الحركة النقابية: أزمة وجود، لا أزمة نمو، فما العمل؟

الافتتاحية25 أبريل، 2023

يُعَدُّ حال النقابات العمالية من أعوص معضلات النضال الاجتماعي بالمغرب. إذ أصبح قسم الطبقة العاملة المنظم هذا عاجزا عن صد أبسط هجمات أرباب العمل ودولتهم. لا بل تنهض قياداته بدور “شريك اجتماعي” لهما يواكب تلك الهجمات، ويستجدي فتاتا من أجل اتقاء أشدَّ شرورِ نتائج ما يسهم في تمريره ضد مصلحة مجمل الطبقة: (قانوني الإضراب والنقابات، “إصلاح” أنظمة التقاعد، تفكيك الوظيفة العمومية، تسليع الخدمات العمومية… إلخ).

تمثل آخر مثال ملموس، ولا شك أنه لن يكون الأخير، في تصويت فريق الاتحاد المَغْربي للشغل بمجلس المسْتشارين لصالح مشروع قانون إحداث شركات جهوية لتوزيع الماء والكهرباء، يفتح باب خصخصة هذا القطاع، ويصفي المؤسسة المشرفة عليه (المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب)، وقبله ما وقع بالوظيفة العمومية من مصادقة على تغيير تشريعات الشغل (قطاعي الصحة والتعليم العموميين)، في اتجاه يضر بمصالح الأجراء/ات.

رضيت البيروقراطية النقابية بالدور الذي خصها بها دستور الاستبداد (2011) وشرحه بتفصيل تقرير لجنة “النموذج التنموي” (2021)، أي جعل النقابة مؤسسة منخرطة في تفعيل منظور الدولة لتدبير المجتمع لصالح المقاولة ومنظور مؤسسات رأس المال العالمي (اتحاد أوروبي، ومؤسسات مالية)، مع التصفيق الحماسي لإجراءات المحافظة على “الاستقرار الاجتماعي” عبر استهداف أشد ضحايا ذلك المنظور بؤسا، منذ ما أُطلِق عليه “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية”، وصولا إلى إدراج معوزي- ات خدمات راميد فيما يسمى “حماية اجتماعية معمَّمَة”.

يعزى جانب من واقع النقابات هذا إلى سيطرة بيروقراطيات متعددة الولاءات على منظمات الطبقة العاملة هذه. بعض قمم هذه البيروقراطيات يحجب موالاته للقصر بقناع اللاحزبية (الاتحاد المغربي للشغل)، فيما الأخرى موزَّعةُ الولاءِ بين أحزاب برجوازية متضاربة أيديولوجيا (ليبرالية ورجعية دينية)، لكنها تقف على أرضية الدفاع على المجتمع البرجوازي والملكية الخاصة، وبالتالي إبقاء الطبقة العاملة تحت نير الاستغلال بكبح تنظيماتها عن النضال ضده وعن السعي إلى اقتلاعه من جذوره.

في سياق تاريخي سابق، استعمل حزب الاتحاد الاشتراكي نقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل لمناوشة الملكية لانتزاع إصلاحات سياسية تتيح “مشاركة” في السلطة وإنماء رأسمالية “اجتماعية” مستندة على سوق وطنية. لكن تخلى، منذ استسلامه نهاية التسعينيات (“حكومة التناوب”)، عن تلك المناوشة مُمزِّقا أوصال النقابة التي توزعت بين تنويعات لنفس اللون السياسي. وفي الآن ذاته تغلغلت قوى رجعية مستأثرة بولاء قسم من الشغيلة الساعين لتحسين أوضاعهم (حزب العدالة والتنمية وحركة العدل والإحسان).

تشل سيطرةُ البيروقراطية النقابةَ العمالية من داخل، فيما تضعفها موضوعيا التحولات الطارئة في بنية الطبقة العاملة وفي تماسكها. فالبطالة والخوف يضغطان على العاملين- ات، واستشراء أشكال العمل الهشة، لا سيما في القطاع الخاص وهي حاليا سائرة لتشمل القطاع العام، يبطل المقدرة على التنظيم، وعمليات إعادة الهيكلة الاقتصادية تفكك تركزات عمالية ومعها ما نشأ فيها من تنظيم.

ينضاف إلى عوامل الإضعاف هاته، تقاليد راسخة، تنال نوعيا من قوة النقابة، ألا وهي اعتبار معظم الشغيلة للنقابة وسيطا/ محاميا بينهم- هن وبين رب العمل. ما يولد سلوكا اتكاليا وسلبيا على صعيد الممارسة المطلبية، وسلوكا تفويضيا على صعيد تسيير النضالات والتنظيم. وإن كانت البيروقراطية قد كرست تلك التقاليد لاستفادتها منها، فقد ساعدها على جني ثمارها انعدام رؤية وممارسة نقابيتان طبقيتان تريان في المنظمة العمالية أداة كفاح جماعي لتحسين الوضع ضمن منظور تغيير شامل، أداة يجري تسييرها بمشاركة ديمقراطية جماعية.

الرؤية والممارسة النقابيتان المطلوبتان لمغالبة السير العفوي نحو الاتكالية والتفويضية لن يصدرا سوى عن يسار عمالي انعدم في بلدنا لأسباب لا يتسع لها المجال هنا. فرغم الهزات والانعطافات التي شهدتها الحركة النقابية، لم يتبلور يسار نقابي لعلة في اليسار السياسي المنتسب الى الطبقة العاملة. وإن مآل تجربة “التوجه النقابي الديمقراطي داخل الاتحاد المغربي للشغل”، الذي استثار آمالا واعدة لدى شرائح مهمة من شغيلة الدولة، إنما هو من تجليات ذلك الساطعة. إذ انتهى ذلك المخاض إلى مساومة بين قيادة ذلك التوجه وأكثر البيروقراطيات ولاء للدولة وأرباب العمل، أجهضت فرصة تاريخية لإرساء منظور نقابي مغاير لما هو سائد. وقد جاءت تجربة المؤتمر الأخير (فبراير 2023) لنقابة شغيلة الجماعات الترابية تأكيدا لحجم الخطأ التاريخي المتمثل في مساومة عام 2015.

تبرز، بين حين وآخر، أشكال تذمر من البيروقراطيات، تعبر عن استياء من أوجه الفساد والعسف التنظيمي والتفريط في المكاسب أو رافضة لكبح النضالات، لكن افتقاد رؤية بديلة يجعل نتائجها تكون عكسية، إذ تنتهي إلى تعزيز النفور من النقابة. وتعاظمت ظاهرة تبدد قوى مؤهلة لبناء خط معارض للبيروقراطية بظهور التنسيقيات في قطاع الوظيفة العمومية (خصوصا التعليم)، إذ أصبح شغيلة هذا القطاع أكثر ميلا إلى خلق تنظيمات فئوية، بحكم تراجع الوعي الطبقي. هذه التنسيقيات غالبا ما ينشطها مسؤولون نقابيون من كافة المستويات التنظيمية، وهي استراتيجية تتوخى منها القيادة النقابية الخاضعة لنفوذ أحزاب البورجوازية الاكتفاء بدور المُحاوِر وترك تبعات النضال. بينما تشتغل تنسيقية المفروض عليهم- هن التعاقد بالتعليم باستقلال عن النقابات، ما يحرم الجسم النقابي من مناضلين وقيادات شابة يمكنها تحمل مسؤولية تجديد الممارسة النقابية بما يخدم الشغيلة حصرا. هكذا أسهمت التنسيقيات، رغم كفاحية معاركها وقتالية قواعدها، في تذرير حركة نضال الشغيلة وإضعاف وعيهم- هن وبالتالي الإبقاء على سيطرة البيروقراطية على النقابات.

تظل الحركة النقابية، بالرغم مما يعتريها من عاهات وأوجه قصور، ملاذا رئيسيا لقسم من الطبقة العاملة، للنضال ضد اشتداد هجمة أرباب العمل ودولتهم. ما يستدعي تقويتها عبر توسيع النقابة إلى قطاعات حيث تنعدم (خصوصا في القطاع الخاص)، بمضمون نضالي طبقي، والعمل لتحقيق الوحدة في النضال في واقع التعدد القائم (مركزيات وتنسيقيات…) وحفز التنظيم الذاتي (جموع عامة ولجان إضراب جامعة للنقابيين- ات ولغير المنظمين- ات…) والتعاون الصادق بين رافضي- ات خط “الشراكة الاجتماعية” البيروقراطي، من أجل بناء ما تفتقده الحركة النقابية: معارضة نقابية يسارية مستقلة عن الأحزاب البورجوازية ودولتها، بمنظور برنامجي معادٍ للرأسمالية، تجتمع حوله الطلائع العمالية الشبيبية والنسوية لتحقيق تراكم كمي ونوعي يفضي إلى كسب مقدرة فعلية على تأثير ملموس في ميزان الصراع الطبقي.

المناضل-ة

شارك المقالة

اقرأ أيضا