دراسة أولية في أصول القضية الأمازيغية

الامازيغية19 أبريل، 2015

كانون الثاني (يناير) 2007
المناضل-ة عدد: 15

بقلم: أزنزار

صارت “القضية الأمازيغية”، منذ إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، حديث الكل مع الكل. فسواء أكانت الهيئة المنادية بإنصاف الأمازيغية “الآن” مناصرة لهذه القضية قبل إحداث المعهد أو غير مناصرة، فقد ضاع النقاش العلمي لهذه القضية في لجة الاسترزاق بها والدفاع الخاطئ عنها.
وتكاثرت الأحزاب الملتحقة بركب الدفاع عن “الموروث الثقافي” و”الخصوصيات الإثنو- ثقافية”؛ حيث خصصت فقرات بكاملها للأمازيغية في مقرراتها الحزبية، وكثرت صفحاتها على جرائدها. وهناك مبادرة من اليسار بتقديم أوراق في الموضوع، وبإدراجها ضمن الإصلاحات الدستورية المطالب بها.
كل هذا خارج نقاش علمي متأن لأصول القضية وواقعها الحالي والتصورات المتنافسة في إطارها ومدى قدرتها عن الدفاع عن المطلب. حيث ساد نوع من النقاش المبسط- يتناول الجوانب السياسية فقط- يكون الغرض منه إرضاء الجمعيات ومثقفي الأمازيغية بتبنيهم للقضية وخلع تهمة الشوفينية والعصبوية عنها، أو استعمالها انتخابيا ولاستقطاب الأتباع، الذين أصبحوا متضايقين من عدم اهتمام أحزابهم بلغتهم وثقافتهم. حينها يكون تناول القضية تبريريا وليس علميا.
لا ندعي أن هذه الورقة مكتملة، خاصة في نقاش شوشه الغموض والتمييع. لكن هذه الورقة اعتمدت منهاجا، رغم تأبينه أكثر من مرة، هو المنهج الأكثر إجابة عن متطلبات الباحث، وتحاول أن ترد الظاهرة موضوع الدراسة إلى أصلها الأول، أي النظر في التاريخ الطبقي- السياسي للمغرب، وكيف ساهم تفكيك البنيات الاقتصادية والاجتماعية في المغرب على دفع الأمازيغية إلى دائرة الانقراض. هذا المنهج هو المنهج الماركسي، الذي سبق أن تناول القضية القومية والثقافية، ما يغني يسارنا عن الالتجاء إلى ثقافة المواثيق وحقوق الإنسان.

لماذا تخلفت الأمازيغية؟
يقول أحمد بوكوس واصفا الوضعية العامة للغات بالمغرب: “تعرض اللغات والثقافات المتواجدة في الساحة كبضاعة في سوق الممتلكات الرمزية. وتشكل السوق اللغوية في آن واحد نمطا من قوانين مكونة لأثمنة المنتوجات اللغوية، وتعاملا خطابيا على شكل معاملات لغوية. وتشهد هذه السوق رواج الممتلكات اللغوية الكفؤة مجتمعيا، بمعنى أن هذه الممتلكات تتقوم وتتراتب في إطار منافسة اجتماعية دائمة”.
ما هي معايير هذه المنافسة، وكيف تحدد أثمنة المنتوجات اللغوية؟ ما هو قانون السوق اللغوية؟ ما هي الشروط التي تجعل من بعض الممتلكات اللغوية كفؤة مجتمعيا ومن البعض الآخر غير ذلك؟ هذا ما سنحاول تناوله في هذه الورقة.
تعتبر وضعية الأمازيغية المتخلفة مقارنة مع لغات أخرى، صورة جزئية عن التخلف العام الذي وجد المجتمع المغربي نفسه يتخبط فيه مقارنة مع بلدان أخرى (أوربا وأمريكا)، عندما قدمت الطلائع الأولى للاستعمار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
كان المجتمع المغربي، في هذه الأثناء، يعيش تجزئة سياسية ويتخبط في صراع دموي وقاس بين القبائل من جهة حول موارد العيش (الأرض والمراعي، وموارد المياه، صراعات الثأر والثأر المضاد)، وبينها وبين المخزن والقياد من جهة أخرى حول امتناع هذه القبائل عن أداء الضرائب الجائرة التي زادتها استفحالا الأزمة المالية لما بعد هزيمة إيسلي، وتراكم الديون على خزينة المخزن.
كان التخلف السمة الأساسية لحياة المغاربة في كل مجالاتها، الاقتصادي والإداري والرمزي (الإنتاج الثقافي). فالفلاح المغربي لا زال يفلح أرضه بأدوات عتيقة تكثر نسبة الخشب فيها (موروثة في جلها عن عشرات القرون)، في الوقت الذين كان الجرار البخاري يقلب أرض أوربا رأسا على عقب. وفي حين يمخر القطار البخاري عباب أراضي أوربا، كانت التجارة الداخلية والنقل تتم على ظهر البهائم وبواسطة العربات التي كانت منعدمة في بعض المناطق لعدم وجود الطرق. ففي كل المغرب لم يكن هناك طريق مرصف ما عدا طريق واحد بين فاس ومكناس”
اعتمدت الصناعات البسيطة على وسائل إنتاج بسيطة، ولم تتح إمكانية صناعة متقدمة أو مردودية كبيرة في الإنتاج، ولا فائض قيمة هام. لقد كانت وسائل الإنتاج في المجتمع القبلي المغربي… في مستوى كبير من البساطة، لا تكسب إلا القليل من الدخل، فالحرف والمهن لم تكن قادرة على إغناء ممتهنيها نظرا لقلة الموارد الضرورية التي تمكنهم من إحداث معامل كبرى. لقد كان الإنتاج في المجتمع المغربي إنتاج كفاف واكتفاء ذاتي، على أرضية فقر مدقع رغم أن المغرب عاش أيام عزه عندما كان ينشط تجارة الذهب بين أفريقيا وأوربا عن طريق القوافل.
وكانت الخدمات الطبية منعدمة تماما ومقتصرة في أغلبها على التطبيب الطبيعي (الكي بالنار، العسل، مستخلصات الأعشاب، أو التعاويذ…) والأمية متفشية والتعليم مقتصر على الجانب الديني. ليس بالغريب- والحالة هذه- أن تعيش الأمازيغية إذن، نفس وضعية التخلف والتدني، ففي الوقت الذي وجدت في اللغات في أوربا وسائل حديثة (تطور علوم اللسانيات، التدريس بالمدرسة العمومية، الجامعات والمعاهد) لإعادة إنتاج وتطوير نفسها، اعتمدت الأمازيغية لإنتاج وإعادة إنتاج قيمها الرمزية واللغوية على وسائل تقليدية تماما. فقد كانت الثقافة الأمازيغية ثقافة ذات تقليد شفوي بالأساس…تلتجئ لإعادة إنتاج ذاتها والاستمرار إلى الأساليب التقليدية التي تستعملها الثقافات الشفوية: حيث يتم توارثها عن طريق المحاكاة والتقليد والرواية الشفوية… وقد ارتبطت هذه الثقافة بالمجتمع الأمازيغي التقليدي ومؤسساته كالأسرة والعشيرة والدوار والقبيلة، ولابد أن أي اضطرابات ستعتري هذه المؤسسات ستنعكس على وضعية الأمازيغية، وهو ما وقع فعلا مع دخول الاستعمار وبناء ما سمي بـ”الدولة الحديثة”.
ورغم ذلك عرفت الأمازيغية نوعا من التوازن الهش على غرار كل مناحي حياة المغاربة آنذاك، فقد كانت مستعملة في كل مرافق الحياة العامة (في العمل بالحقل، في المسجد والمناسبات الدينية وحتى الرسمية، وعند القائد أو الشيخ..). كان الإنسان الأمازيغي يعيش حياته من خلال لغته وثقافته المحدودة لمحدودية تطور المجتمع، ولم يعرف انفصال عالمه اللغوي الخاص (الخاص باللغة الأم) عن عالم يعيشه بلغة أخرى إلا مع قدوم الدولة “العصرية” مع الاستعمار، بإداراتها ومدرستها، التي همشت كل ما له علاقة بالأمازيغية.

عوامل صمود الأمازيغية؟
يميل التبسيطيون داخل الحركة الأمازيغية إلى رد الوضعية الحالية للأمازيغية، إلى التأثير الشرقي ومحاولة حركة القومية العربية أتباع البعثيين، القضاء على الثقافات واللغات لصنع انسجام داخل ما يسمى الوطن العربي. ويربطون ما وقع للأمازيغية بلحظات كرونولوجية معينة (اتصالات شكيب أرسلان مع رجال الحركة الوطنية، ظهير 16 ماي 1930، امتداد الفكر القومي ابتداء من خمسينيات القرن العشرين مع صعود نجم عبد الناصر..)، ويميل نظراؤهم المناصرين للتعريب، إلى الدفاع عن أطروحة التعريب السلس والسلمي للمغاربة الذين اختاروا العربية عن وعي. غافلين عن الأسباب الحقيقية الكامنة في التدمير والتفكيك الممنهجيين الذين أحدثهما الاستعمار في البنيات القبلية التقليدية التي حمت الأمازيغية من الانقراض لعدة قرون.
لخص الباحث الجزائري سالم شاكر عوامل صمود الأمازيغية في: الجغرافيا (انزواء المناطق الجبلية على نقيض المناطق السهلية والسهول العليا المتاخمة للصحراء. التي تعرضت لتعريب مبكر لكونها تسمح بتنقل واستقرار سهلين لسكان ناطقين بالعربية قادمون من الشرق ولولاة السلطات الحضرية ذات اللسان العربي)، وعامل نظام الإنتاج وحيازة الأرض، والعامل السياسي: عدم قدرة أنظمة الحكم المركزية في مراقبة هذه المناطق مراقبة دائمة وكانت على العموم ذات حياة سياسية ومستقلة، عن تأثير وإدارة الحكم المركزي.
عامل “نظام الإنتاج وحيازة الأرض”
كان نمط الإنتاج السائد في المغرب، كغيره من البلدان التي سادت فيها بنيات إنتاج ما قبل رأسمالية، معتمدا بالأساس على الأرض. فقد كانت ” تعتبر (الأرض) المحرك الأساسي للوحدات الاجتماعية في كل المجتمعات الزراعية، وكانت في المغرب ولا تزال البؤرة المحورية التي يحتدم حولها صراع تلك الوحدات الاجتماعية سواء كانت حضرية أو ريفية” (الهادي الهروي: القبيلة، الإقطاع والمخزن). وكانت توفر الحدود الدنيا للبقاء، في مجتمع لم تتطور فيه وسائل الإنتاج منذ القرون الوسطى، كما كانت أساس الثروة والسلطة والنفوذ.
انحصر العمل في المجتمع المغربي في الفلاحة المعاشية وتربية المواشي، الشيء الذي يجعل من الأرض موضوعا للعمل، وفي نفس الوقت وسيلة أساسية له. كان الشكل الطاغي للملكية- داخل القبيلة بالخصوص- هو الملكيات شبه- الجماعية، وتشمل أراضي الجيش وأراض القبائل (الجماعة) والأراضي التي لا وارث لها، لكن الملكية وأصول الحيازة وحدها هي الجماعية أما الاستغلال ففردي/ أسري، حيث تقسم الأراضي على الأسر. في حين عرفت مناطق تحكم السلطة المركزية أشكالا متطورة من الملكية الخاصة، فقد كانت الملكيات الشاسعة في حوزة السلطان وبعض أفراد المخزن والأعيان وبعض العائلات الكبرى.
كانت كل أوجه حياة الإنسان المغربي مرتبطة بإنتاجه المادي، وهذا الأخير مرتبط بشكل ملكية وسائل هذا الإنتاج. إن الملكية شبه الجماعية للأرض (التي فرضتها الظروف المناخية القاسية وطبيعة التقنيات التقليدية) تنعكس في الطابع المساواتي للقبيلة. وعلى هذه القاعدة المادية انبنى شكل معين من العلاقات بين السكان والأسر والقبائل؛ خلقت الأسر والعائلات وكذا القبائل، وطورت شبكة من العلاقات الاجتماعية من أجل تحقيق الاستقرار وتعويض ما ينتج عن تعسفات المجال وقساوة الطبيعة وضعف التقنية وندرة الموارد الحيوية. في مثل هذه الظروف تصبح الجماعة هي المعيار الوحيد لكل مبادرة لا يحيد عنها أي فرد، لأن الإيديولوجية التي تحركها تستمد مشروعيتها من تمجيد سلوك التعاون والتضامن بين الأفراد سواء على المستوى العائلي أو على مستوى القبيلة.
كانت القبيلة منقسمة إلى وحدات أسرية (الفرضات)، تكون هي المعيار المعتمد في تقسيم الأراضي والواجبات والحقوق. و كانت الأسرة أبوية، حيث الأب رئيس الأسرة ويتحكم في الموارد المادية، ويمتلك عددا من الزوجات ويتحكم في مصير الأولاد، الذين كانوا ضروريين كسواعد لفلاحة الأرض. كانت الأسرة موحدة وتحكمها علاقات تضامن وتعاون قوية، هي الكفيلة بضمان بقاء أفرادها في مجتمع تتحكم فيه الطبيعة والنزاعات حول موارد الحياة فيه يومية.
في هذه الظروف عاشت الأمازيغية (لغة وثقافة وهوية) قرونا لا تعتريها اضطرابات، كالتي عرفتها في القرن العشرين، لكنها انقطعت عن مسيرة التطور التي عرفتها سائر اللغات الأخرى، الأوربية منها بالخصوص. وهذا شأن كل مناحي حياة المجتمع المغربي الذي انعزل عن التحولات العلمية والصناعية خصوصا في أوربا.
العامل السياسي
يتفق جل المؤرخين على ظاهرة أساسية وسمت التاريخ المغربي، خصوصا منذ النصف الثاني للقرن 19. إنها ظاهرة انشطار المغرب إلى قسمين “بلاد المخزن” و”بلاد السيبة”، وحتى المخزن في وثائقه يشير إلى هذه الازدواجية بنعته مناطق السيبة المخضعة بكونها “حديثة العهد بالمخزن”.
هذا التفكك السياسي وانعدام الوحدة السياسية، ليست ظاهرة خاصة بالمجتمع المغربي، بل عرفتها جل البلدان التي سادت فيها بنيات إنتاج ما قبل رأسمالية. ولذلك اعتبر تحقيق الوحدة السياسية من بديهيات مهام الثورات البورجوازية في تلك البلدان. كان من شأن تطور الرأسمالية كنظام اقتصادي أن يدفع تلك الوحدة إلى التحقق، ومن شأن عدم تطوره الإبقاء على حالة التفكك وتنمية النزعات المعادية للمركزة.
عاش المجتمع المغربي نفس دورات تعاقب الأنظمة السياسية التي عاشتها بلدان من نمط إنتاج آسيوي: اضطهاد النظام السياسي الذي يرتخي تحكمه بالبلاد، ارتفاع الضرائب على الفلاحين التي يزيدها فداحة قساوة الطبيعة وتحكمها أكثر في الإنتاج (الكوارث الطبيعية والأوبئة..)، تسلط الموظفين والبيروقراطيين الذين يستغلون ارتخاء الروابط مع الحكم المركزي، تمرد الفلاحين، ظهور قائد من عائلة أو قبيلة قوية وتزعمه لانتفاضة الفلاحين، بناء دولة جديدة، توسع هذه الدولة وحاجتها إلى موارد مالية هائلة لتمويل البلاط والجيش، مما يدفعها من جديد إلى رفع الضرائب على فلاحين مملقين أرهقتهم صعوبة المجال، فتعيد نفس السيناريو. كان هذا وراء تعاقب الأسر الحاكمة بالمغرب منذ المرابطين.
كان المغرب بلدا متخلفا، لكنه تخلف ذو طبيعة استثنائية يغلفه ماض عريق. عرف المغرب أوج حضارته(ق 12/13) في عهد المرابطين والموحدين والمرينيين الأوائل (حكموا خلالها الأندلس وشمال أفريقيا وجزءا من بلاد السودان). ارتكزت على ازدهار اقتصادي نابع من نمو التجارة بعيدة المدى (إسبانيا والمراسي الأوربية الموجودة بالمتوسط والسودان). تعزز بذلك الإنتاج الصناعي؛ حيث تضاعفت الصناعات التقليدية في المراسي والواحات والمدن الداخلية، وكان هذا محفزا لنمو المدن الكبرى فاس ومراكش. وتعددت واتسعت المبادلات الداخلية وكان لذلك انعكاسات هامة: سيطرة الاقتصاد الحضري تدريجيا على الحياة القروية دون أن تعرف التقنيات التقليدية أي تطور.
استفادت الدولة المغربية من هذا الازدهار لتؤمن الاستقرار السياسي خلال ق 12 و13 ساعد على تطوير الازدهار المذكور: استرجاع البلاد استقرارها بعد خمود الصراع حول السلطة. هذا الاستقرار لم يكن ممكنا إلا بفضل الرخاء الاقتصادي الذي يضمن للسلطان الموارد الضرورية لتموين جهاز الدولة الإداري والعسكري.
تأمن هذا الاستقرار بفضل نشاط بورجوازية قوية ومثقفة، كانت أكبر مستفيد من النشاط الذي كانت تحركه وتسيره (مد المخزن بالكوادر ورجال الدولة)، وكان من مصلحتها أن تتدعم السلطة المخزنية بغية توسيع هيمنتها على البلاد.
لكن هذا الازدهار لم يدم، أولا لأن ما قام عليه ليس نابعا من تطوير قوى الإنتاج بالمغرب، بل معتمدا على ما تدره تجارة الوساطة بين أفريقيا وأوربا، وثانيا لأن الفوائض التي حققتها هذه التجارة صرفت على ترف السلاطين وبناء القصور، بدل أن توجه إلى تحسين تقنيات الإنتاج. وثالثا لأن تجارة الوساطة هذه شهدت تراجعا تصاعديا بتغير المحاور التجارية من الصحراء والبحر المتوسط نحو المحيط الأطلسي بعد موجة الاستكشافات الجغرافيا. ما ساهم في تقلص النشاط الحضري، وضعفت البورجوازية التجارية بينما استعادت القوى الإقليمية (القبائل والزوايا) قوتها.
وقد لخص ألبير عياش (المغرب والاستعمار، حصيلة السيطرة الفرنسية) أسباب هذا الانحطاط في:
* الضعف الذي لحق بالبورجوازية التجارية الغنية والقوية، والتي لم تتمكن من استكمال عملية التوحيد الاقتصادي والسياسي للبلاد، بعد أن أوشكت على ذلك في عهد الموحدين
* الغزو الثلاثي خلال ق 15/16 والضعف الذي لحق بالتجارة الصحراوية، وتفوق الأساطيل الأوربية التي حرمت على المسلمين، ابتداء من ق17، الملاحة الحرة في الأطلسي والمتوسط، مما أدى إلى تفكيك التيارات التبادلية التقليدية (تحويل الطرق التجارية).
* الغزو البرتغالي: احتلالهم المراكز الساحلية والإغارة على القبائل بالنهب والسبي، تخريب جزء كبير من الصناعات المحلية التي كانت تنشط المدن، القضاء على الملاحة المغربية الساحلية وإبعادهم للأساطيل الأجنبية واحتكروا المبادلات البحرية واحتفظوا بهذا الاحتكار مدة طويلة.
كانت هذه إذن مسيرة الانحطاط التاريخي التي عرفها المغرب (لا يمكن للحظة تاريخية استطاع فيها السلطان إسماعيل توحيد المغرب عكس هذه المسيرة)، انتهى فيها المغرب إلى تجزئة سياسية مستديمة ومتوترة. عرفت فيها القبائل المغربية استقلالا– لا تقلصه إلا الحركات السلطانية بهدف إجبار القبائل على أداء الضرائب- في تسيير شؤونها الداخلية. هذا “الانعزال” السياسي ساهم بشكل كبير في مد الأمازيغية بعوامل الصمود. وستنتفي هذه العوامل، على إثر الضغوط الاستعمارية وما فرضته من ضغوط مالية، سيلجأ المخزن لتخفيفها إلى زيادة عبئه المالي، على القبائل التي ردت بالرفض والتمرد. واجه المخزن هذا التمرد بزيادة صلاحيات القواد والباشوات- الذين استغلوا سلطهم للاغتناء على حساب القبائل- مما أنهك القبائل وأنهك مؤسساتها السياسية. وفتح ذلك المجال لتفكك الملكية شبه الجماعية للأرض والقضاء على القبيلة كمؤسسة سياسية. وعمق مجيء الاستعمار هذه الاتجاهات باستبداله المؤسسات المخزنية العتيقة بمؤسسات شبه عصرية مع الإبقاء بالنافع منها.
حدود القبيلة المغلقة جغرافيا والمستقلة نسبيا عن الحكم المركزي (ما يسميه الحسين وعزي العناصر التقليدية للهوية الأمازيغية)، حيث يعاد دمج هذه القبائل بشكل دوري بواسطة “الحركات أو المحلات السلطانية”، وعلاقات التضامن والتعاون السائدة في المجتمع القبلي المغربي، المنبنية على شكل معين من حيازة الأرض (ملكية شبه- جماعية) هو ما جعل الأمازيغية تقاوم الاجتثاث وخطر الانحباس وعدم التطور.
أكيد أن انتفاء عوامل الصمود هذه ستؤثر في التوازن الهش الذي عاشته الأمازيغية، فقد كانت الثقافة الأمازيغية شأن كل الأنشطة الحياتية لسكان المغرب مرتبطة بالأرض ونظام الحيازة وأشكال استغلالها، وكان لكل زعزعة لشكل استغلال الأرض أن يؤدي إلى نفس النتيجة على أنشطة البشر ومنها إنتاجه الرمزي والثقافي. وهنا التحدي الذي طرحه سالم شاكر على الأمازيغية؛ “وها هنا بالضبط تلعب الأمازيغية، في هذه اللحظة الراهنة بالذات (وفي العقود القليلة القادمة) حظها التاريخي الأخير: أن تكون أولا تكون. ها هي ذي المسألة المطروحة من الآن فصاعدا على الناطقين بالامازيغية الذين لم تعد لغتهم ولا ثقافتهم محمية من طرف الجغرافيا ولا من طرف أشكال التنظيم الاجتماعي التقليدية”.
تفكيك الملكية الجماعية للأرض، إدخال نمط الإنتاج الرأسمالي وما صاحبه من تغيرات اقتصادية واجتماعية وتأثير ذلك على ساكنة المغرب (الهجرة، ظهور الطبقة العاملة..)، إعادة بناء المخزن ومده بوسائل الدولة العصرية وتوحيد البلاد تحت حكمه. كلها عوامل دفعت الأمازيغية إلى دائرة التهميش وهددتها بالانقراض.

تفكيك الملكية الجماعية للأرض، والقضاء على القبيلة كوحدة سياسية:
يقول أحمد بوكوس متمما تحليله لوضعية الأمازيغية: “وبالتالي فإن وضعية القيمة المنقوصة التي تعيشها اللغات الشعبية والثقافات التي تنتقل بواسطتها هي النتيجة المنطقية لموازين القوى التي تحرك التشكيلة الاجتماعية المغربية في هذه اللحظة الراهنة من تاريخها”. ما هي موازين القوى التي تحدث عنها بوكوس؟ ما الذي استجد عندما طال الانقراض الأمازيغية في بضعة عقود؟
إن الطابع الجماعي لحيازة الأرض مقتصر على المستوى الرسمي فقط، “… إن الملكية جماعية فيما يخص تعيين الأرض ولكنها أسرية فيما يتعلق بالعمل. فرب الأسرة يتمتع من القبيلة بقطعة من الأرض. فالجماعة، كجهاز إداري..، هي التي توزع الأرض وتقسم حصص المياه وتعين الساهرين على السواقي والقنوات بالتناوب، كما أنها لا تفرض على المستفيد نوعا من الفلاحة بل هو حر في ذلك..” (الهادي الهروي.. مرجع سابق).
داخل هذا الشكل الجماعي لحيازة الأرض ظهرت البوادر الأولى لتفكيكه وظهور الملكية الخاصة، فقد لوحظ وجود تراتب حتى داخل أراضي الكيش تنظمه علاقات عمودية بين “السلطان الذي يمنح الأراضي لمن يشاء على شكل تنفيذة”، وقياد الجيش يعيدون توزيعها تبعا لمقياس امتلاك “زوجة الحرث”. وعرفت محاولات عديدة من طرف “القواد وإيمغارن” والزعماء الذين كانوا يستغلون نفوذهم ومكانتهم الاجتماعية داخل القبيلة للسطو على الأراضي وامتلاكها، وهو الأمر الذي ابتدأ منذ 1856 حيث حاول بعض زعماء القبيلة الاستيلاء على قسم من منتوج الأرض والخروج عن القاعدة القانونية المنظمة لنظام الامتلاك الجماعي، إلا أن هذه الحركة لم تتخذ شكلها الفعلي إلا مع الاستعمار.
ساهم المخزن المغربي بشكل كبير في سيرورة تفكيك الملكية شبه الجماعية للأراضي، باعتماده نظام اقتطاعها لصالح القياد وزعماء القبائل والزوايا، وذلك كله مقابل ضمان ولاء هذه القيادات المحلية التي أصبحت تعتد بقدرتها على الاستقلال عن المخزن، وخصوصا قيامها بعقد اتفاقات تجارية منفردة مع الدول الأوربية التي كانت تسعى إلى توسيع نفوذها بالمغرب.
لكن العامل الأساسي وراء تفكيك الملكية شبه الجماعية، جاء على إثر الضغوط الاستعمارية، خصوصا بعد هزيمة إيسلي، وما فرضته هذه الهزيمة من ضغوط على المغرب (الإصلاح العسكري وما يفرضه من موارد مالية)، بالإضافة إلى الغرامات والديون تفوق الطاقة الإنتاجية للمجتمع المغربي، بالإضافة إلى التنازلات التي قدمها المغرب في المجال التجاري و الاقتصادي (خفض الجمارك، معاهدات تجارية، تسهيل الحصول على الأراضي..) وهو ما سرع الأزمة المالية، التي حاول المخزن تجاوزها بالزيادة في الضرائب واستحداث أخرى (كالترتيب)، وإجبار السكان المفقرين على تأديتها.
واجهت هذه القبائل، التي اعتادت على الاستقلال عن السلطة المركزية، هذه الزيادات بتمردات وانتفاضات متتالية، ما دفع المخزن إلى الدخول في مواجهة شرسة مع هذه القبائل؛ إما بشكل مباشر (الحركات) أو غير مباشر بتولية قياد أو أشياخ (إيمغارن) يخدمون أهدافه.
قبل قدوم الطلائع الأولى للاستعمار، أنهك المخزن المغربي القبائل، بتفكيك مؤسساته السياسية “الديمقراطية” (ديمقراطية الأعيان والوجهاء) واستبدالها بمؤسسات تكون في طوعه. اتفق الباحثون الاجتماعيون والمؤرخون على أن القبيلة المغربية (خصوصا الجبلية والناطقة بالأمازيغية منها) كانت تنتخب مؤسساتها التي تشرف على تسيير أمور القبيلة (إينفلاس، مجلس آيت الربعين، مقدم المجلس) “كان الشائع، ليس على مستوى سوس فقط وإنما بالنسبة لكثير من القبائل المغربية الناطقة بالأمازيغية، هو أن تجديد تعيين مقدم أيت الربعين كان يتم سنويا. فالمقدم كان يرأس مجلسا ينبع تعيينه من داخل القبيلة ويستمد سلطته من داخل الجماعة”. (السلطة والمجتمع في المغرب، نموذج آيت باعمران. علي المحمدي).
خرق المخزن هذه القاعدة، بتوليته القواد والأشياخ بالظهائر الشريفة، هؤلاء “القياد والشيوخ صاروا يستمدون سلطتهم من الظهير السلطاني، لا من إرادة الجماعة… أسدل عليهم الحكم نظرا لضيق إمكانياته، التوقير والاحترام والإعفاء من الضرائب كمقابل”. (السلطة والمجتمع بالمغرب…).
قام المخزن في سبيل تطويع القبائل وأداء الضرائب بواسطة الحركات، ومن أجل إدماجها في النسق السياسي العام للدولة المركزية، بإرغامها على التخلي عن تنظيماتها “الديمقراطية” الخاصة بـ”الجمهوريات” المحلية وخاصة في المناطق الأمازيغية، وتفكيك نظام “تاقبيلت” وأجماعة ومؤسساتها الخاصة بالتسيير والشورى والتدبير الاقتصادي والسياسي (آيت الربعين).
استغل هؤلاء القواد والشيوخ كل ما توفر بين أيديهم من سلطات (قدم السلطان الحسن الأول هدية للمدني الكلاوي: مدفع (krupp) وأسلحة متطورة)، أولا لإخضاع القبائل للمخزن واستخلاص الضرائب، وثانيا لزيادة ثرواتهم واغتنائهم بإجبار الفلاحين المملقين على بيع أراضيهم أو حتى نهبها وفرض السخرة والعمل المجاني عليهم.
زادت الظروف الطبيعية التي عرفها المغرب في النصف الثاني من القرن 19، الطينة بلة. حيث اجتاحت المغرب مجموعة من الأوبئة أودت بأعداد هائلة من المغاربة وصعبت ظروف عيش الباقين.
(المجاعات: ما بين 1850 و1894
الكوليرا:1854/1857: مات بملاح فاس وحده من اليهود 500 شخص، وحصدت بسلا سنة 1855، 120 نفسا.فاس سنة 1868 قتلت في يوم واحد 345 من الجند. الرباط 1882 250 نفرا. مكناس ومراكش 300 فرد في يوم واحد. وقد ذكرت بعض المصادر أن الكوليرا والحمى الصفراء قتلتا 3 مليون مغربي).
انعكست هذه الكوارث “سيما وأنها تزامنت مع الانتفاضات القبلية الناتجة عن سحق العامة بالفروض الضريبية الشرعية منها أو غير الشرعية، وواجبات الترتيب، والنجاحات البطولية “للحركات المخزنية”، واستبداد الامتدادات المخزنية في المدن والقبائل وخاصة القواد، وتربص الاستعمار الإسباني والفرنسي بالمغرب، فإن أسفرت هذه الوضعية عن شيء فإنما هو الغلاء الفاحش للمواد الغذائية، وأزمة خانقة في التجارة، وإملاق شديد للأغلبية الساحقة من السكان سواء القرويين أو الحضريين… وقد كان من نتائج تلك الكوارث الطبيعية ظهور حركية اجتماعية مضطردة بحثا عن القوت، بحيث لم يعد الناس قادرين على مواجهة الفقر وأداء الترتيب، فمنهم من باع أرضه بأقل ثمن، ومنهم من رهنها وتوجه نحو الحواضر وخاصة الغرب والبيضاء حيث تكونت بروليتاريا في بداية القرن 20”. (القبيلة، الإقطاع والمخزن).
بدخول الاستعمار وجدت هذه الاتجاهات ما يعمقها. كانت الرساميل الأجنبية في حاجة إلى يد عاملة رخيصة، وجدتها في الآلاف من الفلاحين المكشطين المنتزعة أراضيهم والذين كدسوا في الأحياء الهامشية بالمدن الكبرى (الدار البيضاء أو المناطق المنجمية: اليوسفية، جرادة..)، بعيدين عن وسطهم القبلي التقليدي والأسري. وأخذت علاقات اجتماعية جديدة تحل محل علاقات التضامن والتعاون والأخلاق القبلية والأسرية. لم يعد بقاء الفرد رهينا ببقاء القبيلة، بل بفرصة عمل يمن بها رب عمل، وبعد ذلك بعلاقات التضامن في المعمل والأحياء السكنية.
انعكست هذه التغييرات الاجتماعية على البنى التقليدية للمغرب فـ”الأسرة المشتركة في استغلال ملكية غير منقسمة، ستخضع للتفكك والتمزق وذلك بفعل البلترة السريعة والمستهدفة للجماعات، والتجنيد المكثف والإلزامي للأهالي من طرف المعمرين من أجل تخصيب الأرض وتنقيتها وإعدادها واستصلاحها… كما ساهم العمل المأجور بشكل أو بآخر في زعزعة ارتباط الفلاح بالأرض وبالتالي زعزعة الارتباطات العائلية القوية داخل القبيلة أو الدوار، الشيء الذي انعكس سلبا على مستوى العلاقات الاجتماعية داخل القبيلة كلها فأفقدها التحامها وانسجامها، وساهم في تفكيك تنظيمها التقليدي.
“وقد عمل الاستعمار على تفتيت القبيلة باعتبارها وحدة سياسية أساسية في النسيج الاجتماعي للمغرب، فعمد إلى افتعال نظام يجيز انتزاع الملكية وتقسيم الأراضي الجماعية وامتلاكها من طرف فرد واحد، وخاصة في أراضي قبائل المخزن وأراض الحبوس، كما فسح المجال أمام عمليات السطو على العقارات ونهب الأراضي وخرق القوانين من طرف المعمرين وبعض الأعيان التابعين له، واضعا بذلك البوادر الأولية، ومؤسسا المعطيات اللازمة والمبدئية لطبقة عاملة مغربية متشكلة أساس من فلاحين مهاجرين، انتزعت منهم ملكيتهم فأصبحوا عمالا مكرهين سواء في حقولهم أو في معامل بمدن بعيدة عن مجالهم الطبيعي والأصلي”. (القبيلة، الإقطاع والمخزن).
باجتثاث الإنسان الأمازيغي من محيطه “الطبيعي” (القبيلة، الأسرة)، حرم من وسائل الحفاظ على هويته التي طالما ساعدته على إنتاج وإعادة إنتاج قيمه الثقافية والهوياتية. ونفس الشيء بالنسبة للمجالات الأخرى لحياة المغاربة، فقد كانت الأخلاق القبلية (الطقوس الدينية والعادات التي تطبع الحفلات العامة والخاصة، كالأعراس والمواسم وطلب الاستسقاء في السنوات العجاف، وتبادل الهدايا في مختلف المناسبات، وهذا التبادل يدل على عملية إلزامية تفرض على كل عائلة الدخول في علاقات التبادل والتحالف مع الغير) قائمة على نموذج معين من الملكية، ومع تبدل أشكال هذه الملكية شهدنا اندحارا لهذه الأخلاق القبلية التضامنية ليحل محلها صراع الأفراد من أجل البقاء، إيذانا بدخول مبدأ “المزاحمة” الرأسمالية لكن في طورها الاحتكاري.

تبعية الريف للمدينة
من السمات الأساسية للمجتمعات التي تسود فيها بنيات إنتاج ما قبل رأسمالية؛ انفصال الريف عن المدينة، حيث تكون العلاقات عرضية (الاقتصادية منها بالخصوص)، وتقتصر على تبعية سياسية نسبية يعاد إنتاجها دوريا بحملات عسكرية لجباية الضرائب بالأساس.
صاحب هذا الانفصال بالمغرب بين كلا العالمين الريفي والحضري، انفصال بين ثقافتين. فباعتبار المدينة مركزا إشعاعيا وعلميا وعاصمة إدارية- في الوقت الذي كان فيه العلم مقتصرا على الجانب الديني والشرعي وكانت اللغة العربية هي المعبرة عن هذا العلم- اصطف فيها حاملو الثقافة العربية الإسلامية (فقهاء، قضاة، تجار كبار، وموظفو المخزن). في حين بقيت البادية في أشكالها التقليدية لإعادة إنتاج الثقافة (الفلكلور، الرواية الشفوية..) وبقيت هكذا مركزا للثقافة الأمازيغية: “كانت الثقافة الأمازيغية شعبية شفوية مرتبطة بالعالم القروي وبالفلاح المغربي… نجد جل مثقفي الريف حاليا وريثي ثقافة فلاحية طورتها واحتضنتها طبقة الفلاحين التي لم تشعر بأي حاجة إلى حدود الأمس القريب، بتبني النسق الكتابي للتواصل الثقافي والمعرفي والحضاري”. مرزوق الورياشي، العدد 9 من جريدة تاسافوت.
باستدخال نمط الإنتاج الرأسمالي من طرف الاستعمار، شهدنا انتقال الهيمنة نحو الاقتصاد الحضري، وإعادة ربط الريف بالمدينة وتعميق أواصر التبعية بينهما. طبعا لا تقتصر تبعية الريف للمدينة على الجانب المادي والاقتصادي فقط، بل تشمل أيضا الجانب الروحي والثقافي. وشهدنا تنازلا “للكفاءة الاجتماعية” للغة الأمازيغية موازاة مع احتلال الفرنسية والعربية لمساحة كبيرة من الحياة الاجتماعية (المدرسة، الإدارة العمومية، وسائل الإعلام الجماهيري…).

بناء الدولة “العصرية” من طرف الحماية
بمجيء الاستعمار وفرض الحماية على المغرب سنة 1912، فرض على المغرب جملة إصلاحات في الجانب الإداري والسياسي، توجت ببناء ما يسمى بالدولة “العصرية”.
إن تفكيك البنى التقليدية شبه الكلي كان مقتصرا على جانب البنية التحتية للمجتمع المغربي (الاقتصاد)، أما البنية الفوقية (شكل الدولة، نمط التفكير، عادات الأهالي..) فقد حاول الاستعمار جاهدا الحفاظ على النافع لمصالحه منها، ولم يعاكسه إلى قوة التغييرات الهيكلية في الجانب الاقتصادي. فقد ركز ليوطي على دور احترام العادات الدينية والمؤسسات التقليدية للأهالي، كي يحظى الاستعمار بفرصة التقدم بشكل سلمي.
لكن ما جرى الاحتفاظ به هو ما يتماشى والأهداف العامة للاستعمار (سلطة القياد والشيوخ والمخزن) التي جرت تقويتها للمساهمة في “تهدئة” القبائل.
إن بناء ما سمي بالدولة “العصرية” له مدلول نسبي. فـ”التعليم في الحماية لا يمنح سوى لقلة قليلة من المغاربة، وأنهم لا يتمتعون بحرية الصحافة، ولا بحرية إنشاء جمعيات، وأن الإدارة الفرنسية لم تلغ أبدا تعسف الزعماء الأهالي. ورفض ليوطي الرد بالإيجاب على طلب عصبة حقوق الإنسان الساعي لأن يعلق في المؤسسات العمومية، والبلديات، والمدارس، إعلان حقوق الإنسان. “لقد اعتبر الحاكم الفرنسي للمغرب الميثاق الكبير للبورجوازية الفرنسية تخريبا وخطيرا”، هكذا علق الشيوعي نكيان- إي- كوك”… يرى ليوطي بأن هذا الطلب ليس مطابقا لنظام الحماية، لأن مبادئ إعلان الحقوق “منافية لسلطة السلطان” وللنظام الشخصي للمغاربة المثبت بواسطة الشرعية الدينية”. (جورج أوفيد، اليسار الفرنسي والحركة الوطنية المغربية). إنه قانون الإمبريالية، الذي يفرض على البلدان المستعمرة الخضوع للآثار التدميرية لنمط الإنتاج الرأسمالي، دون الاستفادة من آثاره التمدينية.
لكن التغيرات التي أحدثها الاستعمار في هذا الجانب دفعت الأمازيغية إلى دائرة الظل، بإقصائها وحرمانها من وسائل التطوير وإكساب المناعة. “استعملت الدولة العصرية أدواتها التحديثية الجبارة من شق الطرق وإنشاء المدن وتعميم المرافق الإدارية والأمنية على كافة أجزاء التراب الوطني؛ كما اعتمدت على المدرسة ووسائل الإعلام وكل وسائل الإنتاج العصرية لتقويض المجتمع التقليدي وثقافته”. (حسين وعزي، الحركة الثقافية الأمازيغية…).
ولم يساهم ما سمي بـ”السياسية البربرية” و”كوليج أزرو” في شيء فيما يخص الحفاظ وتطوير الأمازيغية، بقدر ما أعطت التبريرات لشوفينية الحركة الوطنية ودولة ما بعد الاستقلال، للاستمرار في نفس نهج إقصاء وتهميش الأمازيغية واحتقار وامتهان حامليها وحرمانهم من حقوقهم اللغوية والثقافية.
لقد أعاد الاستعمار تشكيل البنية الاجتماعية/ الطبقية للمجتمع المغربي. فبعد نصف قرن من التواجد الفرنسي شهدنا تحولات اجتماعية، لم تستطع الحملات القديمة التي احتلت المغرب (من الرومان إلى العرب) أن تحدث ولو نزرا منها. إن مغرب الاستقلال ليس مغرب القرن التاسع عشر ولا مغرب القرون الوسطى، بل مغرب غير دخول الرأسمال الإمبريالي علاقاته الاجتماعية (العلاقات القبيلة بالخصوص)، وعمق التناقضات الطبقية التي طالما طمستها القبيلة، ووحد البلاد تحت حكم مركزي سيطرت فيه الملكية، ودمج اقتصاد البلاد باقتصاد المراكز الإمبريالية.
تعمق إشكال القضية الأمازيغية مع الاستقلال. فبعد قرون من نضال المغاربة ضد الحكم المطلق، وأربعين عاما من النضال ضد الاستعمار. أفرز استحواذ البورجوازية بمقاليد النضال ضد الاستعمار عن استقلال شكلي، حافظ عن مصالح الإمبريالية وأعاد إرساء دعائم الملكية التي احتكرت كل السلط بين يديها. هذه الملكية التي تبني شرعيتها (إلى جانب القمع الأسود والاستبداد) على ركائز النسب الشريف (العروبة) والإسلام (البيعة وإمارة المؤمنين)، ولم تجد الأمازيغية مكانها في الدستور المغربي، وتم إقصائها كليا من جميع دواليب الدولة والحياة العامة، بتبني مبدأ التعريب الشامل للحياة العامة (التعليم والإدارات العمومية، وتعريب أسماء الأماكن وحرمان الأطفال من حمل أسماء أمازيغية).
يقول أحمد بوكوس: “وفي هذا الاتجاه فإن الأدوات الإيديولوجية للدولة تشكل الأمكنة الملائمة لإنتاج وإعادة إنتاج الرصيد الرمزي”. بحرمان الأمازيغية من هذه الأدوات الإيديولوجية تعمق وضعها المتأزم وأصبحت دائرتها منحصرة فيما أسماه أحمد بوكوس “مملكة الأم”.
لذلك من الطبيعي أن تتركز مطالب الحركة المطالبة بإعادة الاعتبار للأمازيغية على فتح المجال أمامها للاستفادة من هذه “الأدوات الإيديولوجية” (الدسترة والتعليم والإعلام).
شهدنا تعميقا للسيرورات المذكورة أعلاه، التي تدفع بالأمازيغية باستمرار إلى دائرة الانقراض. مع بداية الثمانينات ومع اشتداد الهجوم النيوليبرالي (تدخل المؤسسات الإمبريالية بفرض برنامج التقويم الهيكلي)، شهدنا موجة إفقار واسعة بالموازاة مع تخلي الدولة عن تمويل الخدمات العمومية والاجتماعية وتدني نسبة التشغيل بشكل رهيب والغلاء المزمن؛ ما دفع آلاف الأسر القروية (التي شهدت تهميشا لعقود) إلى الهجرة من جديد نحو المدن ونحو المناطق الفلاحية (حيث يستغل العمال والعاملات الزراعيون بأجور البؤس، لينضموا إلى الجيل الثالث من أبتاء المهاجرين لينالوا نصيبهم من التعريب والإقصاء الثقافي. زاد الأمر وقاحة بتكريس الدولة لدونية الثقافة الأمازيغية، سواء في البرامج التعليمية أو الفقرات الإعلامية، وامتهان الأمازيغيين واحتقارهم.
وعمق منطق هذا الهجوم القائم على تسليع كل الأنشطة البشرية وضعية الأمازيغية، التي تحرم من التعليم والإعلام الجماهيري والحماية القانونية، ولكن لا يني الحاكمون في استعمالها لجلب السياح واستغلالها تجاريا، حيث تطمس الجوانب المشرقة والتقدمية في هذه الثقافة ويتم التركيز على جوانب الفرجة والفلكلرة، إيهاما أيضا أن الحكم يعتني بثقافة الأمازيغيين. وتحت رياح الانفتاح الثقافي الشامل تجر العولمة الثقافات الضعيفة- ومنها الأمازيغية- في إطار توحيد الأنماط الثقافية والاستهلاكية بالعالم الذي يجري إخضاعه لمصالح وأرباح الشركات المتعددة الجنسيات والدول الإمبريالية الكبرى.
إن “الكفاءة الاجتماعية” والمنافسة بين اللغات التي تحدث عنها بوكوس، تهوي بالأمازيغية نحو الأسفل يوما بعد يوم. وذلك لأن معايير الجودة التي تضمن “للمنتوجات اللغوية” الرواج في “السوق اللغوية” أقصيت عنها الأمازيغية، “… حيث أن ما حدث عادة هو اختراق لغة كتابية مدعومة مؤسساتيا للغة محكية ظلت زمنا طويلا رهينة الشفاهة”. (أحمد عصيد)
يؤكد الحسين وعزي (أمريك) أن الواقع الموضوعي لم يعد “يسمح للأمازيغية بإعادة إنتاج ذاتها بالشكل التقليدي الذي ألفت الثقافات الشفوية تجديد نفسها وعناصرها بواسطته، بعد التحولات التي أحدثها قيام الدولة العصرية في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية والإدارية، في شكل دولة الحماية من سنة 1912 إلى سنة 1956، وفي شكل دولة الاستقلال بعد ذلك.”. لذلك لابد من بلورة بديل معين لإدراك ما يمكن تداركه في وضعية الأمازيغية. هذا ما أفرز ميلاد “الحركة الثقافية الأمازيغية”، كنضال ضد التيار.

شارك المقالة

اقرأ أيضا