لهيب الأسعار: حرب يومية تشنها الطبقات المالكة

سياسة17 يناير، 2015

أصدرت المندوبية السامية للتخطيط يوم الإثنين 23 شتنبر 2014، مذكرة تؤكد أن البلاد ستعرف موجة جديدة من الغلاء. المذكرة تضمنت جردا بالنسب المئوية لارتفاع أسعار بعض المواد غير الغذائية، كما هو شأن سعر الماء والتطهير، على سبيل المثال لا الحصر، واللذين ارتفعا بنسبة 12.8% والكهرباء بنسبة 6.5%.، أما الخضر فقد بلغت نسبة ارتفاعها 5.2% والقهوة والشاي 2.8%.. ليس هذا بغريب مطلقا، فالزيادات التي شهدها المغرب في السنوات الاخيرة، والتراجع عن دور صندوق المقاصة، جعلا القدرة الشرائية للأغلبية الشعبية في مهب الريح.

تمت الزيادة في أسعار ثلاثة أنواع من المحروقات، دفعة واحدة، في أعقاب رفع الدعم عن الفيول من نوع N2 المستخدم في إنتاج الكهرباء، ليتضاعف سعره بأزيد من 110 في المائة. ونجمت عن قرار الزيادة الذي جرى اتخاذهُ، مؤخرًا، ارتفاعُ أسعار البنزين، بنحو 0.35 درهم في اللتر الواحد، ليستقر سعره في مستوى 13.68 درهم عوض 13.33 درهم. وتبعًا لهذه الزيادة، سينعكس رفع الدعم عن الفيول الصناعي الموجه لإنتاج الكهرباء ورفع أسعاره وفق تطور السوق العالمية للنفط ومشتقاته، على كلفة إنتاج الكهرباء بما يزيد عن الضعف تقريبا، في الوقت الذي تستعد فيه الحكومة لتحرير أسعار بيع الكهرباء بتدرج ينم من خوف نهوض شعبي.

البنك الدولي ينظم الهجوم على الفقراء

يأتي قرار الحكومة رفع الدعم عن الكهرباء، في إطار ما تعتبره “خطة لإنقاذ المؤسسة الرسمية المغربية للماء والكهرباء من الإفلاس”، بعد تسجيل هذه الأخيرة “لعجز قياسي”. طبعا هي خطة “ليبرالية”، تمس جيوب طبقات المجتمع السفلى، من عمال وكادحين، وتحملهم وزر إفلاس مؤسسات خربتها الخطط الليبرالية التي يشرف عليها البنك العالمي منذ عقود.
كل المسؤولية ملقاة على “برنامج تحرير قطاع الطاقة” الذي فرضه البنك العالمي والذي أدى إلى احتكار الرأسمال الأجنبي لكامل هذا القطاع، من تكرير للمنتجات البترولية وتوزيعها وإنتاج للطاقة الكهربائية وتوزيعها. والذي يخدم بالأساس المصالح الاقتصادية للشركات المتعددة الجنسية والمحلية المتدخلة بالقطاع. فالشركات المتعددة الجنسية (ليديك، ريضال، فيفاندي) تحتكر بشكل شبه مطلق هذا القطاع، وتحوز على أكثر من 75% من مجموع شبكة التوزيع، فيما يكتفي المكتب الوطني للكهرباء ب 25% فقط. (المصدر: وثيقة “مقاربة اقتصادية لقطاع الطاقة” لسنة 2002 لوزارة المالية).

تزعم الحكومة أن العجز المسجل في صافي دخل المكتب الوطني للماء والكهرباء، يناهز 2,7 مليار درهم، لافتين إلى أن مديونية المكتب الوطني بلغت 51,8 مليار درهم بالإضافة إلى التزامات صندوق التقاعد بنحو 18 مليار درهم. وتؤكد أن عجز خزينة المكتب بلغ بدوره ناقص 7,5 مليار درهم، فيما بلغت ديون الشركات الممونة للمكتب 2,3 مليار درهم لحساب 1422 شركة محلية و181 شركة أجنبية. وتعزُو هذه “الوضعية” إلى ارتفاع الطلب على الكهرباء بمعدل 7 في المائة خلال العشر سنوات الأخيرة، والتأخر “الكبير” الذي عرفه البرنامج الاستثماري في مجال الكهرباء (2006-2012) وتؤكد أنه من أصل 3500 ميغاوات التي كانت مبرمجة لم ينجز إلا حوالي 700 ميغاوات. وتظيف أن تقلبات الطقس أثرت بدورها على استعمال الطاقة الكهرومائية، مما اضطر المكتب للقيام باستثمارات في سنة 2013 بما مجموعه 5 ملايير درهم وفي سنة2012 بمبلغ 4,6 مليارات درهم، إضافة إلى ارتفاع نسبة الاستيراد من الخارج. ولا شك أن المبتغى من الاغراق بهذه الأرقام، وسرد المبررات المزيفة هو اقناعنا بإلغاء الدعم ورفع سعر استهلاك الكهرباء. لكن الحقيقة غير ذلك تماما.

لقد تسبب برنامج تحرير قطاع الطاقة في سيطرة الرأسمال الأجنبي على المداخيل المالية التي كانت الدولة تجنيها من استيراد وتكرير البترول وتوزيع مواده وإنتاج الطاقة الكهربائية وتوزيعها. فالرأسمال السعودي “كورال” يحقق سنويا أرباحا تتراوح ما بين مليار درهم و 2 مليار درهم. ورغم أن باقي المجموعات المتدخلة بالقطاع لا تعلن عن أرباحها، إلا أنها تحتل مراتب جد متقدمة ضمن 500 مقاولة الأولى من حيث رقم أعمالها. فبعد ظرف وجيز من مسلسل التحرير والخوصصة توجد حاليا خمسة مجموعات مستثمرة في قطاع الطاقة ضمن 15 مقاولة الأولى بالبلاد. ويدل ذلك على أهمية المداخيل المالية التي تجنيها هذه الشركات التي تعتبر في معظمها ذات رأسمال أجنبي.

ضمن 500 مقاولة الأولى تحتل “سامير” المرتبة الثانية و”شيل” المرتبة الثامنة و”طوطال” المرتبة العاشرة ومجموعة ABB/CMC لإنتاج الكهرباء بالجرف الأصفر المرتبة الخامسة عشرة. وما يثير الانتباه هو أن الرأسمال المحلي استفاد بدوره من عملية التحرير وإن ظل يحتفظ بأدوار جزئية. فمجموعة “أفريقيا” لعائلة أخنوش أصبحت بفضل برنامج تفكيك قطاع الطاقة العمومي ضمن الخمسة مجموعات رأسمالية الأولى بالبلاد وأول مجموعة في قطاع توزيع المنتجات البترولية بعد أن تقدمت في السنوات الأخيرة على “شيل” و”طوطال”. إن الموقع الذي باتت تحتله مجموعة “أفريقيا” نموذج لمصالح الرأسمال الكبير المحلي وكيف يتداخل مصيره الاقتصادي بمصالح الرأسمال الأجنبي. وهذا ما يفسر انصياعه لمخططات البنك العالمي ودفاعه المحموم عن إلغاء دعم أسعار المنتجات البترولية.

بالموازاة مع رفعها أسعار الفيول الموجه لإنتاج الكهرباء، أقدمت الحكومة على رفع أسعار الفيول الموجه للقطاع الصناعي والبنزين الموجه لمحطات الوقود. ورفعت ايضا سعر الفيول الصناعي، مع بداية شهر رمضان، بما يناهز 197 درهم في الطن، لينتقل سعره من 5898 درهم للطن إلى 6095.46 درهم خلال شهر يوليوز الماضي. كما ارتفع سعر الفيول من نوع N2 المستخدم في إنتاج الكهرباء بمستويات كبرى في ظرف أقل من 30 يوما، حيث انتقل سعره من 2384.83 درهم للطن الواحد خلال شهر ماي إلى نحو 5697.32 درهم للطن الواحد.

إن تحرير أسعار المحروقات مخطط امبريالي للإستحواذ على سوق البترول والكهرباء ببلادنا يشرف على تطبيق تفاصيله البنك العالمي منذ عقود عبر برنامجه المدعو “برنامج المساعدة في تدبير قطاع الطاقة” الصادر في عدة طبعات وبرنامج “سياسة تنمية قطاع الطاقة” الصادر في 2007.

هذه الزيادات السالفة الذكر، سبقتها زيادة في سعر الحليب، والزيادة في ثمن المحروقات في يونيو 2012، وغيرها. وتؤدي إلى قضم جزء كبير من الزيادة في الحد الأدنى للأجر الذي تقرر في 2011، رغم كونه لا يطبق في نسبة مهولة من الشركات. نار الأسعار هذه تستعر بحدة بزيادة أسعار المحروقات، وبرفع سعر الكهرباء… هذا الغلاء، مع تجميد الأجور وضغط الضريبة يعني إفقارامتزايدا للعمال ومجموع الفئات الشعبية.

إن مسألة الأجور والقوة الشرائية، أصبحت بالنسبة لمعظم الموظفين، وعمال القطاع الخاص والجمهور العريض من العاطلين عن العمل، والمتقاعدين مصدر القلق الرئيسي. فتلبية الاحتياجات الضرورية أصبح عسيرا على نحو متزايد بالنسبة لغالبية السكان. فأسعار السلع الأساسية تضاعفت، وفواتير الكهرباء والماء تأرق الأسر نهاية كل شهر، وأثمان العقار لا يقدر المرء عليها إلا بديون تثقله طيلة العمر، وتكلفة النقل في ارتفاع… وتزيد جميع القرارات والسياسات الحكومية في تعميق هذا الوضع. ولا تجد الحكومة ووراءها المؤسسات المالية العالمية مخرجا للأزمة غير تحميل تكلفتها لملايين العمال والفقراء والعاطلين، بالمقابل يزداد الأغنياء ثراء.
الأزمة يجب أن تلقى على كاهل الباطرونا
بموازاة التفقير المتعاظم لطبقات المجتمع السفلى، تتصاعد أرباح الشركات في سياق الازمة.
ارتفعت الأرباح الصافية للشركات المغربية المدرجة في بورصة الدار البيضاء إلى 31 مليار درهم (3.8 مليار دولار) نهاية العام 2010، بزيادة نسبتها 8.8 في المائة على أرباح عام 2009، محققة إيرادات إجمالية بلغت 236.6 مليار درهم (29 مليار دولار)، بزيادة 24 مليار درهم عن العام السابق. كما أن عائدات الشركات العاملة في قطاع الطاقة والمناجم والمعادن زادت بأكثر من 1.3 مليار دولار. وحققت المصارف أرباحا زادت على مليار دولار، بنمو 22 في المائة، وهي: “وفا بنك” و”البنك الشعبي” و”المغربي للتجارة الخارجية”. هذا وتراوحت أرباح شركات التمويل والقروض مليار درهم، وشركات تجارة التوزيع 724 مليونا، وشركات التقنيات الحديثة 206 ملايين درهم. تُعتبر “أونا” و”الشركة الوطنية للاستثمار” المحرك الفعلي لبورصة الدار البيضاء، وكانت “أمنيوم شمال أفريقيا” (اونا) قبل انسحابها تغطي نحو 20 في المائة من القيمة الرأسمالية للبورصة المقدرة ب 70 مليار دولار.

وفق قائمة فوربس لسنة 2014 يحتل عبد العزيز أخنوش، وزير الفلاحة والصيد البحري في حكومة العدالة والتنمية، المرتبة 1210 ضمن أثرياء العالم والصف الثالث كأغنى أغنياء المغرب بثروة بلغت 1.4 مليار دولار (أي أكثر من 1100 مليار سنتيم). ثروة أخنوش تأتي أساسا من مجموعة “أكوا”، وهي تجمع لشركات تستثمر في قطاعات الطاقة (أفريقيا غاز، وأفريقيا لتوزيع المحروقات، وماروك أوكسيجن”، كما يستمد ثروة عائلته من الاستثمار في قطاع العقار عبر شركة “أكوا إيمو”، والسياحة من خلال تحالفه مع مجموعة “إكور” الفرنسية ومجموعة “فرو سيزنس” لصاحبها الأمير السعودي الوليد بن طلال. وزوجته “سلوى أخنوش” لها شركتها الخاصة التي تعمل في قطاع “الفرانشيز”، وهي التي تملك “مروكو مول” ومجموعة من العلامات التجارية، من قبيل: “غالري لافييت” الفاخرة و “فناك” المتخصصة في المنتوجات الثقافية وغيرها. لذلك يتسارعون لامتطاء المؤسسات العمومية، لخدمة مصالحهم وليس مصالح الاغلبية المفقرة.

وكما هو الحال في قائمة السنة الماضية احتل عثمان بنجلون، صاحب مجموعة “البنك المغربي للتجارة الخارجية”، المرتبة الأولى مغربيا، والـ609 عالميا، بثروة تقدر بـ2.8 مليار دولار (حوالي 2500 مليار سنتيم). وقد احتل بنجلون المرتبة 12 في قائمة أثرياء العرب. ينشط بنجلون في السنين الأخيرة، المستفيد من تدمير المؤسسات الوطنية، أساسا في قطاعات البنوك والتأمينات والاتصالات. ويملك أساسا إضافة إلى البنك السالف الذكر، “بنك إفريقيا” الحاضر حاليا في 16 دولة إفريقية، ويمتلك 68 في المائة من رأسماله، كما توجد في ملكيته شركة التأمين “الملكية الوطنية للتأمين” التي لها استثمارات واسعة وضخمة في العديد من القطاعات الاقتصادية.

فضلا عن هذا، تقدر الأموال المهربة من المغرب بين عامي2000 و2010 ب12.83 مليار دولار، حسب تقرير دولي صدر العام الماضي عن “مركز النزاهة المالية العالمية حول “تهريب الأموال إلى الخارج”، كشف أن المغرب يحتل المرتبة الـ 45 من حيث حجم تهريب الأموال للخارج من بين 143 دولة.

وعلى صعيد الضريبة، جرى منذ 25 عاما، تطبيق سياسة ليبرالية مكنت الأكثر غنى والمقاولات، وبخاصة تلك التي تحقق الأرباح من أداء أقل فأقل… (تم تقليص الضريبة على الشركات، 30 في المائة حاليا، عدة مرات، و20 في المائة من المقاولات هي من تدفع 80 في المائة من مداخيل هذه الضريبة، في حين تساهم 10 في المائة فقط من المقاولات العمومية بنسبة 15 في المائة من المداخيل التي تدره هذه الضريبة، وبإضافة اتصالات المغرب ستصل هذه المساهمة إلى 23 في المائة من المداخيل).
تعميقا لهذا المنحى، أقدمت الحكومات المتعاقبة منذ الثمانينات على إصلاحات ضريبية أفضت إلى خفض الضريبة على الأكثر غنى وعلى المقاولات، تحث ذريعة “حفز النمو” أو كما يقال حاليا “تشجيع التنافسية”، مقابل رفع المساهمة الضريبية للمستهلكين الذين يشكل العمال غالبيتهم العظمى. إنه سخاء لفائدة الأغنياء، مقابل الضغط على القدرة الشرائية للفقراء المسحوقين أصلا بفعل عقود من السياسات النيوليبرالية منذ الثمانينات. وإضافة إلى إثقال كاهل الفقراء بمزيد من الأعباء المالية فقد أدت هذه الإصلاحات إلى الإضرار بمداخيل ميزانية الدولة اللازمة للمساهمة في تمويل الخدمات العمومية مثلا بناء مدارس ومستشفيات وتشغيل المعطلين ودعم القدرة الشرائية…إلخ
ما السبيل لمواجهة هذا الهجوم؟
لا سبيل لمواجهة هجوم الطبقات الغنية إلا بالدفاع عن القدرة الشرائية والتصدي لمسلسل الزيادة في الأسعار، والمطالبة برفع الأجور، وتطبيق السلم المتحرك للأجور، وإلغاء الضريبة على القيمة المضافة، وإلقاء ثقل الضريبة على الأغنياء، وتعزيز دور صندوق المقاصة… إنها مجرد بداية لمعركة القضاء على الاستغلال وكل أوجه التفاوت الاجتماعي ضد النظام الرأسمالي في مجمله ذلك لفتح الطريق نحو مجتمع خال فعلا من استغلال الإنسان للإنسان ومن كل تفاوت.

بقلم: محمد الساعي

شارك المقالة

اقرأ أيضا