الحراك التعليمي، تجربة نضال فريدة ونواقص يجب تجاوزها

مقالات7 فبراير، 2024

لا شك أن الحركة الإضرابية بقطاع التعليم، الممتدة لأزيد قليلا من ثلاثة أشهر، أحدثت تغيرا في الوعي النضالي لدى فئة عريضة من شغيلة التعليم، وإلى حد ما خارجهم، ودليل ذلك تلك القدرة التي أبان عنها الشغيلة من حيث الصمود والتحدي والاقتناع بجدوى الفعل النضالي الوحدوي الديمقراطي المصحوب بوضوح المطالب والوعي بأهمية الجموع العامة كاملة السيادة، رغم أخذها شكل استبيانات الكترونية غالبا. ومن بين ما أبرزته هذه السيرورة النضالية، ولو على نحو ضبابي، الحاجة لاستراتيجية نضال حقيقية بعيدة عن المألوف لدى القيادات النقابية الغارقة في سياسة الشراكة “الاجتماعية” والاستعمال الأدواتي للنقابة العمالية لتحقيق مآرب وغايات لا صلة لها بانتزاع حقوق الشغيلة وتحصين مكاسبهم.
أبانت سيرورة حراك شغيلة التعليم طبيعة دولة البرجوازية وإمعانها في فرض تعدياتها باستخدام جبروتها الإعلامي وخدامها الاجتماعيين وبخاصة القيادات النقابية البيروقراطية الأكثر خضوعا لسياساتها النيوليبرالية المدمرة لحقوق الشغيلة ومكاسبهم.

حراك استثنائي منفلت من قبضة البيروقراطيات

انبعثت دينامية حراك شغيلة التعليم من الأعماق، من أماكن العمل، ما أتاح فرصة اختبار فضاءات النقاش المباشر والعفوي، الغني والمكثف أحيانا. طبعا لم يدم استثمار تلك الفضاءات لفترة طويلة، إذ جرت الاستعاضة عنها باستبيانات الكترونية تعاملت مع جمهور مشتت، ومع ذلك نتجت عن الدينامية النضالية الاستثنائية هذه مبادرات عدة مبتكرة وفعالة. وبقدر ما تقدم الوعي المحفز بتوالي أشواط المعركة والنقاشات المرافقة لها، صارت المبادرات النضالية في مسار كان من شأنه لو تطور أكثر، وتضافرت الجهود وتوفرت له الشروط الضرورية، من قبيل عمل نقابي كفاحي حقيقي، أن يتيح اندراجه في استراتيجية تروم التأثير على استقرار الإنتاج/التوزيع، لما سيشكله ذلك من ضغط فعال على الدولة للتنازل وتلبية المطالب. هذا أخذا بالاعتبار أن شغيلة التعليم، والوظيفة العمومية عموما، غير قادرين على شل آلة الإنتاج الرأسمالي، لكن من شأنهم أن يعرقلوا آلة توزيعه، وأن يمارسوا ضغطا سياسيا على الدولة ويجبروها على الاستجابة للمطالب.
انفلتت الحركة الإضرابية من سيطرة البيروقراطيات، وهذه خطوة نوعية، لكن يعيبها أنها أكثر عداء للنقابات، ما سيضع عراقيل أمام تطور النضال وتمدده، رغم بروز الجموع العامة وتشجيعها الجميع على الانضمام إلى النضال والتوق إلى الانتصار، علما أن مستوى تسيس القاعدة العريضة متواضع جدا بالنظر لما تتطلبه معركة من هذا القبيل، ما يبقيه متأخرا عن إدراك الهدف الأرقى المتمثل في مناهضة الرأسمالية، أصل كل الشرور الباعثة على النضال.

خطوة.. على طريق التسيير الذاتي الديمقراطي للنضالات

إن الديمقراطية ليست ترفا، وليست مجرد إجراءات شكلية، كأن يستعاض عن الحضور المباشر والفاعل باستبيانات الكترونية لا تتيح تبادلا وتفاعلا ضروريين ومنتجين، والحال أن هذا الاستغناء عن التجمعات بأماكن العمل والمقرات… أفضى، كما في تجارب سابقة عديدة، إلى احتكار المبادرة والاقتراح والتوجيه والتسيير من قبل أقليات (أو حتى أشخاص) مستبدة ومناورة، بنهجها ممارسات أقل ما يقال عنها أنها تعيد تلك الممارسات المثيرة للاشمئزاز التي تشكل القاعدة الأساسية لبيروقراطيات نقابية خائنة. ولهذا فإن ديمقراطية نقابية داخلية حقيقية تمارس عبر جموع عامة كاملة السيادة، لا غنى عنها للكفاح النقابي، وأبعد منه. إن التنظيم الذاتي الديمقراطي والكفاحي والواعي أُسُّ أي فعل نضالي يستحق أن ينعت بأنه يخدم مصلحة النضال وبلوغ أهدافه.
كان ممكنا، بلا شك، بالموازاة مع تشجيع لجان التعبئة وتطويرها، والجموع العامة المنتظمة كاملة السيادة المعتمدة في اتخاذ القرارات، وكل ما يلزم من لجان وظيفية واسعة وشاملة، أن تسير الأمور على نحو مختلف عما شهدناه.
لم نشهد، منذ عقود، دينامية نضالية نقابية ضخمة شبيهة بما شهده قطاع التعليم خلال ثلاثة أشهر. لقد جرى إضعاف النضال العمالي الشعبي، من جهة بسبب شراسة عدوان البرجوازية ودولتها، وبفعل الاستسلام التدريجي للقيادات النقابية باسم “الحوار الاجتماعي” و”الشراكة” و”مصلحة الاقتصاد الوطني وتنافسيته” وغير ذلك من الأضاليل الأيديولوجية والسياسية النيوليبرالية من جهة أخرى.
باستثناء ديناميات نضال بارزة، بعد سياق ما اشتهر ب “الربيع العربي”، ومنها على الخصوص حراكي الريف وجرادة، ونضال المفروض عليهم-هن التعاقد، بالإضافة لعدد قليل جدا من النضالات القتالية الأخرى، فإن التنظيم الذاتي كان غائبا. وكان لتوالي الإخفاقات بالتأكيد أثر بالغ أدى لاستفحال أزمة النقابات وشيوع الفئوية والبحث عن طرق مختصرة بدل بروز مجموعات نضال تبلور استراتيجيات نضال بديلة.
اتسعت الفجوة الآن وصار العداء للنقابة شائعا، وانتشر على نطاق أوسع وصمها بالخائنة، وخادمة الدولة وسياساتها، وظهر ذلك بجلاء في الدينامية الإضرابية الأخيرة بقطاع التعليم.

لا سبيل سوى النضال

لن تتراجع الدولة بسهولة، ومن تلقاء نفسها، عن تعدياتها النيوليبرالية، فهي واقعة تحت رحمة سياسات تمليها الامبريالية ومؤسساتها المالية والاقتصادية والتجارية العالمية. وحتى الآن لا سبيل للتعافي من تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي. أكثر من ذلك ستواصل تداعيات الأزمة العالمية وآثارها المحلية سيرها نحو أسوء مما هي عليه.
ففي كل مرة تهُبُّ الدولة لإنقاذ الرأسمال بالمليارات من الدراهم، مفاقمة بذلك العجوزات العمومية الداخلية والخارجية. وبالمقابل يتواصل التدهور الاجتماعي للطبقة العاملة في ظل هزالة الأجور والتسريحات والبطالة وعقود العمل الهش.
ما من سبيل سوى النضال، وما تجربة الحراك التعليمي المجيد إلا برهان حي على ذلك؛ قوة غضب جماهيري عفوي منفلت من الرقابة البيروقراطية، لكنه بقي مشتتا وقطاعيا غلبت عليه الفئوية. ومع ذلك فقد أظهرت التجربة أنه يستحيل تحقيق انتصارات مهمة دون الكفاح الوحدوي والديمقراطي.
من المهم جدا أن تتلاقى النضالات في أفق إضراب عام يتيح للجميع إمكانية الانتصار، خاصة في هذه الأوقات العصيبة من الأزمة، المتسمة بتفشي التضخم والغلاء، حيث من الضروري للغاية أن يشكل طريق النضال خيارا أساسا من أجل تلبية المطالب وصيانة المكاسب وتوسيعها.

من أجل قيادة بديلة

تتمثل إحدى العقبات الأساس بوجه هذا المسار في السياسة الخيانية للقيادات النقابية الرئيسة التي تمنع تلاقي النضالات وترفض التوجه نحو الإضراب العام وتنسف روافده التي تبرز هنا وهناك. انها تفضل الدفاع عن “مطالب” غامضة تماما، والمشاركة في “مشاورات” مع أرباب العمل والحكومة، والدعوة إلى “أيام إضراب” متباعدة، دون أدنى منظور. وقد شهدنا مجددا مدى ضرر تلك السياسة بمناسبة الإضراب الاستثنائي الذي شهده قطاع التعليم على مدار ثلاثة أشهر.
ومع ذلك، فإن تطور الأزمة وتفاقم هجمات الدولة سيؤدي حتما إلى نضالات وإضرابات تنحو عفويا نحو التجذر أكثر.
ستتعلم الجماهير المندفعة للنضال من هزائمها، وستستخلص الدرس الرئيس، مِنْ كَوْنِ النضالات في حاجة ماسة، [لضمان الانتصار] لقيادة بديلة عن قيادة البيروقراطيات النقابية القائمة والأحزاب الإصلاحية الخائنة. قيادة منبثقة من رحم النضالات، ومن قوى سياسية مناصرة حقيقة، قولا وفعلا، لخيار النضال ولأهداف الطبقة العاملة الآنية والمستقبلية.
تلك أم المهام الواجب الانكباب عليها: بناء أدوات النضال الكفاحية الديمقراطية الوحدوية، وفق برنامج نضال آني استعجالي ووفق استراتيجية نضال مناهضة للرأسمالية وشرورها.

بقلم، سليم نعمان

شارك المقالة

اقرأ أيضا