الذكاء الاصطناعي: ابدال ذكاء البشر أم تحريره؟

بلا حدود17 فبراير، 2024

في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أطلقت مقاولة أوبن أيه آي OpenAI برنامج شات جي بي تي ChatGPT ، القادر على كتابة نص حول أي موضوع بمحاكاة إنسان. اجتاز هذا البرنامج بنجاح نهائي امتحان مدارس عليا عديدة، وبالفعل تعرض للبيع، كتب ألفها شات جي بي تي. في نهاية شهر آذار/مارس، كانت مجموعة علماء، ومهندسي التكنلوجيا الجديدة، ضمنهم ستيف وزنياك، من مؤسسي مقاولة أبل Apple، أو إيلون ماسك Elon Musk ، رئيس مقاولة تسلا ومقاولة سبيس إكس Tesla وSpaceX ، منزعجين من أخطار تطورات ما يسمى بالذكاء الاصطناعي على البشرية، وطالبوا بوقف البحث في مجاله. ما الذي تخفيه هذه التحذيرات التي يطلقها رأسماليو التكنلوجيا؟ ما الآفاق التي تفتحها هذه التكنولوجيا الجديدة للبشرية؟
بعد إتقان لعبة الشطرنج (انتصر حاسوب ديب بلو Deep Blue على بطل العالم كاسباروف عام 1997)، والترجمة، والتعرف على هوية الشخص انطلاق من وجهه، أصبحت أجهزة الكمبيوتر، والحالة هذه، قادرة على إنتاج نصوص أصلية تلقائيا، دون امكانية التمييز بين ما قد يؤلفه كائن بشري. إن التطورات الحديثة في المعلوميات، وآفاق تطبيقاتها في جميع المجالات مذهلة: تشخيصات طبية، وعمليات جراحية بمساعدة الحاسوب، وروبوتات مستقلة باطراد، وتوقع كوارث طبيعية، الخ. مع ذلك، ككل تغير تقني منذ الثورة الصناعية الأولى، تثير هذه الابتكارات القلق، لأنها قد تدمر ملايين فرص شغل، وتعمم المراقبة، وتصنع معلومات مضللة هائلة، وتنتج أسلحة قادرة على القتل دون تدخل بشري. يتصور أكثر المتشائمين أجهزة كمبيوتر، تصبح في نهاية المطاف، مستقلة تماماً، وتسيطر على البشر. يستحضرون خيال سنوات 1950، كما طرحه الروائي إسحاق أسيموف، مفاده هيمنة الروبوتات على البشر.
لكن أجهزة الكمبيوتر، مهما كانت متطورة، تظل في المقام الأول آلات. سيرتبط أولا تأثير أحدث التطورات، في مجال المعلوميات، على المجتمع، بمن سيستخدم هذه الاكتشافات، وبأية أهداف: أتاح التقدم في الكيمياء، بداية القرن العشرين، إنتاج أسمدة من شأنها تغذية البشرية جمعاء، وغازات حربية قاتلة، على حد سواء. ينطبق الشيء نفسه على النشاط الإشعاعي، الذي يتيح علاج السرطانات وإنتاج الطاقة، لكن أيضا صنع القنابل.

آلات فائقة التطور، لكن غير ذكية
يشير تعبير الذكاء الاصطناعي إلى معادلة أداء البرامج المعنية، اشتغال دماغنا. هذا التصور خاطئ، لأن براعة ذكاء البشر أعظم إلى حد كبير، إذا كانت أجهزة الكمبيوتر صانعة العجائب. إن إنكار هذا الاختلاف، تقليل من شأن البشرية ومقدراتها. مع ذلك، أصبحت هذه أكثر الأفكار انتشارا. في رسالتهم المفتوحة الأخيرة، المنشورة في وسائل إعلام عديدة، بما في ذلك لوموند، يوم 29 آذار/مارس، صرح مئات باحثي المجال الرقمي، ورأسمالييه بما يلي: «باتت أنظمة الذكاء الاصطناعي قادرة على منافسة البشر». يعتمدون على فكرة إمكانية الآن أتمتة مهام متزايدة، كان من المعتقد استحالة إنجازها، بدون ذكاء بشري. عرّف يان ليكون Yann Lecun، مدير مختبر الذكاء الاصطناعي في مقاولة فيسبوك Facebook، الذكاء الاصطناعي عام 2016، في دورة في كوليج دو فرانس Collège de France بما يلي: «جملة تقنيات، تتيح لآلات أداء مهام، وحل مشاكل، مقتصرة عادة على البشر، وبعض الحيوانات».
يمثل الحديث عن الذكاء، لأن آلة تؤدي مهمة، كان إنجازها يستدعي تدخلاً بشرياً سابقاً، خلطاً بين ذكاء وأتمتة. بحسب هذا الرأي، يمكن أيضا اعتبار آلة نول جاكارد، الذي أتاحت نسج نماذج على الحرير في أوائل القرن التاسع عشر، آلة ذكية، لأن بشرا بمهارات عالية كانوا ينجزون هذا العمل، قبل اختراعها.
إن السعي إلى خلق «ذكاء اصطناعي» قديم قدم المعلوميات، وتعود العبارة نفسها إلى عام 1956. آنذاك، أدرك باحثون امكانية برمجة جهاز كمبيوتر، ليس وحسب مثل آلة حاسبة، لكن أيضا لحل مشاكل هندسة، أو تخطيط جملة إجراءات يتعين على الروبوت القيام بها، أو محاكاة حوار -بالفعل! بسبب هذه النجاحات، قال عالم الكمبيوتر هربرت سيمون Herbert Simon عام 1965: «ستكون الآلات قادرة، في غضون عشرين عاما، على إنجاز كل عمل قد يقوم به الإنسان.» لكن سرعان ما بدا هذا التوقع مبالغا فيه.
كان مبدأ هذه البرامج الأساسي قائما في تجربة جميع الإجابات الممكنة عن سؤال، حتى الحصول على الإجابة الصحيحة. لكن ذلك غير مفيد إلا في حل مشاكل بسيطة: لإنشاء نص، من السهل حفظ جميع كلمات القاموس، وكل قواعد اللغة في جهاز كمبيوتر، لكن عدد النصوص التي يمكن صياغتها باستخدام هذه العناصر، غير محصور، وغالبيتها الساحقة بدون معنى! لحل هذه المشكلة، كان لزاماً انتظار تصغير المعدات الإلكترونية، وانفجار طاقة الحوسبة، وذاكرة أجهزة الكمبيوتر، وتطور الإنترنت، مما يتيح مركزة المعلومات المنتشرة في جميع أنحاء العالم. بفضل ذلك، لم يعد ضروريا صراحة برمجة جميع المراحل التي على الكمبيوتر اتباعها لإيجاد حل مسألة: يمكن استخدام الاحتمالات.
يكمن جوهر شات جي بي تي في نموذج رياضي لماهية نص ذي معنى. عن طريق الاعتماد على قواعد بيانات تضم ملايين منها، يتعلم شات جي بي تي حساب احتمال ضرورة تتبع بداية جملة هذه الكلمة أو تلك. على سبيل المثال، «في الليل، السماء…» من المرجح أن يليها «مظلمة» بدلا من «حمراء» لأن كلمتي «سماء» و «ليل» غالبا ما ترتبطان بالظلام. بوسعه صياغة نص كامل، عبر اختيار كلمات واحدة تلو الأخرى وفقا لهذه الاحتمالات. كلما زاد عدد الجمل في قاعدة البيانات، كان النموذج أدق، والنصوص المكتوبة أكثر واقعية.
يشكل هذا التعلم عن طريق التكرار أحد آليات اشتغال دماغنا، لكنه تدريب، وليس فهماً. كلما قرأ شات جي بي تي جملة جديدة، زاد من احتمال الكلمات المطابقة، لكن هذا لا يعني أنه فهمها. حتى لو كانت النصوص المصاغة أصلية، بمعنى أنها ليست مجرد نسخ، ولصق لنصوص مكتوبة سابقاً، فإن محتواها مبرمج ضمنيا بواسطة قاعدة البيانات التي تدرب عليها البرنامج: إنها آلة لتقليد المكتوب سابقاً. على عكس آلات ميكانيكية تعمل على أتمتة إيماءات، تقوم خوارزميات التعلم بأتمتة السيرورات النفسية التي تحدث في دماغنا، لكن هذا لا يجعلها ذكية.

ذكاء البشر ثمرة التطور البيولوجي والاجتماعي
أداء ذكاء البشر أثرى من آليات البرمجة هذه. على عكس خوارزميات التعلم الآلي، لا يقتصر ذكاء البشر على المنجز سابقاً. إتقان اشعال النار، والزراعة، والكتابة، ومؤخرا اكتشاف الكهرباء، أو المضادات الحيوية: كانت معظم الاكتشافات الثورية في تاريخ البشر نتاج التجارب، والأخطاء، والصدف، حيث قامت الحاجة إلى التكيف للبقاء على قيد الحياة، والفضول غير المبرر، بدو ر لا يقل أهمية عن البحث المنهجي. إن أجهزة الكمبيوتر عاجزة عن السير على هذا النهج، لأن الفضول، وغريزة البقاء، وأيضاً جملة من المشاعر، والعواطف التي تتدخل باستمرار في أفكار نا، لا تتلخص في بضع معادلات.
على عكس أجهزة الكمبيوتر، لم يُخلق ذكاؤنا: كان هذا الأخير نتيجة تطور بيولوجي، ثم اجتماعي، على مدى ملايين السنين. مما يمنحه هذه المقدرة على استكشاف اتجاهات مجهولة، دون هدف محدد مسبقا. يتسم نظامنا العصبي ودماغنا بالمرونة، وتحدث الروابط بين الخلايا العصبية، وتتفكك طوال الحياة. عندما تتكرر إيماءة مرات عديدة، يتم حفز منطقة الدماغ المخصصة لهذه الحركة وتقويتها، مما يتيح اكتساب دقة، وسرعة، الخ. تتعزز هذه المرونة الدماغية، التي يرتبط بها دماغنا بكل جسمنا، عن طريق الانتقاء الطبيعي، لأنها تتيح لجهازنا التعلم والتكيف مع بيئات ومواقف مختلفة للغاية.
ومما يزيد من أهمية ذلك، أن سمة أساسية للإنسان، لا تقتصر على التكيف سلبياً مع ضغوط البيئية: بل يحول هذه الأخيرة ويكيفها مع حاجاته: قام العمل بدور حاسم في بلورة الفكر، لأنه يستتبع التطلع إلى المستقبل، وتخطيط برامجه عبر توقع العواقب: كان على صياد ما قبل التاريخ أولا، لصنع رمح يتيح له قتل حيوان الرنة، ايجاد حجر صوان مناسب، ونحته، وتسويته على مقبض، قبل التحقق مما إذا كان ما حصل عليه من رمح، قد يتيح له الصيد، في آخر المطاف. ليست هذه العملية نتيجة دماغ معزول، بل تكتسي طابعاً اجتماعياً. لتنظيم العمل الجماعي، خلقت الإنسانية لغات، ومفاهيما ساهمت إلى حد كبير في تطوير فكر مجرد: ظهر علم الفلك لأول مرة ليتيح توقع فلاحي مصر فيضانات النيل، واهتداء البحارة على طريقهم في أعالي البحار، قبل سعي الفيزيائيين إلى استنتاج قوانين الجاذبية، وآليات تشكل النظام الشمسي. تفتقر أجهزة الكمبيوتر إلى جسم حي، بحاجاته، وحياة اجتماعية، للتفكير مثل البشر.
بقدر ما كان الانسان يدجن قوى الطبيعة، خلق أدوات متطورة باطراد. أنشأ حقولاً في أماكن كانت مجرد صحاري، بفضل الري، والمحراث. صنع آلات تتحرك من تلقاء نفسها، عبر إتقان طاقة البخار، ثم محرك الاحتراق الداخلي. أصبح بالإمكان، بفضل الإلكترونيات، برمجة آلة للاشتغال سنوات بمفردها، وتتيح له اليوم أحدث الخوارزميات تحسين أدائها تلقائيا بمرور الوقت. لكن، مهما كان درجة تعقيدها، سواء كانت صوانا مصقولا أو محراثا أو قمرا صناعيا، لا تقوم أيا من هذه الأدوات بما تريد، بل ما صممت للقيام به. على عكس أقوى أجهزة الكمبيوتر، يحدد الانسان أهدافه الخاصة، حتى عندما لا يكون على وعي كامل بوسائل تحقيقها، أو عواقبها. هنا يبدأ الذكاء الحقيقي.

منافسة رأسمالية، وقلق، وتشاؤم
تمثل قدرتنا على إعادة إنتاج آليات معينة من دماغنا، دليلا آخر على قوة ذكاء البشر. دماغنا على وعي بذاته، ويسعى إلى فهم طريقة اشتغاله وإعادة إنتاجها. لكن اليوم، عوض تعزيز الثقة في إمكاناته، تثير هذه الانجازات التقنية الرعب. فعلى الرغم من تحكم البشر بالطبيعة، على نحو غير مسبوق، لا يملكون إلى حد اليوم أية سيطرة واعية على تنظيمهم الاجتماعي. تتجلى خلاصة الموقعين على الرسالة المذكورة بالمقدمة أعلاه، في دعوة الحكومات إلى فرض إيقاف برامج البحث في الذكاء الاصطناعي، مدة ستة أشهر، لأننا قاب قوس أو أدنى من «تطوير عقول غير بشرية قد تتجاوزنا، وتحل محلنا»، مما يهدد «بفقدان التحكم بمستقبل حضارتنا». يصرون على عدم جواز ترك قرارات كهذه «بيد قادة غير منتخبين».
من الواضح أن هذه الاعتبارات الديمقراطية، من رأسمالي مثل إيلون ماسك، الموقع الرئيسي على الرسالة، مجرد ذريعة لإخفاء مصالح اقتصادية بحثة. نشر مصرف جولدمان ساكس، يوم 26 آذار/مارس، دراسة بعنوان «تأثيرات الذكاء الاصطناعي الهامة المحتملة على النمو الاقتصادي»، حيث يقدر إمكانية أتمتة 300 مليون منصب شغل في جميع أنحاء العالم باستخدام خوارزميات التعلم الآلي. يجب التعامل مع هذه الأرقام بحذر بالغ، لكن المؤكد أن أكبر المقاولات الرقمية (عمالقة التكنولوجيا Gafam) في سباق سريع للاستحواذ على أكبر حصة في هذا السوق، المقدرة بقيمة مليارات الدولارات. أحرزت ميكروسوفت Microsoft تقدماً، بتوظيفها شات جي بي تي. سرعان ما تبعتها غوغل Google، وفيسبوك Facebook، بإطلاق برامجيهما، بارد Bard ولاما LlaMA. يأمل إيلون ماسك، بلا شك، بفقدانه الريادة، أن تتيح له استراحة مدة ستة أشهر، استدراك التأخر.
قبل معرفة حتى ماهية قدرة هذه البرامج بالفعل، يتنافس رأسماليو، وقادة جميع أنحاء العالم حول من سيحقق أرباحاً منها. من سيحصل على حقوق طبع، ونشر ما ألفه جهاز كمبيوتر من كتاب أو صورة؟ من عليه دفع الغرامة، إذا انتهك محتوى معيناً القوانين؟ يعلم الجميع، أن من ينجح في بسط احتكاره، يكون في وضع قوي لفرض شروطه. حظرت حكومة الصين شات جي بي تي لتعزيز نسخة منافسة، إيرني بوت Ernie Bot، طورتها مقاولة صينية. تنتشر المعلومات بسرعة الضوء، في المجال الرقمي، كما هو الحال في جميع المجالات الأخرى، لأن المنافسة الرأسمالية بحدودها، ونزعتها الحمائية، تملي قوانينها. في هذه الحرب الاقتصادية، لا توجد اعتبارات فلسفية حول مستقبل الحضارة، إلا لتكون بمثابة ستار لقرارات التروستات ومن يخدم مصالحها من دول.
«إطار» في خدمة الرأسماليين دوماً

الصراع أشرس بقدر ما يعتبر الرأسماليون ودولهم، على حد سواء، هذه الخوارزميات المسماة ذكية، قطاعا استراتيجيا. سواء تعلق الأمر بتوقع تطورات السوق لتكييف استراتيجيتها التجارية، أو امتلاك أحدث الأسلحة «الذكية» – مثل الجنود الآليين الذين نشرتهم مقاولة سامسونج على حدود كوريا منذ عام 2013، والقادرة على تحديد هدف وإسقاطه تلقائيا، على بعد أكثر من 3 كيلومترات- يتوقعون اعتمادهم مستقبلاً على التروستات التي تكون قد نجحت في فرض تحكمها بالقطاع. مقاولات المجال الرقمي العملاقة في أمثل وضع لمعرفة ذلك، بقدر ما أن هذا بالضبط ما قامت به قبل عشرين عاما: عبر التحكم بإنترنت، أصبحت مقاولة جوجل، في غضون بضعة سنوات، من أكبر المقاولات في العالم، برسملة سوقية تتجاوز بكثير قيمة تروست النفط إكسون موبيل مث ExxonMobil، أو بنك استثماري مثل غولدمان ساكس Goldman Sachs.
يكمن أساس فكرة هذه المواجهة في مسألة البيانات المستخدمة لإحداث هذه البرامج، أي جميع النصوص، والصور، ومقاطع الفيديو المخزنة في خوادم أجهزة الكمبيوتر. تمثل هذه البيانات سوقا عملاقة، وفي أوجه توسعها: في عام 2020، أنتج مستخدمو الأجهزة الإلكترونية 64 زيتابايت، أي ما يعادل 64 مليار محرك أقراص صلبة. آنذاك، قدر ويلبر روس Wilbur Ross، وزير التجارة سابقاً، في عهد دونالد ترامب، قيمة البيانات المتبادلة بين أوربا، والولايات المتحدة الأمريكية، بمبلغ 7100 مليار دولار. المنافسة شرسة لمعرفة من يستطع استخدام هذه البيانات، وبأية شروط. في عام 2015، ألغت محكمة العدل الأوربية معاهدة الملاذ الآمن، التي كانت تنظم عمليات نقل البيانات بين الاتحاد الأوربي، والولايات المتحدة الأمريكية، ورأت أنها «لم تكن تحمي خصوصية مواطني أوربا بما يكفي». أما معاهدة درع الخصوصية بين الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية، التي حلت محلها، فألغيت بدورها عام 2020، لنفس السبب.
تضطر مقاولات أوربا الراغبة في الاستفادة من توقعات خوارزميات عمالقة مقاولات التكنلوجيا، لتكييف استراتيجيتها مع تطورات السوق، ليس وحسب إلى منحها حصة من أرباحها، لكن أيضا إرسال معلومات إليها حول زبنائها، ومنتجاتها، وسيرورات صناعتها، وتخشى أن ينتهي بها الأمر في أيدي المنافسين. وعلى النحو ذاته، ترفض دول أوربا بتاتاً، منحها بيانات سرية واستراتيجية، قد تحصل عليها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية. وراء ستار تصريحات كبار المسؤولين الأوروبيين العامة حول «الدفاع عن الخصوصية»، حماية المصالح الخاصة لرأسماليي أوربا ضد احتكار المقاولات الأمريكية لسوق المجال الرقمي.
يعول من يطالبون بوضع إطار لاستخدام هذه التكنولوجيات الجديدة على الدول، وفي المقام الأول أقواها، لفرض هذه السيطرة. صرح إليعازر يودكوفسكي Eliezer Yudkowsky(مدير معهد أبحاث الذكاء الاصطناعي MIRI) في حوار مع مجلة تايم الأمريكية، يوم 29 آذار/مارس، بعدم كفاية توقف ستة أشهر، لأن الأمر يتطلب حظرا كاملا، في العالم برمته. لا ينبغي، على حد تعبيره، التردد في التدخل عسكرياً، لفرض هذا الحظر: «إذا أشارت أجهزة الاستخبارات إلى أن بلداً خارج الاتفاقات قيد تصميم مجموعة وحدات معالجة الرسومات GPU [معدات أجهزة الكمبيوتر المستخدمة لتصميم برامج التعلم الآلي]، لا تخافوا نزاعا مسلحا بين الأمم، أكثر من خشية انتهاك التوقف عن تصميم برامج الذكاء الاصطناعي؛ واستعدوا لتدمير مركز بيانات غير قانوني عبر القصف عسكرياً». مع نهج سياسة كهذه، ليس الذكاء الاصطناعي هو الذي يمثل خطرا مميتا!
هذا يشير إلى ما قد يبدو عليه اتفاق دولي بشأن الذكاء الاصطناعي. توجد بالفعل معاهدات مماثلة ضد انتشار الأسلحة الذرية. تنص عملياً، على ضمان احتكار الدول الكبرى لهذه الأسلحة، بما في ذلك أكثر الأساليب وحشية. قامت إسرائيل مؤخرا بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، الدولة الوحيدة التي استخدمت القنبلة الذرية ضد مدينتين في اليابان، بقصف مركز نووي في إيران، بمبرر منع انتشار الأسلحة الذرية. في عام 2003، غزت الولايات المتحدة الأمريكية العراق ودمرته، باسم مكافحة الأسلحة البكتريولوجية والكيميائية. في إطار الرأسمالية، لا يمكن أن أن يندرج «تنظيم إطار الذكاء الاصطناعي» إلا في ما تفرضه القوى الإمبريالية العظمى من قانون، وفقا لمصالح رأسماليي أوطانها.

التحكم بتنظيمنا الاجتماعي بوعي: معركة يتعين خوضها
يمثل استمرار خطر انقلاب أعظم الاكتشافات العلمية، ضد مصالح أغلبية البشر الساحقة، أحد أعراض عجز المجتمع كلياً عن التقدم، في إطار قانون السوق، والمنافسة الضيق لتحقيق الربح. قد تصبح خوارزميات التعلم خطوة هائلة إلى أمام، مما يوفر ملايين ساعات عمل البشر، إذا كانا توظيفها لتخطيط كيفية اشتغال الاقتصاد. توفر إمكانية رقمنة المهام المتكررة في تدبير المخزونات، والإدارة، والمحاسبة. بناء على المعلومات المقاسة سابقاً، قد تقدر الحاجات المستقبلية، عبر التكيف مع دورات الإنتاج والمواسم، الخ. توجد المصانع المليئة بأجهزة الاستشعار، وتتمركز البيانات التي يتم قياسها أثناء سيرورة الإنتاج على خوادم الكمبيوتر، وستتيح الخوارزميات تشغيل مصانع بأكملها، وحتى سلاسل إنتاج كاملة. لكن، لا يمكن تنفيذه ذلك كله، إلا عن طريق القضاء على الملكية الخاصة، لمركزة المعلومات في جميع مراحل السلسلة. مما يستدعي مسبقا تولي البشر زمام أمور تنظيمهم الاجتماعي.
لا تفرض الرأسمالية المتعفنة قيودا على تطور البشر اقتصادياً، ومادياً وحسب، بل تعيق أيضا تطورهم الفكري. أصبح من الشائع على نحو متزايد، بما في ذلك في الأوساط الأكاديمية، الادعاء بإحلال الفهم العلمي مكان التعلم الإحصائي. قالت فريدريك فيدال Frédérique Vidal، الباحثة، ووزيرة التعليم العالي والبحث سابقا، في عهد ماكرون، في خطاب، عام 2017، بالمعهد الفرنسي للأبحاث في علوم الحاسب الآلي والأتمتة INRIA: «يشهد العلم […] ثورة ايبيستمولوجية مع تنفيذ «نمط برمجة رابع» من الاكتشاف العلمي، منذ عشر سنوات وحسب، عبر التحليل والاستغلال المكثف للبيانات، دون حاجة مسبقا، إلى نموذج يصف الواقع.» لكن، لا يمكن أن يؤدي تحليل البيانات، إلا إلى توصيف العالم، في حين يحدد نموذج أسبابا، ونتائجا تتيح التأثير فيه. وهكذا، تمكن كيبلر من وضع قوانينه التي تصف مدار النجوم والكواكب، انطلاقاً من البيانات التي جمعها عالم الفلك تيخو براهي. لكن النموذج الذي اخترعه نيوتن أتاح تصور قوة جاذبية صالحة، ليس وحسب للكواكب ولكن أيضاً، لجميع الأجسام، التي تستخدم اليوم في قيادة الطائرات، ووضع الأقمار الاصطناعية في المدارات. وبالتالي، يعتبر وضع الاثنين على نفس المستوى، وجهة نظر محافظة، تستتبع التخلي عن إيجاد ركائز للتأثير في حولنا من عالم.
إن هذا الافتقار إلى المنظور سمة من سمات مجتمع في أزمة. تزدري البرجوازية المنحطة تراثها. في القرنين 17 و 18، عندما كانت البرجوازية ثورية، وتحارب سلطة النبلاء، أنجبت نيوتن Newton، وديدرو Diderot، وفولتير Diderot، وأمثالهم. كان هؤلاء المفكرون يسعون إلى النظر بعيدا في المستقبل، وتحليل المشاكل العلمية، والاجتماعية لمعالجتها من جذورها. تحلوا بجرأة مواجهة المجتمع في عصرهم، لفتح طريق جديد، وبطريقتهم الخاصة، خوض غمار المجهول: في عام 1600، بلغت الكنيسة حد إدانة جيوردانو برونو Giordano Bruno والحكم عليه بالمحرقة، لأنه كان يؤكد ضرورة البحث عن الحقيقة في دراسة العالم الواقعي، وليس في النصوص المقدسة. في مقدمة الموسوعة، الصادرة عام 1751، صاغ فيلسوف عصر الأنوار دالمبرت d’Alembert، هذا البرنامج الطموح: «إذا جاز لنا قول ذلك، سيكون الكون، بالنسبة لمن بوسعهم فهمه، من وجهة نظر واحدة، مجرد واقع فريد، وحقيقة عظيمة». على الرغم من أوجه القصور في فهمهم كيفية اشتغال الطبيعة، بسبب الحدود التقنية لأدوات الملاحظة، آنذاك، تجرؤوا على اثبات أن ذكاء البشر كان قادرا على فهم العالم، دون وجود إله لمساعدتهم. واستنتج أبرزهم من ذلك، ضرورة أن يتمكن هذا الذكاء البشري من تنظيم المجتمع بدون ملك.
لا يمكن أن يكتسب هذه الجرأة الفكرية إلا طبقة اجتماعية لديها ما يجب تقديمه للمجتمع من ثقة في المستقبل، وهذا الوضع تغير كلياً، بالنسبة للبرجوازية، منذ ما يفوق قرن بكثير. إن تطور البرجوازية الفكري دليل على أن تاريخ فكر الإنسان ليس تطورا تجريدياً بطيئا، من ظلامية الجهل إلى تنوير العقل. بل يعكس الاضطرابات الاجتماعية وصراع الطبقات. ويشكل نتيجة نضالات النساء والرجال. هذا ما عبر عنه ماركس في عام 1845: «لم يقم الفلاسفة إلا بتفسير العالم بطرق مختلفة، لكن الأهم تغييره». ليست هذه النضالات ثمرة نساء ورجال عباقرة، ورجال ونساء عظماء، يقودون المجتمع إلى إحراز تقدم إلى أمام، مرة واحدة في القرن. لا يستمد أعظم المثقفين أفكارهم من العدم، بل من مقدرتهم، في واقع العلاقات الاجتماعية، والمصالح الطبقية المتعارضة التي تمزق المجتمع، على إيجاد إجابات عن الأسئلة المثارة في عصرهم. تمثلت عبقرية ماركس في إدراك أن الطبقة الاجتماعية الوحيدة القادرة على حل التناقضات القاتلة، التي يتخبط فيها المجتمع الرأسمالي، هي الطبقة العاملة، لأنها بدون ملكية خاصة للدفاع عنها.
لا يمكن بثقة، تصور مستقبل يتولى فيه البشر زمام أمور مصيرهم بوعي، ويتحررون من أغلال المنافسة بين الرأسماليين، ويشتركون مصانعهم ومصارفهم وخوادم حواسبهم، ويضعونها في خدمة حاجات الجميع، إلا عبر تبني هذه الأرضية الشيوعية. مستقبل تتيح فيه هذه الخوارزميات، الذكية بالاسم وحسب، جنبا إلى جنب مع قوى الإنتاج الهائلة الموجودة، تحرر دماغ البشر من ارهاق روتين العمل المنتج، والتركيز على أنشطة ذكية بالفعل. بتحرير جماهير ضحايا الاستغلال من ضرورة الحرص على بذل قصارى جهدهم للبقاء على قيد الحياة، ستتيح لهم هذه الخوارزميات التثقيف، والاستمتاع بالترفيه، والعلوم،ـ والفنون، التي تشكل اليوم امتيازاً لأقلية صغيرة. ستتمكن البشرية، في آخر المطاف، بتعميم هذا الازدهار الفكري، عبر تحرير العلاقات الاجتماعية من سجن البؤس المادي، والمعنوي، من الكشف عن إمكاناتها الكاملة: كم من أمثال أرخميدس Archimède وموزارت Mozart وماري كوري Marie Curie الذين سنكتشفهم بعد ذلك؟ على حد تعبير تروتسكي: «ستعني الاشتراكية قفزة من عهد الضرورة إلى عهد الحرية، بمعنى أيضاً أن انسان اليوم، المليء بالتناقضات، وغير المنسجم، سيمهد الطريق لأسعد جنس انساني جديد».

9 أيار/مايو 2023
مجلة النضال الطبقي Lutte de Classe عدد 232 أيار/مايو-حزيران/يونيو 2023 [1]

رابط المقال:
https://mensuel.lutte-ouvriere.org/2023/05/14/intelligence-artificielle-remplacer-lintelligence-humaine-ou-la-liberer_664036.html

شارك المقالة

اقرأ أيضا