الصراعات الطبقية بالمغرب – ابراهام السرفاتي الهيكلة الاقتصادية و تطورها في سنوات 1960-1965

توفي ابراهام السرفاتي بعد حياة حافلة بالعطاء، قضى قسمها الأعظم مناضلا ثوريا فذا، أسدا شجاعا في سجون الطاغية، ومجتهذا فكريا بلا نظير ضمن اليسار الثوري. وأيا كانت اخطاؤه ، التي كانت له جرأة الاعتراف بقسم غير يسير منها، تظل حقبة السرفاتي الثوري مكسبا لشباب اليوم المناضل. و إن قضى شطرا اخيرا من حياته ضحية وهم صادق، لكنه وهم، بامكان دمقرطة المغرب بارادة الملك ذاته، فهذه ماساة شخصية لمناضل من عيار ابراهام. والثوريون يتخذون المسافة اللازمة من السرفاتي الواهم، ويتاسفون أن جنازته حضرها اشخاص من طينة ازولاي، وغيره من خدام الاستبداد. إن في نفوسنا مزيج من الاعتزاز و الحسرة والمرارة.

لذا لا تصح الاشادة بالسرفاتي مجملا دون تمييز. لقد سقط ابراهام في آخر عمره. و لا يصح النظر الى هذا كحالة معزولة، انها جانب مما حل باليسار الثوري برمته ، حيث ان جل كوادره ابتعدوا عن النضال الحقيقي، منهم من هجر السياسة كليا، ومن استسلم لاغراء السهولة الاصلاحية، و أخيرا من انتقل الى الجانب الآخر من خندق الحرب. وهذا وليد وضع محلي وعالمي موسوم بتراكم الهزائم و التيه الفكري.

واجنبا ان نقول لجيل اليوم المكافح اننا فقدنا السرفاتي قبل اليوم، فقدناه يوم تخلى عن النهج الثوري.

ويظل واجبنا ان نستثمر عطاءه، ونطوره. و إسهاما من جريدة المناضل-ة على هذا السبيل نعد القارئ باستكمال تعريب كتاب صراع الطبقات بالمغرب. وننشر هنا قسما إضافيا منه.

نقدم لقارئ-ة المناضل-ة قسما من كتاب صراع الطبقات بالمغرب الموقع باسم مجدي مجيد. و قد اعاد ابراهام السرفاتي نشر قسمه الاول- الذي يغطي حقبة الاستقلال حتى 1983، في كتابه المعنون “في سجون الملك”. وسيتواصل نشر تعريب كتاب الصراع الطبقي بالمغرب على موقع المناضل-ة.

في سنوات 1956-1959 شهدت بنية المغرب الاقتصادية تغيرات عميقة، سيشهد العقد اللاحق تبلورها منذ سنواته الأولى

أ‌. القرى

كان أهم تلك التغيرات العميقة الهيكلة الاقتصادية والسياسية لكبار ملاكي الأراضي الرأسماليين، الذين سيشهدون تطورا مذهلا في السنوات التالية و يصبحون المحرك الرئيسي لتحولات جهاز الدولة و سياسة الحكم المغربي خلال ذلك العقد.

كان هؤلاء، في مطلع الاستقلال الشكلي، لا يزالون قلة قليلة وكانت أملاكهم تغطي بضع مئات آلاف الهكتارات (200 ألف إلى 400 ألف حسب التقديرات) ضمن أخصب أراضي المغرب طبعا.

ومنذ سنوات 1956-1960، تعززت هذه النواة الأولى بشراء الخواص لأراضي المعمرين الذين كانوا يفضلون المغادرة فورا على تقلبات الوضع الجديد بالمغرب. هذا لا سيما أن مالكي الأراضي الرأسماليين الكبار هؤلاء تنظموا سياسيا، كما سبقت الإشارة، علاوة على استعمالهم غطاء سياسيا من قبل “النظام القايدي” القديم (أو”الاقطاعية” في التعبير السياسي المغربي المألوف باللغة الفرنسية). كانت هذه الطبقة الاجتماعية، كما رأينا، الخاسر الأكبر من الناحية السياسية في النضال من أجل الاستقلال. وبلغ الأمر مصادرة بعض أملاك أشهر ممثليها التهامي الكلاوي، رغم العفو الملكي (“الأمان”) في نوفمبر 1955، لأن الغضب الشعبي كان من الحدة لدرجة استحالة انتفاء حد أدنى من العدالة. (لا بل أعدم الشعب عددا من أولئك الإقطاعيين الخونة إبان المظاهرات الشعبية في مرحلة الانتقال بين سلطتين). لكن القسم الأعظم من أملاكهم لم توزع، و استعادها ورثته لاحقا. وبوجه عام، لم تكن قط الملكيات الكبيرة لكبار الإقطاعيين المغاربة، التي كانت أهم الأسر منها تملك عشرات آلاف الهكتارات، موضوع أي “أصلاح زراعي”. لا بل تمكن بعض أبنائها، الضباط بالجيش الفرنسي، أن يعززوا في السنوات اللاحقة و بأشكال متباينة، وهم بلباس القوات المسلحة الملكية او في السياسة السياسوية جدا، علاقات السيطرة العريقة على الفلاحين في مناطقهم، بعد أن شهد هؤلاء خمود أمل “ّالاستقلال” العابر.

هذا كله، مع الدمج الجزئي، لكن المتنامي، لاقتصاد تلك المناطق في نمط الإنتاج الرأسمالي، الذي بات مهيمنا في سنوات 1960 تلك، يفسر ما شهدت السنوات اللاحقة من تهيكل طبقة واحدة من كبار ملاكي الأراضي، لكنها موزعة بين قسمين كبيرين: ملاكي الأراضي الرأسماليين الكبار و ملاكي الأراضي شبه الإقطاعيين الكبار.

في العام 1963، وبعد التأمين النهائي ( بالنسبة للفترة التاريخية التي ندرس هنا) للركائز السياسية للنظام الجديد، الذي بات نظام البرجوازية الكمبرادورية الكبيرة و الملاكين العقاريين الكبار، أمكن لهذه الطبقات السائدة، الموطدة على هذا النحو، أن تفكر في تنظيم انصراف من تبقى، وهم الأكثر، من المعمرين الفرنسيين، في أفضل شروط تبادل المصالح. و في الواقع كان هذا الانصراف الحبي، على صعيد الطبقات السائدة وسلطتها السياسية، مقابلا لاستمرار علاقات السيطرة الاستعمارية الجديدة المضمونة من قبل الرأسمال الاحتكاري الفرنسي ( هذه نقطة سنعود إليها). وقد جرى تأمين الإطار القانوني لهكذا انصراف بظهير صدر ذلك العام يجعل بيع الأجانب للأراضي مشروطا بترخيص ملكي.

كان هذا الظهير الأداة التي تم بها في سنوات 1964-1970، وعلى نحو بات كثيفا، إرساء من سماهم الشعب فورا “المعمرين الجدد”( أو كبار ملاكي الأراضي الرأسماليين) الذين أصبحوا في تلك الحقبة قسم الطبقة المهيمن و ركيزة مباشرة للحكم الذي كان ماسكوه المباشرون ، أي الأسرة الملكية، في الآن ذاته طرفا فيه [في قسم الطبقة]إلى حد بعيد.

أما كتلة الفلاحين فقد كانت تتعرض لسطوة الرأسمالية المتنامية. لم تتمكن الجيوش الاستعمارية، بفعل مقاومة القبائل الباسلة، من تحقيق أكثر من الاحتلال العسكري في مناطق عديدة. إن إرساء النظام الاستعماري الجديد، القائم طبعا في البداية على تصفية آخر بنيات الدفاع الذاتي التي ذكرنا بها، لكن أيضا و أساسا على تطور ملكية الأرض الرأسمالية الكبيرة بالدمج السياسي و الاجتماعي لملاكي الأرض شبه الإقطاعيين في النظام، ومعهم الفلاحون الأغنياء و غيرهم من ” النخب القروية”، قد فتح (أي النظام الاستعماري الجديد) الأبواب على مصراعيها، بعد أن كانت مغلقة، أمام سيطرة العلاقات الرأسمالية في القرى القصية.[2] و من زاوية النظر الإيديولوجية كان مختصو الاقتصاد وعلم الاجتماع الفرنسيون-الأمريكيون والمغاربة يضفون عقلانية على هذا التغلغل بما هو جوهر تلك “التنمية /التطور” تحت موضوع مركزي هو تفوق “السوق” على بنيات الاستهلاك الذاتي [3] ( إن الندوة التي انعقدت في ابريل 1965 حول “الدوار”، وجمعت أشهر الخبراء، بالغة الدلالة بهذا الصدد. راجع Revue de géographie marocaine العدد 9).

لم يتأخر ظهور النتائج، ففي منتصف سنوات 1960، كان فلاحو المغرب – كما يشهد بخصوص كل النصف الشمالي من المغرب الكتاب المتفوق لتروان [J.-F. Troin ]حول “الأسواق الشعبية” المغربية – فريسة السوق الرأسمالية فيما يخص المنتجات الأساسية التي نجحوا حتئذ في إنتاجها. كانت بنيات الإنتاج المحلي القديمة، أو ما بقي منها بعد عهد الاستعمار، قد تعرضت للتدمير. على هذا النحو زالت المعصرات الجماعية لفلاحي منطقة جبالة، و بات نتاجهم من الزيتون يُجنى كليا من قبل وكلاء بعض كبار بورجوازيي فا س أو مكناس بسعر ذلك “السوق” حيث مئات آلاف الفلاحين مسحوقون من قبل بعض المحتكرين المستفيدين من حماية متينة من جهاز دولتهم. وكانت الهجرة القروية الكثيفة و العنيفة نتيجة ذلك الحتمية منذ السنوات الأولى من الستينات. وكانت تطابق جيدا حاجات التوسع الرأسمالي لأوربا الغربية حيث كانت شركاتها الاحتكارية الكبرى تجد أسهلا و أكثر مردودا أن تفرغ المضمون الحيوي للشعوب المضطهدة بدلا من أن تبدع بكثافة لتحديث جهازها الإنتاجي.

إخلاء القرى من رجالها كاملي القوى، و الإخلال بتوازنات الأرض المعمرة قرونا، و زحف التصحر، ذلك ما مثلت سنوات 1960 بالنسبة للقسم الأعظم من القرى المغربية.

لكن ليس كلها طبعا. فمنذ متم سنوات 1960، أقيم مشروع وضعه في الأصل تكنوقراطيو محيط عبد الرحيم بوعبيد، مشروع المكتب الوطني للري. كان هدفه استثمار الأراضي القابلة للسقي انطلاقا من شبكة من السدود الكبيرة القائمة أو المزمع بناؤها. و يمثل تاريخ هذا المكتب مثالا بليغا عن الكيفية التي يمكن بها دمج واحتواء الوهم المتحمس للتقنية لصالح الرأسمال الكمبرادوري. (قام أول مدير لهذا المكتب بنقد ذاتي حول ذلك في ندوة الجزائر في يناير 1963 المخصصة لموضوع “تصنيع المنطقة المغاربية” المطبوعة أشغالها لدى الناشر ماسبيرو ، باريس-1965).

و إن مثال حوض ملوية وحده شاهد على ذلك، فبقصد تأمين أقصى الموارد المائية للملكية الرأسمالية الكبيرة بسهول ملوية السفلى المسقية، وطبعا على قاعدة السعي إلى أقصى”مردودية”، بات ممنوعا كل إعداد مائي بعالية النهر في تلك المناطق الغنية بالتاريخ و الثقافة و التمسك الدائب لدى فلاحي ملوية العليا والوسطى بأرضهم! وبالمقابل ازدهرت في سافلة النهر زراعات حوامض وبواكر و زيوت أساسية لصنع عطور السيدات الموجهة إلى السوق الأوربية المشتركة! هذا فيما أراضي مليا السفلى ذاتها تتدهور بفعل فرط السقي. ويجب أن يُعرف في أوربا، وهذا ينطبق على برتقال سوس كما برتقال ملوية السفلى و الغرب و تادلة، أن كل حبة من برتقال المغرب الذي تستهلكون، أيها الأوربيون غير الواعين، هي ثمرة، ثمرة مذهبة، لدم الأطفال المغاربة المحكوم عليهم بالجوع والبؤس (لا يتجاوز 25 بالمائة من أطفال المغرب عمر خمس سنوات !).

ب- المدن

و بالتوازي – وكان الأمر يتعلق بنفس المعمرين الجدد- كان يتعزز على الصعيد الاقتصادي، وفي روابطه المالية، ما سيغدو “البرجوازية الوكيلة” (او البرجوازية الكمبرادورية الكبيرة [4])

من زاوية النظر هذه، شهدت سنوات 1960-1965 تطورات هامة، لكنها غير كافية بعدُ قياسا بالهيكلة الحاصلة خلال سنوات 1970. ( لم تكن سنوات 1966-1971 عصرا ذهبيا للمعمرين الجدد على الصعيد السياسي وحسب، بل أيضا اقتصاديا و سيكون التوازن الجديد الحاصل داخل الطبقات السائدة بعد أزمات 1971-1973 السياسية ممهدا لطريق هذه الهيكلة).

حصلت هذه التطورات على صعيدين رئيسيين:

– على الصعيد الصناعي، كان الازدهار السريع للصناعات المسماة “إحلال الواردات” ( كان أغلبها النسيج، وهو ازدهار حققته أساسا رساميل مغربية خاصة مستفيدة من مساعدة هامة بفعل المقتضيات التشريعية و الأدوات المالية التي أُرسيت في الحقبة السابقة وجرى تعزيزها عند الحاجة ( قانون الاستثمارات، البنك الوطني للإنماء الاقتصادي، البنك المغربي للتجارة الخارجية ، الخ)

– على الصعيد المالي، كانت التدابير المسماة “مغربة” البنوك، التي قضت بدمج ممثلين للبرجوازية الكمبرادورية الكبيرة في مجالس إدارتها و رئاستها (التي لا يعطيها قانون الشركات المغربي غير صلاحيات ضئيلة قياسا بصلاحيات ” المتصرف المنتدب”) مع بقائها من حيث بنية رأسمالها ومجمل ارتباطاتها مع المتروبولات تحت تحكم الرأسمال المالي الامبريالي (بخاصة الفرنسي). كما جرت “مغربة” الواجهات ( مثل الفرع المغربي لـ Crédit lyonnais الذي سُمي مصرف المغرب)

– وفي الآن ذاته انتقل البنك الوطني للإنماء الاقتصادي إلى التحكم الأكثروي للرأسمال المالي الدولي عبر الشركة المالية الدولية، فرع البنك العالمي، مؤمنا على هذا النحو اندماجا مباشرا بين هذا الرأسمال و البرجوازية الكمبرادورية الكبيرة و قنطرة عبور أكثر يسرا بين هذه البرجوازية “الوكيلة” و وكلائها في مقاليد أمور الدولة.

ماذا كان فضلا عن ذلك مصير الصناعات التي أطلقت في تلك الفترة السابقة 1956-1960 لما كان إحدى انشغالات الحكومة الرئيسية هي التصنيع (لكنه انشغال تجريبي أساسا)؟

في الواقع، كانت تلك الفترة مطبوعة أولا بعمليات إغلاق مصانع عديدة من قبل الرأسماليين الفرنسيين الذين كانوا يهربون من المغرب “المستقل”، لا سيما أن الأسباب الظرفية والمصطنعة إلى حد بعيد (أطروحة “الانكفاء الصناعي” بالمغرب في حالة حرب عالمية) للازدهار الصناعي لسنوات 1948-1952 كانت قد زالت، و غالبا ما تعلق الأمر بمصانع بالغة الأهمية لتجهيز البلد صناعيا ( البناء الميكانيكي و الميكانيك بوجه خاص)، وكانت الحكومة تعاين إغلاقها وتفكيكها بسلبية كي لا “ترعب” أكثر الرساميل الأجنبية [5].

و كانت الصناعات التي جرى بناؤها أو إطلاقها في تلك الفترة صناعات إحلال واردات من جهة، في ظل شروط كانت تفاقم تبعية المغرب (وثمة حالتان هامتان و فاضحتان جدا فيما يخص التسهيلات المنوحة، حالة جينرال تاير-عجلات مطاط- و صوماكا لتركيب السيارات)، ومن جهة أخرى بعض المحاولات التي قلما كانت مهيكلة ضمن سياسة اقتصادية إجمالية لإرساء صناعات أساسية ( مصفاة البترول لاسمير بالمحمدية، و إطلاق المكتب الكيماوي بأسفي، ومشروع صناعة الحديد بالناضور).

حتى على هذا النحو، كانت البرجوازية الكبيرة تعتبر تلك المشاريع خطيرة ومن خلفها الرأسمال الفرنسي الذي اعتبرها تهديدا لمصالحه، فجرى وقفها (صناعة الحديد) أو نسف تصورها ذاته (مركب أسفي الكيماوي) من قبل الحكومة التي نصبت في مايو 1960.

و فقط بعد خمسة عشر عاما، أدركت تلك البرجوازية الوكيلة و أوصياؤها الفرنسيون- تلك البرجوازية الرأسمالية الفرنسية المتأخرة دوما بحرب، سواء عسكرية او اقتصادية- ما قد تكسب الامبريالية من مزايا في قسمة العمل الدولية الجديدة التي كانت آنذاك في طور التكون، و التي عرف ماتي Mattei، بالعكس، كيف يكون رائدها في مجال الطاقة.

في هذا الإطار الإجمالي، قامت الشركة التي كان اسمها ضمن الشركات الامبريالية الكبيرة رمزا منذ البدايات، منذ نهاية القرن 19، لاستعمار المغرب اقتصاديا، شركة بنك باريس وهولندا ( باريبا حاليا)، بالانسحاب، بطلب منها، من القطاعات العامة التي كان وجودها بها بارزا أكثر من اللزوم: مقاولة الطاقة الكهربائية بالمغرب، التي أصبحت المكتب الوطني للكهرباء، و شركة سكك حديد المغرب، التي أصبحت المكتب الوطني للسكك الحديدية لقاء مبالغ باهضة (كذا) تعويضا لها عن نهبها لاقتصاد المغرب طيلة 60 سنة . وقد أمكن أن يُحسب أن ما أبرمت مقاولة الطاقة الكهربائية للمغرب، بإشراف بنك الأعمال هذا، من قروض قد أتاح لوحده لهذا الأخير ان يسرق من المغرب أكثر من 70 مليار فرنك جارية، أي عددا هاما من ملايير الدرهم اليوم. وتمكن هذا البنك الامبريالي من توظيف الهدية الجديدة “لسلطة المغرب المستقلة” في استثمارات مربحة في السياحة – حيث هدايا الدولة “للمستثمرين” فاضحة للغاية! ومما له دلالة أن الوكيل المباشر لهذه “التسوية” كان المحامي الباريسي M’ Izard العامل لحساب بنك باريس و هولندا فيما لم يكف منذ سنوات 1950 عن كونه محامي ملك المغرب (لكن صحيح أن الأمير ولي العهد الحسن حافظ طيلة سنوات، وحتى في المنفى، عن مقعد في مجلس إدارة إحدى أفضل شركات بنك باريس وهولندا ، الشركة المنجمية بوازار و غرارة إلى جانب الباشا الحاج التهامي الكلاوي!).

أما وزراء حزب الاستقلال، المفترض أنهم مازالوا آنذاك يمثلون مصالح البرجوازية الوطنية، فقد كانوا يتقاسمون المهام سواء بالمشاركة بمرح في ذلك التعهر أمام الرأسمال الأجنبي، كما فعل محمد الدويري، أو بإعداد القوانين القمعية أو الفاشية لعام 1982 كما فعل محمد بوستة، أو بإذكاء محاكم التفتيش (الحكم بالإعدام على أنصار البهائية) والتعصب الديني الأشد إفراطا، كما فعل علال الفاسي.

هوامش:

2- لذا لا يصح، ضمن اعتبارات أخرى، الحديث عن “مجتمع مزيج” كما جرى طرحه. فالتشكيلة الاقتصادية الاجتماعية المغربية تشكل بنية (و ليس تجميعا) يسيطر فيها نمط الإنتاج الرأسمالي في شكل متميز حيث ينطوي نمط الإنتاج هذا ذاته على علاقات سيطرة سياسية واقتصادية وإيديولوجية، تفرضها تلك الميتروبولات الذي يتعين فعلا نعثها بالامبريالية، علاقات تستتبع بوجه خاص فرط استغلال الطبقة العاملة وتحويل الفلاحين إلى جيش احتياط صناعي للرأسمال، ومن ثمة استحالة ديمقراطية برجوازية على الطريقة الغربية. ويتمفصل ضمن هذه البنية مع نمط الإنتاج الرأسمالي كل من النظام القايدي و الجماعات القبلية. و أخيرا وليس بآخر، تشهد هذه البنية حركة، وديناميتها هي دينامية الصراع الطبقي.

3- بنيات استهلاك ذاتي لا تلغي المبادلات، لكنها مبادلات متوازنة بين قبائل (أو اتحادات قبائل). على هذا النحو كان فلاحو منطقة جبالة يبادلون قسما هاما من إنتاج زيت الزيتون مقابل الزروع التي تنتجها قبائل سهل الغرب. كما كانوا يشترون من مدينة العرائش، بذلك الإنتاج ذاته، الأسلحة وغيرها من المواد المستوردة الضرورية.

4- نعث “الكمبرادورية” هو الأنسب، بفعل مدلوله الملموس، لواقع تلك الطبقات. لكن قد يكون بالأحرى أكثر دقة، بالنظر لطبيعة علاقات هذه البرجوازية الكبيرة بالرأسمال الاحتكاري بالبلدان الامبريالية، استعمال نعث الوكيلة mandataire . سأستعمل والحالة هذه كلا النعثين، ( برجوازية وكيلة أو برجوازية كمبرادورية كبيرة )، بلا تمييز لتوصيف ذلك القسم المهيمن من البرجوازية الكمبرادورية في انتظار أن يفرض اللفظ الأول ، أو آخر أفضل منه، نفسه. ومن جهة أخرى، أقول “البرجوازية الكبيرة” لتعيين ذلك القسم من البرجوازية الكمبرادورية المشارك فعلا، في التشكيلة الاجتماعية المسيطر عليها، في البنيات الاحتكارية. وهي من جراء هذا تمثل اليوم بالمغرب القسم المهيمن داخل كتلة الطبقات السائدة المكونة من البرجوازية الكمبرادورية ومن كبار ملاكي الأراضي، و ضامن تماسكها النسبي. لكن البرجوازية الكومبرادورية تتضمن أيضا الرأسماليين المغاربة المرتبطة نشاطاتهم بالرأسمال الأجنبي، الاحتكاري أو غيره، وفي الغالب عبر البرجوازية الوكيلة،مع كونهم “رأسماليين متوسطين” مدمجين، في إطار سيطرة، في الدورات الاقتصادية والمالية للرأسمال الاحتكاري.

5- مهما ألححنا، لن نعبر كفاية عن حالة ُذهان “الرساميل الأجنبية” التي استبدت بالمسؤولين الاقتصاديين المغاربة غداة الاستقلال الزائف، وآثارها على السياسة في تلك السنوات ( من أجل تفكير نقدي ذاتي حول الموضوع، مع أنه كان مطبوعا بـ”نزعة صناعوية” ، راجع ابراهام السرفاتي ” الرأسمال الأجنبي و التنمية الوطنية” ضمن ندوة الجزائر حول التصنيع بالمنطقة المغاربية . مرجع مشار إليه.)

شارك المقالة

اقرأ أيضا