أسباب غلاء الأسعار وما العمل لحماية القدرة الشرائية للعمال

سياسة16 فبراير، 2023

بقلم: أنور أحمد

يشمل لهيب غلاء بالمغرب جميع السلع. تتبخر أجرة العامل في وقت وجيز. أما جماهير العاطلين- ات والفئات الأدنى دخلا فمعاناتها المادية تعكسها الظواهر الاجتماعية الدالة على تفكك خطير بسبب تدهور ظروف العيش، وارتفاع نسب العنف الأسري، وانتشار إدمان المخدرات، والانتحار، وجرائم الشارع، وتجارة الجنس، والتشرد…وغيرها.

أصاب الانهاك كادحي- ات المغرب بسبب ثقل الأزمات المتتالية خلال السنين الأخيرة، من جحيم جائحة كورونا التي انكمش دخلهم- هن الهزيل أصلا، إلى تعافي صحي مقرون بغلاء فاحش، وتفاقم الحال مع تغلغل ثقافة السوق الاستهلاكية التي جرفت عالم القرية وأنهت قرونا من عزلته وعمم قانون الدفع النقدي إسوة بالمدينة فلا صوت يعلو عن صوت المال في ظل انحسار منافذ الدخل وارتفاع معدلات البطالة.

كشفت مذكرة للمندوبية السامية للتخطيط حول الرقم الاستدلالي للأثمان عند الاستهلاك خلال شهر غشت المنصرم، عن استمرار ارتفاع الأسعار بالمغرب.

وذكرت مذكرة المندوبية أن الارتفاعات طالت أساسا المواد الغذائية بنسبة %1.5 مقارنة مع الشهر السابق، وبـ %14.1 مقارنة مع شهر غشت من العام الماضي.(1) وحقيقة السوق أبلغ من أرقام المندوبية السامية والخبر اليقين عند الأسر الكادحة التي احترقت بارتفاع كبير لأسعار جميع السلع بل أن شركات نالت صفقات إنجاز مشاريع عمومية توقفت بسبب ارتفاع كلفة المشروع جراء غلاء المحروقات ومواد البناء.

الظروف العالمية والداخلية المسببة للغلاء العام الراهن

لم يعد ارتفاع الأسعار ظرفيا بل ينحو للتصاعد بفعل عوامل، اقتصادية وجيوسياسية تطبع عصر العولمة المضطرب، وخصائص نمط احتكار الإنتاج، والتوزيع الخاضع لشركات كبرى تحمي أرباحها وتملي شروطها. وبالتالي فالتذرع بالظروف العالمية لتبرير الأزمات الداخلية ونفض الدولة مسؤولياتها عما يترتب عنها من كوارث هو خداع سافر. إن التوجه نحو التحرير الاقتصادي والاندماج من موقع التابع في منظومة العولمة الرأسمالية يعني إعداد العدة لمواجهة الانعكاسات السلبية والصدمات العنيفة المتولدة من رحم الرأسمالية وتناقضاتها. مبرر التأثير الخارجي ليست عذرا بل حجة ضد الدولة وكبار الرأسماليين الذين  يجنون الأرباح من الانفتاح ويرمون بالخسائر المترتبة عنه على كاهل الكادحين.

فاقمت الحرب الروسية على أوكرانيا الأزمة الاقتصادية/الاجتماعية التي تحوم على العالم، ومشاكل نقص الطعام وصعود التضخم النابعة من عدة عوامل- الأثر السلبي للوباء على الاقتصاد، الاضطراب في سلاسل التوريد والنقل، الظروف الجوية القاسية والتغيرات المناخية، زيادة كلفة الطاقة وعوامل أخرى.

نظرا لإنتاج كل من روسيا وأوكرانيا نسبة %30 من الإنتاج العالمي، أسهمَ الغزو الروسي لأوكرانيا في نقص الطعام وزيادة أسعار المواد الأساسية مثل الذرة والقمح والشعير وزيت عباد الشمس. تعد روسيا ثالث أكبر بلد منتج للنفط في العالم، بعد الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية. ومن بين خمسة ملايين برميل من النفط تنتجها روسيا يوميا، يصدر أكثر من النصف إلى أوروبا.( 2)

بدأ منحى ارتفاع أسعار المحروقات والغذاء قبل عودة الحياة إلى طبيعتها بسبب كورونا وقبل الحرب الروسية على أوكرانيا. ارتفاع الأسعار هذا وصل على مستوى الغاز الطبيعي إلى أكثر من %300 بالمائة منذ بداية العام 2021. وارتفع معدل سعر برميل النفط إلى أكثر من 85 دولارا في اكتوبر2021 بعدما كان بحدود 45 أوائل نفس السنة (3).

رفعت العقوبات الأمريكية- الأوروبية المفروضة على قطاع المحروقات الروسية الأسعار العالمية إلى مستويات خطيرة، جارةً مجمل الاقتصاد العالمي نحو تضخم طيار وأزمة اجتماعية كارثية، وتسبب بانهيار القدرة الشرائية وشبح مجاعات حقيقية بمناطق العالم خصوصا في قارتنا إفريقيا التي تواجه تضافر جفاف حاد مع نتائج الاضطراب العالمي.

أدت الصراعات بمحاذاة ممرات الملاحة الدولية (البحر الأحمر-الخليج العربي/الفارسي-بحر الصين…) إلى ارتفاع أسعار التأمين البحري.

كما أدت آثار الأزمة البيئية التي تعاني منها مناطق عدة في العالم، والتي اتخذت طابع جفاف حاد أو فيضانات كارثية إلى نقص الإنتاج الفلاحي وزيادة الواردات من الغداء ما فاقم ازمة الغداء العالمي.

ما العوامل الجوهرية التي تفاقم تداعيات الغلاء على الكادحين

ثمة عوامل مرتبطة بطبيعة النظام الاقتصادي والسياسي بالمغرب تفسر الآثار الوخيمة لارتفاع الأسعار على عمال المغرب وكل طبقاته الكادحة.

الجفاف البنيوي

يُعَدُّ هذا الموسم أسوأ جفاف يشهده المغرب منذ منذ 30 عاما، فالأمطار هذه السنة أقل بنسبة %64 من المتوسط، الأمر الذي أدى لاستنزاف مخزون معظم السدود التي تقلصت مياهها بالفعل بعد سنوات من التقلب المناخي. وفي بلد تمثل الزراعة فيه أكبر قطاع مشغل ومثلت %17 من الناتج المحلي عام 2021 يكشف عمق الضربة النازلة على صغار المزارعين وعمال قطاع الفلاحة.

صرح الاقتصادي نجيب أقصبي “على مدى قرن من دراسة تطور المناخ بالمغرب، يلاحظ أن الجفاف يأتي سنة كل 10 سنوات، لكن منذ الثمانينات تقلصت هذه المدة إلى سنتين أو ثلاث سنوات، بحيث نشهد سنة جافة وأخرى غير جافة… بنية الإنتاج الفلاحي الموجودة اليوم تتطلب كميات هائلة من الماء، علما أن وضعية الفرشة المائية تراجعت، إضافة إلى ارتفاع الطلب بسبب النمو الديمغرافي”.( 4)

لا يتمثل الخطر فقط في تضرر القرى والأنشطة الزراعية والرعوية بل أيضا في خطر التزود بمياه الشرب في المدن الكبرى في حال تأخر موسم الامطار.

الجفاف إذن معطى بنيوي، لكن السياسة الاقتصادية القائمة على أنشطة اقتصادية مستنزفة للمياه، كالاستثمارات السياحية المسؤولة عن خطر التدمير البيئي للوسط الطبيعي والزراعات التصديرية المستهلكة للمياه كالحوامض والبواكر والبطيخ الأحمر والافوكا…الخ، المترافق مع التبعية الغذائية عبر استيراد حاجيات المغاربة من الخارج كالقمح.

البطالة والأجور المتدينة

الطبيعة المتخلفة للاقتصاد المغربي الناتجة عن تبعيته للإمبريالية تحكم عليه بالعجز عن توفير مناصب شغل تمتص اليد العاملة المتدفقة سنويا نحو سوق الشغل، ما يؤدي إلى بطالة جماهير دائمة. ارتفعت نسبة البطالة بفعل جائحة كورونا ونتيجة الجفاف الحاد الذي قلص من أيام العمل في القطاع الفلاحي ودفع صغار الفلاحين للهجرة إلى مدن عاجزة عن توفير مناصب شغل بالعدد الكافي، فنتج عن أزمة القرية أزمة مدينية متعددة الأوجه.

حسب إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط فقد الاقتصاد المغربي 52000 منصب شغل بين الفصلين الأولين من سنتي 2021 و2022، مع التأكيد أن معدل البطالة انخفض من %12.5 إلى %12.1 على الصعيد الوطني، لكن ارتفاع حجم البطالة لا يمكن للعين أن تخطئه.

إن العاطلين- ات بلا دخل ويعيشون عالة على الآخرين، ويفاقم غلاء الأسعار أوضاعهم- هن بحيث يفقد الكثيرون معيلهم بسبب عدم قدرته على تحمل الإنفاق على الغير. إن مطلب الدخل المضمون للجميع يعتبر حقا للحماية من اقتصاد عاجز عن توفير الشغل ويحمل في أحشائه أزمات تنزل بثقلها على الشغيلة العاملين منهم والعاطلين قسرا.

تفكيك صندوق المقاصة

لعب صندوق دعم المواد الاستهلاكية الأساسية دورا مهما في الحماية ضد ارتفاع الأسعار، كان بمثابة أجور غير مباشرة وصمام مان لامتصاص عدم ثبات أسعار المواد المستوردة من الخارج. عملت الدولة بأمر من المؤسسات المانحة على تفكيك تدريجي لهذا الصندوق وتقليص السلع المدرجة في نطاق دعمه. تحججت الدولة بذرائع كاذبة ، منها أن الدعم يذهب لغير مستحقيه، وأنها سائرة نحو دعم مباشر للأسر المحتاجة، في حين أن الإبقاء على صندوق الدعم وتوسيعه ليشمل سلع أخرى المقرون بفرض ضريبة تصاعدية على الثروة يقطع دابر حججها الواهية. غايات الدولة الحقيقية استعادة تلك الأموال لتضعها في مصلحة الرأسمال الأجنبي والمحلي وتجبر الكادحين- ات تسديد الفواتير رغم عجزهم- هم الأكيد.

إن مواجهة التضخم العالمي وحماية المستهلك المغربي مستحيلة دون النضال لإجبار الدولة على العودة لتقوية صندوق المقاصة وتمويله من الضرائب على الأغنياء ومراقبة دقيقة لتدبيره.

تدمير الخدمات العمومية

الخدمات العمومية المتنوعة من صحة وتعليم ونقل عمومي ومجالات ترفيه…الخ هي حاجيات تغطي كلفتَها الماليةُ العمومية، ولا يتحمل المستهلك كلفتها المباشرة عبر الأداء كما هو الحال مع القطاع الخاص وتسعير الخدمات. كل مس بالطابع العمومي لتلك الخدمات، سواء بخوصصتها التامة أو بفرض تسعيرة مقابل الاستفادة حتى وإن حافظت على طبيعتها العمومية، يؤدى إلى ضغط على الأجور ما يجعل أي زيادة في الأجور بلا أثر عملي على القدرة الشرائية الفعلية. إن الدفاع عن الخدمات العمومية الجيدة والمجانية والنضال لمواجهة استراتيجية خوصصتها بفسح المجال للاستثمار الرأسمالي للاستحواذ عليها، هذا الدفاع هو لحماية القدرة الشرائية من التدهور وأحد أنجع الطرق لمواجهة انهيار قيمة الاجور.

لأجل إجراءات عاجلة لحماية القدرة الشرائية للعمال والكادحين

قررت الدولة إجراءات غايتها منع انفجار الوضع الاجتماعي في بلد شهد نضالات متتالية ضد أوضاع غلاء الأسعار.

أطلقت الدولة برنامج أوراش لتشغيل مؤقت للشياي ، وقررت زيادة الأجور في القطاع الخاص بـ %5 بالمئة وفي القطاع الفلاحي بـ %10 بالمئة ويمكن أن تقر إجراءات أقل في القطاع العام نفسه. تدرك الدولة جيدا الانكماش الخطير للقدرة الشرائية وحقيقة الأوضاع الاقتصادية للكادحين- ات، وتعرف أجهزتها درجة الاستياء الكامن في الأعماق الذي لا تعكسه لا تقارير رسمية ولا تذكره التصريحات الرسمية التي تقوم على تزييف الحقائق. لكن عمق قاع البؤس ومستوى انهيار الأجور يحد من فعالية تلك الإجراءات علما أن قسما عريضا من الأجراء لن ينال منها شيئا لكونه يعمل خارج قانون الشغل.

لوقف تدهور أوضاع الشغيلة والكادحين- ات، ولأجل فرض إجراءات عاجلة من شأنها تحسين أوضاعهم- هن لا بد من رفع لائحة مطالب محورية وتحديد مصادر تمويلها.

– السلم المتحرك للأجور وربط الأجور بالأسعار(5):

الحركة النقابية الوفية لمهمة الدفاع عن العمال مطالبة أن تضع على رأس أولوياتها هذا المطلب التاريخي الذي رفعته الحركة النقابية دفاعا عن القوت اليومي للعامل- ة وأسرته- ها. والحال أن الحركة النقابية المغربية طلقت منذ زمان هذا النوع من المطالب وقنعت بأن تؤثث طاولات إعلان صدقات الدولة كلما دعتها لالتقاط الصور.

– التعويض عن البطالة: البطالة الجماهيرية الدائمة تخدم مصلحة الرأسماليين، فهي تجعل سعر قوة العمل زهيدة وهي عامل ضغط تحد من قدرة العمال على النضال لرفع الأجور فهي كاسر نضال العمال المضربين. ان النضال النقابي لفرض تعويض عن البطالة سيترتب عنه تحسن كبير لمجمل ظروف عمل الطبقة العاملة ويعزز أوضاع نضالها الطبقي. إن حماية العمال العاطلين من ارتفاع الأسعار غير ممكن دون النضال لفرض مطلب التعويض عن البطالة.

صندوق المقاصة: بدل إقباره كما يأمر صندوق النقد الدولي يجب فرض توسيع لائحة السلع التي يشملها الدعم وضرب الاحتكار الدي ينهب جيوب الكادحين، علينا النضال لزيادة موارد الصندوق بفرض ضريبة تصاعدية على الأرباح.

– الخدمات العمومية المجانية والجيدة: وقف استراتيجية تفكيكها عبر التمكين المتسارع للاستثمار الخاص منها، والإبقاء على مجانية الخدمات العمومية وجودتها بوضع آليات الرقابة لمواجهة الفساد المستشري فيها. يجب تأميم مؤسسات التعليم الخصوصي والمصحات الخاصة وشركة لاسمير وإجبار أساطين المحروقات على إرجاع ما سرقوه من أموال الشعب بدسائس احتكارهم.

ليس غلاء الأسعار حادثا ظرفيا بل هو نتيجة لطبيعة عصر العولمة الرأسمالية والاضطراب العنيف بسبب التنافس على مناطق النفود عالميا. يؤدي انهيار الأسعار إلى إغلاق المقاولات وتسريح جماعي للعمال ما يفاقم بؤسهم الاجتماعي، ويؤدي غلاء الأسعار بدوره إلى انهيار القدرة الشرائية والعجز عن تلبية الحاجيات الأساسية للأسر العمالية.

الغلاء مشروع مربح حيث ينهب الرأسماليون العمال والكادحين ويحملونهم دفع فاتورة أزمة نظامهم الاقتصادي. واجب منظمات العمال والتنسيقيات الشعبية ضد غلاء الأسعار النضال لفرض سياسة حمائية من كوارث الرأسمالية عبر إجراءات تمول من أرباح الرأسماليين، هم لن يقبلوا بذلك إلا ان أُجبروا على الإذعان او نزع ملكية ما نهبوه ليلبي الشعب الكادح حاجياته الأساسية.

———————

        [i]1-https://www.hcp.ma/L-Indice-des-prix-a-la-consommation-IPC-du-mois-d-Aout-2022_a3575.html

شارك المقالة

اقرأ أيضا