ما دلالة الامتناع الشعبي عن التصويت؟ وما البديل؟

سياسة6 أكتوبر، 2016

للراغبين-ات في مزيد من الإطلاع حول موضوع الانتخابات من وجهة نظر ماركسية ثورية، يرجى تحميل الكراس التالي، والذي يتضمن مجموعة من النصوص السياسية والسجالية المكثفة لمنظور تيار المناضل-ة

للتحميل(نسخة للطباعة على شكل كراس) الإنتخابات إلى مؤسسات البورجوازية.

——————

يستعد النظام لتنظيم انتخابات برلمانية يوم 07 أكتوبر 2016، وقد جاءت دعوة المقاطعة من طيف سياسي يمينا ويسارا، كل بمبرراته. هناك مبرر نراه جديرا بالنقاش لأنه بالنسبة لنا هو محور الموقف من المشاركة في الانتخابات؛ مقاطعة أو مشاركة.

نقصد هنا موقفا يتذرع باتساع المقاطعة الشعبية، ويدعو الوقوف إلى جانب الجماهير على نفس الأرضية وهي أرضية المقاطعة.

يتعلق الأمر إذن بعامل ذاتي، وهو وعي الجماهير وفي القلب منها الطبقة العاملة. فلماذا تقاطع الجماهير الانتخابات بهذه النسب المرتفعة؟ وهل يعد ذلك مبررا للوقوف على نفس أرضية المقاطعة مع الجماهير؟ وما هي العلاقة بين مقاطعة الجماهير “العفوية” وبين إداعاءات الأحزاب الداعية إلى هذه المقاطعة خاصة اليسارية الجذرية منها؟

المقاطعة دليل سلبية الجماهير

ليست مقاطعة جماهير الشعب للانتخابات بالمغرب دليلا عن نشاط سياسي، بل بالعكس مؤشر قبول سلبي بالأمر الواقع، تفويض على بياض من طرف الجماهير المقاطعة للاستبداد للاستمرار في نفس آلية الحكم، شأن تفويض الجماهير المشاركة.

ليس كل عمل تقوم به الجماهير مشاركة سياسية، فحتى يكون عمل سياسيا يجب أن يؤثر على السياسة العامة للدولة، وهذا لا يحدث في المغرب، ما دامت تلك النسبة المقاطعة من الجماهير تقبل الوضع القائم  في كليته وإن رفضت بعض جزئياته.

تبدأ السياسة الحقيقية حين تحتل الجماهير الشارع ليس فقط بالآلاف ولكن بالملايين، وما دامت هذه الجماهير ساكنة وخاملة وتقبل الوضع القائم بكل سلبية، فإن السياسة القائمة حاليا في المغرب هي سياسة القمة والحكم الفردي، سياسة التفاهمات الفوقية والصراعات الثانوية بين الأحزاب بينما يجري الاتفاق حول الأمور الجوهرية؛ الخيارات الاقتصادية والاجتماعية وديمومة حكم الفرد.

إن نسبة المقاطعين نسبة مغفلة، نسبة مشتتة، لا وزن سياسي لها، ومادامت النسبة المقاطعة لا تناضل، فإن النسبة المصوتة هي التي لديها الوزن الحقيقي بالنسبة للنظام.

لا يعني هذا أن نسبة المقاطعة المتنامية لا تشكل مبررا للقلق بالنسبة للنظام، لكنها مبرر من بين مبررات كثيرة للقلق يتعامل معها بسلاسة، ما دام لا يواجه معارضة جذرية تستغل مآزقه ونقاط ضعفه.

هل امتناع الجماهير مبرر لموقف المقاطعة؟

يسعى اليساري دائما إلى إيقاظ الجماهير من خمولها السياسي ومن سلبيتها التي تعتبر نقطة قوة رئيسية بالنسبة للطبقة الحاكمة، ويعد تعميد مقاطعة الجماهير السلبية للانتخابات “نوعا من المشاركة السياسية”، إعلاء للجانب المتخلف والسلبي في سلوك الجماهير.

يعتبر هذا نوعا من اختيار الطريق الأسهل (الأسهل لإبقاء الوضع على ما هو عليه) بمبرر التحليل الملموس للواقع الملموس وعدم إسقاط النماذج، وهو منطق من لا يريد أن يلزم نفسه بشيء على صعيد الفعل، فيعتبر “الواقع الملموس” هو ما يجب أن يكون، في الوقت الذي لا يجب على الماركسي أن يحلل ويفسر بشكل ملموس فقط، بل أن يسعى إلى تغيير هذا الواقع الملموس، وأن يسعى إلى تغييره بتكتيكات صحيحة.

إنها دعوة إلى سلوك سياسي سبقت الجماهير هذه الأحزاب إلى تبنيه؛ دعوة جماهير سلبية إلى المقاطعة/ الامتناع عن التصويت، يعد دعوة لها للبقاء في دائرة الخمول السياسي والقبول بالأمر الواقع، سواء أراد دعاة المقاطعة ذلك أم رفضوه.

إن إدعاء الوقوف على نفس الأرضية مع الجماهير مغر لليسار الثوري، ويحمله هذا الإغراء دوما على النظر إلى الجماهير من وجهة نظر أيديولوجيته الخاصة به، أو على ألا يقيم وزنا إلا لوقائع الحياة الاجتماعية المرتبطة بصورة أو بأخرى بأفكاره ومعاركه. لكن القسم الأعظم من الجماهير، “الذين يريدون تحريرهم من نير الاضطهاد الرأسمالي، يجهل كل شيء أو يجهل كل شيء تقريبا عن صراعاتهم وامتحاناتهم وأفكارهم، ويحيا عبوديته بقدر أو بآخر من عدم الإدراك، فيوطد بالتالي هيمنة الرأسمال”. [“ما الوعي الطبقي؟”، وليهلم رايش، دار الطليعة بيروت، ص 7ـ8).

يعد الاهتمام بالسياسة والمشاركة السياسية دلائل استيقاظ الجماهير بعد تاريخ من الجمود والمحافظة، ويكون التصويت إحدى وسائل هذه المشاركة؛ في بداية نهوضهم السياسي يبحث الكادحون عمن يصلح “لتمثيلهم” وقد يجدونه في المعارضات الشرعية والإصلاحية، وبعد ذلك يتوجه البحث عن أحزاب أكثر جذرية وأكثر ثورية..

إن هذه الحالة غير موجودة بالمغرب حاليا، لكن يوجد عكسها وإن تململ الوضع قليلا في 20 فبراير: خمول سياسي وقبول بالأمر الواقع تتويجا لعقود من القمع البوليسي وانتفاء كل تقاليد النضال السياسي وانعدام معارضة نظام حكم الفرد، بعد عقود من التخبيل السياسي للطبقة العاملة بسبب تسلط أحزاب ليبرالية وبيروقراطيات على منظماتها النقابية وعجز اليسار الثوري عن بناء حزب يعبر سياسيا عن مصالحها.

لم يرث المغرب عن حقبة الحسن الثاني استبدادا فقط، بل تخلفا سياسيا منقطع النظير في صفوف الجماهير والطبقة العاملة، التي لم تتعدى نضالاتها انفجارات غضب عفوية مفتقدة لكل أفق سياسي، أو استغلالها من طرف قوى ليبرالية في مناوشتها مع الملكية، لذلك تمكنت هذه من تنفيس وضع ما بعد الحسن الثاني دون أن تخاف من انسلال الجماهير من ثغرات “إصلاحاتها الفوقية” بتقديم بعض التنازلات لبناء رمزية “جديدة”، وقد نجحت في ذلك.

لا يشير تنامي امتناع الجماهير عن التصويت إلى سمو وعيهم أو امتلاكهم لوعي طبقي متقدم، بل العكس تماما. ويعبر الموقف الأول عن تصور يتناول وعي الجماهير كسيرورة مستمرة غير متقطعة، فهو اليوم أكثر من أمس وسيغدو أكثر من اليوم. وعي الجماهير يتطور في الاتجاهين، قد يسمو بقفزات حتى يتجاوز القادة الثوريين، وقد ينحط إلى درك السلبية والجبن.

الامتناع عن التصويت- في ظل هذه المعطيات- دليل تخلف سياسي، دليل تخل الجماهير عن كل سياسة، وليس دليلا على كونه “نوعا من المشاركة السياسية”.

ولا يغير من هذا وصف هذا الامتناع عن التصويت بـ”المقاطعة العفوية”، التي يجب على اليسار تبنيها وتوجيهها، فالعفوية في القاموس الماركسي الثوري يقصد به الهبات النضالية والانفجارات الثورية والنضالات الإضرابية التي تخوضها الجماهير بشكل عفوي وتلقائي، وعلى اليساريين التدخل فيها وتوجيهها وتنظيمها.

هناك عفوية وعفوية، وليس كل “عمل” عفوي [هذا إذا اعتبرنا الامتناع عن العمل عملا] يجب على اليساريين دعمه وتبنيه.

ماذا عن مزاج الجماهير؟

إن اليساري ملزم بأخذ مزاج الجماهير بالاعتبار، ولكن هذا لا يعني أن يساير هذا المزاج، بل أن يفهمه ويستنتج منه التكتيك الصحيح، ويكون مزاج الجماهير ملائما أكثر في لحظات المد، لحظات الانتفاضات والتفجرات الثورية، آنذاك تصبح القريحة الشعبية ومبادرات الجماهير معينا لا ينضب بالنسبة للماركسي وللحزب، أما في لحظات الجزر والتخلف السياسي، فهناك مخاطرة التحول من طليعة إلى مؤخرة.

وهذا خطا فادح يقع فيه اليسار المقاطع بالمغرب حين يسقط تحليله، قراءته “الذاتية” على “الواقع الملموس”؛ ويصف امتناع الجماهير عن التصويت موقفا أدركته الجماهير عبر محنها وتجاربها الطويلة ما جعلها لا تعتبر الانتخابات رهانا لها.

إن الجماهير تتمثل تجاربها بطريقتين؛ أما الطريقة الإيجابية فهي استخلاص دروس الهزائم والانتصارات إعدادا لمرحلة لاحقة من الصراع والنضال والثورة، وهذا يستدعي حدودا دنيا من التنظيم وتقاليد سياسية كفاحية إضافة إلى شرط لا غنى عنه وهو وجود الحزب، وهو ما ليس متوفرا في المغرب.

وأما الطريقة السلبية فهو الانكفاء والسقوط في الخمول والسلبية، وهجر السياسة والنضال بشكل عام، وهو ما يقع حاليا في المغرب، فالنسب العالية للمقاطعين لا يوازيها ارتفاع نسب المضربين أو نسب المنخرطين في النقابات، ولا ارتفاع في النشاط السياسي للجماهير بالتوجه نحو أحزاب اليسار، الإصلاحي منها في البداية ثم الثوري بعد حين.

كل هذا لا يحدث في المغرب، والمقاطعة الواسعة والسلبية للانتخابات ليست إلا وجها آخر لفقدان الثقة في كل أشكال السياسة بما فيها السياسة الثورية، ولجوء إلى أشكال أخرى لحماية الذات مثل النكوص إلى الجماعة والقبيلة والدين والجهوية.

المقاطع يمتنع عن الإدلاء بصوته، لأنه لا يرى فرقا بين الأحزاب المتنافسة، كلها فاسدة وبعيدة عن همومه اليومية، وسيان صوت لهذا أو ذاك أو قاطع.. ولكن هذا لا يعني أنه في حالة وجود قوة سياسية ذات صدقية لن تتوجه لها أعين الجماهير طلبا “لحسن تمثيلها” في المؤسسة البرلمانية أو البلدية.

يشير الفارق في نسب التصويت في الانتخابات البرلمانية [%45 سنة 2015 مقابل %37 سنة 2007] والانتخابات البلدية [%53,67 سنة 2015 مقابل %51 سنة 2009]، إلى أن الجماهير لا تمتنع عن التصويت انطلاقا عن وعي سياسي وطبقي متقدم، فالتصويت الأعلى في الانتخابات البلدية دليل على خطأ شعار “الجماهير لا تعتبر الانتخابات رهانا لها”، يشير هذا إلى نقص التسيس في صفوف الجماهير بدليل أنها محض اهتمام محلي بالمشاكل المحلية وابتعاد عن أصل المشكل (الاستبداد والنظام الرأسمالي التبعي)، ومؤشر على أن الإيمان بحل مشترك على الصعيد الوطني غائب عن إدراكها.

إن النسبة المصوتة للجماهير تشير إلى ذلك الجزء من الجماهير الذي لا زال يأمل تحسين وضعه بواسطة “المؤسسات”، وجزء من المصوتين يسعى عن اقتناع (اقتناع ناتج عن خداع) إلى البحث عن من يحسن تمثيله في البرلمان، وحتى عند انتفاء هذا الدافع، فإنه يصوت على من يعتبره أقل فسادا وأقل انتهازية، وواقع المغرب يشير أن هذه الأصوات العقابية تتجه يمينا بدل أن تتجه يسارا [نتائج تحالف اليسار وبعدها فيدرالية اليسار].

إن السلوك السياسي لا يمكن استنتاجه فقط من أرقام، بل من الواقع الحي والملموس للجماهير المقاطعة؛ هذه الأخيرة تقاطع لأنها “تحس” بأن “المؤسسات المنتخبة” لا تجلب لها حقا في خدمة عمومية أو شغل أو بنية تحتية (ماء، كهرباء، صحة، طرق.. الخ)، فهل تناضل الجماهير المقاطعة نضالا نشيطا من أجل هذه المطالب؟ بالطبع هناك نضالات متفرقة، لكن أغلبية الجماهير قد بلعت خدعة العمل التنموي واستجداء المنظمات الدولية، وبالتالي لم تبرهن على أن “أن الانتخابات ليست رهانا لها”، بل على أن النضال ليس رهانا لها، في الظرف الحالي طبعا.

محض امتناع.. لا فقدان ثقة في حكم الفرد

هناك واقع أكثر ملموسية، وهو أن هذه الجماهير إن فقدت ثقتها، فقد فقدتها في بعض أوجه الواجهة المؤسساتية لحكم الفرد فقط، وليس في الملكية ذاتها، فكلما تضاءلت مصداقية الأحزاب والبرلمان والمؤسسات كلما توجهت أعين الجماهير- في لحظات الجزر النضالي والتخلف السياسي، فهذا ليس حتمية سياسية- نحو المؤسسة الملكية، وهو ما تزكيه الأحزاب السياسية نفسها باعتبارها الملكية حكما بينها وفوق الطبقات.

طبعا لا تريد الملكية ذلك، فالواجهة الحكومية بالنسبة لها تقيها من شر الغضب الشعبي والاستياء الاجتماعي، ولكن ما دام هذان الأخيران بعيدان عنها، وما دام اليسار والطبقة العاملة ضعيفان، فإنها تتمكن كل مرة من تحسين وتجويد لعبتها الانتخابية ومسلسلها الديمقراطي، بشكل يخدع الجماهير مرة تلو الأخرى.

الامتناع سلوك عالمي

لا يتم تعيين تكتيك لحظة سياسية ما انطلاقا من بعد واحد للحياة السياسية، أو انطلاقا من شروط “بلد واحد”، بل يستدعي ذلك استحضارا للشرط العالمي. فهل المقاطعة أو بالأحرى الامتناع الواسع عن المشاركة في الانتخابات خاص بالمغرب فقط، ويفرضه الشرط الدستوري وخنق العمل السياسي إلى آخره من مبررات المقاطعة؟ الجواب بالطبع انطلاقا من “التحليل الملموس للواقع العالمي الملموس” هو لا، فالامتناع ليس فقط عن التصويت، ولكن عن الأشكال التقليدية للحياة السياسية أصبح سلوكا عالميا.

“لقد فقد كثير من الناس الإيمان بالسياسة… ويقاطع السياسة من يشعرون بالاغتراب وعدم الرضا عنها وعدم الثقة بها من المصوتين حتى في أقطار؛ تاريخ الديمقراطية فيها طويل. وإن الانتصار الكاسح الذي حققه حزب العمال في المملكة المتحدة في الانتخابات العامة لعام 2001 كان مبنيا على مشاركة % 59 ممن هم في سن الانتخاب من السكان، وكان هذا أقل بعشر نقاط من المشاركة في انتخابات العام 1997 وبـ 16 نقطة من المشاركة في انتخابات 1992… وكانت نسبة من أموا الانتخابات في الولايات المتحدة في انتخابات الرئاسة في العام 2000 لا تزيد عن % 51… وكانت نسبة من شاركوا في الانتخابات في العام 1992 % 55، ويزيد عدد من لا يشاركون اليوم في الانتخابات الأمريكية على 90 مليونا”.[السيطرة الصامتة، الرأسمالية وموت الديمقراطية، عالم المعرفة، العدد 336، 2007، ص 125- 126].

إن الالتصاق بالموقف العفوي والتلقائي للجماهير من خلال مقاطعتها للانتخابات يجعل من المقاطعة ليس فقط تكتيكا صالحا للحظة سياسية معينة، بل تكتيكا عالميا صالحا لكل البلدان، وبذلك تتحول المقاطعة من تكتيك إلى “موقف ثابت”.

هل المقاطعة دليل تفاقم أزمة النظام؟

إن رسوخ نظام سياسي لا يتم فقط بقوة ترسانته القمعية، بل بدرجة معينة من الشرعية الشعبية تجري ترجمتها إلى شرعية قانونية ودستورية، فكما قال نابليون: “يمكن فعل أي شيء بالحراب إلا الجلوس عليها”. والشرعية الشعبية، أو قبول الشعب بنظام سياسي ما، يعني إما قبولا إيجابيا ونشيطا وقاعدة اجتماعية واسعة وراسخة حتى وإن رفضه معارضوه، أو قبولا سلبيا ما دام ليس هناك معارضة شعبية وجماهيرية واسعة حتى وإن فقد النظام قاعدته الاجتماعية النشيطة.

يدعي دعاة المقاطعة اليساريين بأن المقاطعة الواسعة للانتخابات بالمغرب تفاقم أزمة النظام الذي خسر رهان المشاركة، في وقت شق فيه موقف المقاطعة وفرض نفسه في الحقل السياسي المغربي.

ماذا يقصد بتفاقم أزمة المشروع المخزني؟ منذ سنوات واليسار الداعي لمقاطعة الانتخابات يعلن فشل المشروع المخزني، والنظام ينجح في كل محطة انتخابية في ضمان استمرارية مسلسله الديمقراطي وفي إدماج قوى سياسية جديدة إلى هذا المسلسل، متمكنا بذلك من تحسين آلية التمويه عن استبداده.

رغم ارتفاع نسب المقاطعة- التي تقلق النظام ويسعى دائما إلى تجاوزها- إلا أن  هذا يبدو مطمئناً بالنسبة إليه مادامت الانتخابات تؤدي، أياً يكن الأمر، وظيفتها عبر تحقيق التنافس والشرعية، فهناك مرشحون يفوزون ولا يجري التشكيك في شرعيتهم نتيجة ضعف المشاركة، وهناك مؤسسات [برلمان وحكومة ومجالس محلية] تقوم بوظيفتها التمويهية وتمرر مخططات النظام الاقتصادية والاجتماعية.

مثال ملموس:

كان مشروع الملكية، قبل حراك العشرين من فبراير بحفز من السيرورة الثورية الإقليمية؛ إعداد حكومة محورها حزب النظام “الأصالة والمعاصرة”، الذي أقامته الملكية لتقليم أظافر حزب العدالة والتنمية، إلا أن الحراك الثوري الإقليمي فرض على النظام اللجوء إلى “العدالة والتنمية” وإرسال “الأصالة والمعاصرة” إلى غرفة انتظار/ المعارضة، وهو استعمال لآلية “المسلسل الديمقراطي” الذي أطلقه الحسن الثاني منذ سبعينيات القرن العشرين، وتمكنت الملكية من تجاوز العاصفة الثورية الإقليمية اعتمادا على هذه الآلية، وتمكنت من تمرير انتخابات المجالس الجماعية والجهوية، حيث استطاع حزب العدالة والتنمية رفع عدد الأصوات مقارنة بالتي حصل عليها في تشريعيات 2011، بينما استطاع حزب “الأصالة والمعاصرة” زيادة أصواته مقارنة بانتخابات 2009 الجماعية، وبالتالي الإعداد لحلقة أخرى من مسلسل ديمقراطي لا يشي استمراره بتفاقم “أزمة المشروع المخزني”.

تمكنت الملكية من تسويق صورة الاستثناء الديمقراطي المغربي، داخليا وخارجيا، فعكس دول المنطقة حيث يتصادم الإسلاميون وأنظمة الثورة المضادة، يقدم المغرب صورة نظام ديمقراطي مستقر استطاع تفادي ذلك بإدماج الإسلاميين في الحكومة.. إذا كان هذا هو فشل المشروع المخزني فكيف سيكون نجاحه؟

تشبيب طاقم مؤسسات الاستبداد المحلية

تمكن النظام من خلال الانتخابات المحلية والجهوية الأخيرة من إدماج جزء كبيرة من الشبيبة التي كانت قاعدة الحراك السياسي طيلة سنة 2011، فبعد تمكن النظام من تمرير دستوره وتجديد واجهته الحكومية وتراجع الدينامية النضالية محليا وانتصار الثورة المضادة إقليميا، تحولت مطامح جزء من الشباب إلى المؤسسات أو إلى وهمها، وقد استطاع النظام بذلك تجديد وتشبيب “طاقم” مؤسسات الاستبداد المحلية، حيث أن المرشحين والمرشحات الجدد مثلوا نسبة %78.8 من مجموع الترشيحات للانتخابات الجماعية و%64.3 من مجموع الترشيحات للانتخابات الجهوية، وأفرزت النتائج المسجلة على مستوى الانتخابات الجماعية، وجود 15 ألف 28 منتخبا جماعيا جديدا، أي ما يعادل تقريبا نصف العدد الإجمالي للمنتخبين، كما بلغت نسبة المترشحين الذين تقل أعمارهم عن 35 سنة حوالي %30، إلى جانب تسجيل نسبة كبيرة على مستوى عدد المترشحين الجدد الذين لم يسبق لهم الترشح لأي استحقاق انتخابي في السابق، والتي بلغت %72. [تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان حول انتخابات 2015 الجماعية والجهوية].

تخفيف قبضة التزوير

واصل النظام منذ 2002 تخفيف قبضة وزارة الداخلية على الانتخابات وبالتالي تراجع التزوير السافر المعمول به في عهد الحسن الثاني، وقد أتيح له ذلك بعد إدماجه للمعارضة الليبرالية بزعامة الاتحاد الاشتراكي في آلية التناوب على الحكومة، وبالتالي انعدام أي معارضة جدية تستدعي التدخل المباشر لتزوير الانتخابات، ما عدا تحديد دوائر الترشيح بالنسبة للعدالة والتنمية.

سمح النظام- وهو الذي كان يرفض ذلك سابقا- بمراقبة محلية للانتخابات سنة 2002، وبعد ذلك بمراقبة دولية لانتخابات 2007، وهو لم يقم بهذه الخطوة إلا لأنه مطمئن لسير مسلسله الديمقراطي، وهو ما سجله الوفد الدولي المراقب: “التصويت مر على العموم بشكل سلس واتسم بروح الشفافية والمهنية وفي أجواء جيدة”. [موقع الملجس الوطني لحقوق، تقرير أولي حول تتبع الانتخابات التشريعية لسنة 2007].

إن سلامة سياسة حزب ما لا تقاس بمدى رفضه لأيديولوجية النظام القائم ومؤسساته، ولا بفهم وظيفة هذه الأيديولوجية والمؤسسات، ولكن أيضا بتقدير مدى نجاحها في أداء الدور المنوط بها؟

ليس السؤال إن كانت الانتخابات بالمغرب “تعمل على تكريس وشرعنة الاستبداد وتلميع الواجهة وتجديد الطواقم؟”. لكن السؤال هو: “هل تنجح الانتخابات بالمغرب في ذلك أم لا؟”. وما دام الجواب نعم، فلا معنى للحديث عن “تفاقم أزمة المشروع المخزني”، ويجب الحديث عن استمرار “أزمة المشروع اليساري والتقدمي” متضافرة مع أزمته التاريخية.

ما دامت المقاطعة لا تمنع استمرار هذا التمويه، لا تعرقل استمرار تجديد واجهة النظام وتمنحه الشرعية لمواصلة تحميل أعباء أزمته.. ما دامت المقاطعة لا تمنع كل ذلك فلا جدوى سياسي منها، فهناك حالةٌ واحدةٌ تجدي معها المقاطعةُ، هي إذا نجم عنها، إلغاء الانتخابات أو إسقاطها، إذا نجم عنها أزمة سياسية عامة تهز نظام الحكم وتمنعه من “تحميل أعباء أزمته لكافة الطبقات الشعبية”، ما دامت المقاطعة لا تؤدي إلى ذلك، يجب على اليسار الثوري بالمغرب أن يغير الاتجاه نحو المشاركة في الانتخابات.

المشاركة الثورية بدل المقاطعة السلبية

إذا كانت الانتخابات عادة تعبر بشكل مشوه جدا، ودوما على حساب الاتجاهات الثورية، عن المشاعر الحقيقية للجماهير المضطهدة، فإنها من جهة أخرى تعكس دينامية التطور السياسي، فلو شارك اليسار الثوري بالمغرب في الانتخابات، لانكشفت الأزمة الحقيقة تعتري صفوفه، بدل أن تعتري مشاريع النظام.

لذلك فالتمسك بمقاطعة الانتخابات في المغرب موجه بالدرجة الأولى للاحتفاظ بصورة اليسار المتجذر الرافض الدخول في لعبة النظام. لكن ذلك لا يخدع النظام بل يخضع مناضلي اليسار والطبقة العاملة التي تحرم من إدراك وضع منظماتها وأحزابها. إن اليسار الثوري الحقيقي لا يخجل من الاعتراف بضعفه، ويسعى لتجاوزه.

نحن لا نعارض موقف المشاركة بموقف المقاطعة، فكلاهما تكتيكان قد يكونان صالحان تبعا للظروف، لكننا نعارض المشاركة الثورية بالمشاركة الانتهازية، كما نعارض المقاطعة النشيطة بالمقاطعة السلبية، وبدلا من المقاطعة السلبية نطرح المشاركة الثورية في الانتخابات، أو بمعنى أكثر شمولا، استعمال مؤسسات الديمقراطية البرجوازية، استعمال منبر البرلمان لإيقاظ الشعب إلى النضال وتحريضه.

يطرح اعتراض على “استعمال البرلمان منبر للصراع والتحريض الثوري”، مفاده أن البرلمان (كونه محض غرفة تسجيل) والسياق السياسي المغربي لا يوفران إمكانية ذلك. لكن الأول لا يشترط الثاني.

يشترط الاعتراض أعلاه ما لا يجب اشتراطه للجواب عن سؤال إمكانية استعمال البرلمان كمنبر للصراع والتحريض، مثل السياق العام ومحتوى الدستور والقوانين المؤطرة، فهذه الشروط نستحضرها إذا كان مغزى المشاركة في البرلمان القيام بعمل تشريعي عضوي لتغيير النظام من الداخل والحصول على إصلاحات، وليس لاستعماله منبرا للصراع، فـ”الواجب التاريخي للطبقة العاملة هو أن تنتزع هذه الأجهزة من الطبقات الحاكمة وتحطمها وتدمرها بالأجهزة الجديدة للسلطة البروليتارية. يضاف إلى ذلك، أن هيئة الأركان الثورية للطبقة العاملة مهتمة جدا بأن يكون لها في المؤسسات البرلمانية البرجوازية كشافة يسهلون عملها التدميري”. [الحزب الشيوعي والبرلمانية، المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية].

لهذه الموضوعة علاقة مباشرة بوعي الجماهير وعلاقته ببناء قوة سياسية معبرة عن الطبقة العاملة، فالدعوة للمقاطعة بمبرر أن النظام سيمنع اليسار الثوري من استعمال البرلمان ليس صحيحا. فاضطهاد “النواب الحقيقيين” للجماهير أو منعهم من الترشح أو طردهم من مؤسسة البرلمان انتهاء بسجنهم، هو الذي يرفع من مصداقية اليسار الثوري في أعين الجماهير، أكثر من إدعاء عذرية سياسية ونقاوة أخلاقية، إن ذلك سيبرهن للجماهير بـ”الملموس” أن تلك المؤسسة لا يمكن أن تعبر عن مصالحها ما دامت ترفض “نوابها” المنتخبين وتضطهدهم وتسجنهم، أكثر من مقاطعة هذه المؤسسة.

لا يهتم اليساري الثوري بعدد المقاعد في البرلمان، فهو لا ينوي الدخول في لعبة التصويت على قرارات داخل برلمان منزوع السلطة، إن كوكبة قليلة جدا من النواب الثوريين ستجعل منه منبرا لمخاطبة الجماهير، حتى أكثرها تخلفا ونفخ روح العصيان في عقولها.

إن استعمال منبر البرلمان في المغرب قصد التأثير في الجماهير قد أثبته تاريخ أحزاب غير عمالية (ويا للحسرة): المعارضة الاتحادية ولكن أيضا الأحزاب الرجعية مثل العدالة والتنمية، التي استعملته منبرا للوصول إلى شرائح من الجماهير لا زالت تثق في هذه المؤسسات.

إن المنطلق الماركسي تجاه المشاركة في الانتخابات واضح؛ ما دمنا عاجزين عن الإطاحة بالبرلمان واستبداله بأجهزة التمثيل الشعبي فليس أمامنا إلا استعمال هذا البرلمان “منبرا للصراع والتحريض”: “الاشتراك في الانتخابات البرلمانية وفي النضال من على منبر البرلمان أمر لا بد منه لحزب البروليتاريا الثورية وذلك بالضبط لأغراض تربية الفئات المتأخرة من العمال وما دمنا عاجزين عن حل البرلمان البرجوازي وسائر أنواع المؤسسات الرجعية، أيا كانت، فلابد من العمل داخلها، بالضبط لأنه لا يزال هناك عمال ممن خدعهم القسس وتبلدوا في بيئة الأرياف النائية”. [لينين، “مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية”].

لذلك فإن القاعدة هي المشاركة (المشاركة الثورية طبعا)، بينما المقاطعة (النشيطة طبعا) هي الاستثناء، ويرجع ذلك، إلى أن اللحظات التي يثور فيها الشعب نادرة، وتشكل الاستثناء.

العائق الرئيسي أمام اليسار المغربي لاستعمال البرلمان منبرا للصراع، ليست عوائق موضوعية متعلقة بطبيعة النظام السياسي والقوانين الانتخابية، فهذه ستبقى قائمة ما دام الاستبداد قائما، العائق الرئيسي ذاتي بالدرجة الأولى، ويتعلق الأمر بضعف حجمه ونقص انغراسه الجماهيري، ولكن أيضا برسوخ مواقف خاطئة موروثة عن فترات سابقة عرف فيها اليسار الثوري بقصويته ليس فقط تجاه الانتخابات بل حتى النضال داخل النقابات.

بدون معالجة نقاط القصور هذه، ستستمر آلية الانتخابات في خداع جماهير الشعب وفي صلبها الطبقة العاملة المغربية، التي تعاني من غياب معبرها السياسي المستقل الاشتراكي الثوري.

يجب التأكيد على أن المشاركة في الانتخابات ليست هي جوهر نضال اليسار الثوري، بل النضال في الشارع وفي أماكن العمل والسكن، فـ”قوة البروليتاريا الثورية، ومن وجهة نظر أثرها على الجماهير وقيادتها في المعركة، أكبر بكثير في معركة تنشب خارج نطاق البرلمانية منها في معركة برلمانية”. [لينين].

أزنزار

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا