعليم من ترجمة الإيمان بالنضال الوحدوي إلى أفعال ملموسة. فكل فئة تؤمن بأن ملفها المطلبي ذو أولوية مقارنة بالملفات الأخرى. وتنفرد تنسيقية أجراء التعاقد برفض أي مشاركة في صياغة نظام أساسي جديد، وإن لم تتمكن لحدود الآن من ترجمة ذلك الرفض إلى نضال ملموس ضد ذلك النظام. في حين تصر بقية التنسيقيات الفئوية على اعتبار الاستجابة لمطالبها الخاصة شرطا لقبول النظام الجديد.

يتوجه نضال هذه التنسيقيات إلى نقطة بعينها من هجوم الدولة الشامل: القضاء على الطابع العمومي لخدمة التعليم وتفكيك علاقات الشغل القارة داخل القطاع. في الوقت الذي لا يمكن تحقيق المطالب الجزئية دون مجابهة مجمل ذلك الهجوم.

ما السبيل لتجسيد فعلي لدعوات الوحدة النضالية؟

لا يمكن لملفات مطلبية مجزأة حسب الفئات أن تستثير ردة فعل نضالية موحَّدة. فقط ملف مطلبي موحِّد يجمع بين الانشغالات الآنية لشغيلة القطاع ومواجهة مجمل الهجوم النيوليبرالي على الحق في خدمة عمومية مجانية وجيدة وعلاقات شغل قارة (من التوظيف حتى التقاعد)، هو ما سيتيح إمكان توحد قبائل الشغيلة التعليمية في جيش واحد جرَّار. وعلى رأس هذه المطالب الحفاظ على عمومية خدمة التعليم، والقضاء على كل أشكال المرونة الشغلية في القطاع (التوظيف الجهوي، التشغيل مع الجمعيات والقطاع الخاص)، والتراجع عن الإصلاحات التي لحقت نظام التقاعد والنضال ضد الجاري إعدادها، وزيادة عامة في الأجور مع تطبيق السلم المتحرك.

تجسيد الوحدة النضالية ممكن وواقعي. وقد تضطر القيادات النقابية تحت وقع رفض الوزارة الاستجابة للمطالب إلى نضالات موحَّدة، لكن مع السعي إلى التحكم فيها فوقيا، كما وقع سابقا في أكثر من حالة. واجب المناضلين- ات داخل تنظيمات شغيلة التعليم (تنسيقيات ونقابات) هو تلقف تلك المبادرات الوحدوية من أعلى وتجسيدها على أرض الواقع.

إحدى وسائل تجسيد ذلك هو إعادة إحياء أحد أهم تقاليد النضال العمالي: تعبئة وتحريض الشغيلة في أماكن عملها وداخل المقرات النقابية. استعمال المنشور الموزَّع مباشرة أداة لا غنى عنها لبعث الإمكان النضالي الكامن في صفوف الشغيلة، وسيتيح النقاش في أماكن العمل فرص توحيدها (المنخرطين- ات في النقابات أو خارجها) وإمكانية بزوغ أشكال تنظيم من أسفل: لجان المؤسسات وجموعها العامة.

تقع مهمة عظيمة على الفروع الكفاحية داخل هذه الإطارات النقابية، لتقديم النموذج والمثال بإنجاح مبادرات النضال الوحدوي في المناطق المتاح فيها ذلك. علينا التعبئة والمشاركة في خطوات نضال يدعو إليها أي إطار نقابي أو تنسيقية سواء كنا منخرطين- ات فيه أم لا، هكذا فقط سندمر أسوار العزلة القائمة بين شغيلة منقسمين- ات بين إطارات عديدة. وأي تقاعس في تنفيذ هذه المهمة سيكون ذريعة في أفواه القيادات البيروقراطية لتكرار لازمة أن الشغيلة يتحملون مسؤولية عدم تجسيد الإضراب والنضال الوحدوي.

لحدود الآن تظل تنسيقية أجراء التعاقد المفروض رأس حربة نضال شغيلة التعليم، ويقع القسم الأكبر من مسؤولية الدفع بمبادرات وحدوية على عاتقها. وما يتيح ذلك أن كل بيانات التنسيقية تتضمن التأكيد على تلك المهمة. تضم التنسيقية الجيل الأصغر من شغيلة التعليم غير المثقَل بإحباطات الماضي، وإن كانت إحباطات الحاضر (مآل معركة سنة 2019) قد حدَّت من اندفاعتها النضالية. لكن الاستعداد النضالي لا زال قاما في صفوفها، وقد أبان البرنامج النضالي لشهر أكتوبر الماضي أن تلك الجمرة لا زالت متقدة، تحتاج فقط إلى تسعيرها من جديد.

تتفق تصريحات قادة تنظيمات نضال شغيلة التعليم على أن المشكلة مالية بالأساس. إن نقاش قانون المالية والتصديق عليه في البرلمان قادمٌ في مقبل الأيام. وعلى خطة النضال الحالية أن تعبئ لخطوة وطنية ممركزة وموحدة، للاحتجاج ضد قانون مالية يخدم أرباب العمل وتوصيات مؤسسات المال الدولي.

ليست هذه مهمة نقابات وتنسيقيات التعليم وحدها. فتفكيك الوظيفة العمومية جارٍ على قدم وساق في كل قطاعاتها، وعلى رأسها الصحة والجماعات المحلية. تؤدي عزلة شغيلة التعليم عن نضالات بقية القطاعات، إلى أن نضالها يعجز تحقيق مطالبها الجزئية. فقط نضال موحَّد لكل أجراء الدولة قادر على انتزاع المطالب الآنية وجعلها رافعة لاستثارة بقية شرائح الشعب وإقناعها بجدوى النضال، والإعداد لإضراب عام عمالي وشعبي.

بقلم: شادية الشريف

 

 

 

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا