حرائق إقليم العرائش: حقيقة الدولة الطبقية ومثال في التضامن الشعبي

سياسة16 أغسطس، 2022

بقلم: التهامي المفضل

لا زالت نيران حرائق الغابات في إقليم العرائش تلتهم المزيد من الشجر والبشر، فبانتقالها إلى غابات بني عروس، حملت معها أخبار موت أكثر من خمسة أشخاص في يوم واحد (الاثنين 25 يوليوز 2022). يضاف هذا إلى ضحيتين توفيتا مع بداية الحرائق ببوجديان، مع تدمير حوالي خمسة عشر آلف هكتار من الغابات والأشجار المثمرة، مخلفا آثارا بيئية واجتماعية صعبة التجاوز، لاسيما أن المنطقة تشهد قبل اندلاع الحرائق أهوالا من نوع آخر ناتجة عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبع.

وحسب معطيات أولية، جرى إجلاء أكثر من 1370 أسرة من 20 مدشرا، ودمرت النيران 175 منزلا، كما خلفت خسائر جسيمة طالت حوالي 400 هكتار من الأشجار المثمرة (خاصة الزيتون)، كما نفقت رؤوس الماشية.

 

في البدء كان الجفاف

 

تصنف المنطقة ضمن المجالات الأكثر استقبالا للتساقطات المطرية، بمعدل يفوق 800 ملم سنويا، وبأيام ماطرة تتجاوز 70 يوما سنويا. لكن هاته الأرقام التي تعتمدها الجهات الرسمية أضحت منذ زمن غير صحيحة بفعل توالي سنوات الجفاف، حيث أن هذه السنة لم يتجاوز المعدل السنوي للتساقطات بالمنطقة 150 ملم، في حين لم تتجاوز الأيام الماطرة 17 يوما.

منذ تفاقم الازمة البيئية كونيا، أخذت المناطق الرطبة شمال المغرب تتجه شيئا فشيئا نحو الظواهر البيئية المتطرفة، وجفاف هذا الموسم أحد أوجهها.

سياسات عمومية ليبرالية

 

المنطقة من اكثر المناطق عرضة للتهميش، حيث أن الساكنة تتدبر معيشها اليومي بالاعتماد على ما يتوفر لديها من إمكانيات: فلاحة معيشية تمارس على أراض لا تتجاوز في أحسن الاحوال خمس هكتارات (فلاح ميسور بالمقاييس المحلية)، وأقل من هكتارين في الغالب الأعم. تشمل الفلاحة المعيشية زراعة القمح والشعير والذرة، وأشجار الزيتون والعناية بقطيع صغير من الماشية (غنم وماعز). ثم هناك الهجرة إلى اوروبا، خاصة اسبانيا، والتي تمثل حلم أغلبية شباب المنطقة، كما يعتمد البعض على زراعة الكيف وطابة، وما يجر ذلك على الفلاحين من ويلات.

ارتفعت وتيرة التهميش بعد قيام القطب الصناعي بطنجة، حيث أصبحت المنطقة تقع في أقصى جنوب الجهة، وغير معنية بتاتا ببرامج التنمية الليبرالية الهادفة لجذب استثمارات الرأسمال الأجنبي والمحلي إلى مركز الجهة، وجعل أطرافها خلفية لجلب يد عاملة مرنة مسترخصة، وفي أحسن الأحوال الانخراط في مشروعات صغيرة ضمن برنامج المغرب الأخضر تهم تربية النحل والأشجار المثمرة وتربية المواشي، مع ما يسبب ذلك للعديدين من دخول في دوامة القروض الصغرى.

النيران المشتعلة هي نتيجة تضافر عاملين: أولا التغيرات المناخية والازمة البيئية، ثانيا السياسات العمومية الليبرالية المهمشة بطبيعتها للأطراف.

تبين خريطة الحرائق المتنقلة بمنطقة البحر الأبيض المتوسط أن هاته المنطقة قد أضحت فريسة لحرائق غابات مهولة كل سنة، حيث همت النيران في السنوات الثلاث الاخيرة كل البلدان المطلة على البحر المتوسط ذات الغطاء غابوي (باستثناء ليبيا ومصر). إن حرائق الغابات أضحت معطى بنيويا في ظل الأزمة البيئية الراهنة.

لكن سبل التعاطي مع الحرائق ومع مخاطرها على السكان والغطاء النباتي والوحيش والبيئة عموما، تختلف من بلد إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى، حتى داخل البلد الواحد.

لقد كان تعامل السلطات العمومية ذات الصلة بملف مواجهة اندلاع النيران دون مستوى حجمها. حيث سجل بداية تأخر شديد في تعبئة القوى المتوفرة محليا. فالسلطات المحلية تملك من إمكانات تقليدية كبرى في رصد نشوء وتطور أي حدث من نوعه بسبب شبكة المقدمين والشيوخ وشتى أنواع المخبرين، وبهذا لا يمكن التشكيك في علم السلطات الفوري بما يجري. وهو ما ينزع كل تبرير لعدم التدخل السريع لإخماد الحرائق في بدايتها أو على الأقل وقف اتساع نطاقها وتوجيهها نحو مناطق غير آهلة بالسكان.

باتساع الحرائق، وشمولها لمساحات واسعة في زمن قياسي لا يتعدى 48 ساعة، بدأ تدخل محتشم للدولة: إيفاد طائرتي كندير وشاحنات إطفاء وبعض من قوات الجيش للمرابطة في منطقة تطفت القريبة من مساحة الحرائق.

لكن العامل الأهم الذي جعل الدولة تبدأ التدخل كان هو انتشار أخبار الحرائق وخطورتها على مواقع التواصل الاجتماعي، بما يهدد الصورة المصنوعة صنعا منذ مدة غير بعيدة عن دولة حركت جبلا من أجل إنقاذ طفل. فكان التدخل محكوما بما يليق من تغطيات إعلامية في التلفزة الرسمية والإعلام الموالي عن إنجاز مهمات إخماد الحرائق بما نتوفر عليه من وسائل ومعدات تضاهي الدول المتقدمة. لكن حقيقة التدخل الفعلية على الأرض كانت بعيدة عن الصور المخدومة.

بالمقابل، تم التدخل بشكل سريع جدا وفعال لإخماد حريقين تزامنا مع حرائق الغابات والدواوير، يتعلق الامر بحريق غابات منطقة خميس الساحل، حيث يمر الأتوروت في اتجاه طنجة (14 يوليوز)، وحريق غابات بمنطقة القصر الصغير (25 يوليوز) حيث مصانع رونو نيسان. بين التدخل حقيقة الدولة لمن لم يرها بعد: دولة أرباب العمل.

التضامن الشعبي

منذ بداية الحريق ابتدأت معه مبادرات للتضامن الشعبي، حيث منذ اليوم الأول بادر شباب من القصر الكبير إلى التنقل إلى مواقع النيران لتقديم المياه ووجبات خفيفة للشباب الذين يقاومونها ويعملون بوسائلهم البسيطة والتقليدية على إخمادها، وبجانب تقديم مساعدات تم استعمال كثيف لتقنية اللايف الفايسبوكي للتعريف بخطورة ما يجري.

منذ اليوم الاول ابتدأت حملات للدعم والتضامن المادي، منظمة إلى هذا الحد او ذاك، أغلبها حذر من التوظيف السياسي/الانتخابي، وبعضها منغمس في ذاك التوظيف من رأسه إلى أخمص قدمه.

انتظمت حملات التضامن على أربع مستويات مختلفة:

الاولى فردية: حيث بادر أفراد من تلقاء أنفسهم إلى التنقل إلى مناطق الحريق للمساعدة على إجلاء المنكوبين، وتقديم المساعدة.

الثانية منظمة: وشملت أنواع ثلاث من أشكال التنظيم،

–      أولها كانت من طرف مجموعة راكمت خبرة لا بأس بها في العمل الإحساني/التضامني/المدني، ترتكز على علاقات واسعة مع المحسنين ومع ساكنة الاحياء الشعبية، وتستثمر بشكل ممتاز الفضاء الافتراضي والإعلام المحلي للتنظيم والتواصل.

–      ثانيها كانت من طرف جمعيات مرتبطة ببرلماني المدينة (أب وابنته)، حيث مارست عليها المبادرة الاولى ضغطا كبيرا وعمل على “تجاوزها” كما ونوعا.

–      ثالثها، وهي مبادرات مجموعات منظمة (أغلبها من نقابيين أو من ناشطي جمعيات) لكنها اختارت التدخل دون إعلاء أي راية لكي لا يتم اعتبار تدخلها دعاية ما لجهة ما، وحتى ابراز ذلك إعلاميا كان محتشما لذات الاعتبارات.

بينت المبادرات الشعبية للتضامن المادي مع ضحايا الحرائق إمكانية بناء تضامن واسع عمالي/شعبي ومواجهة الارتزاق السياسي بالمآسي، لكنه بالمقابل طرح إشكاليات أخرى مرتبط بمسألتين:

–      ينطلق التضامن الشعبي من أحسن ما يوجد في الطبقات الشعبية: الحس التضامني التلقائي، والميل لجعله بعيدا عن الآليات الفاسدة للدولة وأجهزتها. لكن هذا لا يكفي طالما لم يندرج ضمن مضمون مطلبي موجه لهاته الدولة ذاتها: إقران التضامن المادي بالتضامن السياسي الشعبي بالتظاهر من أجل تسخير مزيد من الإمكانات للتصدي للحرائق، والتنديد بكل تأخر ومماطلة في التعامل معها.

–      اصطدمت حملات التضامن بإشكالية أساسية: كيفية توزيع المساعدات العينية والمادية، وكيف تصل للأكثر استحقاقا. إذا كان الأمر بديهيا لحظة اشتعال الحرائق حيث من يواجهها واضح والمنكوبون مرئيون، لكن بعد الإخماد يصعب تمييز مستحقي تلك المساعدات من محترفي اقتناص الفرص. انطرحت هنا ثلاث أشكال عمليا: الأولى الالتجاء إلى أعوان السلطة، لكن هؤلاء لا يحظون عموما بأي ثقة. الثانية الاستناد إلى أشكال التنظيم التقليدية: المسجد/الجماعة، لكن حتى هاته تبين أن مفعول الزمن قد فعل بها، وأضحت متجاوزة في أكثر الأحيان وتثير إشكالات أكبر من إتيانها حلولا. الثالثة العمل على تنظيم المنكوبين ذاتيا وهو ما وقع في بعض الدواوير، حيث يتم تجميع المساعدات في أحد المنازل تحت إشراف “لجنة” ويتم توزيعها بحسب الاستحقاق. إن شكل التنظيم الثالث إن بني على أساس دمج التعامل مع المساعدات وبناء ملف مطلبي بنقاش جماعي سيكون قفزة كبرى في اتجاه إعطاء نموذج للتنظيم الذاتي المناضل، وستظهر أهميته بشكل كبير في قادم الأيام، خاصة إذا تضافر مع تطور صحي لجنين في طور البناء: اللجنة المحلية للدعم والتضامن مع  ضحايا حريق ضواحي القصر الكبير.

يحتاج التضامن الشعبي معبرا تنظيميا له، هذه فكرة رائعة مسنودة بدروس ماضي النضال الشعبي، وبناء على تلك الدروس عليه أن يستند على الفاعلين الحقيقيين في الفعل التضامني الشعبي، المادي والإعلامي والسياسي، البعيد عن الارتزاق الانتخابي والمتوجه نحو حفز تنظيم الضحايا الذاتي حول ملف مطلبي شامل مع الابتعاد كل البعد عن الأسلوب التوافقي والترافعي الذي تم تجريبه مئات المرات.

شارك المقالة

اقرأ أيضا