من أكتوبر1917 إلى الثورة العربية الراهنة

المكتبة1 نوفمبر، 2017

 

 

 

ليس هذا النص مجرد ردٍّ على مقالة الأستاذ عباس بيضون، بعنوان «وإنها لثورة»، المنشورة في الصفحة 9 من الملحق الثقافي للسفير، بتاريخ 8 تموز 2017، بصورة أساسية، وعلى كلام، في مقابلة الصحيفة نفسها، مع د.أحمد برقاوي (التاريخ نفسه والصفحة عينها)، بصورة استطرادية.

الأصح أنه كُتب بوحي منهما، وإن كان، في جانب منه، يتعامل بشكل نقدي، لا غنى عنه، مع زعم الأستاذ عباس أنه «لم تكن الثورة البلشفية سوى انقلاب عسكري…»، كما مع وجهة نظر الدكتور برقاوي القائلة إن «الثورات القديمة، بصورتها البلشفية والفرنسية، انتهت».

وفي علاقة بما ورد أعلاه، يهمني أن ألفت النظر إلى ما أنتجته حركة الواقع، في منطقتنا العربية، في الأشهر الأخيرة، من تصويب شامل لاتجاه النقاشات، الذي ساد، في مرحلة سابقة تلت حالة الترهل المخيفة، التي كانت تعيشها مجتمعات شتى عرفت ثوراتٍ ظافرةً، في القرن الماضي، ولا سيما في الاتحاد السوفياتي السابق، ودول عديدة أخرى كانت تدور في فلكه، وتنسج حياتها السياسية على منوال ما كان يفعل. وهو اتجاه لم يكن يشكك فقط في أهداف تلك الثورات، إلى حد الإلغاء، في أحيان كثيرة، بل ايضاً في الثورة، بحد ذاتها، كفعل حاسم وضروري، ضمن حركة التاريخ.

وكان لهذا الاتجاه أنصار لا حصر لهم، بينهم جزء وازن من الإنتليجنسيا العربية سبق أن تسلَّق جدار الثورة، في فترات صعودها، في أكثر من بلد وقارة، ليسارع إلى الترجل عنه، ما أن بدا أن هذه تتعرض لمشاكل، وتصطدم بمآزق، وتعاني أزمات. في حين باتوا قلةً من واظبوا على التحرك من ضمن رؤية تتفق تماماً مع الخط الصاعد للتاريخ، وتراهن على استعادته حيويته، لا بل على انتصاره، في زمن لاحق، متعرضة لشتى الاتهامات بالتحجر وتغذية الأوهام، والوقوع، في أحسن الحالات، في اليوتوبيا.

إن الثورة تقول كلمتها الآن، مباشرةً، في الحياة اليومية؛ وهي قادرة، تالياً، على أن تشكل، بحد ذاتها، الرد المفحم على من كانوا يغتابونها، معلنين، جهاراً نهاراً، رفضهم لها، بذريعة ما يمكن أن يلازمها من عنف، وما قد تتسبب به من دماء، وذلك على مدى أكثر من عقدين. وبين هؤلاء العديد ممن عادوا اليوم يسبّحون بحمدها، ويعلنون حتى انتماءهم إليها.هذا مع العلم بأن العنف وإراقة الدماء، كانا في الغالب ناتج الثورة المضادة، لا العكس. وأنا سأنطلق من هنا، وتحديداً من الطابع السلمي الطاغي في الثورات العربية الراهنة، للإدلاء بدلوي في ما يتعلق بما أورده الأستاذ بيضون، بوجه أخص، في مقارنته إياها بالثورة البلشفية، على أن أترك مناقشة الدكتور برقاوي إلى الجزء الأخير من هذا النص، الذي ستحاول خاتمته الخلوص ببعض الاستنتاجات الضرورية.

1- هل كانت الثورة البلشفية انقلاباً؟!

يقول الأستاذ بيضون، بصورة جازمة، وكما لو كان ينطق بأمر مسلَّم به، وبحقيقة بديهية لا حاجة لإسنادها، على الإطلاق:

«لم تكن الثورة البلشفية سوى انقلاب عسكري أعقب حرباً أهلية».

وأنا سأبدأ بتصحيحٍ ضروري جداً لما ورد في هذا الكلام الحاسم، مما يجري تقديمه كما لو كان له طابع المعلومات. فضلاً عن إبراز ما يتضمنه من مغالطات فاضحة، في ما يتعلق بالحكم على ما حدث في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1917، في الإمبراطورية الروسية.

فعلى صعيد العلاقة الزمنية في ما بين ثورة أكتوبر- التي يصفها الاستاذ عباس بالانقلاب العسكري- والحرب الأهلية في ما سيصبح الاتحاد السوفياتي، لا يمكن أن يختلف اثنان ممن لديهم حد أدنى، على الأقل، من الاطلاع على ما حدث في تلك الحقبة الغنية جداً، وإن المليئة بأحداث بالغة الشراسة والعنف، التي شكلت نهاية الحرب العالمية الأولى. فلقد حصلت الثورة المنوَّه بها في 25 تشرين الأول/أكتوبر، من عام 1917، فيما بدأت الحرب الأهلية، التي دامت ثلاث سنوات، بعد ذلك بأشهر عديدات، وبالتحديد في أوائل عام 1918، علماً بأن ضحايا الثورة تلك، التي تشاركت في إنجازها جماهير واسعة جداً من العمال والفلاحين والجنود، تكاد تُعَدُّ على أصابع اليدين. ولا سيما أنه كان هناك موقف مسبق يقضي بالحيلولة، إلى أقصى حد ممكن، دون إهراق الدماء، والحفاظ على طابع سلمي لعملية إطاحة النظام القديم، التي شكَّل العنصرَ الأساسيَّ فيها الاستيلاءُ على قصر الشتاء.

ويروي، في هذا المجال، الصحافيُّ الاميركيُّ أ.ر.وليامز، الذي أقام في روسيا خلال الثورة، في الكتاب الذي أصدره عنها في برلين، عام 1922، بعنوان Durchdie russiche Revolution» تجلياً مؤثراً لهذا الجانب، ولروح الشهامة لدى قادة تلك الثورة، خلال عملية الاستيلاء تلك، موضحاً ان الجمهور كان غاضباً، بعد اكتشافه غرف التعذيب في أقبية القصر، ويضيف: «صرخ أنطونوف أوفسينكو، الذي كان يقود فصيل الجيش الأحمر: «الأول بينكم الذي يؤذي اسيراً، سوف أطلق عليه الرصاص». وقد خلَص إلى إقناع الحشد، وهو يتابع: «أتعرفون إلى أين يقود هذا الجنون؟ حين تقتلون حارساً أبيض أسيراً، فأنتم تقتلون الثورة، لا الثورة المضادة. لقد أعطيت عشرين سنة من حياتي في المنفى، وفي السجن، لأجل هذه الثورة (…). إنها تعني شيئاً أفضل. تعني الحياة والحرية للجميع. أنتم تعطون إذاً دمكم وحياتكم للثورة، لكن عليكم أن تعطوها ايضاً شيئاً آخر:عقلكم وذكاءكم .عليكم أن تضعوا التزاماتكم لأجل الثورة فوق إرضاء أهوائكم. لقد تجرأتم فمضيتم بالثورة إلى النصر، والآن عليكم، باسم شرفكم، أن تعطوا البرهان على شهامتكم. إنكم تحبون الثورة، والشيء الوحيد الذي أطلبه منكم هو ألا تقتلوا ما تحبون».

بالمقابل، فإن العدد الهائل من الضحايا، ويُقدَّرون بالملايين، سيسقط خلال الحرب الأهلية التي تلت الثورة، هذه الحرب التي بادرت لتفجيرها، بعد أشهر عدة، الطبقات والقوى السياسية الرجعية، المتأذية من تغييرات جذرية أنتجتها تلك الثورة، في السياسة، كما في الاقتصاد والحياة الاجتماعية، والتي بنت، في الأشهر الفاصلة بين الثورة والثورة المضادة، ما بات يُعرف بالجيش الأبيض. وهو الجيش الذي حظي بدعمٍ أجنبيٍّ ساحقٍ تمثَّل في التدخل العملي، إلى جانبه، بواسطة 14جيشاً أوروبياً وأميركياً هرعت لنجدة الرأسمالية والإقطاع في الإمبراطورية القيصرية سابقاً، ضد اول ثورة ظافرة، في التاريخ، يضطلع بها العمال والفلاحون والجنود، وباقي المعدمين.

ونأتي الآن إلى ما يُعَدُّ مجافاة صريحة للواقع العملي، بما يتعلق بطبيعة ما حدث، في الخامس والعشرين من أكتوبر1917. فما حدث، بالضبط، لا علاقة له إطلاقاً بالحكم الذي اصدره الاستاذ بيضون، تحديداً، علماً بأنه سبق ان أصدره، قبله، العديد من رموز التيار الذي قاد، في اواخر عام 1991، عملية تفكيك الاتحاد السوفياتي، وإعادة الرأسمالية إلى جمهورياته. وهو تيار وُلد من رحم الجهاز البيرقراطي ذاته، الذي كان يقود، على مدى عقود طوال، الدولة المنوَّه بها.

شهادة ماندل

وفي الواقع، لقد وعى المفكر، والقيادي الثوري البلجيكي الأممي، إرنست ماندل، قبل مماته بوقت قصير، في أواسط التسعينيات، وبعد أن بلغته تلك الاوصاف المجحفة جداً بحق ثورة أكتوبر، وعى الضرورة القصوى لدحضها، بالتوثيق الدقيق لمسيرة تلك الثورة، وبإيراد اعترافات صريحة من خصومها، في الحقبة نفسها التي حصلت خلالها. وقد نُشر ردُّه ذلك في كتاب، بالفرنسية، بعنوان «أكتوبر1917، انقلاب أم ثورة اجتماعية». وهو كتاب عادت فأصدرته بالعربية، في ربيع 1998، دار الالتزام البيروتية. يقول ماندل، في كتابه هذا:

«لقد كانت ثورة أكتوبر نقطة الذروة في إحدى الحركات الجماهيرية الأشد عمقاً في التاريخ (…) وإن المصادر التاريخية لا تترك أي شك بخصوص اتساع تمثيل البلاشفة، في أكتوبر1917، ولا حاجة، للاقتناع بذلك، لأن نلجأ إلى كتابات من كانوا قريبين من لينين».

على العكس، فلقد تعمَّد ماندل إيراد شهادات عدة صدرت من خصوم للبلاشفة، من أمثال نيكولاي سوخانوف (وكان ينتمي إلى التيار الاشتراكي الثوري، المعادي، آنذاك، لهؤلاء)، والمؤرخ الألماني أوسكار أنوايلر (الناقد الصارم للشيوعيين)، ومارك فيرون (وكان ناقداً شرساً، بدوره، للبلاشفة)، وآخرين. فسوخانوف يقول، في كتابه بعنوان «الثورة الروسية، 1917»، الصادر في أكسفورد، عام1955، ما يلي:

«… كان البلاشفة يعملون بعناد، ومن دون كلل. كانوا مع الجماهير، وفي الورش، طيلة النهار. عشرات الخطباء، صغاراً وكباراً، كانوا ينشطون في بتروغراد، في المصانع والثكنات، في أيام العطل. كانوا قد أصبحوا، بالنسبة للجماهير، عناصر من جماعتها الخاصة بها، لأنهم كانوا حاضرين دائماً، يأخذون المبادرات في التفاصيل، كما في الأمور الأهم، داخل المنشأة والمعسكر. باتوا الأمل الوحيد، إذا لم يكن لشيء فلأنهم إذ توحدوا مع الجماهير، كانوا أسخياء في الوعود، وحكايات جدّ جذابة، على الرغم من بساطتها. كانت الجماهير تحيا وتتنفس بالانسجام مع البلاشفة. كانت بين يدي حزب لينين وتروتسكي».

ويضيف سوخانوف، كما لو كان يَرُدُّ، منذ ذلك الحين، على أسطورة الانقلاب المزعوم:

«كان من العبث الواضح الكلام على مؤامرة عسكرية، بدلاً من ثورة وطنية، في حين كانت تتبع الحزب الغالبية الكبرى للشعب (…)».

أما أنوايلر فيشير، من ناحيته، في كتابه «السوفييتات في روسيا، 1905-1921»، إلى واقعةٍ مفحِمةٍ، على هذا الصعيد، حين يكتب: «كان البلاشفة يحوزون الأكثرية في مجالس النواب، في كل المراكز الصناعية الكبرى تقريباً، كما في مجالس نواب الجنود، في حاميات المدن».

كما يورد مارك فيرون، في كتاب صدر له، عام 1980، بعنوان «من السوفييتات إلى الشيوعية البيروقراطية»، ما يلي: «في المقام الاول، كانت البلشفية ناتج تجذر الجماهير، وكانت هكذا تعبيراً عن الإرادة الديموقراطية (…)».

هذا في حين يصف الزعيم المنشفي اليميني، فيدور دان، حالة الجماهير، عشية أكتوبر، على الشكل التالي:

«لقد بدأت تعبِّر، بصورة أكثر فأكثر تواتراً، عن استيائها ونفاد صبرها، في حركات متهورة، وخلصت إلى التحول إلى الشيوعية (…). تعاقبت الإضرابات، وحاول العمال أن يردوا على ارتفاع كلفة المعيشة السريع بزيادات في الأجور. لكن جهودهم أخفقت بفعل الهبوط المتواصل لقيمة العملة الورقية. فأطلق الشيوعيون شعار «الرقابة العمالية»، ونصحوهم بأن يأخذوا بأيديهم هم بالذات إدارة المنشآت، بهدف الحؤول دون «تخريب» الرأسماليين. من جهة أخرى، بدأ الفلاحون يستولون على الملكيات الزراعية، ويطردون المالكين العقاريين (…)، من ذلك الحين حتى دعوة الجمعية التأسيسية إلى الانعقاد».

بمعنى آخر، كان البلاشفة يركِّزون، في مرحلة أولى، بخاصة، على نصح الفاعلين الأساسيين للثورة، عمالاً وفلاحين، وجنوداً، ويطلقون لديهم روح المبادرة، بما ينسجم مع الرؤية الماركسية الأصيلة للعملية الثورية، كفعل جماهيري، لا كقرارات تأتي من فوق، أو من الخارج، أيّاً يكن من يتخذها، ولكون العمال (وباقي المضطهدين والمستغلين) هم من سيحررون أنفسهم بأنفسهم، ومعهم كامل المجتمع. وبهذا المعنى، يمكن اعتبار الثورة الفرنسية (بشتى تجلياتها، وبفصولها المختلفة، من عام 1789 حتى كومونة باريس لعام1871، مروراً بثورتي 1830 ثم 1848)، ومن بعدها الثورة الروسية، تعبيرين حقيقيين عن موجتي قهر شعبيتين لعبت فيهما حركة الجماهير الدور الحاسم والأهم، وشكلتا، وستشكلان، بذلك، الجوهر الدائم للسيرورات الثورية، عبر التاريخ، وصُعُداً نحو المستقبل.

2- هل انتهت، بالتالي، «الثورات القديمة»؟

هذا ما يؤكده الدكتور أحمد برقاوي. وقد يكون الأدقَّ القولُ إن الأشكال فقط، التي تتخذها الثورات هي التي تتغير، بين بلد وآخر، في هذا الزمن أو ذاك، فيما يبقى جوهرها هو ذاته تقريباً، وإن حصلت تمايزات أخرى، في ما بينها، تتناول الإنجازات التي يمكن أن تتحقق، في إطار هذه الثورة أو تلك، في هذه المرحلة من السيرورة الثورية المعنية، أو في غيرها، وذلك بحسب الظروف الموضوعية الخاصة، من جهة، ودرجة نضج الظروف الذاتية في البلد المعني، من جهة أخرى، ولا سيما على صعيد القيادة، وما تتطلع لتنفيذه من برامج.

ولعل ما كتبه المفكر والقيادي الثوري الروسي، ليون تروتسكي – في المقدمة التي وضعها لكتابه «تاريخ الثورة الروسية»، محدِّداً جوهر الثورات، التي كانت، في ذهنه، بصددها، حالتان أساسيتان، بوجه أخص، هما المتعلقتان بكل من الثورتين الفرنسية والروسية – لعل ما كتبه يكشف ملامح هذه العملية التاريخية، بالكثير من الدقة. حيث ورد، بالضبط:

«إن سمة الثورة، التي لا مجال للجدال فيها بتاتاً، إنما هي تَدَخُّلُ الجماهير المباشر في الأحداث التاريخية. ففي العادة، تهيمن الدولة المَلَكية، أو الديموقراطية، على الأمة؛ والتاريخ يصنعه اختصاصيون في المهنة:ملوكٌ، وبيروقراطيون، وبرلمانيون، وصحافيون. ولكن في المنعطفات الحاسمة، حين لا تعود الجماهير تحتمل نظاماً قديماً، تُحطِّم السياجات التي تفصلها عن الحلبة السياسية (…). إن تاريخ الثورة هو بالنسبة إلينا، قبل كل شيء، قصة اقتحامٍ عنيف من جانب الجماهير للميدان الذي تتقرر فيه مصائرها».

في كل حال، قد يكون من المبكر جداً الخروج بأحكام نهائية بصدد العلاقة بين الثورات العربية الراهنة وكلٍّ من الثورتين الفرنسية والروسية، ولا سيما أن ما يحصل الآن لدينا ليس ثورات ناجزة بقدر ما يمكن اعتباره سيرورة ثورية بدأت، ولكننا لا نعرف بدقة ماذا ستحقق، في هذا البلد أو ذاك، من إنجازات، في الأشهر والسنوات القادمة، ومتى ستنتهي، وكيف. فالثورة الفرنسية، على سبيل المثال، لم تنته في 14 تموز / يوليو1789، وبقيت تشهد طلعات ونزلات، وانكفاءات وقفزات إلى الأمام، على مدى زمني طويل، يعتبر البعض أنه يجد نهايته في الانفجار الثوري الذي مثلته كومونة باريس، في ربيع عام 1871، علماً بأن هذه الأخيرة تختلف عن ثورة 1789 من حيث هويتها الطبقية وأهدافها، كما من حيث مصيرها، وقد كان مصيراً مأسوياً، بامتياز، حيث انتهت بمجزرة جماعية مرعبة: عشرات الألوف من عمال باريس الثوريين عمدت البرجوازية الفرنسية الظافرة إلى تصفيتهم بنيران الرشاشات، على جدران المدينة العاصية!! بيد أن ذلك لم يمنع من ان تكون الكومونة ساهمت، أيّاً يكن، في دفع الأمور في اتجاه استكمال المهام الديموقراطية البرجوازية للثورة الأساسية، في الوقت ذاته الذي أخفقت فيه في إنجاز المهام والأهداف الخاصة بها، بما هي ثورة اعتبر ماركس أنها أعطت، بحق، صورة ملموسة عن سلطة البروليتاريا.

وربما يحق لنا القول، هكذا، إنه لا يمكن اعتبار كلام د.برقاوي في محله، حين يرى أن «الثورات القديمة، بصورتهما البلشفية والفرنسية، انتهت»، فلا زال في وسع هاتين الأخيرتين أن تشكلا مصدري إلهام للثورات العربية، من حيث الجوهر، وحتى أحياناً في العديد من تفاصيلهما العملية، كما في المهام التي تنطَّحتا لإنجازها، سواء في جانبهما السياسي البحت، كثورتين ديموقراطيتين، او في جانبهما الاقتصادي، بما هما ثورتان اجتماعيتان تكمِّل إحداهما، ولو بصورة رمزية، الثورة الأخرى. هذا مع العلم بأنه إذا كانت الفرنسية بينهما بلغت أقصى غايتها، بما هي ثورة برجوازية، فالأخرى فشلت (لأسباب ليس هذا المقال مجالاً لبحثها) في بلوغ أهدافها الأصيلة كثورة عمالية تتطلع لتجاوز عملية إنجاز المهام الديموقراطية البرجوازية، في اتجاه حفز عملية بناء الاشتراكية، ليس فقط في الجمهوريات السوفياتية السابقة، بل كذلك على المستوى العالمي.

المجاس العمالية (السوفيات) ببطرسبرغ

3- استنتاجات لا بد منها

في الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي، أوباما، مباشرةً بعد رحيل حسني مبارك عن السلطة في مصر، اعتبر أن الثورات العربية لن تغيِّر هذه البلدان وحدها، بل ستغيِّر العالم بأسره. وبالطبع لم يكن هذا الحكم تعبيراً عن رغبات صاحب الخطاب، بل عن اعترافه بحقيقة لا بد من أن تفرض نفسها، بمقدار ما تنجح تلك الثورات في الصمود بوجه الثورات المضادة، وفي إنزال الهزيمة بها، بما هي رد فعل، داخل كل بلد بالذات، من جانب الطبقات الحاكمة، ولكن أيضاً مع أخذنا بالحسبان، بوجه أخص، مساعي الإمبريالية العالمية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الاميركية، للالتفاف على تلك الثورات وإجهاضها.

وبالطبع سيكون علينا، دائماً، أن ننظر إلى ما يحدث في منطقتنا، بالضبط، على أنه سيرورة طويلة، كما أوردنا أعلاه. وبوصفه هذا، وإذا كان بدأ بشكل جماهيري عفوي، كما يحصل عادة في كل الثورات، أو على الأقل معظمها، وتالياً من دون قيادة متبلورة، فما سيحسم تحول تلك السيرورة، في هذا الاتجاه أو ذاك، إنما هو القيادة التي ستنجح هذه الأخيرة في فرزها. هذا ما رأيناه، في المشهد الأول من الثورة الفرنسية، التي بدأت حراكاً شعبياً عفوياً ضد المسؤولين عن البؤس الاجتماعي والقمع (لنتذكر رمزية سجن الباستيل!)، سرعان ما تناوب على توجيهه هذا الجناح او ذاك في المؤسسات الثورية المنتخبة، وبوجه أخص اليمين الجيروندي، من جهة، واليسار الراديكالي اليعقوبي، من جهة أخرى، مع صراع البرامج والقيادات، في آنٍ معاً. وهو ما سنشهده، لاحقاً، أيضاً، خلال الفصلين الأساسيين من الثورة الروسية، بين شباط / فبراير وتشرين الأول / أكتوبر1917، حيث شكلت نقطة الانطلاق تظاهرة نسائية عفوية (في شباط / فبراير)تحولت إلى إضرابات كبرى فثورة شاملة. وقد تناوب، خلال تلك السيرورة، في الاندفاع إلى الواجهة، في مرحلة أولى، ممثلو الخيار البرجوازي، ومن ثم ممثلو الخيار البروليتاري الثوري، في مرحلة ثانية شهدت حسم مسألة السلطة لصالح برنامج البلاشفة وحلفائهم في الجناح اليساري، ضمن جماعة الاشتراكيين – الثوريين.

إن الخصوصية الأولى للثورات العربية، الآن، تتمثل في بطء تبلور تلك القيادة، وإن كان ثمة ما يؤشر، يوماً بعد يوم، إلى أن ثمة إمكانية حقيقية لسلوك الأمور منحىً جذرياً، كان له منذ البداية عناصره الأولية، المتمثلة في دور مؤثر للطبقة العاملة، في كلا البلدين اللذين أطيح فيهما الرأس الأعلى للنظام، ألا وهما تونس ومصر. حيث أنه، في حين كان للاتحاد التونسي للشغل اليد الطولى في إجبار زين العابدين بن علي على الرحيل، ومن ثم في إطاحة الغنوشي، وزيره الأول، الذي عاد فشكل أول حكومة لما بعد بن علي، فضلاً عن استبعاد الوزراء المحسوبين على حزبه، حزب التجمع الدستوري الديموقراطي، لم يبرز أي دور مميز، في الثورة، لحزب النهضة (الإسلامي). وبالمقابل، لم يلتحق الإخوان المسلمون، في مصر، بالثورة، إلا بعد أيام على بدئها، وبقيت مواقفهم من العملية الثورية متذبذبة بوضوح، ولا سيما بفعل ميل قيادتهم -، المنشدَّة، بألف خيط وخيط، إلى المصالح الاجتماعية والاقتصادية الرأسمالية – إلى التفاهم مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الممسك بالسلطة في مرحلة انتقالية قد تطول، من جهة، ومع الأميركيين، من جهة أخرى. ومن الواضح أن التجذر، الذي يظهر حالياً لدى المعتصمين في ميدان التحرير، في القاهرة، كما في التجمعات العمالية، في السويس، يَدين، بخاصة، للدور المتعاظم لحزب العمال الديموقراطي وحلفائه في الأوساط الطبقية المفقرة، وللبرنامج المتحرك الذي يرفعه الماركسيون الثوريون، ويعبر عن نفسه في مطالب متلاحقة وجد المجلس العسكري نفسه مضطراً، أكثر فأكثر، لتلبية بعضها، ومن ضمنها ما يتعلق بالتعديلات الحكومية، وبإحالة مئات الضباط الكبار إلى التقاعد، وقسم منهم إلى المحاكمة، بتهمة ارتكاب جرائم القتل والقمع بحق الجماهير الثائرة. علماً بأن موقع الإخوان المسلمين المصريين من السيرورة الثورية يتراجع، باستمرار، ويبرز التناقض، يوماً بعد يوم، بينهم وبين المتظاهرين في الجُمَع، والمعتصمين في الميادين، التي باتوا يتغيبون عنها، لا بل يهددون بإخلائها، بالقوة!!!، بما يكشف انحيازهم، على الأقل على صعيد قيادتهم العليا، إلى المواقع الطبقية للقوى المحسوبة على النظام القائم، وتعمُّق الفرز الاجتماعي، وبالتالي السياسي، في المجتمع المصري. وهو ما قد ينعكس، إيجاباً، ومع الوقت ـ ولا سيما إذا نجح الثوار في صد الهجمة المضادة التي بدأت في يوم الجمعة 22 تموز/ يوليو في محلة العباسية، بالقاهرة، من جانب البلطجية وأزلام المجلس العسكري – على التطورات، في البلدان العربية الأخرى، التي تشهد مخاضات ثورية، ومن ضمنها سوريا، بوجه أخص، وذلك بقدر ما قد تنجح التنسيقيات، التي تقود الصراع هناك ضد الديكتاتورية البعثية، بإفشال مسعى النظام، في دمشق، لتغذية الفتنة الطائفية والمذهبية، ومحاولة تفجيرها، كأحد الأشكال الأخيرة التي يملكها هذا الأخير لإطالة سيطرته.

وما يقال عن الانعكاسات الإيجابية المحتملة للتطور المتنامي، في مصر، على الثورة السورية، ينطبق أيضاً، وإن بصورة أقل وضوحاً، على باقي الساحات المتفجرة، أو الجاهزة للتفجر، في المنطقة، كتونس، بالدرجة الأولى، واليمن، والبحرين، والأردن، وحتى ليبيا، وإن كان الوضع الليبي يتخذ سمات أكثر خصوصية، ولا سيما بسبب الإرباك الشديد الذي يشكله التدخل الأطلسي هناك.

أكثر من ذلك، إن استمرار السيرورة الثورية الراهنة، في أكثر من بلد عربي، مع ما يلازم ذلك من تجذر متزايد، على صعيدها، لا بد من أن يؤدي، في تاريخ غير بعيد، إلى توسع هذه الظاهرة لتشمل كامل الأرض العربية، ومن ضمنها الجزائر والمغرب وموريتانيا، وبلدان الخليج، من دون استثناء، كما إلى الجمع بين المطالب الديموقراطية والاجتماعية، من جهة، والمطالب الوطنية والقومية، من جهة أخرى، مع ما يعنيه ذلك من إعادة الاعتبار لقضية العمل الجاد، لأجل فرض حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية في العودة وتقرير المصير، فضلاً عن تصعيد الصراع لتصفية الهيمنة الإمبريالية على الثروات الهائلة التي تحفل بها المنطقة العربية (مع انعكاسات ذلك الجسيمة، في حال حصوله، على الأزمة، الراهنة، الخانقة، للاقتصاد الرأسمالي العالمي)، ولأجل تحقيق الوحدة العربية، بالتلازم مع إيجاد حل ديموقراطي ثوري لقضية الأقليات القومية والإتنية، في الوطن العربي الكبير.

وهي سيرورة، بقدر ما تتبلور عملية إنتاج القيادة المناسبة لها، يمكن ان تُفضي إلى إحداث التغيير الكبير، الذي تخشى الدوائر الإمبريالية والصهيونية مجيئه، والذي توقع الرئيس الأميركي، كما أسلفنا، أن يشمل العالم بأسره. مع ما يعنيه ذلك من كون هذه الدوائر لا بد من أن تكون تحاول إعداد نفسها للحيلولة دونه، مع أخذ الاحتمالات كافة بالاعتبار. ما يُنبئ بأن تكون منطقتنا، في الأشهر والسنوات القادمة، مسرح الصراع، الإقليمي، والعالمي، الأشد شراسة وعنفاً، في التاريخ الحديث، مع نتائج ذلك وانعكاساته غير العادية. وهنا تكمن الخصوصية الثانية، والأهم، للثورات العربية، حيث سيتوقف على مصيرها، على الأرجح، مصير البشرية جمعاء.

بقلم كميل داغر

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا