تغير حقبة: أزمة الحكومات “التقدمية” بأمريكا اللاتينية

بلا حدود9 أكتوبر، 2015

 

بدءا من العام 1996، انفتحت بأمريكا اللاتينية حقبة تعبئات جماهيرية ضد حكومات المنطقة التي وقعت على إجماع واشنطن. بهذا الاتفاق كانت الولايات المتحدة الأمريكية تطالب بتطبيق تدابير فرضها صندوق النقد الدولي و البنك العالمي لجعل الشعوب تسدد الديون التي تعاقدت بشأنها الديكتاتوريات العسكرية بضغط من الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت الأرجنتين، وبوليفيا، والإكوادور، وفنزويلا، والمكسيك، على رأس هذه  العملية التي انتهت بتصدع في شرعية النيوليبرالية على صعيد القارة.

 ونتيجة لسيرورة التعبئة الخارقة تلك، تجاوزت الجماهير بنية الأحزاب السياسية التقليدية، وأدت إلى بروز “فاعلين” سياسيين جُددا – مثل حركة الجمهورية الخامسة في فنزويلا، والحركة نحو الاشتراكية في بوليفيا، وأليانزا بايس في إكوادور. وبالبلدان التي لم تشهد تعبئات، لكن كانت بها أحزاب إصلاحية قوية، مثل البرازيل و أوروغواي، كان مفعول التعبئات يحفز الجماهير على تغيير توجهاتها الانتخابية، متيحة إمكان وصول حزب الشغيلة و فرانتي أمبليو إلى السلطة.

أما البلدان التي لم تكن ضمن هذه السيرورة، مثل كولومبيا، والبيرو، والشيلي، فقد باتت على نحو ما قلاعا للنيوليبرالية بالمنطقة.

قامت ظاهرة الحكومات التقدمية على ساقين. كانت، من وجهة نظر سياسية، كما شهدنا، نتيجة التعبئات الجماهيرية على صعيد يكد يكون قاريا.

وقامت، من وجهة نظر اقتصادية، على شرطين استثنائيين، هما ازدهار تجارة المواد الأولية في مطلع القرن 21، وانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية المؤقت من المنطقة الذي أتاح سياسة اقتصادية هجومية من جانب الصين لشغل مكانها.والآن وقد بدأت هذه  الدورة الاقتصادية تكتمل، هاهي الحكومات التقدمية تعاني من النتائج.

صفة “التقدمية”

نبدأ بفهم ما يعني حكومة “تقدمية”. ينطبق نعث “تقدمي” على حكومات متباينة من قبيل ديلما روسيف، ورافائيل كوريا، و نيكولا مادورو، وكريستينا كيشنر و ايفو موراليس.

وقد كسبت نعث “تقدمية” لأنها أقدمت، تلطيفا للبؤس وتفاديا لانفجارات شعبية جديدة، على نوع من إعادة توزيع الريع، المحتكر من قبل من طرف الامبريالية والطبقات الحاكمة وبعض القطاعات ذات الامتيازات. وتمثل خطة “صفر جوع” بالبرازيل، و”تخصيص الحصص الشامل حسب الأطفال”، وخطط “العمل” في الأرجنتين، ” و”الوصل المدرسي” و”ريع الكرامة” في بوليفيا، وطبعا “البعثات” في فنزويلا، أمثلة عن تلك “العدالة الاجتماعية” الحاملة أيضا سمات زبائنية .

تلك الحكومات متناقضة على نحو عميق.  هدفها تأمين “القابلية للحكم” دون  تجاوز الرأسمالية. ولتحقيق ذلك، تحتاج  إلى تقديم تنازلات للجماهير المفقرة المعبأة، ما يؤدي إلى تناقضات مع الامبريالية و حقد قطاعات ذات امتيازات.

يصف ماسيمو موندونسي، الباحث الاجتماعي و الأستاذ ب l’UNAM،  السيرورة بما هي  تركيب  لسيروروات تحويل ذات طابع متناقض: تقدمية ومحافظة في آن واحد، مراهنة على فك تعبئة الجماهير.

في جميع  البلدان التي تحكمها قوى “تقدمية” يستمر وجود  تعبئات “عادية” ينظمها عمال ونقاباتهم مطالبين بظروف عمل أفضل، أو سكان القطاعات الحضرية من أجل ظروف حياة أفضل، وكذا فلاحون  وسكان أصليون ضد السياسات الاستخراجية. عاش الإكوادور، مثلا، بين 2009 و 2011 أكبر عدد من النزاعات الاجتماعية في 15 سنة الأخيرة .  والحال عينه في فنزويلا و بوليفيا و الأرجنتين.  وحتى إن كانت  التعبئات في البرازيل ضد تنظيم كأس العالم لكرة القدم مغايرة لتعبئات باقي القارة، فيما يخص ديناميتها ومكوناتها التي تجعلها أقرب إلى “ساخطي” أوربا، فإن  تعبئات الأسبوع الأخير ضد حكومة ديلما روسيف شبيهة [ـ ” كاسرولازوس” اليمين  في الأرجنتين وفنزويلا.  تبرز هذه التعبئات بجلاء وجود  استياء اجتماعي لم تحتويه حكومة حزب الشغيلة.

لكن، لابد من الإقرار أن السياسات الزبونية المستعملة من قبل  تلك الحكومات على الصعيد  الترابي، والتحكم البيروقراطي بها نقابيا، والابتزاز بعودة حكومات يمينية و نقص خبرة  الجماهير، فضلا عن الضعف السياسي لليسار الثوري  بالقارة، أدت رغم مستوى التعبئة العالي إلى منع تطور قيادة مستقلة. نتج عن هذا فك التعبئة و نزع التسيس عن الجماهير، وتعزز مشاركة اليمين  في الحقل المؤسسي وفي التعبئة بالشارع.

ما الاقتصاد التابع ؟

يتطلب إدراك حدة الازمة الاقتصادية بأمريكا اللاتينية البدء بتفسير أن جميع البلدان البازغة غير متساوية. رغم ان الصين، ثاني اقتصاد في العالم، من دول البريكس فإنها ليست في مستوى البرازيل.

رغم طابع “الامبريالية الفرعية” الإقليمية، تظل البرازيل ،مثل المكسيك والأرجنتين وكل اقتصاديات القارة، اقتصاديات “تابعة”  أو “طرفية”.

يعني هذا التوصيف  اندماج اقتصاد  تلك البلدان في السوق العالمي منذ استقلالها في القرن التاسع عشر، لما أصبحت بريطانيا  السلطة  شبه الاستعمارية، وعوضتها الولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين.

يُعتبر اقتصاد ما “تابعا” أو” طرفيا” لأن له علاقة تبعية مع اقتصاديات البلدان الامبريالية.  وهو قائم  على استخراج وإنتاج  وتصدير مادة أو مواد أولية أو منتجات زراعية. استثمارات  السلطات شبه الاستعمارية مشروطة  بالعلاقة والفائدة التي يمكن أن تكون لها مع استخراج ونقل مواد أولية نحو أسواقها. وإن نظام سكك الحديد بالأرجنتين الذي بناه الانجليز في القرن التاسع عشر شاهد على ذلك.

انتهت دوما إلى فشل جهود  الحكومات الإقليمية لبلوغ تطور صناعي مستقل بخلق “برجوازيات وطنية” متعارضة مع  الأوليغارشية الزراعية ومع الامبريالية.  ليست ثمة قطاعات من البرجوازية الأمريكية اللاتينية مستعدة للمخاطرة بالاستثمار في تطوير الصناعة. الاستثمارات تكاد تكون من فعل الدولة والشركات متعددة الجنسية الساعية إلى الإفادة من الأجور المتدنية، و ليست “البرجوازيات الوطنية ” غير شركاء للمقاولات الامبريالية.

في القرن 21، لا تزال أمريكا اللاتينية مندمجة في السوق العالمي من موقع مُصدر مواد أولية.  يكفي إثباتا للأمر فحص العلاقة التي أقامتها الصين مع بلدان المنطقة. إذ لا تستورد الصين  من أمريكا اللاتينية  سوى حبوبا، ومعادن، و صوجا، لكن 91% من مبيعاتها لها مواد مصنعة . وهذه هي القاعدة حتى مع البرازيل، الامبريالية الفرعية الإقليمية وشريك الصين  المفضل.  تلك الاستثمارات في البنيات التحتية بالقارة  مرتبطة كلها، مباشرة أو مداورة،  باستخراج المواد الأولية ونقلها إلى  السوق الأسيوي، سواء بترول فنزويلا  والأرجنتين،  أو معادن  البيرو أو البرازيل، أو سكك حديد  البرازيل أو الأرجنتين. رغم أن تباطؤ  اقتصاد الصين يعلق مستقبل تلك الاستثمارات، يمكن تبين انعدام أي فرق بين هذا النموذج و ذاك الذي فرضته بريطانيا  خلال القرن 19  والذي منع  أي تطور صناعي.

كما تُكيف هذه التبعية للاقتصاديات الامبريالية خيارات  التنمية. هذا ما يجعل هاته الاقتصاديات متمسكة ، رغم خطاب الدفاع عن  “أمنا الأرض”،  أو عن “الحياة الجيدة”، بالاستخراجية  التي تحتاجها لتستمر.

الازمة الاقتصادية العالمية وتباطؤ اقتصاد الصين

اعتقدت حكومات أمريكا اللاتينية، طيلة سنوات، أن الأزمة العالمية للنظام الرأسمالية لن تنال منها. فإزاء صين في عز نموها، وسوق عالمي  يشتري منتجاتها بأسعار مرتفعة جدا، اعتقدت أن مشاكلها منتهية.

لكن الأزمة حلت أخيرا. تباطأ اقتصاد الصين من 8 أو 8,5% السنوية المألوفة إلى 7%، وخفضت عملتها بنسبة 4,5%. وحسب سيبال ( cepal : اللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية و الكرايبي)، تراجع سعر البترول، الذي بدأ نزوله في 2011، بنسبة 60% بين يوليو 2014 و  يناير 2015 .  وسجلت أسعار  المعادن خسارة  بنسبة 41% بين ثلاثة أشهر الأولى في 2011 و أبريل 2015،   ومنيت  المنتجات الزراعية بخسارة بنسبة 29 %  خلال نفس الفترة.

نتجت عن ذلك استدانة مقاولات أمريكا اللاتينية، وتنامي البطالة، و هروب المستثمرين الأجانب. وفضلا عن ذلك،  تهدد الحكومة الأمريكية  برفع سعر الفائدة، ما قد يؤدي إلى تصعيد جديد  لأزمة الديون بالمنطقة.  وحسب بنك أوف أمريكا، يحوز مستثمرون أجانب نسبة 59% من ديون المكسيك، و 40% من ديون  البيرو، و لأول مرة منذ العام 1997، لم يعد بوسع البرازيل توفير مال سداد ديونها.

تنال الأزمة حتى من  التلاميذ النماذج: الشيلي، البيرو،  أوروغواي. شهد البيرو تراجع صادراته المعدنية بنسبة 10%، والصيد بنسبة 74% والزيت بنسبة 45% والمنتجات الزراعية بنسبة 20%. وفي الشيلي، شهد سقوط سعر النحاس العالمي أدنى مستوى منذ 6 سنوات (يمثل النحاس 30% من  صادرات الشيلي)، ما يضع برامج إعادة التوزيع  الفاترة لحكومة باشليه في وضع صعب.

لكن البرازيل، شريك الصين التجاري الأول،  هي الموجودة في قلب الكارثة الإقليمية، وذلك بمعدل نمو سلبي (- 1,5%)، وكذا فنزىويلا بانحسار اقتصادي بنسبة -5,5%.

حصيلة موجزة للحكومات التقدمية

يجب على كل حصيلة توضع  للحكومات “التقدمية” بالمنطقة  أن تأخذ بالحسبان عناصر التقدم، مثل الحد من الفقر والبطالة، ووضع خطط اجتماعية  خلقت بنية تثبيت لم توجد من قبل. هذه قاعدة دعمها.  لكن، مع حلول الأزمة، تم التخلي عن أجندة إعادة التوزيع.  فبات الفقر والبطالة في تصاعد، وحقوق العمال والشعوب الأصلية المناضلة ضد المشاريع الاقتصادية الضخمة التي تطردها  من أراضيها، منتهكة. كما يغيب التصنيع الموعود به لاستبدال النموذج التابع القائم على المواد الأولية. صفوة القول، يجري التخلي، شيئا فشيئا، عن كل المطالب التي  أوصلتها إلى السلطة.

سأعود هنا إلى حدث ديني له عواقب سياسية بالغة الأهمية. انتخاب خوخي برغوليو أول بابا أمريكي لاتيني، لأن  وصوله إلى الفاتيكان مثل انعطافا يمينيا معاديا للمثليين وللنساء في تشريعات كل الحكومات “التقدمية”. كوريا يقف ضد نظرية النوع وضد الإجهاض، وكذا موراليس وروسيف، وغيرت كيشنر القانون المدني كي تبطل مرور حق الوقف الإرادي للحمل الذي صادق عليه الكونغرس. وقد صرح رئيس ديوان  حكومة كيشنر أن تعميم عدم تجريم الوقف الإرادي للحمل (8 محافظات بها  نوع محدود من هذا الحق) ليس على جدول الأعمال.

قبل سبع سنوات، أراد تشافيز بناء أممية خامسة لحكومات مناهضة للرأسمالية. وفي مارس 2015، بمنتدى التحرر والمساواة ببيونس ايرس، الذي نظمته حكومة الأرجنتين، بمشاركة الحكومات “التقدمية” بالمنطقة، دعا جياني فاتيمو إلى تـأسيس بابينترن “الأممية الشيوعية”  بقيادة البابا فرانسيس يكون هدفها توحيد “الشعوب ضد السيطرة الأمريكية، الامبريالية، والشركات متعددة الاستيطان و النظام المالي”.

وقد حضر  كل الذين أيدوا فكرة الأممية الخامسة لدعم البابنترون.  آمل أن نتمكن هذه المرة من قول: لا لهذا التجميع الدولي الجديد.

ما مستقبل “النزعة التقدمية”؟

خلال سنوات، عاش قطاع  من يسار أمريكا اللاتينية متوهما أن الحكومات “التقدمية” كانت “اشتراكية القرن 21” أو بالأقل بداية الانتقال إليها.

لكن، يجب قول إن تلك الحكومات لم تكذب قط. ما عدا تشافيز  الذي سنأتي على ذكره لاحقا،  لم يكن هدفها قط ، المعلن مرارا، تخطي النظام الرأسمالي، بل “تطوير”  الرأسمالية في بلدانها.  يقوم تصورها على وجوب مرور أمريكا اللاتينية، بسبب  تبعيتها للاقتصاد الرأسمالي، بحقبة مديدة  من  تطور رأسمالية “مضبوطة” واندماج إقليمي وقاري قبل المرور إلى الاشتراكية. تلك بجلاء تصور ايفو موراليس الذي يتحدث عن ” رأسمالية أنديزية”، وكوريا وكيشنر  بالأرجنتين أو لولا وروسيف بالبرازيل.

 لكن، هل ينسجم البناء الرأسمالي مع الانتقال إلى الاشتراكية؟

أبان تاريخ القارة مرارا  أن الاشتراكية ، بما هي هدف نهائي لعدد لامحدود من سنوات الازدهار الرأسمالي الوطني، غير ممكنة. لم ينجح أي  من تحالفات الحكومات “التقدمية” مع البرجوازيات الوطنية التي كان هدفها استبدال النموذج الزراعي التصديري بنماذج تصنيع مستقل عن الامبريالية.  لن توقع البرجوازية أبدا اتفاقات تهدد ربحها الآني.  يمكن أن تقبل، تحت تهديد  تعبئة الجماهير، اتفاقات مؤقتة بوسعها أن تقلبها لمصلحتها في مستقبل قريب. لكنها لن تنتحر.

إن مشروع انتقال حقيقي إلى الاشتراكية يتطلب اضمحلالا، حتى تدريجيا، للرأسمالية منذ البداية، و ليس توسعها.

ماذا عن اندماج أمريكا اللاتينية؟

لا برجوازية البرازيل، ولا الأرجنتين، ولا كولومبيا، مهتمة بخلق سوق أمريكي لاتيني مشترك. رغم إحداث مركوسور أو أوناسور، تنشغل برجوازيات المنطقة بنسج علاقات مباشرة بالمنطقة مع السوق العالمي بالعمل مع الشركات متعددة الاستيطان أكثر من انشغالها بخلق سوق أمريكي لاتيني موحد.

ليس للمركوسور، المشكل من الأرجنتين و البرازيل و باراغواي و فنزويلا، أي تاثير سياسي أو اقتصادي فعلي. يعمل البارلسور، برلمانه، رسميا منذ العام 2008، وكان مفترضا انتخاب أعضائه بالاقتراع المباشر والمتزامن لمواطني كل بلد عضو، لكن  باراغواي وحده قام بذلك، وستنتخب الأرجنتين اعضائها  متم شهر أكتوبر. ولم تجد البرازيل و لا فنزويلا ولا بوليفيا  و لا أورغواي ، حيث مقر برلسور، متسع وقت ، منذ سبع سنوات، لانتخاب ممثليها.

أناسور L’UNASUR ، الذي يضيف حكومة موالية للأمريكيين، مثل كولومبيا و تلاميذ النيوليبرالية النجباء مثل الشيلي و البيرو، إلى أعضاء ميركوسور، قهو تجمع حكومات  يشتغل بالإجماع ويمثل وزنا مضادا لكل إجراءات “تقدمية”  على صعيد قاري.

 ما ألبا l’ALBA ، تحالف حكومات الكرايبي، وبعضوية كوبا، والذي أطلقه تشافيز بهدف معارضة ألكا l’ALCA ، اتفاق التجارة الحرة، الذي بادرت إليه الولايات المتحدة الأمريكية، فلم يكن له دور غير دور شاهد.  وتضع أزمة فنزويلا الاقتصادية علامة استفهام كبيره على مستقبله.

جاء في ملف مجلة Anticapitaliste ، قبل عام، :” يبرز التاريخ أن الحكومات “التقدمية” تظل قائمة طالما حظيت بدعم شعبي، لكنها تسقط أمام تحالف الامبريالية و الأوليغارشية عندما تفقده”.

أبانت الحكومات “التقدمية” ، حتى الآن، عن مقاومة  كبيرة  بوجه ضغوط  الاوليغارشيات والامبريالية. ونجح تشافيز وكوريا وكيرشنر و لولا وروسيف في اعادة انتخابهم، فاعتقدوا إمكان ذلك  بلا نهاية. لكن الوضع تغير.

لم تهجر كيرشنر  أمل أعادة انتخابها وحسب، بل إن دانيال سيولي هو مرشح  الجهاز البيروني.  لم تنجح الكيرشنرية، التي حلت دون إجهاز سياسي، في خلق هذا الجهاز بعد ثماني سنوات في الحكومة.  لا يختلف برنامج سيولي إلا قليلا عن برنامج اليمين. وقد عبرت الحكومة الأمريكية عن ابتهاجها بأي مرشح ينجح.

الأمر عينه فيما يخص آمال تقدم لولا إلى ولاية ثالثة في 2018. ما كان يبدو ممكنا مطلع العام 2015، قد يقل إمكانه مع ما انكشف من فساد في حكومة حزب الشغيلة و التعبئات التي تلت.

هل ضاع كل شيء؟

يوم 6 أغسطس، دعا PIT-CNT,  ، الاتحاد النقابي التاريخي، وحليف فرانتي أمبليو Frente Amplio ، وبدعم من يسار الجبهة، إلى إضراب وطني شل  قسما كبيرا من البلد مدة 24 ساعة، ضد تدابير التقشف الحكومية . وقد وعدوا انه لن يكون الأخير.

لم تتوقف قط الإضرابات والتعبئات من أجل رفع الأجور، وظروف حياة و أمان أفضل بالمدن وضد المشاريع الفرعونية المدمرة للبيئة.

 كما أن الامبريالية الأمريكية، الساعية إلى بسط سيطرتها على القارة، منشغلة أيضا. يتوقع تقرير صادر عن بنك مورغان ستانلي أن أمريكا اللاتينية سائرة، بسبب الأزمة الاقتصادية، إلى التحول  على أحدى أكثر مناطق العام فقدا للاستقرار.

يمكن في هذا الوضع ترقب مرحلة تعبئات جديدة كالتي بدأت في العام 1996.  ولتفادي خيبة جديدة، يتعين على الطليعة العمالية، وعلى اليسار بأمريكا اللاتينية، أن تستنتج الخلاصات من هذه الحقبة، وتتجاوز حدودها، و تدرك على نحو نهائي  وجوب هجر أوهام التغيير في ظل النظام الرأسمالي.

أزمة فنزويلا

لا يمكن لأصل أزمة فنزيلا إلا أن يكون شبيها بأصل أزمة كل الأنظمة “التقدمية” بالقارة.  من زاوية نظر اقتصادية، تنضاف إلى  الأزمة المنظومية للرأسمالية العالمية أزمة  نموذج الرأسمالية التابعة . أن كان سقوط سعر البترول، الذي يمثل 96% من صادرات فنزويلا، وأزمة الاقتصاد الصيني، دائنها الأول، يضعانها  في وضع صعب، فإن نقص الأغذية و حاجات أساسية، وصعود التضخم بنسبة 64% هذا العام مع احتمال بلوغه ثلاثة أرقام السنة القادمة ، كلها عناصر تفاقم الوضع.

يذكر من شاركوا في ورشة الجامعة الصيفية لعام 2013 كيف أطلقنا جرس الإنذار.  لكن تدهور الوضع بعد وفاة تشافيز اتخذ مميزات كارثية.  فقد بذر ورثة تشافيز هيبته، وفقدت الحكومة وحزبه الحزب الاشتراكي الموحد الفنزويلي دعم غالبية السكان.

تشير آخر استطلاعات الرأي إلى أن 84% من السكان  يعتبرون  وضع البلد سيئا او سيئا جدا؛ و74% يعتبرون تدبير مادورو  سيئا؛ و 86% يحملونه مسؤولية صفوف الانتظار  الناتجة عن نقص التموين بالمواد الأساسية مثل الدجاج و الحليب و المرغرين و الأدوية؛ ويعتبر 75% الوضع الاقتصادي أسوأ، و حتى أسوأ كثيرا مما كان قبل سنة.

كيف جرى الوصول غلى هذا الوضع؟

أمكن ما جرى لأنه رغم التصريحات حول “اشتراكية القرن 21” لم تتغير بنية فنزويلا، وتظل بلدا رأسماليا تابعا يقوم اقتصاده حصرا  على صادرات البترول، وقد تكرس هذا النموذج وتعمق خلال 15 سنة.  لذا فما نشهد في فنزويلا هو أزمة نموذج اقتصادي.

كان تشافيز فهم  أن معركة إعادة توزيع ريع النفط كانت قي صلب الصراع بين سيرورة التغيير  التي كان يسميها “الثورة البوليفارية”  وقطاعات مرتبطة بالبرجوازية المحلية وبالامبريالية. كان المشروع البوليفاري قائما على الاستعادة التامة للتحكم بالبترول، وإدارته مركزيا من قبل الدولة لاستعماله أداة  لدمج الجماهير المفقرة في المجتمع.  وكان بحاجة لأجل ذلك إلى اتفاقات لضبط  أسعار النفط الخام وتثبيتها، ما كانت تقرره طيلة أربعين سنة الشركات متعددة الاستيطان. كان إنعاش منظمة أوبيب [منظمة البلدان مصدرة البترول] ملازما للثورة البوليفارية.  نتج عن تلك السياسة انتقال سعر برميل النفط من 8 دولار في متم العام 1998 إلى 97,1 دولار في متم 2013، مع أسعار قريبة من 150 دولار منتصف العام 2008.  فيما بعد سقط سعر الخام، طبعا بسبب أزمة الرأسمالية العالمية.  لكن صعوده، مع ذلك، ناتج عن نجاح سياسة إنعاش  منظمة أوبيب.

 استعملت الامبريالية الأمريكية سقوط أسعار البترول وسيلة جديدة لزعزعة الاستقرار. صحيح أن ذلك السقوط ناتج عن أزمة الرأسمالية العالمية، وأزمة الصين، لكن صحيح أيضا أنه كان للولايات المتحدة الأمريكية سياسة للتأثير عليه.  فقد حفزت نفط الشيست لأنه يتيح خفض واردات البترول الخام.  وكانت هذه سياسة مناهضة  لفنزويلا كما لإيران.  و لتطبيق هذه السياسة اعتمدت أمريكا على دعم المملكة السعودية.  لكن حاليا سعر البترول منخفض جدا، ما يجعل نفط الشيست بلا مردودية. وقد آن للامبريالية أوان البحث عن وسيلة أخرى لزعزعة استقرار حكومة فنزويلا، لكن دون بلوغ حد تنظيم ضربة.

كانت الثورة البوليفارية، مفهومة بما هي دمج للجماهير المفقرة في المجتمع، وحتى بناء للاشتراكية حسب تشافيز، بواسطة إعادة توزيع الريع النفطي، تعميقا للنموذج الاستخراجي للرأسمالية التابعة. بعد 15 سنة ثبت أن هذه الخطة مستحيلة.

وقد بات الوضع أسوا أكثر بسبب آليات الفساد على الصعد كافة، ما جعل ممكنا مناورات قطاعات  مختلفة، من برجوازية بوليفارية خلقها تشافيز وأعضاء الإدارة التشافيزية ومعارضة برجوازية.

لجات الحكومة، بوجه هروب الرساميل، إلى التحكم  في العملة الصعبة. كان هروب الرساميل قائما دوما، لكنه اتخذ في السنوات الأخيرة خصائص كارثية للبلد. كان يمثل، وهو بأدنى مستوى 12,3 بالمائة من عائدات النفط  سنة 2006 ، وبلغ في 2008 نسبة 46,7 من مجمل العملة الصعبة  المتأتية من  بيع الخام.

إن مبلغ هروب الرساميل إلى الخارج، بما هو مجموع أخطاء الحساب، وخدمة الدين، وتدفقات العملة الصعبة و الودائع النقدية الخارجية و كذا الحاصل الصافي للاستثمارات الأجنبية بين 2008 و 2013، تلك الحقبة التي حكمها تشافيز، كاف لسداد قيمة 25 كأس كرة قدم مثل البرازيلية، أو بناء 50 مصنع مثل سيدور، أكبر مقاولة تعدين بفنزويلا، أو بناء 6 مليون سكن تحتاجها فنزويلا  لسد نقص الإسكان. بدلا عن هذا تم تهريب تلك الرساميل أو تملكتها  البرجوازية البوليفارية  او النمونكلاتورا المرتبطة بالدولة.

فضلا عما سبب الغش الذي أطلقته مراقبة العملة الصعبة  من نقص الغذاء ومواد أساسية، فانه ساعد على هروب الرساميل. يطلب المستوردون دولارات غير غالية لأجل عمليات استيراد لا يقومون بها، او يضخمون مبالغ فاتورتها، ويحتفظون بالفرق الذي يرسل توا إلى الخارج.

إن أزمة البلد الراهنة مرتبطة مباشرة بهذا الاختلاس الهائل. يتعلق الأمر، كما أبرز تيار ماريا سوسياليستا في عمل بحث جدي، بعملية احتيال ضخمة بواسطة ” شراكة إجرامية” بين رجال أعمال فنزوليين أو أجانب وكبار موظفي الدولة، باستعمال آليات غير قانونية أو غير شرعية، مثل  المضاربة بأدوات مالية”. كان رد مادورو، بوجه هذا الفضح العمومي، اتهام تيار ماريا  بالعمالة لوكالة الاستخبارات الأمريكية، وطرده من الحزب الاشتراكي الموحد الفنزويلي، كما سبق أن فعل بوزير سابق بحكومة تشافيز كان أكد ذلك التشهير.

 حصيلة موضوعية

لم يتح لشعب فنيزويلا امتلاك تجربة سياسية كبيرة، لكنه ليس مغفلا. إن كان أيد حكومة تشافيز  حتى الكارثة الراهنة فلاسباب كانت لديه. إذا نظرنا إلى الأرقام الموضوعية، نرى أن مستوى حياته تحسن فعلا إبان حكم تشافيز.

أتاح استعمال ريع النفط تقليص دائرة الفقر  من 40 إلى 22%  و الفاقة من 20 إلى 8,5 % في فترة 1999 إلى 2011.  و انخفض الفرق بين الأغنى والأفقر، في أثناء هذه الفترة، من 14 إلى 8 مرات. وتحقق تقدم في الإفادة من ماء الشرب و الصحة والتعليم.

 لكن أوجه التقدم هاته كانت كلها مرفقة بإعانات للرأسماليين و للبرجوازية البوليفارية، الذين حصلوا  على  ملايين من التمويل العمومي جرى تهريبها فيما بعد إلى خارج، كما حدث  للأموال  العامة التي سدد بها نزع ملكية مقاولات الكهرباء، والاتصالات وصناعة الصلب و توزيع الأغذية.

 أدى ترافق هروب الأموال هذا مع توسع الاستهلاك إلى توطيد البنية التابعة وخلق اقتصاد قليل الإنتاج.  ترتب عن ذلك صعود التضخم، والعجز الجبائي،  والاستدانة، واستيراد الأغذية وإفلاس مبادرات التصنيع. يوجد بأساس هذه المشاكل المصاعب التي تعترض الحكومات الرأسمالية بالبلدان الطرفية الساعية إلى إصلاح  الرأسمالية دون قطع  مع النظام.

 و الآن؟

يتطلب انتقال حقيقي نحو الاشتراكية أن تُحدث سيرورة الثورة البوليفارية تغييرات كبيرة على الصعيد الاقتصادي و كذا الاجتماعي، بدءا بتأميم البنوك والتجارة الخارجية.  يجب أن يضاف إلى ذلك  مطلب افتحاص عمومي  بمشاركة شعبية  لكل من توصلوا  بدولارات من الحكومة ليبرروا ويشرحوا استعمالهم لها.

سيساعد هذا على خلق قاعدة لإعادة دينامية للاقتصاد، ومن أجل تطوير  نموذج صناعي  يتيح توسعا  فعليا للتشغيل و تجاوز  الزبونية  ومنطق الإسعاف. يجب أن يتحول  الدعم الاجتماعي الذي كان  يدعم بزوغ التشافيزية ويعززها إلى عمل منتج. و أخيرا يتطلب انتقال ما بعد رأسمالي استبدال نموذج الإعانات و الاستهلاك والإنتاجية المنخفضة هذا  بالتخطيط والتنمية الاشتراكية.

مؤسف أن التدابير الحكومية  لا تتخذ هذه الوجهة  رغم طلبات عديدة من قبل قطاعات يسارية داخل الحزب الاشتراكي الموحد وخارجه.

 فيرجينيا  دولا سييغا / تعريب: المناضل-ة

شارك المقالة

اقرأ أيضا