تفاقم المديونية المغربية، وتقهقر وضع الطبقات الشعبية
بقلم، س.ن
يحتاج الرأسمال المغربي إلى تمويل مشاريعه الاستثمارية، وتلعب الديون دورًا مهما في ذلك. وهذا النهج شائع بين الدول النامية بمبرر تحقيق الأهداف التنموية. هكذا يمكن استجلاء تفاقم المديونية المغربية بواسطة عدة مؤشرات:
ارتفاع مستويات الدين؛ إذ تجاوز الدين العمومي 70% من الناتج المحلي الإجمالي، واستمر بالفعل ارتفاع منحنى الدين بصورة ملحوظة خلال العقد الماضي، وبهذا تزايدت خدمة الدين ما أفضى إلى تخصيص جزء متزايد من الميزانية لسداد أقساط الدين وفوائده. وتضغط خدمة الدين هذه على الإنفاق الموجه للقطاعات الاجتماعية والاستثمارية الأساسية
لماذا اللجوء للتمويل بالديون؟
أولى المبررات المترددة في الخطاب الرسمي هي عجز الميزانية المستمر، أي عدم كفاية الإيرادات الضريبية لتغطية النفقات العمومية، والحاجة لتمويل البرامج الاجتماعية والاستثمارية، والظروف الخارجية الطارئة مثل جائحة كوفيد-19 وتداعياتها الاقتصادية، وتأثير الجفاف المتكرر على الفلاحة والاقتصاد، وأزمة ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية عالمياً.
ومن الواضح مؤخرا أن التمويل مركز على تمويل مشاريع البنية التحتية الكبرى، والاستثمار في قطاعات يقال إنها إستراتيجية مثل الطاقة والصناعة. لذا تردد الدعاية الرسمية أن البلد تواجه تحدياً في تحقيق التوازن بين «تمويل احتياجات التنمية»، والحفاظ على استدامة المالية العمومية، وهذا يعني بصريح العبارة «تعزيز النمو الاقتصادي لتحسين قدرة السداد».
الدولة تستدين لصالح الرأسمال؟
تلخص نهج الدولة في العقود الأربعة الماضية في اتخاذ ما يلزم من إجراءات لتحسين ما يسمى مناخ الاستثمار عبر تعزيز النمو وزيادة الإيرادات و»تحسين كفاءة الإنفاق.». ومن أجل ذلك لجأت للأسواق الدولية، والمؤسسات المالية العالمية، والدائنين الثنائيين الذين تربطها بهم اعتبارات سياسية.
وأدت اشتراطات هذه الديون بالفعل إلى تبني سياسات تقشفية أضرت كثيرا الإنفاق الاجتماعي، وجرى تحرير الاقتصاد ما عرض «الصناعات المحلية» للخطر، وأخيرًا منحت الأولوية لسداد الديون المستنزفة للموارد. وهذه الاشتراطات مشكلة حقيقية إذ تسلب القرار السياسي والاقتصادي وتنتهك السيادة في ظل اقتصاد يواجه تحديات هيكلية مزمنة.
يصدر المغرب سندات دولية بعملات أجنبية (خاصة الدولار واليورو) في الأسواق المالية الدولية (الدين التجاري)، وهنا يتعلق الأمر بمستثمرين مؤسسيين وصناديق استثمار عالمية تتميز ديونهم بأسعار فائدة مرتفعة نسبياً. كما يلجأ للمؤسسات المالية العالمية مثل صندوق النقد الدولي، والبنك العالمي، وبنك الاستثمار الأوروبي من بين أخرى عديدة، وهو يتعاقد أيضا على ديون ثنائية لدى دول مانحة وبخاصة دول الخليج والاتحاد الأوروبي. ويلجأ أيضا لديون لدى مؤسسات التمويل التنموي. ولكل من هذه الديون اشتراطات، فصندوق النقد الدولي بفرض الإصلاح الهيكلي، ويوصي من بين إجراءات ضارة عديدة بخصخصة مؤسسات عمومية مربحة، وتقليص العجز الموازناتي عبر خفض الدعم (الطاقة، والمواد الأساسية…) وتجميد/خفض التوظيف العمومي، والتحكم في أجور الوظيفة العمومية، بعبارة أخرى ما يسمونه كبح جماح كتلة الأجور في الميزانية. وترافقها أيضا شروط تحرير الأسواق، أي فتح المجال للمنافسة الأجنبية ونزع كل القيود التي تعوق رأس المال وربحيته.
الربحية لرأس المال، والاستنزاف للطبقات الشعبية
تؤثر الديون سلبا على التنمية الحقيقية بامتصاصها جزء كبيرا من مداخيل الصادرات والسياحة وعائدات الهجرة… ولأن الاستدانة تجري بالاقتراض لسداد الديون المتراكمة. إنها معضلة حقيقية حيث تُستخدم قروض جديدة لتسديد ديون قديمة، وهذا ما يقود لما يسمى انزياحا ماليا؛ أي تحويل موارد من التعليم والصحة والاستثمار المنتج نحو خدمة الديون. ضد على ذلك إذكاء التبعية بمعنى فقدان السيادة الوطنية في وضع السياسات الاقتصادية والاجتماعية… الخ.
تأتي الديون باسم «تحفيز النمو» لكن شروطها تُعيق هذا النمو. يؤدي التركيز على الاستقرار المالي قصير المدى إلى إعاقة التنمية طويلة المدى، وتؤدي السياسات التقشفية إلى تباطؤ اقتصادي يزيد عجز الميزانية بدل تقليله…
تردد الدولة أنها جادة في السعي لإيجاد مخرج من هذه الدوامة عن طريق تنويع مصادر التمويل (شراكات استثمارية، سندات خضراء…)، وتعزيز الإيرادات عبر محاربة التهرب الضريبي، وتحفيز القطاع الخاص للاستثمار في المشاريع الكبرى، وتحسين جاذبية الاقتصاد للاستثمار الأجنبي المباشر… إن نفس السياسات لن تؤدي سوى لنفس النتيجة ولما لا أسوأ.
تمثل خدمة الدين (أقساط + فوائد) أكبر بند إنفاق في الميزانية، حتى أكثر من القطاعات الاجتماعية مجتمعة. إنها مفارقة كبيرة، خاصة وأن المغرب بلد «نامٍ» يحتاج لاستثمارات كبيرة في التعليم والصحة… هذا علما أن الأرقام الرسمية لا تعكس الحقيقة. في سنة 2023 بلغت مخصصات الدين حوالي 95 مليار درهم (أي قرابة 34% من إجمالي النفقات)، وفي السنة الموالية تجاوزت 100 مليار درهم، وهذا الرقم أكبر من ميزانيات عدة وزارات مجتمعة.
بلغت مخصصات التعليم سنة 2024 زهاء 72.5 مليار درهم بزيادة طفيفة عن السنوات السابقة، لكن هذه الميزانية لا تزال غير كافية لمواجهة الخصاص المهول، وبالنظر أيضا إلى ما يتسم به هذا القطاع الاجتماعي الهام من اكتظاظ وضعف في البنية التحتية والتأطير… بينما بلغ مقدار ما خصص للصحة في السنة ذاتها نحو 25.4 مليار درهم بزيادة عن السنوات الماضية لكنها تبقى دون ما توصي به منظمة الصحة العالمية، على سبيل المثال. هذا علما أن القطاع يعني من نقص الموارد المهول وندرة المعدات والكادر الطبي…
مخصصات الدين مقارنة بمخصصات الصحة والتعليم…
المبلغ (مليار درهم) 2024 النسبة من النفقات
خدمة الدين تقريبا 100 تقريبا 34 %
التعليم 72.5 تقريبا 24 %
الصحة 25.4 تقريبا 8.5 %
الدعم والتحويلات الاجتماعية تقريبا 26 تقريبا 9 %
يظهر أن خدمة الدين أكبر من مخصصات التعليم والصحة معاً. كل درهم ينفق على الصحة يقابله أربعة دراهم لخدمة الدين. وهذا في بلد تصنفه التقارير الدولية في مراتب متأخرة كل عام منذ عقود فيما يتعلق بالتنمية البشرية. فماذا لو جرى تحويل جزء من خدمة الدين للصحة والتعليم؟ ألن يكون الوضع مختلفاً؟
الاستثمار والخوصصة والشراكات العمومية-الخاصة، أرباح بلا مخاطر للمستثمرين
تعكس سياسات الدولة إصرارها إيلاء الأولوية للالتزامات المالية على الاستثمار من أجل تنمية حقيقية تضع على رأس أولوياتها البشر وحقوقه وليس الرأسمال وأرباحه. يخصص ثلث الميزانية الممولة بالديون لصالح رأس المال لسداد ديون سابقة، في حين تبقى الموارد الموجهة للقطاعات الاجتماعية ضئيلة جدا، وهذا يوضح بجلاء عبء الديون وإعاقته التنمية الحقيقة المنشودة لدى الطبقات الشعبية الكادحة. تستنزف خدمة الدين موارد كبيرة يمكن أن تحول للقطاعات الاجتماعية.
المستفيد من هذا الوضع هو القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي في ظل تزايد الديون العمومية. يستفيد القطاع الخاص مباشرة من البنى التحتية التي تمولها الدولة عبر القروض، لكن هذه الاستفادة لا تترجم بالضرورة إلى تنمية شاملة. هناك مفارقة واضحة: تخلق المشاريع الكبرى أرباحاً للقطاع الخاص دون أن تحسن بالضرورة «المؤشرات التنموية».
يركز الاستثمار الأجنبي المباشر على القطاعات ذات الربحية العالية مثل السياحة والعقارات، ما يخلق نمواً غير متوازن. وبالتالي يظل وضع الشعب الكادح بلا تحسن ملموس رغم ارتفاع معدلات النمو الرسمية. توجد بنى تحتية متنوعة؛ طرق، وموانئ، ومطارات، ومناطق صناعية مجهزة… ترفع قيمة استثمارات القطاع الخاص، وتتحمل الدولة جزءاً من فاتورة الطاقة المستهلكة من قبل القطاع الخاص، وتمنحه أيضا الحوافز الضريبية التي هي إعفاءات وتخفيضات تمول من الخزينة العمومية.
وبالفعل، حولت الدولة عبر الخصخصة مرافق عمومية مربحة إلى القطاع الخاص، وهي تخاطر عن طريق ما يسمى شراكات عامة-خاصة بالتعاقد على القروض يستفيد الشركاء عبرها بتحقيق الأرباح، عدا أن الدولة بضماناتها تخفف المخاطر على المستثمرين المحليين والأجانب، وبالتالي يستفيد القطاع الخاص دون أن يولد مجرد فرص عمل كافية، إذ يفضل نموذج نمو يعتمد على استثمارات رأسمالية مكثفة، أي تلك التي لا تحتاج قوة عمل كثيفة.
بينما تتحمل الخزينة العمومية المخاطر المرتبطة بالديون وأعبائها يحصد الرأسمال الأرباح الأكبر، وتتحمل الطبقات الشعبية الكادحة التقشف في الإنفاق الاجتماعي، وخوصصة المؤسسات العمومية التي تُباع للقطاع الخاص فيصبح رابحاً، في الوقت الذي تتحمل فيه الدولة ديون الخسائر السابقة
طبعا، توجد مشاريع خاصة تولد قيمة مضافة حقيقية، لكن فقط تلك التي يوجد أصحابها في محيط مراكز النفوذ الرئيسة، وأيضا يجري تركيز الاستثمارات التي ترعاها الدولة لمصلحة القطاع الخاص على قطاعات مربحة لكنها ضعيفة القيمة المضافة، هذا بينما تهرب الأرباح للخارج بدل إعادة استثمارها محلياً. كل هذا يضع ادعاءات الدولة محط تساؤل. هل تسعى حقا لضمان «العدالة في توزيع الأعباء والمنافع»، وهل هي حريصة فعلا على «الكفاءة في استخدام الموارد الشحيحة»، وإرساس أسس صلبة لتطوير نموذج تنموي لا يعتمد على الاقتراض لتمويل استثمارات خاصة…؟
نحو سياسات شعبية بديلة لسياسات اشتراطات الديون
الدولة ماضية في سياساتها التقشفية وثيقة الارتباط باشتراطات الاستدانة، وهي تخلت بالفعل عن ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الأكثر أولوية للأغلبية الساحقة من الشعب المسحوق المنزوع حتى من أدوات الدفاع عن مكاسب تضحيات تاريخية كبرى. لذا ما من سبيل سوى القطع نضاليا مع سياسات الاستدانة القاتلة للحقوق والمكاسب.
أبانت نضالات عمالية وشعبية في السنوات الأخيرة، التي كان آخرها حراك جيل زد الشبابي، عن طاقة نضال حقيقية كامنة لا ينقصها سوى رقي تنظيمها وزيادة درجة وعيها وقتاليتها النضالية كي تخلق إمكانا حقيقيا للخروج من دوامة ديون مزمنة، ومن كل شرور رأسمالية تابعة ومتخلفة وراعيها الاستبداد السياسي القائم.
إن الديون العمومية ذات أثر مباشر على ظروف عمل وعيش أغلبية الشعب الكادح الساحقة، ولا مفر من وضع إلغائها على رأس أولية المطالب الاستعجالية من أجل تحرير موارد ينبغي بالتأكيد إعادة توجيهها صوب تلبية الحقوق الأساسية للبشر في الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
ستدرك الطبقات الشعبية عبر نضالاتها وكفاحها اليومي من أجل حياة أفضل، أن التحرر من الوضع المأساوي الذي أوصلتنا إليه سياسات مصممة أساسا لخدمة رأس المال وأرباحه، يقتضي فرض سياسات بديلة تضع على رأس قائمة أولوياتها تلبية الحقوق الإنسانية الأساسية، وذلك عبر نضال لا يلين من أجل تحرر شامل وعميق يضع أسس مجتمع بديل حر وتشاركي.
اقرأ أيضا


