الحاجة للنقابة الموحدة لحراك التعليم: المبادئ المؤسسة بناء على دروس الماضي

أخبار عمالية22 يناير، 2024

شهد قطاع التعليم حركة نضالية عارمة لم يسبق له نظير في التاريخ. فمن جهة انخرط فيها من نساء التعليم ورجاله نسبة عظيمة لم يشهدها اي اضراب في القطاع على الإطلاق، وكذلك شأن المسيرات المنظمة بالعاصمة او محليا. وطبعا يستدعي هذا وضع جرد للحصيلة، بايجابياتها وسلبياتها. هذه السلبية التي نستنبط منها دروسا للمستقبل.
وإن من الامور الهامة التي خلفها توقف هذا الحراك تكاثر الدعوات الى تأسيس نقابة جديدة، دعوات لا شك انها نابعة من اقتناع ان التوق إلى اداة نضال منظمة –النقابة- حاجة استشعرها قسم كبير من المشاركين والمشاركات في الحراك.
فتجربة التنسيقيات دلت على ادوار ايجابية حاسمة، حيث كان لها دور كبير في الانعتاق من نير قيادات «نقابية» تسير بالشغيلة الى الكارثة العظمى. وادت ايضا دور تجميع القوى والسير بالحراك قدما رغم مناورات تلك القيادات المتعاونة مع الدولة. لكنها ابانت في الآن ذاته عن جوانب قصور، لعل اهمها الاغراق في الفئوية، ومن ثمة المنظور الضيق الذي منع الحراك من السعي الى تعاون مع قطاعات اخرى بالوظيفة العمومية ومع اسر التلاميذ الذين محضوا الحراك دعما وتعاطفا لم يسبقهما نظير، وكان له تأثير قوي في افشال مساعي الدولة لعزل الحراك وتأليب الناس عليه.كما ان الطريقة الارتجالية التي تشكلت بها التنسيقيات الجديدة، والتي فرضتها الظروف، اضعفت الاداء الديمقراطي بفعل غياب قواعد وتجربة تنظيميين.
بيد أن الأهم من هذا كله كل الاساس الذي قامت عليه ادوات نضال الشغيلة طيلة شهور الحراك: كان أساسا ضيقا بفعل الفئوية، والميل الى اعتقاد ان الحراك مكتف بذاته قادر على بلوغ اهدافه في مواجهة مع دولة لها خطة شاملة لكافة الوظيفة العمومية، والتعليم العمومي ومجمل الخدمات العمومية. هذا الاساس الضيق ابان عن اضراره ويستدعي تجاوزا نحو رؤية اجمالية وعميقة لمصلحة شغيلة التعليم ضمن الوضع العام بالبلد، أي اخذا بالاعتبار السياسة العامة للدولة واهدافها القريبة و البعيدة.
هذا المنظور الاجمالي قائم لدى النقابات القائمة الى حدود انطلاق الحراك، لكن معظمها اختارت قيادتها مسايرة الدولة ومساعدتها على تمرير خططها. ليس فقط لأن تلك القيادات لها امتيازات ومصالح ناجمة عن ارتباطها بالدولة، بل ايضا لأن منظورها للصراع في البلد قام على مفهوم السلم الاجتماعي، اي تأمين استقرار النظام الاقتصادي-الاجتماعي القائم على استغلال الشغيلة وقهرهم.
لذا فإن الدعوات الراهنة الى خلق منظمة نقابية جديدة تستلزم توضيح المنطلق النضالي، كي لا يتم تكرار ما كان لدى معظم النقابات من تصور للعمل النقابي يضحي بمصلحة الشغيلة بمنطق وهم «الشراكة الاجتماعية»، هذا المنطق الذي جعل تلك القيادات تكون شريكا للدولة في اخراج نظام المآسي ومجمل التعديات على الشغيلة. المنطلق النضالي لتنظيم الشغيلة في نقابة، عبر التاريخ وعبر البلدان، هو الدفاع عن مصلحة الاجير والاجيرة بوجه مشغل غايته اعتصار اكبر قدر من الجهد وباقل كلفة خدمة لمصلحة تعبر عنها الدولة التي هي في اخر المطاف دولة اصحاب المصالح الاقتصادية الكبرى. وكل تخل عن هذا المنظور باسم الشراكة والسلم الاجتماعي يؤدي الى التضحية بمصلحة الشغلية، وقد تلقنا بهذا الصدد درسا تاريخيا لن ينساه اي أجير او اجيرة.
ولا يمكن النجاح في بناء منظمة نقابية وفية فعلا لمصلحة الشغيلة الا باستخلاص دروس التجارب النقابية السابقة. فما الذي اسقط القيادات النقابية في مغبة الاضرار بمصلحة الشغيلة. ما الذي منحها حرية التصرف و مشاركة الدولة عدونها والتوقيع عليه في اتفاقات؟ يجب الاعتراف أن القيادات إنما فعلت ذلك بفعل تحررها من مراقبة القاعدة العريضة للشغيلة. هذا الافلات ناتج عن النسبة القليلة منا المنخرطة في النقابة من جهة، وعن السلبية التي غالبا ما تطبع سلوك المنخرطين. سلبية ناتجة عن تصور للنقابة على انها نوع من المحامي الذي توكل اليه، مقابل أداء واجب الانخراط، مهمة الدفاع عن مصلحة الاجراء نيابة عنهم. إن الاتكالية هذه وتفويض الأمر للقيادات، وانعدام حياة داخلية نشيطة، قوامها ترويج المعلومة و النقاش و المشاركة الجماعية في القرار، هو الذي حول النقابة من دورها الأصلي إلى نقيضه. فباتت معظم الاجهزة النقابية نوعا من الملحقات بالوزارة وبالدولة بشكل عام.
لن تقوم قائمة فعلية لاي نقابة جديدة الا بهجر تام ونهائي للسلبية و الاتكالية و التفويض. وبت روح المشاركة الجماعية عبر هياكل ديمقراطية، تكون فيها السيادة والقرار بيد الشغيلة، باعتماد رأي الأغلبية في التنفيذ، مع احتفاظ الأقلية عن حقها المطلق في الدفاع عن رأيها، بغاية الاقناع به، وتغيير خط السير عند الاقتضاء. فلا ترياق لدرء البيروقراطية و الاستئثار بالقرار وجر النقابة الى ادوار مناقضة لعلة وجودها غير تفعيل الديمقراطية على اوسع واعمق نطاق.
طبعا النقابات القائمة كلها تدبج قوانينها الاساسية بالجمل البراقة عن الديمقراطية، لكنها لا توضح آليات ممارسة تلك الديمقراطية، بل تختزلها في انتخاب الاجهزة وفي دورية لاجتماع اجهزة القرار. لكنها في الواقع تلتف عليها بآليات غير بريئة مثل ما يسمى لجنة الترشيحات، وبالتلاعب في الانتخابات. إن للديمقراطية الفعلية آلياتها التي لا نجدها في اي من القوانين الاساسية للنقابات التي ترفضها اليوم الشغيلة. القرار الديمقراطي هو القرار المتخذ بالأغلبية بعد نقاش، نقاش منظم بناء على توافر المعلومة، في مناخ حرية تعبير تامة، هي طبعا بالدرجة الاولى حرية الرأي المعترض، الرأي المغاير، وليس ديمقراطية الرأي الواحد الزائفة. الديمقراطية الفعلية هي تلك الضامنة لحق الرأي المخالف في التعبير ووصوله الى الجميع بأدوات التواصل الداخلية، هي الضامنة لحق من يشتركون الرأي المخالف في تجميع قواهم للدفاع عن رايهم الجماعي بوجه رأي الأغلبية. الديمقراطية الفعلية هي التي تنظم الانتخاب الى اجهزة القرار بناء على لوائح تمثل وجهات نظر في تسيير الشأن النقابي، وليس الاشخاص او الانتماءات العقائدية و السياسية. فقد جرت عادة سيئة على تفاهم التيارات السياسية على تقسيم حصص في الاجهزة على حساب القاعدة العريضة غير المنتمية سياسيا.
طبعا النقابة مفتوحة للجميع لكن ممارسة فعلية للديمقراطية تقتضي انهاء تقاليد الكوطا في الاجهزة التي درجت عليها القوى الفاعلة في النقابات. النقابة مستقلة عن كل القوى السياسية، وبمقدمتها الدولة، ثم الأحزاب السياسية.
الديمقراطية الفعلية هي التي تـأخذ بالحسبان التهميش الذي تتعرض له النساء في مختلف مؤسسات المجتمع، وينعكس في هيئات النقابة. وهو الامر الذي يستوجب خطة واعية للرقي بمكانة النساء في النقابة[بتدابير إرادوية وسياسة واعية لمحاربة الميز واقصاء النساء.
تلكم باختصار ما يبدو محاور رئيسية لأي بناء نقابي جديد، يجب ان تكون موضوع نقاش عريض بمشاركة اكبر نسبة ممكنة من الشغيلة. نقاش سيكون تفاديه جريا نحو تكرار المصائب النقابية السابقة بحسن نية، او قصدا سيئا لاستغلال حاجة شغيلة التعليم لمنظمة نقابية جديدة لبلوغ مرام مضرة بالشغيلة منها نوعان رئيسيان:
من يؤسسون هياكل نقابية لبلوغ اهداف انتفاعية شخصية بممارسة الخداع
من يسعون لإنشاء ادرع نقابية لقوى سياسية تريد امتدادا في قاعدة الشغلية
ان الدعوات الراهنة الى تأسيس النقابة يجب ان تكون شفافة بأفكار ومقترحات حول البناء، وان يعلن اصحابها عن انفسهم امام الرأي العام التعليمي بدل الاختباء الالكتروني، وأن تعمل بروح وحدوية تجمع كل المبادرات في خطوة موحدة بدل تعدد الاقطاب الداعية المنذر بشتات جديد.

بقلم، جنين داوود

شارك المقالة

اقرأ أيضا