المسألة الديمقراطية بالمغرب: مداخلات ندوة جريدة المناضل-ة

سياسة2 أكتوبر، 2017

نظمت جريدة المناضل-ة ندوة عمومية بمركب محمد جمال الدرة بأكادير بتاريخ 3 يونيو 2017، حول المسألة الديموقراطية بالمغرب، نعيد نشر مداخلات الرفيقين المتدخلين في الندوة؛ علي أموزاي وأسماء منظور، وتقديم المسير، تعميما للفائدة.

كلمة مسير الندوة الرفيق أزيان أحمد
أيها المناضلون والمناضلات …أيها الحضور الكريم .
شكرا لكم علي تلبية دعوة جريدة المناضلة بحضوركم في هذه الندوة حول موضوع “المسألة الديمقراطية بالمغرب”.
لقد طبع الوضع السياسي بالمغرب مند ظهور حركة 20 فبراير، في سياق السيرورة الثورية بعموم منطقتنا، حدثان هامان أولهما : جرى تمرير دستور ممنوح في السنة ذاتها، وإجراء جولتين انتخابيتين لمؤسسات الدولة منذئذ، وتشكيل حكومة واجهة برئاسة حزب العدالة والتنمية مرتين: ترأسها بن كيران ثم “سعد الدين العثماني. ثانيهما: هو النضال الشعبي الواسع والممتد والصامد بمنطقة الريف الشامخ، فكلا الحدثين يعيد طرح سؤال لازم الحياة السياسية بالمغرب مند مطلع القرن العشرين على الأقل :أي من بيده سلطة القرار السياسي أو من يحكم المغرب؟وما آليات الحكم الديمقراطية وضوابطه؟ وما القوى الاجتماعية المطروح علي عاتقها تحقيق هذه الديمقراطية ؟ وما التحالفات السياسية والاجتماعية الكفيلة بذلك ؟ وما مضمون ومحددات تلك الديمقراطية في الوضع الملموس ببلد كالمغرب؟
أيها الحضور…
إننا في تيار المناضل ة ننطلق من منظور سياسي هدفه التحرر الشامل من كل صنوف قهر الإنسان سواء كان هذا القهر سياسيا،اجتماعيا،ثقافيا ،جنسيا أو بيئيا . وتحقيق هذا الهدف رهين بانخراط واسع ونشط لـ”كثلة المأجورين والكادحين” عبر منظماتهم النضالية و تحدي سياسة وثقافة وتعديات المستغلين، وهذا ما يجعل دفاعنا عن حقوق العمال الديمقراطية وعن مكاسبهم الاجتماعية وتوسيعها يندرج في منظور التغيير الإجمالي والشامل.
فالاقتراع العام وحرية التعبير والتنظيم والتحسينات الجزئية التي انتزعها العمال والكادحين ليست الا نتيجة تضحيات جسام، وتجربة بلدنا تبرز دور الطبقة العاملة في انتزعت حق الانتماء النقابي وممارسة الصحافة العمالية وحرية التعبير عن مطالب التحرر وذلك في الواقع قبل الإقرار ببعضها قانونا من طرف فرنسا الامبريالية .
أيها الحضور….
شعب عمال وكادحي المغرب يرزح في نير نظام سياسي غير ديمقراطي، فمصادرة حرية التنظيم النقابي في أماكن العمل وقمع حرية الإضراب أمر يدركه كل عامل واع ،والشباب المتعلم عرضة لرقابة بوليسية دائمة وانتهاك حرية التظاهر والتعبير تعج به تقارير المنظمات المختصة.والدستور بما هو قانون أسمي بمضمونه وطريقة صياغته مثال دال على أن الكفاح من أجل ديمقراطية حقيقية وجذرية مهمة ثابتة على جدول أعمال شعب المغرب رغم ضجيج دعاية الدولة التي يفضحها الواقع الملموس .
أيها الحضور ….
ليست الديمقراطية حقوقا تدبج في نصوص وتنعدم في الواقع الحقيقي، وليست حقوقا سياسيا فقط .فما يفيد حق الكلام لعاطل جائع؟ وما جدوى حرية الاعتقاد لعامل قذفت به قرارات سياسية إلى الشارع؟ وأي معني لحق التعليم في مدرسة منكوبة وبمناهج متخلفة وفي صحة عمومية مريضة؟ إن الديمقراطية كل شامل :حريات سياسية وديمقراطية وحقوق اقتصادية واجتماعية ملموسة وعكس دلك طلاء الاستبداد بصباغة ديمقراطية زائفة سرعان ما تنكشف حقيقتها .
أيها الحضور الكريم …
معركة شعبنا من أجل تقرير مصيره وبناء ديمقراطية حقيقة معركة مستمرة تعرف صعودا وانتكاسات، مدا وتراجها، لكنها لن تتوقف. وللجيل الحالي من المناضلين شرف إعادة الوصل بطموحات جيل النضال ضد الاستعمار والأجيال اللاحقة التي انتصبت أمام المشانق والسجون السرية (اكدز –مولاي على الشرف-امكونة- تازمامرت…) في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، لتضحيات أولئك ولثبات اللاحقين والوفاء المستمر لمثل الحرية والعدالة والكرامة ،ولهم ندين بالنزر البسيط من المكاسب التي علينا صونها وتوسيعها.
أيها الحضور …
لمزيد من تسليط الضوء على موضوع هده الندوة أفسح المجال للرفيقين كل بمحور بمداخلة في حدود نصف ساعة تليها تدخلات الحاضرين، وبعدها ردود المتدخلين، ولتتفضل الرفيقة أسماء منضور وبعدها الرفيق على أموزاي.
——————-

المسألة الديمقراطية: توضيحات أولية
مداخلة الرفيقة أسماء منضور في ندوة «المسألة الديمقراطية بالمغرب»

ستجيب المداخلة عن الأسئلة التالية:
1. ماذا تعني الديمقراطية في المجتمع البرجوازي؟
2. ما هو دور الديمقراطية البرجوازية ، ما هي حدودها وأين تتجلى شكليتها؟
3. ما هو دور الكادحين والطبقة العاملة في إحلال الديمقراطية حتى في حدودها البرجوازية؟
4. ما هي الديمقراطية الحقيقية؟ ومن سيحققها؟

تقديم :
ارتبط مفهوم الديمقراطية تاريخيا بالبرجوازية، وتعتبر الديمقراطية من صنعها ومن مهامها، ولا يمكن أن توكل هذه المهمة إلى غيرها (استحضارا للثورات البورجوازية على الإقطاع: مازال في المغرب من يعتقد أن البرجوازية لم تستنفد بعد دورها التقدمي)، رغم دروس القرن العشرين [ثورات وثورات مضادة، اصطفت فيه البرجوازية إلى جانب أعداء الديمقراطية].
تربط المؤسسات المالية الدولية بدورها الديمقراطية بتطبيق الوصفات الليبرالية والاعتماد على منطق السوق، باستعمال مفاهيم النجاعة، التحول الديمقراطي، الحكامة.. الخ، خصوصا في بلدان العالم الثالث التي اجتمع فيها التخلف الاقتصادي والاجتماعي باستبداد أنظمة ديكتاتورية رجعية.
والمثير أن قسما واسعا من اليسار يستبطن الخطاب الليبرالي، وأصبح يتداول مفاهيم ومفردات نابعة من قاموس البنك العالمي، معتبرا إياها مسلمات بديهية غير قابلة للمساءلة والنقد، ونراه يتحدث عن دولة الحق والقانون، وعن البناء الديمقراطي والنضال الديمقراطي دون تحديد المضمون الطبقي لهذه المفاهيم ويتكلم عن الشعب دون تحديد المعني بذلك. وكان لانهيار المعسكر الشرقي دور كبير في استبطان اليسار لهذه المفاهيم.

1. ما هي الديمقراطية؟
تعني حكم الشعب نفسه بنفسه، وهنا يطرح سؤال: هل يمكن أن يحكم شعب بطبقاته المتناقضة نفسه بنفسه؟
لم تكن الديمقراطية قط مجردة ومعزولة عن التقسيم القائم في المجتمع، بل اقتصرت على الطبقة القوية التي تملك السلطة والثروة.
الديمقراطية الأمريكية مثلا [بعد الاستقلال عن بريطانيا] ولدت مقتصرة على الرجال البيض ملاكي العبيد السود مستبعدة النساء والهنود والأمريكيين البيض الغير مالكين لملكية عقارية.
ما يصدق على المجتمع الرأسمالي في بداياته يصدق أيضا عليه الآن، حيث تمثل الديمقراطية شكلا من أشكال حكم البرجوازية، أي شكلا من أشكال هيمنتها الطبقية,
إن الديمقراطية في المجتمعات الطبقية تبقى شكلا من أشكال الدولة، والدولة هي أداة للسيطرة الطبقية، أي أن الديمقراطية في المجتمع البرجوازي لا يمكنها أن تكون إلا ديمقراطية برجوازية شكلية محدودة ومقتصرة على الطبقة المستفردة بالسلطة والثروة.

2. ما هو دور الديمقراطية البرجوازية، ما هي حدودها وأين تتجلى شكليتها؟
• دور الديمقراطية البرجوازية:
– تنظيم التنافس بين أقسام البرجوازية، حيث تتنافس الأحزاب على خدمة الأقسام المختلفة لهذه الطبقة السائدة.
– واجهة لإخفاء الطبيعة الطبقية للدولة (الدولة التي لا تحكمها المؤسسات التمثيلية وإنما يحكمها رأس المال)
– إعطاء وهم للطبقات الشعبية بإمكانية تغيير وضعها داخل نفس المجتمع وباستعمال الآليات الانتخابية للدولة البرجوازية.
• حدود الديمقراطية البرجوازية:
تصطدم الديمقراطية البرجوازية بجدار مصالح هذه الطبقة المتناقضة مع أي توسيع للحقوق الديمقراطية قد يستفيد منها نقيضها أي الطبقة العاملة، ما سيؤجج الصراع الطبقي القائم بين البرجوازية والطبقة العاملة (عموم الأجراء)، فالبرجوازية تدعو لديمقراطية مقيدة،ناقصة، ومحاصرة، ومتلاعب بها، توسع بها هيمنتها وتقلص قوة عدوها الطبقي، أما الطبقة العاملة تريد ديمقراطية مفتوحة، ومنفتحة إلى أقصى حد لا حواجز فيها ولا أسوار حولها.
• شكلية الديمقراطية البرجوازية في المجتمع البرجوازي تتجلى في :
أ. المساواة بين المواطنين دون الأخذ بعين الاعتبار انتماءاتهم الطبقية (لا يمكن ان نتكلم عن مساواة بين من يملك وسائل الإنتاج وبين من لا يمتلكها) وابرز مثال هو :
– حرية الصحافة: الديمقراطية البرجوازية تتبنى مبدأ حرية الصحافة، ولكن دون اي اعتبار للفوارق الموجودة في المجتمع البرجوازي، فلا يمكن إن نتكلم عن مساواة بين شخصين غير متساويين، ولا يمكن أن تكون حظوظ عامل بسيط في الولوج للصحافة هي نفس حظوظ برجوازي مالك لمنشآت ومصانع.
– المساواة أمام القانون مبدأ آخر تتغنى به الديمقراطية البرجوازية، وهو مبدأ شكلي يغطي الوجه الحقيقي للامساواة القائمة في المجتمع الرأسمالي، وتمثل النزاعات الاجتماعية بين العمال وأرباب العمل نموذجا صارخا لهذه المساواة المنافقة حيث يكيل القضاء بمكيالين؛ يحاكم العمال المضربون بسرعة قياسية بمقتضى الفصل 288 من القانون الجنائي، بينما تظل شكايات العمال ضد أرباب العمل حبيسة الرفوف، وحتى إن صدر الحكم لصالحهم فهو لا ينفذ.
ب. مؤسسات تمثيلية فاقدة للسلطة مهمتها إعطاء الوهم بإمكانية المشاركة في السلطة وفي اتخاذ القرار: تحولت كل السلط من المؤسسات التمثيلية (حكومات، برلمانات…) إلى المؤسسات المالية العالمية (صندوق النقد الدولي-البنك العالمي….)، وأصبحت المؤسسات التمثيلية قلاعا فارغة لا حول لها ولا قوة وأضحت مكانا للنميمة والثرثرة السياسية، فالسلطة الفعلية غادرت البرلمان وأصبحت في يد المؤسسات المالية العالمية.
ولنا في تجربة اليونان (سيريزا) عبرة تؤكد على أن التصويت و مؤسسة البرلمان والحكومة فقدت سلطتها أمام المؤسسات المالية، فلم يشفع التصويت بالأغلبية بنسبة 61% ب”لا” ضد سياسات التقشف لليونانيين، وفرضت المؤسسات المالية بالقوة مذكرة التقشف رغم أنف الأغلبية.
3. ما هو دور الكادحين والطبقة العاملة في إحلال الديمقراطية حتى في حدودها البرجوازية؟
إن الديمقراطية البرجوازية بحدودها ونواقصها ليست صنيعة البرجوازية بل نتاج تطور تاريخي حافل، لعبت الصراعات الاجتماعية دورا حاسما في صياغته.
تكون الثورات البرجوازية ثورية بقدر ما ينخرط فيها الكادحون ويدفعون بها إلى الأمام. ولم تقدم البرجوازية يوما أي حق من الحقوق الديمقراطية إيمانا منها بمثلها الديمقراطية، بل تحت ضغط ونضالات الطبقة العاملة والكادحين.
وحتى هذه الديمقراطية البرجوازية في شكليتها، لم تمن بها البرجوازية على الكادحين بلا مقابل، فقط بالنضالات والكفاحات جرى انتزاع الحقوق الديمقراطية:
– حق التصويت: وهو من ركائز الديمقراطية البرجوازية لكنه لم يكن حقا للجميع، ففي بريطانيا التي يطلقون عليها أم الديمقراطيات حتى عام 1800 لم يتمتع غير 3 في المائة من المواطنين الإنجليز بحق التصويت. كانوا يشترطون أن يكون الناخب مالكا لعقار يدفع عنه ضريبة ملك. وعندما طالب العمال بحق التصويت، وتظاهروا مطالبين بذلك عام 1830 [الحركة الشارتية] ووجهوا بالقمع وتم إطلاق النار عليهم. ولم يكتسب العمال حق التصويت إلا بعد نضالات قوية وتضحيات كبيرة.
ما أن اكتسب العمال حق التصويت حتى فقد البرلمان دوره كمؤسسة فعلية لحكم الطبقة البرجوازية، وتقوت صلاحيات السلطة التنفيذية والمجموعات الاقتصادية الكبرى.
– الحريات النقابية: التي يرددها كثيرون باعتبارها مكونا أساسيا للديمقراطية الليبرالية، لم يكن لها أن تتحقق إلا بفضل نضالات بطولية حافلة في المصانع والشوارع دفعت فيها الطبقات العاملة أنهُارا من الدماء، وبقيت حتى يومنا هذا أرضا متنازع عليها، لا تُكتسب حتى تشرع الرأسماليات في الانقضاض عليها مجددا.
تاريخ الديمقراطية في المجتمع البرجوازي هو تاريخ توسيع نطاقها وتعميقها بنضالات الكادحين والمضطهدين من جهة، وتاريخ التآمر عليها وتقليصها وضربها من قبل الرأسماليات المحلية والرأسمالية العالمية من جهة أخرى.
ويبقى النضال من أجل إحلال ديمقراطية حقيقية صراعا طبقيا ضاريا بين أعداء الديمقراطية وأنصارها (بين الطبقات الشعبية والبورجوازية) .
4. ما هي الديمقراطية الحقيقية؟ ومن سيحققها؟
النضال الحقيقي من أجل الديمقراطية بحاجة إلى قوة ديمقراطية حقيقية تشكلها طبقة لا تتعارض مصالحها الطبقية مع أقصى توسيع للديمقراطية.
فالمصالح الطبقية للبرجوازية (منطق السوق- الملكية الخاصة- الربح…)، تجعل من تحقيق ديمقراطية شاملة في غير صالحها.
إن النضال من أجل الديمقراطية نضال اجتماعي طبقي في المقام الأول، لا يتحقق بـ:
– المواعظ الأخلاقية ولا بنصح البرجوازية بأن بعض الديمقراطية مهم ومفيد للاستثمار وكسب رضا المؤسسات المالية الدولية.
– أو بالتوافق مع البرجوازية أو نظام الحكم.
ولكن بالنضال ضد البرجوازية وعلى حسابها؛ فالديمقراطية ليست مجرد قواعد للمنافسة الانتخابية ولكن هي بالفعل معركة يتحقق كل مكسب ديمقراطي في إطارها على حساب الرأسمالية، انتقاصا لهيمنتها وتدعيما لطاقة الطبقات الشعبية على المقاومة والتأثير، فالديمقراطية الأتم والأكثر اكتمالا ليست غير الاشتراكية، حيث الحريات أدوات فعلية فاعلة لتحقق إرادة البشر في تقرير مصيرهم.
إن ضعف القوة القادرة على إحقاق ديمقراطية حقيقية في المغرب (وهي قوة الطبقة العاملة المغربية)، نتج عنه افتقاد الديمقراطية الشكلية المتواجدة في البلدان الغربية.

**********

النضال من أجل الديمقراطية بالمغرب
مداخلة الرفيق علي أموزاي في ندوة «المسألة الديمقراطية بالمغرب»

تصويب لا بد منه
عند نقاش مسألة الديمقراطية بالمغرب، مستحضرين التحديد الدقيق للمفاهيم والمنظور الطبقي لهذه الديمقراطية وللنضال من أجلها، لا يتعلق الأمر بمحض نقاش مثقفين معزولين عن هموم الجماهير الشعبية وحركتها، بل الأمر يتعلق بالدرجة الأولى بالحياة اليومية للجماهير في أكثر تجلياتها ملموسية.
عندما نتحدث، مثلا، عن رفع الأسعار التي تكتوي به قدرة الجماهير الشرائية، فنحن نتحدث بالدرجة الأولى عن المسؤول عن اتخاذ قرار رفعها، وهذا يربطنا مباشرة بالعقدة المحورية في المسألة الديمقراطية: من يقرر؟ أي في التحديد الأخير من يحكم؟ من “يتحكم” في القرار السياسي ويحتكر السلطة الاقتصادية.
جوهر المسألة
لا نختصر الديمقراطية في شكليات الانتخابات والمؤسسات والحقوق الديمقراطية، وهي أصنام حاولت البرجوازية وأحزابها وكل مؤسساتها السياسية حصر انتباه الجماهير حولها عند نقاش المسألة الديمقراطية.
جوهر المسألة التي تتهرب منها جميع الأحزاب البرجوازية [يمينها ويسارها] هو سؤال: من يحكم؟ هل تنزع الانتخابات السلطة من يد المستبد الفرد وتضعها في يد الجماهير؟ هذان السؤالان هما جزهر النقاش.
القرار الاقتصادي
من يتخذ القرارات والخيارات الاقتصادية والاجتماعية ويفرضها؟ ليس مؤسسة البرلمان بطبيعة الحال. سواء في البلدان المتخلفة حيث الاستبداد السافر، أو في البلدان الغربية حيث الاستبداد المقنع بديمقراطية برجوازية عريقة.
لا يمكن أن نتحدث عن ديمقراطية داخل مجتمع رأسمالي- متقدما كان أم تابعا- حيث تتحكم القوانين الاقتصادية الخفية (قانون القيمة) في المجتمع خارج رقابة المنتجين، ويظل القرار في يد مالكي وسائل الإنتاج، وليس في يد مؤسسات سياسية مهما بلغت درجة “دمقرطتها” أو تمثيليتها للشعب، ودون مصادرة وسائل الإنتاج ومراقبتها من طرف المنتجين الأحرار ضدا على فوضوية قوانين السوق، لا يمكن أن نتحدث عن ديمقراطية في شقها الاقتصادي.
كما تتحكم الشركات المتعددة الجنسيات ومؤسسات الرأسمال العالمي (بنك وصندوق ومنظمة تجارية عالمية، مجموعات الدول الكبرى..) في الاقتصاد العالمي، ويمنحها هذا القدرة على التحكم في القرار الاقتصادي.
إضافة إلى هذه المؤسسات، هناك المجموعات الرأسمالية الكبرى بالمغرب، وعلى رأسها الرأسمال العائد للمؤسسة الملكية، رأس حربة الرأسمال المحلي المستقوي بتحالفه مه الرأسمال العالمي.
هؤلاء هم من يتخذ القرارات والخيارات الاقتصادية والاجتماعية، وليس أي مؤسسة أخرى (خصوصا البرلمان الذي يجري الادعاء أنه يضم ممثلي الشعب)، وهي موجهة للحفاظ على مصالحها الاقتصادية وتنميتها، ولإدامة استغلال الجماهير اقتصاديا.
القرار السياسي
لا يمكن فصل القرار السياسي عن الخيارات الاقتصادية، فالسياسة تخدم هنا المصالح الاقتصادية للمجموعات الرأسمالية الكبرى المغربية وفي نفس الوقت تحافظ على وضع المغرب التابع ضمن الاقتصاد العالمي.
من يتحكم في السلطة السياسية بالمغرب؟ لا يمكن لعاقل أن يدعي أن رئيس الحكومة يملك إلا ما تسمح به الملكية من صلاحيات، تسعى جاهدة لاستعادتها، رغم أبخرة الدعاية الكثيفة لما تضمنه دستور 2011 من تنازلات في هذا المضمار.
هل يملك البرلمان المغربي (بغض النظر عن طبيعة البرلمانيين والأحزاب المشكلة له) ولو ذرة من السلطة التشريعية، ما عدا ما يتنازل عنه النظام لإيهام الشعب بأنه يملك مؤسسة برلمان حقيقية؟ إن الملفات الكبرى في المغرب من استثمار والهجوم على القطاعات الاجتماعية وغيرها، يجري إسنادها للجان ملكية يعينها الملك بظهائر للإشراف المباشر عليها.
إن المالك الفعلي للسلطة الفعلية بالمغرب هي المؤسسة الملكية في شخص الملك ذاته، وهذا ما تقره جميع الدساتير منذ أولها سنة 1962 إلى آخر تعديل سنة 2011.
المسألة الدستورية
نصل هنا إلى جوهر الديمقراطية في جانبها السياسي بالمغرب، أي المسألة الدستورية. ما هي الجهة التي يصدر عنها الدستور، بصفته القانون الأسمى الذي ينظم الحياة السياسية بالبلد ومنه وتكون جميع القوانين الأخرى وفية لمنطقه.
تؤكد الفلسفة الدستورية البرجوازية على أن الأمة هي المصدر “الأسمى” للتشريع، لكن يضاف إليها عبارة “تفوض ممارستها لممثليها”. والممثل الأسمى للأمة بالمغرب وفق أول دستور لسنة 1962، هو الملك..
لذلك فجميع الدساتير التي عرفها المغرب هي دساتير ممنوحة، ولا يتعلق الأمر هنا فقط بمضمون الدستور الذي يركز السلطة في يد الملك، بل بـ”العملية التأسيسية” كلها، أي إعداد الدستور والإشراف على الاستفتاء عليه، كلها محتكرة بيد الملك، ليضمن فعلا عملية تأسيسية لا تفلت السلطة أو جزءا منها من يديه.
خلاصة القول، ادعاء وجود الديمقراطية بالمغرب، أو حتى كونه بلدا سائرا في طريق الديمقراطية- على غرار خرافة السير في طريق النمور- هو ادعاء كاذب، ادعاء يلعب دورا أيديولوجيا محضا، وهو إضفاء الطابع الديمقراطي على حكم الفرد المستبد.
أوهام ديمقراطية
رب قائل أن في المغرب حياة سياسية وبرلمانية يتميز بها عن سائر بلدان المنطقة، لكن هذه الخصوصية لا تلغي حقيقة أن السلطة الفعلية منفية عن “مؤسسات الديمقراطية الحسنية”، ومركزة في يد الملك، ويلعب البرلمان دور واجهة لتمويه طابع الحكم الفردي وتزيين صورته إزاء الخارج، لكن هذه المؤسسات تتعدى كونها محض واجهة بل شكل تحالف الملكية مع أقسام من الطبقات المالكة، وبالتالي في تشكل “هامشا ديمقراطيا” متروكا لهذه الأقسام وممثليها السياسيين (الأحزاب البرجوازية).
لماذا فشل النضال من أجل الديمقراطية بالمغرب؟
ليس هذا المصير حصرا على المغرب، بل تتشاركه كل دول العالم الثالث، حيث تنعدم الحدود الدنيا للحرية السياسية والديمقراطية حتى بمضمونها البرجوازي.
ينفرد المغرب بخصوصية أن الحركة الوطنية البرجوازية لم تستطع تسلم السلطة بعد الاستقلال، عكس ما وقع في بلدان أخرى حيث جرى إسقاط الأنظمة الملكية الموروثة عن ما قبل الاستعمار.
ساهم ضعف الحركة الوطنية البرجوازية في دفعها إلى التحالف مع القصر في صراعها ضد الاستعمار. وقد تمكنت الملكية بواسطة هذا التعاون، سواء قبل الاستقلال أو بعده، من الاستفراد بالحكم، قامعة الحركة الوطنية، التي ظل يسارها (الحركة الاتحادية) يطالب بنوع من تقاسم السلطة بتوافق مع الملكية، بينما وافق يمينها (حزب الاستقلال) على دستور 1962.
وقد ورث الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية هذا المطلب ولكن مع السعي لنيله بالعمل داخل مؤسسات الحكم الفردي واستجدائه، بدل إجباره على تقاسم السلطة كما سعت إلى ذلك بعض الأطراف داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
ورثت المعارضة الليبرالية الحالية المنظور الاتحادي للديمقراطية، وحتى شكل السعي إلى تحقيقه، متمثلا في توق فيدرالية اليسار الديمقراطي إلى ملكية برلمانية بتوافق مع الملك، والتذلل للإقناع أن البرلمانية ضرورية لبقاء الملكية.
عملت الحركة الوطنية البرجوازية جاهدة منذ مرحلة النضال ضد الاستعمار، على ضمان تبعية الطبقة العاملة ونقابتها لسياسة البرجوازية، وقد ساعدت سياسة الحزب الشيوعي المغربي ذو المنشأ الستاليني، الذي رفض رفع مطلب الاستقلال، الحركة الوطنية على نزع النقابة العمالية من يد الحزب الشيوعي.
ومذاك عملت الأحزاب البرجوازية على جعل الحركة النقابية تابعة وذيلية لها، فكل حزب يملك نقابته الخاصة ويستعملها ذراعا لمناوشة الاستبداد وقناة لنقل سياسته إلى داخل البروليتاريا، وبالتالي منعها من اكتساب وعيها الطبقي وضرورة استقلاليتها السياسية والتنظيمية عن الأحزاب البرجوازية.
وفي الوقت الذي تستعمل فيه المعارضة الليبرالية أدواتها النقابية لمناوشة الملكية، قامت هذه الأخيرة بجر بيروقراطية شرسة وغارقة في الفساد داخل الاتحاد المغربي للشغل، وذلك لتجميد الساحة النقابية وتحييد العمال عن الصراع بينها وبين يسار الحركة الوطنية.
تحولت النقابات إلى عربة ملحقة بقطار الأحزاب البرجوازية، لاستعمالها وقودا في مناوشات متحكم فيها ضد الملكية، من أجل نيل ما يرفض النظام منحه استجداء.
واقع تبعية الطبقة العاملة المغربية للأحزاب البرجوازية وانعدام تعبيرها السياسي، أي حزب العمال الاشتراكي، وتعثر محاولات بنائه في سنوات 1960-70 القرن العشرين، سببا جوهريا وراء فشل السعي لتحقيق الديمقراطية بالمغرب.
يفسر السلوك السياسي للأحزاب البرجوازية المعارضة المذكور أعلاه، عادة بانتهازية مناضليها ونخبها، بينما لا يمثل هذا إلا إحدى الأمور التي ينبغي تفسيرها، أي ما الذي يفسر انتهازية أعضاء هذه الأحزاب، سواء تعلق الأمر بالتخلي عن الأهداف الاستراتيجية مقابل مكاسب لحظية، أو بانتفاعية الأفراد ووصوليتهم.
لكن هذه الانتهازية بوجهيها ليست إلا تجليا لما يجب تفسيره، بدل أن تكون تفسيرا للسلوك السياسي للبرجوازية وأحزابها، أي ما الذي يفسر انتهازية أعضاء هذه الأحزاب إنه بالضبط طبيعتها الطبقية، أي كونها أحزابا برجوازية، محشورة بين مطرقة حكم استبدادي فردي، وبين سندان الخوف من حركة الجماهير، هو ما يجعلها تفضل السعي إلى التوافق واستجداءه من النظام بدل النضال الحازم ضده.
كما تتناقض مصالح البرجوازية كطبقة مع ديمقراطية كاملة وناجزة، حيث تعني هذه الأخيرة توسيعا لحرية العمال في التنظيم والعمل السياسي والإضراب، ويعني ذلك ضربا لمصالحها المادية، لذلك تضحي البرجوازية (طبقة وأفرادا) بالاهداف الديمقراطية في سبيل الحفاظ على مصالحها الطبقية الخاصة بها.
الطبقة العاملة مناضل طليعي من أجل الديمقراطية
يشكل العمال الطبقة الأقدر على نضال حازم من أجل الديمقراطية، كونها الطبقة التي تتحكم في وسائل إنتاج الجزء الأعظم من الثروة القومية، الطبقة التي حرمتها الرأسمالية من أي إمكانية لإنتاج وسائل عيشها سوى ببيع قوة عملها، ولكن في نفسا لوقت جمعتها وعلمتها الانضباط والعمل الجماعي، عكس باقي فئات الكادحين المذررين والمجزئين بحكم تجزؤ وسائل إنتاجهم.
ولا نتحدث هنا عن الديمقراطية بصيغتها البرجوازية (سواء كان المطلب ملكية برلمانية أو غيرها من صيغ الحكم البرجوازية)، ولكن نتحدث بالدرجة الأولى عن الحقوق الديمقراطية التي ستشكل أسلحة فعالة في يد الطبقة العاملة من أجل إسقاط عدوها ومستغلها: البرجوازية ونظامها السياسي، واستبدالهما بنظام سياسي حيث السلطة في يد الطبقة العاملة، نظام يفتح الطريق أمام تطور نظام اجتماعي تنتفي فيه كل أشكال الاضطهاد؛ وليس هذا النظام سوى الاشتراكية.
لا يستقيم حديث عن نضال حقيقي من أجل الديمقراطية بالمغرب دون نضال من أجل فرض مجلس تأسيسي ، يضم ممثلي الشعب، الذي سيقترحون دستورا ينال مصادقة شعبية حقيقية بدل فرضه بأساليب الاستبداد وبالمضامين التي يريدها. ومن يدعي النضال من أجل الديمقراطية بالمغرب دون السعي لفرض هذا المجلس وإقامته بطريقة ثورية بدل المطالبة به أو مجرد تسجيله في وثائقه فديمقراطيته زائفة وناقصة.
لا يعني هذا انتفاء إمكانية النضال من أجل الحريات السياسية والحقوق الديمقراطية وكل المهام الديمقراطية (قومية كانت أو ثقافية أو نسائية أو غيرها)، فهذه لا تنفي تلك، وكلاهما مشروطان بقيادة الطبقة العاملة عبر حزبها السياسي لهذا النضال، دون أدنى تردد أو أدنى وهم في قدرة البرجوازية أو نظامها في منح هذه الحقوق.
إذا كانت الطبقة العاملة، هي القوة الطبقية المعول عليها للنضال من أجل الديمقراطية، فهذا لا يمكن أن يتم بمعزل عن باقي الطبقات والشرائح الاجتماعية التي تتضرر أكثر منها من الاستبداد السياسي والاضطهاد الاقتصادي، بل يجب نسج أقوى تحالف بين العمال وفقراء القرى ومعدمي المدن، من أجل صهر كل روافد النضال الشعبي والعمالي في نهر جبار يكنس المجتمع الطبقي القائم على الاضطهاد والعسف.
لا يمكن لطبقة عاملة، نقاباتها تباعة لقوة برجوازية ومنخورة بسيطرة بيروقراطية مديدة وتخبيل سياسي ليبرالي مزمن، أن تقنع بقية الكادحين بالسير وراءها في النضال من أجل الديمقراطية، لذلك يستدعي الأمر بناء نقاباتها المكافحة وتسييد خط طبقي يساري كفاحي داخل النقابات القائمة حاليا.
ولا يمكن تحقيق هذه المهام، إذا كانت الطبقة العاملة المغربية منزوعة السلاح السياسي، أي في ظل الغياب التام لمعبر سياسي خاص بها، وليس هذا المعبر إلا حزب العمال الاشتراكي، فبناء هذا الحزب في علاقة مع تقوية يسار نقابي كفاحي، شرط أولي لاستنهاض المارد العمالي وإطلاقه من قمقمه.

شارك المقالة

اقرأ أيضا