راهنية الثورة الدائمة

المكتبة28 نوفمبر، 2015

تشرين الثاني (نوفمبر) 2005
المناضل-ة عدد: 9

بقلم: ميكائيل لووي

ليست نظرية الثورة الدائمة تأملا ميتافيزيقيا، بل محاولة اجابة على احدى أكثر مسائل عصرنا مأسوية : ما السبيل الى حل المشاكل الاجتماعية الرهيبة التي تكابدها البلدان الرأسمالية التابعة ” المستعمرة وشبه المستعمرة” كما كانت تُسمى – ، كيف تتاح لها فرصة الافلات من الافقار والديكتاتوريات والانظمة الاوليغارشية والسيطرة الاجنبية ؟ ولاشك ان هذه النظرية كانت اهم اسهامات تروتسكي واكبرها ابداعا في اغناء ماركسية القرن العشرين . فكيف نشأت وما هي قيمتها اليوم عشية قرن جديد ؟

في روسيا ( 1906-1917 )

ظهرت فكرة الثورة الدائمة أول مرة – مرتبطة حصرا بالاشكالية الروسية في البدء- في كتابات ليف دافيدوفيتش خلال الاضرابات الثورية التي شهدتهات روسيا في 1905- 1906 . كانت اطروحات تروتسكي حول هذه الثورة تشكل قطيعة جذرية مع الافكار السائدة في الاممية الثانية حول موضوع مستقبل روسيا . لم يكن ماركس وانجلز يترددان في الايحاء ، في مقدمتهما للطبعة الروسية للبيان الشيوعي (1892) الى انه :” اذا اعطت الثورة الروسية اشارة انطلاق الثورة البروليتارية بالغرب واذا تكاملت الاثنتان فان الملكية المشاعية الراهنة في روسيا قد تكون نقطة انطلاق لتحول شيوعي ” –1- . لكن بعد وفاتهما جرى التخلي عن هذا السبيل – بسبب شبهة قرابته بالشعبوية الروسية . وبسرعة بات بمتابة مقدمة كونية – بل شبه عقيدة – لدى الماركسيين “الارتودكسيين” ، الروس والاوربيين ، اعتبارالثورة الروسية القادمة ستكون حتما وبالضرورة ذات طابع ديمقراطي برجوازي حصرا : القضاء على القيصرية واقامة جمهورية ديمقراطية والغاء بقايا الاقطاع في القرى وتوزيع الاراضي على الفلاحين . وكانت كل تكتلات الاشتراكية الديمقراطية الروسية تتخذ من هذا الافتراض نقطة انطلاق لاجدال فيها . وان كان ثمة سجال فحول مختلف تأويلات دور البروليتاريا في هذه الثورة البرجوازية وتحالفاتها الطبقية : هل يتعين تفضيل البرجوازية الليبرالية ( رأي المناشفة ) او الفلاحين ( رأي البلاشفة ) .
كان تروتسكي أول الماركسيين، ولوحده طيلة سنوات، يضع هذا العقيدة الجامدة المقدسة موضع سؤال. وكان قبل 1917 الوحيد الذي فكر لا فقط في هيمنة الحركة العمالية في الثورة الروسية – وهي اطروحة يشاطرها بارفوس وروزا لوكسمبورغ ولينين في بعض نصوصه- بل ايضا في امكان تحول الثورة الديمقراطية الى ثورة اشتراكية .
و سيصوغ تروتسكي لاول مرة نظريته الجديدة خلال سنة 1905 في جملة مقالات للصحافة الثورية، ونظمها فيما بعد بمنهجية في كراس نتائج وتوقعات (1906) .ولا شك انه تأثر ببارفوس لكن هذا الاخير لم يتجاوز ابدا حكومة عمالية تنجز برنامجا محض ديمقراطي ( برجوازي ): كان يريد تغيير قاطرة التاريخ لا سكته …-2-.
يبدو ان تروتسكي استوحى تعبير ” الثورة الدائمة ” من من مقال كتبه فرانز ميهرينغ في نيو زايت في نوفمبر 1905 ،لكن معناه لدى الكاتب الاشتراكي الالماني اقل جذرية واكثر التباسا من مضمونه في كتابات الثوري الروسي. وحده تروتسكي تجرأ على الايحاء، منذ 1905، بامكان ثورة تنجز “مهاما اشتراكية ” في روسيا أي نزع ملكية كبار الرأسماليين، وهي فرضية يجمع باقي الماركسيين الروس على رفضها بما هي طوباوية ومغامرة.
تبرز الدراسة اليقظة لجذور جسارة تروتسكي السياسية ولنظريته حول الثورة الدائمة ان مواقفه كانت قائمة على اساس تأويل للمنهج الماركسي وللديالكتيك مغاير جدا للارتدوكسية السائدة في الاممية الثانية. ويمكن تفسير ذلك، جزئيا بالاقل، بتأثير لابريولا، اول فيلسوف ماركسي درسه تروتسكى الشاب والذي كان منهجه ذي الايحاء الهيغلي-الماركسي على طرف نقيض من النزعة الوضعية والمادية المبتذلتين فائقتي التأثير آنذاك. وهاكم بعض مميزات المنهجية الماركسية في كتابات تروتسكي الشاب وفي نظريته حول الثورة الروسية :
1 – ينتقد تروتسكى ، بما هو نصير لتصور جدلي لوحدة الاضداد ، تصلب البلاشفة في الفصل بين سلطة البروليتاريا الاشتراكية و” الدكتاتورية الدمقراطية للعمال والفلاحين ” بما هو ” عملية منطقية محض شكلية “. كما يدين، في مقطع مدهش من سجال ضد المنشفي تشرفانين Tcherevanine ، الطابع التحليلي – أي المجرد والشكلي وما قبل الديالكتيكي – لمنهجيته السياسية قائلا: ” يبني تشرفانين تكتيكا على نحو ما كان سبينوزا يبني به اخلاقه أي بالمنهجية الهندسية ” (3)-
2- يرفض تروتسكي صراحة النزعة الاقتصادية التي شكلت احدى الخصائص الاساسية لماركسية بليخانوف. وتمثل هذه القطيعة احدى الافتراضات المنهجية الاساسية لنظرية الثورة الدائمة كما يشهد هذا المقطع الشهير من نتائج وتوقعهات: “اعتقاد ان ديكتاتورية البروليتاريا متوقفة على نحو أوتوماتيكي على تطوربلد ما وموارده التقنية انما هو استخلاص خاطئ من مادية “اقتصادية ” مبسطة حتى العبث. ولا تمت وجهة النظر هذه الى الماركسية بصلة ” (4)
3- ليس تصور التاريخ لدى تروتسكى قدريا بل مفتوحا: تكمن مهمة الماركسية ، حسب قوله في: “اكتشاف ما تقدمه الثورة من امكانات خلال تطورها وذلك بتحليل اواليتها الداخلية .”-(5). ليست الثورة الدائمة نتيجة محددة سلفا بل امكانية موضوعية وشرعية وواقعية، يتوقف انجازها على ما لا يحصى من العوامل الذاتية والاحداث غير القابلة للتوقع .
4- بينما يميل اغلب الماركسيين الروس ، بفعل السجال مع الشعبوية، الى انكار كل خصوصية للتشكيلة الاجتماعية الروسية، ملحين على التماثل الحتمي بين التطور الاجتماعي- الاقتصادي لاوربا الغربية ومستقبل روسيا، صاغ تروتسكي موقفا ديالكتيكيا جديدا. وقام، وهو ينتقد معا نزعة الخصوصية السلافية لدى الشعبويين والنزعة الكونية المجردة لدى المناشفة، بتطوير تحليل ملموس يراعي في نفس الوقت خصوصيات التشكيلة الروسية واثر الميول العامة للتطور الرأسمالي على البلد.
ان تأليف كل هذه الابتكارات المنهجية هو ما يجعل من نتائج وتوقعات – الكراس الشهير الذي كتبه تروتسكي بالسجن سنة 1906 – نصا فريدا. فانطلاقا من دراسة لتطور روسيا المتفاوت والمركب ( لم يظهر هذا التعبير بعد انذاك ) – الذي انتج برجوازية ضعيفة ونصف اجنبية وبروليتارية حديثة ومركزة على نحو استثنائي – افضى الى خلاصة مؤداها أن الحركة العمالية وحدها، بدعم من الفلاحين، قادرة على انجاز الثورة الديمقراطية في روسيا باطاحة الاتوقراطية وسلطة الملاكين العقاريين. والواقع ان منظور حكومة عمالية بروسيا كان مشتركا مع ماركسيين روس آخرين – لاسيما بارفوس. ويكمن طابع الجدة الجذري في نظرية الثورة الدائمة في تصورها للمهام التاريخية للثورة الروسية القادمة اكثر مما في تحديدها لطبيعتها الطبقية. تمثلت مساهمة تروتسكي الحازمة في فكرة امكان تجاوز الثورة الروسية لحدود تحول ديمقراطي عميق والبدء في اتخاذ اجراءات مضادة للرأسمالية ذات مضمون اشتراكي واضح. وكانت حجته الاساسية لتبرير هذه الفرضية المحطمة للتقاليد أن “الهيمنة السياسية للبروليتاريا لا تتطابق مع استعبادها الاقتصادي”. فما الذي سيجعل البروليتاريا، وهي في السلطة ومتحكمة في وسائل الاكراه، تواصل قبول الاستغلال الرأسمالي؟ وحتى لو ارادت البقاء في حدود برنامج حد ادنى فسيقودها منطق موقعها بالذات الى اتخاذ اجراءات تجميع. بعد قول هذا كان تروتسكي مقتنعا ايضا ان بقاء البروليتاريا الروسية مدة طويلة في السلطة ستعترضه مصاعب ما لم تتوسع الثورة الى اوربا الغربية .
في احدى اروع مقاطع سيرة مؤسس الجيش الاحمر كتب اسحاق دويتشر تعليقا على افكار تروتسكي في نتائج وتوقعات: ” أكانت رسالته تثير الهول أو الامل ، وسواء اعتبرنا صاحب تلك الرسالة البشير الملهم لعهد جديد فريد في التاريخ، من حيث سموه وانجازاته، او كنبي الكارثة والمصيبة، لايسعنا الا ان نتأثر بسعة الرؤيا وجسارتها. كان يحيط بالمستقبل كما يكتشف المرء من قمة جبل عال ارضا واسعة مجهولة يلاحظ في البعيد محاور توجهها الكبرى (…) لقد اخطأ في تعيين الاتجاه الدقيق لطريق طويل، بدت له شواخص متمايزة كما لو كانت تؤلف واحدا، ولم يلاحظ واحدا من الاودية الوعرة التي سيسقط فيها، في يوم من الايام سقطته المشؤومة. الا أن ما يعوض كل ذلك انما هو الاتساع الفريد للمنظر الشامل الذي كان في مدى عينيه. فاذا قورنت النبوءات السياسية التي تنبأ بها اكثر معاصريه مآثر واكثرهم حكمة وتبصرا – ولا نستثني هنا لينين وبليخانوف – باللوحة التي رسمها في زنزانته بقلعة بطرس وبولس، لبدت خجلة ومرتبكة .” (6)
وبالفعل أكدث احداث 1917 على نحو مأسوي النبوءات الاساسية لتروتسكي قبل 12 سنة. فقد خلق عجز الاحزاب البرجوازية وحلفائها في جناح الحركة العمالية المعتدل عن الاستجابة لمطامح الفلاحين الثورية ولرغبة السكان في السلم شروط تجذر الحركة الثورية من فبراير الى اكتوبر. ولم يتم تحقيق ما كان يدعى ” المهام الديمقراطية ” فيما يخص الفلاحين الا بعد انتصار السوفييتات (7). لكن بمجرد وصولهم الى السلطة لم يتمكن ثوريو اكتوبر البقاء في حدود اصلاحات ديمقراطية حصرا فقد اجبرتهم دينامية الصراع الطبقي على اتخاذ اجراءات ذات طابع اشتراكي صريح. و فعلا اضطر البلاشفة وحلفاؤهم، بوجه ما أقدمت عليه الطبقات المالكة من مقاطعة اقتصادية وتنامي خطر شلل عام للانتاج، الى نزع ملكية الرأسمال قبل الاوان المرتقب، إذ قرر مجلس مفوضي الشعب في يونيو 1918 تشريك اهم فروع الصناعة .
وبعبارات اخرى: ” شهدت ثورة 1917 سيرورة تطور ثوري لا متقطع منذ طورها “البرجوازي-الديمقراطي”(غير المكتمل) في فبراير الى طورها ” البروليتاري-الاشتراكي” البادئ في اكتوبر. لقد مزجت السوفييتات، المدعومة من الفلاحين، اجراءات ديمقراطية ( الثورة الزراعية ) باجراءات اشتراكية (نزع ملكية البرجوازية ) فاتحة “طريقا غير رأسمالي” أي مرحلة انتقال الى الاشتراكية. لكن الحزب البلشفي لم يتمكن من قيادة هذه الحركة الاجتماعية الهائلة التي”هزت العالم” الا بفضل اعادة التوجيه الاستراتيجي الجذرية التي بدأها لينين في ابريل 1917 وفق منظور قريب من الثورة الدائمة. ولا داعي لاضافة ان تروتسكي، بما هو رئيس سوفييت بتروغراد، وقائد للحزب البلشفي ومؤسس للجيش الاحمر قام هو نفسه بدور حاسم في “التحول” transcroissance الاشتراكي لثورة اكتوبر.
تبقى المسألة المجادل فيها حول توسع الثورة عالميا: هل أكدث الأحداث نبوءة تروتسكي المشروطة التي مؤداها أن السلطة البرولتارية بروسيا محكوم عليها بالزوال ما لم تمتد الثورة الى اوربا ؟ نعم ولا. لم تعمر الديمقراطية العمالية في روسيا بعد هزيمة الثورة الاوربية ( في 1919 –23) لكن انحدارها لم يؤد ، مثلما اعتقد تروتسكى سنة 1906، الى رجوع الرأسمالية ( لن يحدث هذا الا في امد ابعد سنة 1991 ) بل الى تطور غير مرتقب: استبدال السلطة العمالية بديكتاتورية شريحة بيروقراطية منحدرة من الحركة العمالية نفسها.

استراتيجية للبلدان التابعة

سيقوم تروتسكي، في النصف الثاني من سنوات 1920، بصوغ المستتبعات العالمية لنظرية الثورة الدائمة، وذلك من خلال مواجهات سياسية ونظرية لا هوادة فيها مع الستالينية. وكان التفجر المأسوي لصراع الطبقات في الصين في 1925-1927 حافزا لتفكيره مثلما كان الاول بحفز من ثورة 1905 الروسية.

قدم تروتسكي لاول مرة على نحو منهجي، في كتاب الثورة الدائمة (1928)، اطروحاته حول دينامية الثورة الاجتماعية في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة ( حسب مصطلحات تلك الحقبة )، بصفتها نظرية صالحة على النطاق العالمي. يتعلق الامر في المقام الاول بسجال حول سياسة الكومنترن الستاليني المشؤومة بصدد الصين، والتي كانت تريد أن تفرض على الشيوعيين الصينيين عقيدة الثورة على مراحل- الثورة الديمقراطية البرجوازية كمرحلة تاريخية مفصولة، والتحالف مع البرجوازية القومية ممثلة في كيومنتانغ تشايغ كاي تشيك. والحال، يلح تروتسكي، ان البرجوازية في الصين كما في روسيا القيصرية، التي باتت مهددة بالحركة العمالية الاشتراكية، لم تعد قادرة على القيام بدور حازم ثوري ومعادي للإمبريالية: وحدها البروليتاريا، المتحالفة مع الفلاحين، قادرة على انجاز البرنامج الديمقراطي، الزراعي والقومي، في سيرورة تحول “لامتقطعة ” من الثورة الديمقراطية الى الاشتراكية .
لا ريب ان أعم اساس نظري لهذا التفكير هو قانون التطور المتفاوت والمركب، وقد ورد على نحو ضمني في كتابات 1906 او في سجالات 1928، بيد أن اول صياغة صريحة له جاءت في كتاب تاريخ الثورة الروسية(1930). وقد اتاح لتروتسكي تجاوز التصور التطوري للتاريخ بما هو تعاقب صارم لمراحل محددة سلفا ومكنه من صوغ تفسير دياليكتيكي للسيرورة التاريخية يدمج تفاوت الوتيرة – البلدان المتأخرة مرغمة على التقدم بقفزات – والتطور المركب بمعنى تقارب اطوار متباينة وامتزاج اقدم الاشكال مع أحدثها. وتنتج عن هذه المقاربة خلاصات سياسية واستراتيجية حاسمة: يمثل انصهار/ تمفصل الشروط الاجتماعية-الاقتصادية الاكثر تقدما مع أكثرها تأخرا الاساس االبنيوي لانصهاراو تركيب المهام الديمقراطية والاشتراكية في سيرورة ثورة دائمة. او بعبارة اخرى توضح الامر من جانب آخر: تتمثل احدى النتائج السياسية الاساسية للتطور المتفاوت والمركب في حتمية بقاء مهام ديمقراطية غير منجزة في البلدان الرأسمالية التابعة.
يؤكد تروتسكي في كتاب الثورة الدائمة، رافضا نزعة التطور المبتذلة في العقيدة الستالينية حول الثورة عبر مراحل، انه لن يكون ثمة في الصين وباقي البلدان “الشرقية” – ما زالت انذاك امريكا اللاتينية او افريقيا خارج نطاق اهتمامه – مرحلة ديمقراطية مفصولة وشاملة أي نوعا من المقدمة التاريخية لمرحلة ثانية من طرازاشتراكي. والقوى الثورية الحقيقية هي البروليتاريا والفلاحين وبمجرد استلائهم على السلطة “تتحول الثورة الديمقراطية مباشرة ، خلال تطورها ، الى ثورة اشتراكية لتغدو بذلك ثورة دائمة”(8) .
لعله من الممكن، من وجهة نظر منطقية ميتافيزيقية، تمييز مرحلتين منفصلتين لكنهما بالمنطق الواقعي للسيرورة الثورية تمتزجان عضويا في كل ديالكتيكي (9). وكما كتب تروتسكي في تقديمه لكتاب هارولد اسحق حول الصين: ” للثورة كما قلنا مرارا منطقها الخاص، لكن ليس منطق ارسطو او بالاحرى نصف منطق “الحس المشترك” البراغماتي . انه ارقى وظائف الفكر: منطق التطور وتناقضاته أي الديالكتيك .” (10).
إن اهم حدود تحليل تروتسكي هو من طبيعة “سوسيولوجية” وليس استراتيجية، عنينا اعتبار الفلاحين مجرد “سند” للبروليتاريا الثورية وطبقة “مالكين صغار” لا يتخطى افقها المطالب الديمقراطية. على سبيل المثال، واجه تروتسكي صعوبة في قبول فكرة جيش احمر صيني يكون الفلاحون قسمه الاعظم. لقد أخطأ، مثل باقي الماركسيين الروس والاوربيين، بالتبني غير النقدي لتحليل ماركس ( في 18 برومير ) للفلاحين الفرنسيين بما هم طبقة مذررة وبرجوازية صغيرة وتطبيق ذلك التحليل على الامم المستعمرة وشبة المستعمرة ذات الخصائص المغايرة للغاية. لكن تروتسكي يلاحظ في احد نصوصه الاخيرة ،( ثلاث تصورات للثورة الروسية (1939): ” لم يسبق ابدا للماركسية أن اعطت تقييمها للفلاحين بما هم طبقة غير اشتراكية طابعا مطلقا وثابتا”. (11)
تم التحقق على نحو مزدوج من نظرية الثورة الدائمة خلال تاريخ القرن العشرين. من جهة بواسطة المصائب الناتجة عن عقيدة المراحل أي تطبيق الاحزاب الشيوعية بالبلدان التابعة للعقيدة الستالينية حول الثورة عبر مراحل والكتلة مع البرجوازية الوطنية. منذ 1936 باسبانيا الى1965 باندنوسيا او 1973 بالشيلي. ومن جة اخرى لان هذه النظرية، كما صيغت منذ 1906 ، اتاحت على نحو واسع التنبؤ بثورات القرن العشرين وتفسيرها واضاءتها، هذه الثورات التي كانت، دون استثناء، ثورات “دائمة ” في البلدان التابعة. لقد طابقت الخطوط العريضة لما جرى في روسيا، أوفي الصين أويوغوسلافيا أوفيتنام أو كوبا، فكرة تروتسكي المركزية: امكانية ثورة لا متقطعة ومركبة – ديمقراطية واشتراكية – في بلد رأسمالية تابعة او مستعمرة. ولا ينال من هذا التطابق التاريخي الفعلي كون مجمل قادة الحركات الثورية بعد اكتوبر 1917 لم يعترفوا بالطابع “الدائم” لتلك الثورات ( مع بعض الاستثناءات منها فيدل كاسترو وغيفارا ) او لم يعترفوا الا لاحقا وبتعابير مغايرة .
ويتمثل البعد الاخر للنظرية الذي شهد إثباتا –لاسيما في شكله السلبي –في مفهوم الثورة الدائمة بتعارض مع العقيدة الستالينية حول بناء الاشتراكية في بلد واحد. لقد كان زوال الاتحاد السوفييتي في 1991 تأكيدا لفكرة تروتسكي حول استحالة الاشتراكية الا على نطاق عالمي وانه ليس بامكان بلد تابع غير الشروع في الانتقال الى الاشتراكية وانه لا يمكن بناء مجتمع اشتراكي جدير بهذا الاسم داخل الحدود القومية لبلد واحد. طبعا لم تجر الامور وفق آماله –ثورة سياسية معادية للببروقراطية – لكن فشل التجربة البيروقراطية السوفييتية هو مع ذلك إثبات لفرضيته الاساسية .

الراهنية

لا تتيح نظرية الثورة الدائمة ادراك الثورات الاجتماعية الكبرى في القرن العشرين وحسب، بل تظل ذات راهنية مذهلة في فجر القرن 21 . لماذا ؟
قبل كل شيء لان المهام الديمقراطية في الاغلبية الكبرى من البلدان الرأسمالية التابعة –في الشرق الاوسط وآسيا وافريقيا او امريكا اللاتينية على حد سواء – لم تنجز بعد: ما زالت دمقرطة الدولة –وعلمنتها !– أوالتحرر من السيطرة الامبريالية أوالاقصاء الاجتماعي للاغلبية الفقيرة او حل المسألة الزراعية مطروحا على جدول الاعمال حسب الحالات. و اكتست التبعية اشكالا جديدة لكنها لا تقل شراسة واكراها عن سابقتها: دكتاتورية صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ثم المنظمة العالمية للتجارة – الجاثمة على البلدان المستدينة أي عمليا على كافة بلدان الجنوب-بواسطة أوالية برامج “التقويم” النيوليبرالية وشروط جائرة لسداد الديون الخارجية. و يمكن القول ان ما تمارسه مؤسسات النظام المالي الشامل تلك من سلطة –في خدمة القوى الامبريالية بوجه عام والولايات المتحدة الامريكية خاصة – على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لهذه البلدان اكثر مباشرة وتسلطا وشمولية مما كان يعرف بنظام الاستعمار الجديد.
لا يمكن اذن للثورة في هذه البلدان ان تكون سوى تركيبا معقدا ومتمفصلا بين هذه المتطلبات الديمقراطية واطاحة الرأسمالية. واليوم كما بالامس لا تتماثل التحولات الثورية المطروحة في جدول الاعمال بالمجتمعات التابعة مع تلك الخاصة ببلدان المركز. إذ لا يمكن لثورة اجتماعية في الهند ان تكون، من وجهة نظر برنامجها واستراتيجيتها وقواها المحركة، “ثورة عمالية ” خالصة كما الشأن في انجلترا. وُيبرز الدور السياسي الحاسم للحركات الفلاحية وحركات السكان الاهالي في بلدان عديدة حاليا ( الجيش الزاباتي للتحرير الوطني في المكسيك وحركة الفلاحين دون ارض بالبرازيل و كوناي CONAIE في الاكواتور)، والذي لم يتوقعه تروتسكي، اهمية المسألة الزراعية وطابعها الاجتماعي التفجري وارتباطها الوثيق بالتحرر الوطنى .
يتعذر مثلا تخيل ثورة اجتماعية في البرازيل لا تضطلع بدمقرطة فعلية للدولة وبالتحرر الوطني وبالاصلاح الزراعي الجذري وبالبحث عن سبيل تنمية اقتصادية مستقلة وموجهة نحو الحاجات الاجتماعية للاغلبية. والعكس بالعكس : وحدها ثورة اجتماعية –أي معادية للرأسمالية- قادرة على تحقيق هذا البرنامج اليمقراطي في سيرورة تحويل اجتماعي “لا متقطعة”. وهذا من جهة اخرى ما يؤكده حزب الشيغلة بالبرازيل في الوثيقة البرنامجية التي صادق عليها مؤتمره في يونيو 1990، بعنوان اشتراكية حزب الشغيلة: “ولد حزب الشغيلة باهداف ديمقراطية على نحو عميق. للديمقراطية مدلول استراتيجي عند حزب العمال، انها وسيلة وغاية، اداة تحويل وهدف. لقد علمتنا تجربتنا ان ليس للبرجوازية أي التزام تاريخي ازاء الديمقراطية، انها تستعملها بطريقة محض تاكتيكية وبراغماتية. بينما تهم الديمقراطية في المقام الاول العمال والجماهير الشعبية. ان التزامنا لاجل الديمقراطية يجعل مناضلينا معادين للرأسمالية – وقد طبع هذا الاختيار نضالنا من اجل الديمقراطية على نحو عميق (…) كانت وثائق تأسيس حزب العمال قد فسرت ان نهاية الرأسمالية البرازيلية شرط لابد منه لدمقرطة فعلية للحياة البرازيلية.”(12).
لقد اصبحت للمسألة القومية راهنية ملحة في نضال بلدان الجنوب ضد العولمة النيوليبرالية وضد المؤسسات المالية العالمية وضد لاانسانية نظام الدين الخارجي وضد فرض صندوق النقد الدولي سياسات “التقويم” ذات العواقب الاجتماعية المأسوية. ونرى من جديد في هذا السياق ازدهار اوهام من طراز قومي –باسهام احزاب ذات اصل ستاليني او بدونه – حول امكان “تنمية وطنية” (رأسمالية) وسياسة قوية لانعاش الصناعة (الرأسمالية) الوطنية وتحالف استراتيجي مع العسكر الوطنيين او تحالف واسع لكل الطبقات المعنية بـ”طريق اقتصادي مستقل” متجه نحو السوق الداخلي. تتيح نظرية الثورة الدائمة – مع ايلائها مكانة حاسمة لمطامح التحرر القومي وللمعركة ضد اشكال السيطرة الامبريالية الجديدة – تخطي هذا النوع من الاوهام بتأكيدها على تعذر فصل النضالات القومية والديمقراطية والاجتماعية في اطار حركة تاريخية واحدة.
كما تكتسي المسألة القومية في عدة بلدان رأسمالية تابعة – كما في الاتحاد السوفييتي سابقا وبلدان شرق اوربا- شكلا جديدا مخيفا على نحو خاص: النزاعات الدموية بين الاثنيات وبين الطوائف وبين الاديان بحفز من قوى رجعية، لها في الغالب ميول فاشية، قد تحركها (حسب الحالات ) الامبراطوريات الغربية. هنا ايضا لا يمكن لغير ثورة اشتراكية /اممية ان تنهي دورة الاقتتال والثأر الجهنمية والانتقام بين الطوائف، وذلك باقتراح حلول فيدرالية او كونفدرالية ديمقراطية فعلا تضمن الحقوق القومية للاقليات وتخلق شروط وحدة عمال الامم كافة. وينطبق هذا بوجه خاص على آسيا والشرق الاوسط والبلقان .
غالبا ما استعملنا في هذا المقال زمنا شرطيا: انه الزمن النحوي المطابق لتصور الثورة بما هي امكانية موضوعية ( اوحى به تروتسكي منذ 1906). ايا تكن التناقضات الاجتماعية العميقة بالبلدان التابعة، ليست الثورة ابدا “حتمية” ونتيجة “ضرورية” لازمة الرأسمالية او تفاقم البؤس. كل ما يمكن تقديمه هو افتراض مشروط: طالما لم تحدث ثورة اشتراكية/دمقراطية حقيقة – في سيرورة دائمة – يقل احتمال قدرة بلدان الجنوب، امم الرأسمالية التابعة، على الشروع في ابجاد حل لما ينهكها من مشاكل توراتية ( التعبير لارنست ماندل ): الفقر والبؤس والبطالة والتفاوت الاجتماعي الصارخ و نقص الماء والخبز والسيطرة الامبريالية والانظمة الاوليغارشية واحتكار كبار الملاكين للارض.

انبركور عدد 449-450 – يوليوز –شتنبر 2000 *خاص بتروتسكي

إحالات

1-ماركس انجلز بيان الحزب الشيوعي
2- حول الفروق بين بارفوس وتروتسكي انظر كتاب الان بروسا : في اصول الثورة الدائمة : الفكر السياسي لتروتسكي الشاب ، باريس ماسبيرو 1974 . وانظر بصدد السجالات بين لينين وروزا لوكسمبورغ وتروتسكي كتاب نورمان جيراس الرائع “ثرات روزا لوكسمبورغ ”
لندن – نيو ليفت بوكس
3- كتاب تروتسكي 1905 باريس دار مينوي الصفحات 374 ، 383
4- تروتسكي : نتائج وتوقعات في 1905 ص صفحة : 420
نتائج وتوقعات في 1905 صفحة 397
اسحاق دويتشر : تروتسكي النبي المسلح ترجمة كميل داغر – المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1981 الصفحة 187 . ويضيف دويتشر :” هذا الكراس المؤلف من ثمانين صفحة يضم جوهر فكره . وخلال كل البقية الباقية من حياته كقائد للثورة وكمبدع وقائد للجيش الاحمر ، وكمحرك للاممية الجديدة ، وفي الاخير كمنفي مطارد سوف يدافع عن الاطروحات التي نجدها مجموعة في مؤلفه المكتوب في عام 1906 .”
7- وكما كتب لينين لاحقا :” كان البلاشفة ، بفضل انتصار الثورة البروليتارية ، هم من ساعد الفلاحين على دفع الثورة الديمقراطية البرجوازية حتى النهاية فعلا . لينين الاعمال الكاملة ( فرنسية ) الجزء 28 الصفحة 314.
8- تروتسكي الثورة الدائمة صفحة 301 – ترجمة بشار ابو سمرا دار الطليعة بيروت – مارس 1965 –
9- نفس المرجع صفحة
10- تروتسكي : الثورة والحرب في الصين . الاعمال الجزء 16 .ILT 1985 ص 149
11- تروتسكي ، الاعمال ( فرنسية )جزء 21 ص 354 .
12- اشتراكية حزب الشغيلة : انبركور عدد 317 نوفمبر 1990.

شارك المقالة

اقرأ أيضا