أي بوصلة لحراك شغيلة التعليم في طوره الراهن؟

الافتتاحية4 يناير، 2024

أتم حراك شغيلة التعليم شهره الثالث، مراكما تجربة غنية ستكون دروسها ولا شك نبراسا للقادم من نضالات في قطاع التعليم وفي سائر جبهات النضال العمالي. وهو ذاته بحاجة اليوم إلى دروس معارك سابقة، منها ما خاضه قسم من شغيلة التعليم ذاتهم في السنوات الأخيرة، لاسيما وأنه دخل طورا تدل أمارات عديدة أنه تجاوز ذروته، ويبدو متباطئا ومتطلعا إلى أفق غير واضح.

وقد عانت معركة شغيلة التعليم منذ انطلاقها من نواقص نوعية نابعة من طبيعتها كأول معركة بهذا الحجم من المشاركة لجماهير غفيرة لم تمتلك دراية نضالية بفعل خصائص الحركة النقابية المبقرطة المكرسة لمفهوم النقابة-المحامي المستبعد للمشاركة الجماعية الفعالة. كما ظل النزوع الفئوي الأناني كامنا، مهددا في كل لحظة بمفعوله المفكك، وهو تهديد متنام جسده بروز تنسيقيات فرعية جديدة.

وبالرغم من النزوع الوحدوي الصاعد من القاعدة، المتجسد في التنسيق الميداني ردا على استمرار تعدد رؤوس الحراك، لم يفلح الشغيلة في فرض ارادتهم الوحدوية. ولا شك أن مرد ذلك ضعف قنوات إيصال تلك الإرادة، وحتى إضعافها المقصود أحيانا، أي نقص المشاركة الجماعية الواعية في القرار، فبدل تطوير أشكال الجموع العامة التي ولدت مع الحراك، دب فيها فتور وتراجع الإقبال على الجموع العامة إلى أن انتفت في مواقع عديدة. وحتى نقاش وسائل التواصل الاجتماعي ظل في مستوى أولي بسبب ضعف تقاليد التداول المنظم بنشرة تواصل داخلي وإعلام عمالي حقيقي، لا بل شابته عيوب نالت من جدواه، حيث جرى أحيانا اعتبار النقد تشويشا، والتنبيه الى النواقص مرفوضا، واستُعمِلت تهمة “الاندساس” والانتماء الى النقابات (التي باتت منبوذة بفعل سياسة قيادتها المتعاونة مع الدولة) لردع أي تعبير حر عن الرأي.

ساهمت مناورات الدولة لهزم حراك شغيلة التعليم في تعميق صعوبات التنسيقيات لما استبعدتها من “الحوار” الذي هرولت اليه القيادات النقابية المتواطئة. وكان انضمام الجامعة الوطنية للتعليم-التوجه الديمقراطي إلى “الحوار”، وإدارة ظهرها للحراك، وما نتج من اتفاق 26 ديسمبر 2023 غير المُرضي لسواد الشغيلة الأعظم، إضعافا أكيدا للدينامية النضالية، لم يقابله تعزيز لوحدة الهيئات المواصلة للحراك. فقد استمر عدم توحيد مكوناته، رغم المزاعم الكلامية المريبة في قمم التنسيقيات حول ضرورة الوحدة، وما ترتب من تباين برامج النضال الرامية إلى المواصلة. فقد الحراك أحد أجنحته (جامعة التوجه الديمقراطي) بدون مقدرة على تعويضه بتعزيز الوحدة.

وفوق هذا وذاك، ظل حراك شغيلة التعليم معزولا في الساحة النقابية، مع أن جزءا من مطالبه، جوهري يهم الوظيفة العمومية، ويعني أقساما أوسع من شغيلة الدولة، لكن هؤلاء لم ينهضوا لأجل تضافر مع جهود شغيلة التعليم. والقليل من الإضرابات، على غرار ما في الجماعات الترابية، ظل موازيا غير ساع الى التآزر والتعاون من كلا الجانبين. ويعود هذا طبعا إلى موقف قيادات المركزيات النقابية الملتزمة بــ”سلم اجتماعي”، أي استسلامها التام المكرس باتفاق 30 أبريل 2022، المؤدي إلى التعامل مع صبوات النضالي العمالي، المنبجسة هنا وهناك، بمنطق الكبح لا الحفز.

وختاما، لم يتخذ دعم أسر التلاميذ لشغيلة التعليم، وتضامنها، شكلا نشيطا متطورا قادرا على الضغط على الدولة، إذ اقتصر على تعاطف وتأييد، وتيقظ من مساعي الدولة الخبيثة الرامية الى تأليب الأسر ضد الشغيلة. وجلي أن الأمر نابع من ضعف تقاليد تنظيم تضامن الأسر مع المعارك العمالية، وبوجه عام عدم تضافر الكفاحات الشعبية مع النضال العمالي، هذا الوجه الآخر لقصور الحركة النقابية المغربية التقليدية ومعها ما استجد من أشكال تنظيم كالتنسيقيات ذاتها.

بهذا المنظار الاجمالي يتعين النظر إلى الطور الراهن من حراك شغيلة التعليم، لا الاقتصار على بعد واحد، أيا يكن، والاستناد إليه لتقرير وجهة السير المستقبلية.

يجري داخل في مكونات حراك شغيلة التعليم، كل على حدة، تداول مقترحات متنوعة بشأن آفاق المعركة، بين مناداة إلى مواصلتها بنفس الوتيرة، وبين دعوة إلى تعليق أشكال النضال كافة، وبينهما مقترح تعليق جزئي. هذا كله مع ملاحظة تراجع تدريجي طفيف، لكنه أكيد، لنسبة المشاركين والمشاركات في الإضراب، مع التعبير المتزايد صراحة عن التعب. وهذا بحد ذاته متوقع بالنظر إلى العوامل المشار اليها أعلاه. وكذا ملاحظة تزايد منسوب البلبلة ضمن مناخ بعض سماته سلبية (تعايُر وانحطاط النقاش الى مستوى التخوين…).

وعلى غرار كل شؤون تدبير الدينامية النضالية ليس بيدنا لمواجهة الطور الذي بلغه الحراك غير اعتماد الديمقراطية، أي المشاركة الجماعية الواعية في النقاش الحر والشفاف، نقاش قابل للاختلاف بلا ذم لا تحقير ولا اتهامات، إذ أن مصلحة الشغيلة قد تكون في مواصلة النضال، وقد تكون في وقفه. وهذا ما يجب أن يكون موضوع قرار ديمقراطي. إننا إزاء وضع شبيه بالطائرة التي بدأ عدد من أزرار لوحة قيادتها تضيء منبهة إلى وجوب التصرف وفق المستجدات. فإن كانت طاقة الكفاح(الوقود) بدأت تنقص، وأحوال الطقس غير ملائمة (عزلة الحراك عماليا وشعبيا…) يتعين التصرف بما يتيح هبوطا هادئا آمنا للطائرة، لا الإصرار على التحليق إلى أن ترتطم الطائرة بالأرض. يجب الحفاظ على سلامة الطائرة، وإتاحة تزودها بوقود إضافي، وتحين ظروف محيطة ملائمة أكثر، لأننا بحاجة إليها في أطوار قادمة.

فليس من الحكمة بتاتا، إذا تبين تضاؤل النفَس وظهرت عوامل غير مساعدة، السير بالحراك نحو تفكك تدريجي لن يخلف غير الإحباط وتحطيم المعنويات، مع ما قد يتلو ذلك من نفور قسم من الشغيلة المكافحة اليوم من أي نضال وتنظيم. قد تكون معركة مشرفة على الانتهاء، لكن الحرب مستمرة، طالما الدولة مشمرة على الساعد لتوجيه مزيد من الضربات (التقاعد، قانون منع فعلي للإضراب…)، ولإفراغ ما ننتزع منها من مكاسب جزئية من محتواه.

نقاشٌ ديمقراطي لحالة الحراك، من جميع جوانبه، واعتبار تطورات سياقه، ومقتضيات المرحلة المقبلة من هجوم الدولة، هو بوصلة طورنا الحالي، وضمان تحصين أكبر مكاسبنا: الوحدة النضالية الأولى من نوعها في تاريخ النضال العمالي ببلدنا.

المناضل-ة.

شارك المقالة

اقرأ أيضا