مقابلة مع جلبير الأشقر حول العمليات العسكرية الروسية في سوريا

 جلبير الأشقر، إيليا بودرياتسكيس.

ترجمته الى العربية‫: أماني حداد- نيويورك

 

اجرى المقابلة ايليا بودرايتسكيس، وهو مؤرخ، وناشط ثقافي وسياسي روسي، طالب دكتوراه، منذ العام 2009، في معهد تاريخ العالم ، اكاديمية العلوم الروسية، في موسكو. وهو منذ 2011، ناشط وناطق بلسان الحركة الاشتراكية الروسية

 

 

 

إيليا بودرياتسكيس: مضت عدة أيام منذ بدء العمليات العسكرية الروسية في سوريا، التي لا تزال استراتجيتها وأهدافها غير واضحة. والشروح التي تصدر عن المسؤولين الروسيين غير واضحة أيضا. فهم من جهة يضعون أجندة الدفاع ضد داعش على أنها السبب الرئيسي من وراء الهجمات، ومن جهة أخرى، يقدمونها على أنها لخدمة حكومة الأسد الشرعية. وهذا ما فعله الرئيس بوتين في الأمم المتحدة. ما هو الهدف الحقيقي باعتقادك؟

 

جلبير الأشقر: جرى تحديد السبب الرسمي الأولي للتدخل من أجل حصول روسيا على الضوء الأخضر من الغرب، وخاصة اميركا. حيث أن الدول الغربية هي نفسها تشن هجمات على داعش وهي بذلك في وضع لا يسمح لها بالاعتراض على قيام روسيا بالمثل. ضمن هذا السياق قام بوتين بتسويق تدخله لدى واشنطن قبل البدء بالهجمات، واشترته واشنطن على هذا الأساس. قبل أن تبدأ الطيارات الروسية بشن هجماتها، كانت التصريحات من واشنطن ترحب بالتدخل الروسي في الحرب ضد داعش. بالطبع كل هذا كان عبارة عن تضليل وخداع خالصَيْن. لكني سأتفاجأ فعلا اذا عرفت أن واشنطن صدقت حقاً أن روسيا تنشر قواتها في سوريا من أجل الحرب ضد داعش.

 

من المستحيل أن يكونوا قد تجاهلوا حقيقة أن الهدف الحقيقي من التدخل الروسي هو دعم نظام الأسد. ولكن في الواقع أن واشنطن موافقة حتى على هذا الهدف الحقيقي من وراء تدخل موسكو، ألا وهو منع انهيار نظام الاسد. فمنذ أن كانت الانتفاضة السورية في مراحلها الأولى، و مع أن الإدارة الأمريكية بدأت بالقول إن على بشار الأسد أن يتنحى، كانت تؤكد دائما أن النظام يجب أن يبقى، على عكس ما يعتقده نقاد الولايات المتحدة السطحيون. فإدارة أوباما لا تريد إطلاقا الخوض في “تغيير النظام” في سوريا، إنما على العكس تماماً،إنهم يريدون نظام الأسد لكن بدون الأسد نفسه. هذا هو “الدرس” الذي تلقنته الولايات المتحدة من فشلها المأسَوي في العراق. حين أعادوا حساباتهم، ووجدوا أنه كان عليهم الإبقاء على الصدامية، لكن بدون صدام، بدلاً من تفكيك أجهزة النظام.

 

ولهذا فقد نظرت واشنطن ايجابيا لتدخل بوتين. وشكاوى إدارة أوباما الحالية حول توجيه روسيا معظم ضرباتها إلى المعارضة السورية غير المنتمية لداعش، فيها الكثير من النفاق. لأنهم في الحقيقة يلومون روسيا لأنها لا توجه ضربات لداعش بشكل كافٍ: لو كانت حصة داعش من الضربات الروسية كافية، كانت ستشعرهم بالراحة اكثر حيال تواطئهم. كما كانت ستقلل من اعترضاتهم على الضربات الداعمة لنظام الأسد. ولا يزال أمل واشنطن بأن بوتين لن يدعم فقط نظام الأسد ويمنعه من الإنهيار، بل سيساعد على الوصول إلى نوع من الحل السياسي للصراع. وهذا تفكير ينبع من الرغبة، لا أكثر.

 

كان الهدف الأساسي من التدخل العسكري الروسي هو دعم نظام الأسد، الذي عانى منذ الصيف الماضي الكثير من الخسائر الفادحة. وقد اعترف الأسد بنفسه في تموز بعدم قدرة النظام على السيطرة على أجزاء كانت لا تزال تحت سيطرته، حتى ذاك الحين. لذا فإن هدف التدخل الروسي الأولي والأساسي هومنع انهيار النظام، ومساعدته على استرجاع المناطق التي خسرها الصيف الماضي.

 

ولكن كان هناك سببٌ ثانٍ يهدف الى ما هو أبعد كثيراً من سوريا، ويجد ترجمته في كون روسيا أرسلت إلى سوريا عينة من قواتها الجوية وأطلقت صواريخ كروز من بحر قزوين. يبدو كأنه ” لحظة الخليج” للإمبريالية الروسية. ما أعنيه هو أن بوتين حاليا يفعل، بعيار مخفف، ما فعلته الولايات المتحدة في ١٩٩١، في استعراض أسلحتها المتطورة، التي استعملتها ضد العراق، في حرب الخليج الأولى. إنها طريقة لتقول للعالم : “انظروا مدى قوتنا و انظروا كم هي فعالة أسلحتنا!” فقد كانت حجة أساسية لإعادة فرض هيمنة الولايات المتحدة في لحظة تاريخية حاسمة. وكما تعلم جيداً، فقد كانت سنة ١٩٩١ هي سنة الاتحاد السوفييتي الأخيرة. وكانت الولايات المتحدة بحاجة إلى إعادة تأكيد هيمنتها في النظام العالمي.

 

وما يقوم به بوتين الآن من استعراض للقوة هو ليقول للعالم: ” نحن الروس أيضا نمتلك أسلحة متطورة، كما يمكننا توصيلها. كما أننا حليف يعتمد عليه أكثر من الولايات المتحدة. إن “بلطجة” بوتين مفتول العضلات تتناقض تماماً مع إدارة أوباما المترددة تجاه الشرق الأوسط، خلال السنوات الماضية. يقوم بوتين حالياً بكسب أصدقاء له في المنطقة، فقد عمل على تطوير علاقاته مع السيسي حاكم الثورة المضادة في مصر، المستبد، وكذلك مع الحكومة العراقية. حيث كان يُنظر للعراق ومصر على أنهما ضمن نطاق النفوذ الأميركي، ولكنهما الآن يدعمان التدخل الروسي، ويشتريان أسلحة من روسيا، ويطوران العلاقات والاستراتجيات العسكرية مع موسكو.

 

هذا بالطبع إنجاز رئيسي للإمبريالية الروسية في منافستها لإمبريالية الولايات المتحدة، لذا لا بد من النظر إلى التدخل الروسي، من هذه الزاوية، على أنه منافسة في الإطار الإمبريالي. لقد حللت منذ ١٥ عاما حرب كوسوفو على أنها جزء من الحرب الباردة. وقد جرى انتقاد هذا الوصف في ذاك الوقت، ولكن من الواضح أننا نعيشه حاليا.

 

الكثيرون يقولون إن ما نراه الآن من تدخل روسي هو فشل كامل لسياسة الولايات المتحدة. و قلًة آخرون يعتقدون أنه يكمن من وراء هذا التدخل مخطط اميركي لإدخال روسيا في هذا الصراع. وهناك بشكل واضح انقسام حقيقي بين حلفاء الولايات المتحدة، حول قضية روسيا. ما هو برأيك موقف الولايات المتحدة في هذا الأمر؟

 

لقد كان هناك حتماً اختلاف مستمر في أعلى المراكز في الولايات المتحدة حول موضوع سوريا. و ليس خفياً أنه كان هناك خلاف بين أوباما وهيلاري كلينتون، حين كانت وزيرة للخارجية، وكان معها بعض المسؤولين في الجيش و السي آي اي يشاطرونها الرأي. عندما بدأ هذا النقاش عام ٢٠١٢ كانت المعارضة الرئيسية، وهي الجيش السوري الحر، ما تزال القوة المهيمنة في المعارضة. وكان سبب ضعف المعارضة الرئيسي يعزى الى قلة دعم واشنطن، وخاصةً إلى اعتراض الولايات المتحدة على تزويد المعارضة بأسلحة مضادة للطائرات. هذا ما مكّن قوات الجهاديين الإسلاميين من النمو، بالتوازي معها،لتصبح لاحقاً اكثر أهميةً، في المعارضة المسلحة للنظام السوري. هؤلاء الذين نادوا بتسليح المعارضة الرئيسية مثل هيلاري كلينتون ورئيس ال سي آي اي ديفيد بيتراوس يعتقدون أن الأحداث أثبتت صحة وجعة نظرهم، وأن التطور المأسوي للوضع في سوريا هو إلى حد بعيد نتيجة سياسات أوباما الخاطئة.

 

وبالفعل، فإن أوباما يواجه بيان موازنة سيئاً جداَ، نتيجة سياسته في سوريا. إنها كارثة حقيقية، من أي زاوية نظرت لها، سواء إنسانياً أو استراتيجياً. إن دول الاتحاد الأوروبي قلقة حيال الأمواج الهائلة من اللاجئين الناتجة من الأوضاع الإنسانية المأسوية. والولايات المتحدة تعزّي نفسها بالقول إن روسيا توقع نفسها في فخ، وستواجه أفغانستان ثانية. ليس صدفة أن يستخدم الرئيس أوباما في انتقادته الأخيرة للتدخل الروسي مصطلح “مستنقع”، وهو مصطلح انطبق على الولايات المتحدة في فيتنام، وعلى روسيا في أفغانستان. فهم يعتبرون أن روسيا تدخل الآن إلى مستنقع في سوريا. وهذا تفكير رغبوي – مجرد امنيات – مرة اخرى، لتجميل الفشل الذريع.

 

في الواقع، لا يبدي حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيون، كألمانيا وفرنسا، في الوقت الحالي، موقفاً سلبياً قاطعاً تجاه التدخل الروسي. هل تعتقد أن التدخل الروسي قد أثار نوعاً من الانقسام بين الولايات المتحدة واوروبا، ويمكن أن يعطي لروسيا فرصة للتعامل مع الاتحاد الأوروبي، بمعزل عن الولايات المتحدة الأميركية؟

 

لا أعتقد ذلك. أولاً وقبل كل شيء لا يوجد هناك فرق شاسع بين الموقفين الأميركي والفرنسي، بل هما في الواقع متشابهان إلى حد كبير. موقف ألمانيا مختلف قليلاً، لأنها ليست مشاركاً مباشراً في العمليات العسكرية ضد داعش. لقد انتقدت فرنسا استهداف روسيا للمعارضة السورية غير داعش. وموقف فرنسا صارم جداً تجاه وضع الأسد. فمثل واشنطن، بل وبأكثر صرامة منها، تقول باريس إن على الأسد أن يرحل، وإنه لا يمكن أن يكون هناك انتقال سياسي في سوريا بمشاركته.

 

وهذا واضح في الواقع، لأنه إن كان الانتقال السياسي سيبنى على اتفاق وتسوية بين الحكم والمعارضة٫ فإن المعارضة لن تقبل بأي شكلٍ حكومةً مشتركة، تحت رئاسة بشار الأسد. وموقفا واشنطن وباريس متوقعان، من هذه الناحية. وهما يتناقضان مع موقف موسكو،التي تعتبر الأسد الرئيس الشرعي، وتصر على أن أي اتفاق يجب أن يتم بموافقته.هناك فجوة كبيرة بين الموقفين في الوقت الحالي.

 

كما قلت سابقاً، واشنطن وحلفاؤها الاوروبيون منغمسون في التفكير الرغبي. يرجون أنه عندما يتم تدعيم نظام الحكم في سوريا، فإن بوتين سيمارس ضغطاً عليه لفتح الباب للتسوية، بينما سيقبل الأسد تسليم السلطة بعد مرحلة انتقالية تتوج بالإنتخابات.

 

لقد قالت انجلا ميركل في وقت ما -على الرغم من تصحيحها لموقفها في اليوم التالي- إن على المجتمع الدولي أن يتعامل مع الأسد. وقد سمعنا نفس الشيء من عدة اوساط في أوروبا والولايات المتحدة: “في النهاية يبقى الأسد أفضل من داعش. يمكننا أن نتعامل معه.. لذا فلنتفق معه على طريقة ما لانتقال الحكم.”هذا في الواقع هزيمة للذات. وقد نتج منه اتحاد مجموعات المعارضة غير المنتمية لداعش، ضد وجهة النظر هذه. فكل المعارضة المسلحة، بما فيها كل أشكال الجهاديين، يزاودون بعضهم على بعض في معارضتهم للأسد. ومن المستحيل على أي قسم يعتد به من المعارضة أن يقبل اي اتفاق يشمل استمرار وجود الاسد. فتنحي الاسد هو شرط لا غنى عنه في أي تسوية سياسية تهدف إلى وقف الحرب في سوريا، والا ببساطة هي لن تتوقف.

 

لقد أطلقت واشنطن العديد من التصريحات المنافقة التي تدين فيها الأعمال الروسية، مع أنها أعطتها الضؤ الاخضر في بادئ الأمر. والسبب الرئيسي انهم لا يريدون أن يظهروا بمظهر انهم يؤيدون إنقاذ نظام الأسد،مع ما يؤدي إليه ذلك من تنفيرٍ لسنَّة المنطقة. هم بالواقع يستخدمون التدخل الروسي وسيلة ليوقعوا ما بين موسكو والدول ذات الأغلبية السُنيّة. لقد بدأ السعوديون مباحثات مع الروس، وتم تناقل انهم عرضوا اتفاقاً بزيادة سعر البترول كجائزة مقابل تغيير الموقف الروسي تجاه سوريا. وقد أصابتهم حالياً خيبة أمل من التدخل الروسي، مع أنهم لا يزالون يأملون بأن يفرض بوتين في النهاية على الأسد التنحي.

 

بينما تدعو في الوقت الحالي مصادر مثل الاخوان المسلمين ورجال الدين المسلمين، في السعودية،إلى الحرب المقدسة ضد افغانستان الروس الثانية، وذلك يأتي كرد على تصريحات الكنيسة الأرثوذكسية الروسية اللافتة،التي تصف مغامرات جيش بوتين بأنها حرب مقدسة. لاحظوا الفرق بين الحروب الامبريالية في الآونة الاخيرة: فالحرب كانت توصف على انها مقدسة، من جانب الطرف المسلم فقط. الآن وللمرة الأولى منذ تاريخ طويل، يوجد لدينا صراع “محاربين مقدسين”. بهذا المعنى، فإن بوتين “مبعوث من الله” للجهاديين: العدو المثالي.

 

ربما انت تعرف انه كانت هناك زيارة سرية للجنرال الإيراني قاسم سليماني لموسكو في الصيف الماضي. والقرار النهائي بالتدخل الروسي قد تم، بعد هذه الزيارة. ولقد لعبت إيران دوراً كبيراً في هذا القرار. فما هي برأيك مصلحة إيران في التدخل الروسي؟

 

إيران وروسيا تجمعهما مصلحة مشتركة، ألا وهي الحفاظ على نظام الاسد، فهو حليف استراتيجي لكليهما. فالبنسبة لإيران، سوريا رابط رئيسي لمحور يمتد من طهران الى حزب الله في لبنان، مروراً بالعراق وسوريا. وسوريا أساسية لتوصيل إمدادات ايران لحزب الله، كما تزود إيران بمدخل استراتيجي للشرق الاوسط. سوريا هي الدولة الوحيدة على البحر المتوسط التي تستقبل القواعد البحرية والجوية الروسية. لذا نحن نشهد اليوم في سوريا الهجوم المضاد الذي يجمع قوات نظام الأسد والقوات الإيرانية وتلك الموالية لها، فضلاً عن الدعم الروسي بالسلاح والهجمات الجوية. لقد كان نظام الأسد معتمداً، عملياً، اعتماداً كلياً على إيران، لبعض الوقت. إيران تقود العملية في سوريا، وروسيا بالطبع لها تأثير كبير في دمشق، ايضاً، كونها المزود الرئيسي لها بالأسلحة، وطبعاً إن التدخل الروسي المباشر حالياً زاد بشكل كبير من دور روسيا. والبعض في الغرب يرحبون بهذا الازدياد على أساس انه يحدث على حساب إيران. وهذا تفكير قائم، من جديد، على التمنيات.

 

يعمد الاعلام الروسي إلى وصف الوضع في سوريا على ان هنالك الحكومة الشرعية والوضع “الطبيعي”، من جهة، وقوى مختلفة تحاول تدمير البلد، وخلق اضطراب فيه، من جهة اخرى. ولكن وجهة النظر الأخرى تقول ان نظام الاسد تعرض لتغيير جذري خلال الحرب الأهلية، و لم يعد احد يستطيع القول انه دولة “طبيعية” في مواجهة قوى ضد الدولة. حصلت إعادة تكوين للدولة، وكان نظام الأسد الحالي نتاجها. فما هي طبيعة نظام الأسد حالياً، و كيف تغير اثناء الحرب الأهلية؟

 

دعني أبدأ بوصف بوتين ولافروف المستمر لنظام الأسد بالحكومة “الشرعية”. حسناَ هذا متأصل في مفهوم ضيق جداً للشرعية. بإمكانك بالتأكيد القول إن نظام الأسد يمثل الحكومة الشرعية، من وجهة نظر القانون الدولي، ولكن بالتأكيد ليس من وجهة نظر الشرعية الديمقراطية.قد تكون حكومة “قانونية”، بمقاييس الأمم المتحدة، لكنها بالتأكيد ليست “شرعية”، لأنه لم يتم أبداً انتخابها بطريقة ديمقراطية. هذا نظام ناتج من انقلاب حدث قبل ٤٥ عاماً. ولا يزال يُحكَم بعد انتقال الرئاسة بالوراثة من خلال سلالة شبه ملكية تحكم البلد بواسطة أجهزة أمنية، ودكتاتورية عسكرية. سوريا بلد لم تحصل فيه انتخابات عادلة وحرية سياسية، على مدى نصف قرن. وهذا النظام نفَّر السكان بشكل أكبر، على مدى العقدين الماضيين، بتسريعه للإصلاحات النيوليبرالية، التي أدت إلى افقار قطاعات واسعة من السكان، خاصة في الريف، وارتفاع حاد في معدلات البطالة وتكاليف المعيشة.

 

لقد بات الوضع لا يحتمل، ولذلك حدثت الانتفاضة الشعبية عام ٢٠١١. وبطبيعة الحال، لن يستطيع نظام دكتاتوري وحشي مواجهة مظاهرات حاشدة كانت سلمية جداً في البداية، بأية طريقة ديمقراطية، مثل تنظيم انتخابات حقيقية حرة: هذا كان غير وارد أبداً. وكان رد النظام الوحيد هو القوة الوحشية، التي تسارعت تدريجياً، فقُتل مزيد من الناس يومياً، وتفاقَم الوضع، ما أدى إلى تحول الانتفاضة إلى حرب أهلية. بالإضافة الى ذلك، فإنه من المعروف جيداً ان النظام في صيف/خريف ٢٠١١ أطلق سراح الجهاديين المعتقلين في سجونه. لأن النظام أراد منهم تشكيل مجموعات جهادية مسلحة – وتلك هي النتيجة الحتمية لإطلاق سراحهم، في حالة الانتفاضة الحاصلة-، ليؤكد النظام الكذبة التي نشرها منذ البداية، ألا وهي أنه يواجه تمرداً جهادياً. وقد أثبت ذلك بالطبع أننا إزاء نبوءة تحقق نفسها بنفسها. فالعسكر الذين أطلق سراحهم النظام يقودون الأن بعض اهم المجموعات الجهادية المسلحة في سوريا. ومن المهم أن نعي أنه مهما قلنا عن الصفات الرجعية لمعظم من يحاربون النظام، فالنظام هو من أوجدهم، أولاً. وبشكل أعم فإن النظام بوحشيته ولّد الاستياء الذي دفع لتطور الجهادية، حتى وصلت لداعش. فداعش هي رد همجي على همجية النظام، فيما أدعوه “صدام الهمجيات”.

 

هناك جانب آخر لهذا الواقع، وهو أن نظام الأسد بات أسوأ مما كان عليه قبل الانتفاضة. فهو لم يعد دولة ديكتاتورية فقط، بل بات أيضاً دولة تمسك بزمام الامور فيها عصابات إجرامية منفلتة من عقالها، تُطلق عليها بالعربية تسمية “الشبيحة”. وهم يبثون الرعب في الناس، و لهذا فإن معظم أمواج اللاجئين الذين فروا إلى اوروبا هم من المناطق الخاضعة لسيطرة النظام. هؤلاء هم العدد الاكبر من الناس الذين لا يستطيعون أن يعانوا البقاء أكثر، خاضعين لتلك العصابات المجرمة، التي رعاها الأسد. الشعب السوري ليس لديه إيمان بمستقبل النظام، وبالتالي كل من يمكنه تحمل التكلفة، يقرر الهروب الى أوروبا. معظم اللاجئين الفارين إلى أوروبا ليسوا من أفقر الناس، كما يمكن أن نلاحظ انطلاقاً من التقارير التلفزيونية. فهناك نسبة كبيرة من اللاجئين من الطبقة المتوسطة. وهم في غالب الاحيان باعوا كل ما يملكون في سوريا، لأن ليس لديهم أمل في العودة إليها! وسوف تكون لذلك تكلفة ضخمة بالنسبة لمستقبل البلد. أما أولئك الذين ما زالوا في سوريا، فإما ليس لديهم حل آخر أو هم من أثرياء الحرب.

 

الوضع كئيب جداً. لا أحد يمكنه لوم السوريين على قرارهم مغادرة بلدهم للأبد، لأن الوضع يتطلب الكثير من التفاؤل للمحافظة على أي أمل في مستقبل سوريا. ومع ذلك، شهدنا في التاريخ أوضاعاً مأسوية أسوأ من ذلك، تلتها عودة إلى الوضع السوي، مع ان ذلك قد يستغرق سنوات عديدة. غير أن الشرط الأول لوقف الحرب في سوريا والعودة إلى الوضع الطبيعي إنما هو مغادرة الأسد. فطالما هو موجود، من المستحيل وضع حد لهذه المأساة الرهيبة.

 

لا يزال الإعلام الغربي يتحدث عن المعارضة المعتدلة في سوريا، وفي المقابل، رد بوتين الأساسي أنه لا يوجد فاصل واضح بين الجهاديين والمعتدلين في المعارضة المسلحة. حتى أن لافروف قال مؤخراً إنه يمكنه التحدث مع الجيش السوري الحر، لكن المشكلة أنه من غير الواضح من هم قادته، وهل هو موجود حقيقة أم لا. هل يمكنك أن تعطيني تقييماً لمجموعات المعارضة،التي لا تنتمي لداعش؟

 

هناك صَفٌّ كامل من هذه المجموعات.من المجموعة الاولية من الجيش السوري الحر، التي كانت علمانية وغير طائفية، نسبياً، إلى كل أشكال الجهاديين، وصولاً إلى النصرة، فرع القاعدة في سوريا. وكل الجهاديين يتشاركون نفس البرنامج، الا وهو فرض الشريعة وتطبيقها في المناطق الخاضعة لسيطرتهم. ولكن كل هذه المجموعات بمن فيها النصرة لم تقترب من الأعمال الهمجية المروعة التي تقترفها داعش، وكأنها اقبح صورة كاريكتورية ممكنة للدولة الاصولية، صورة لكانت اعتُبرت غير قابلة للتصديق، فيما لو كانت واحداً من الأعمال المتخيلة. إن المعارضة غير المنتمية إلى داعش تمثل سلسلة متصلة من القوى الإسلامية الأصولية، من الاخوان المسلمين حتى القاعدة، كلهم معارضون لداعش. وليس في هذا أي شيء يوحي بالتفاؤل بمستقبل سوريا بالطبع. صحيح أن همجية النظام قتلت أناساً اكثر بكثير مما فعل أي طرف آخر، بما فيه داعش، لكن معظم قوى المعارضة تقدم بدائل غير ملهمة على الإطلاق. إن الشرط المسبق للتخلص من هذا التيار، الذي تسبب النظام نفسه بإنتاجه، كما شرحت سابقاً، إنما هو التخلص من الأسد،ولا حل من غير ذلك.

 

هناك أيضا القوات الكردية في سوريا، التي هي القوة الأكثر تقدماً ضمن المجموعات المسلحة التي تلعب دوراً في المعركة. هذا إن لم تكن الوحيدة. وصراعها الاساسي لغاية الآن هو ضد داعش، وقد تبنت موقفاً محايداً، تقريباً، حيال النظام وباقي المعارضة. ومنذ السنة الماضية، كانت ومازالت تحظى بدعم الولايات المتحدة، عن طريق التسليح والضربات الجوية. وهم بشكل أساسي منخرطون في المناطق المأهولة بالأكراد. ولكي يكون لهم دور في القتال خارج مناطقهم، وبالتالي في تحديد مصير سوريا ككل، عليهم ان يتحالفوا مع العرب، ومع أقليات أخرى. وهذا ما كانت الولايات المتحدة تدفع إليه،وقد لاقى بعض النجاح وذلك من خلال حملهم على العمل مع مجموعات الجيش السوري الحر، والآن مع القبائل العربية السورية، كما تفعل الولايات المتحدة في العراق ضد القاعدة.

 

هل باعتقادك ان نوعاً ما من التحالف قد يبرز في سوريا. بحيث يمكنه ان يمثل منظوراً تقدمياً لمستقبل البلد؟

 

بصراحة، انا حالياً غير متفائل اطلاقاً، بالنسبة للقوى المتواجدة جميعها. حالياً احسن ما يتمناه المرء هو أن تنتهي الحرب. وقف سيل الدماء و الدمار الحاصل في البلد هو الاولوية حالياً. ستكون هنالك حاجة لإعادة بناء بديل تقدمي من الامكانيات التي لا تزال متاحة. فمع أنه ليست هناك أي قوى منظمة تمثل هذا البديل، لا يزال هناك احتياطي هام يكمن في العديد من الشباب، الذين بدأوا بهذه الانتفاضة في العام ٢٠١١. الآلاف منهم في المنفى الآن، وآخرون في السجن، وكثيرون آخرون ما يزالون في سوريا، إلى الآن، لكن لا يستطيعون ان يلعبوا دوراً حاسماً في الحرب الاهلية. نحن بحاجة لأن تتوقف الحرب، أولاً. فمهما جلبت نهاية الحرب من نتائج، ستكون إيجابية من هذا المنظور. لكنها ستحتاج لبروز بديل تقدمي جديد، على اساس الإمكانات المتاحة حالياً، ليكون هناك مجال لأي تفاؤل.

 

هل يمكن للمرء ان يقول انه لا يمكن وقف الصراع الا من خلال تدخل خارجي، ام انك تعتقد ان التدخل الخارجي سواء كان غربيا أو روسياً سيطيل امد الحرب؟

 

إن التدخل الغربي استهدف تنظيم داعش، على وجه الحصر، لغاية الآن. فلقد استهدفت ضربات التحالف بقيادة الولايات المتحدة مناطق داعش، وتحاشت كلياً المناطق التي يسيطر عليها النظام. بينما القليل جداً من الضربات الروسية استهدف داعش، والأغلبية العظمى من الضربات استهدفت المعارضة غير المنتمية إلى داعش، في المناطق المتنازع عليها بين النظام والمعارضة. لذا يوجد هناك فرق شاسع في هذا الصدد. إن التدخل الروسي يطيل من أمد الحرب الأهلية، بالتأكيد. وكائناً ما يكون التفكير الغربي القائم على التمنيات بأن يكون لروسيا دور ما، فالواقع يبقى أنه قبل التدخل الروسي، كان النظام منهَكاً، وكان يخسر الارض، ويتم النظر اليه بأنه في طريقه الى الانهيار. ولهذا السبب، تدخل بوتين، كما ذكرت من قبل. فلقد كان يمكن ان تكون هنالك خسارة كبيرة له، فيما لو انهار نظام الاسد.

 

إن توسع تنظيم داعش المذهل حدث منذ سنة،ولم يقم لا نظام الأسد ولا روسيا بفعل شيء جدي لايقافه. إن شاغل بوتين والأسد واحد في ما يخص هذا الشأن، الا وهو بقاء النظام. وبدعم بوتين للنظام، يطيل أمد الحرب، وهذا عمل إجرامي. وفي النهاية، فإن الواحد يتمنى ان يكون تفكير الغرب الرغبوي صحيحاً، وان تقنع روسيا الاسد بالتنحي. ولكن من الصعب التنبؤ بمنظور بوتين في ما يتعلق بهذا الامر. ومع ذلك فإنه صحيح ان روسيا تواجه مجازفة كبيرة بأن تَعْلق “بمستنقع”، على حد تعبير اوباما،إذا لم تنته الحرب، خلال امد قصير. سنتابع تطور الاحداث. وإن اكثر الاحلام وردية عند المواطنين السوريين العاديين هو ان تنتهي الحرب، وأن يتم نشر قوات للأمم المتحدة، للمحافظة على النظام، وإعادة بناء الدولة والبلد.

 

المصدر باللغة الانكليزية: lefteast

شارك المقالة

اقرأ أيضا