نضالُ تنسيقّية الأساتذة الذين فُرض عليهم التّعاقد

يتواصل نضال التنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد ضد نظام أساسي يجعلهم شغيلة هشة بالوظيفة العمومية. تضاربت الأخبار لفترة حول ما أعدته وزارة التربية الوطنية فعلا لهؤلاء، مع أنه ظهر منذ البداية أن الأمر يتعلق بتوظيف لدى الأكاديميات، وليس مع وزارة التعليم، إلا أن أمر ترسيمهم أو تعاقدهم بقي غير واضح تماما، إذ أن المشروع الذي عممته الوزارة مطلع سنة 2018 لم يكن يشير إلى التوظيف بموجب عقود مع الأكاديميات، وظل مصير من وقعوا فعلا عقدة التوظيف مع وزارة التعليم مجهولا.

صار الأمر واضحا، التوظيف بموجب عقود مع الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، بمجرد أن تعمم بالموقع الالكتروني الرسمي للأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين جهة الرباط-سلا-تطوان، وبعدها أكاديمية كلميم واد نون بموقعها الرسمي أيضا، نظاميهما الأساسيان الخاصين بالأطر. لقد تبين من خلال ذلك أن الوزارة عممت على الأكاديميات مشروعا غير المتداول بالأنترنيت والاعلام عموما يقضي صراحة بالتوظيف بموجب عقود لدى الأكاديميات الجهوية، ولم تفعل الأخيرة عبر مجالسها الإدارية سوى المصادقة عليه وملأ الفراغات التي تركتها الوزارة لتتضمن اسم الأكاديمية المعنية، لتعود وتأشر إلى جانب وزارة المالية على مشروعها الأصلي المصادق علية.
هذه هي الحقيقة التي يجب أن يدركها الأساتذة/آت المفروض عليهم/هن التعاقد. منذ أسطره الأولى يشير مشروع الوزارة، وما صادقت عليه المجالس الإدارية للأكاديميات الجهوية، صراحة للتوظيف بموجب عقود مع الأكاديميات. بالتالي من يعنيهم الأمر ليسوا أبدا موظفين عموميين لدى وزارة التربية الوطنية، وهم خاضعون للأنظمة الأساسية لمستخدمي الأكاديميات، وكل مصيرهم، وحقوقهم، ومسارهم المهني، مرتبط بها.
إنه هجوم نوعي على الوظيفة العمومية باعتبارها شغلا قارا وبمكاسب وحقوق معتبرين. وأيضا هجوم على المدرسة العمومية باعتبارها خدمة على عاتق الدولة توفرها على قدم المساواة لكل المواطنين والمواطنات مجانا وبجودة عالية. إنه أيضا إصرار على خوصصة القطاع وإهانة مرتفقيه، شغيلة وتلاميذ وآباء… لكل ذلك يتوجب فتح نقاش عمومي حول مصير المدرسة العمومية والعاملين بها، والمستفيدين من خدماتها. وكذلك فتح نقاش هادئ وهادف لدعم المعركة الجارية للتنسيقية الوطنية للأساتذة والأستاذات المفروض عليهم التعاقد، التي ولا شك ستشكل نقلة نوعية في النضال النقابي خاصة، والعمالي والشعبي عموما.
سياق مخطط التعاقد المشؤوم
جاء التشغيل بموجب عقود بالوظيفة العمومية، التعليم حاليا، في سياق إعادة هيكلة سوق الشغل المزعومة لجعلها أكثر مرونة أجرا وساعات عمل، وحركية… وهو إجراء آتى عقب ضربات متوالية للوظيفة العمومية، ولقانون الشغل المنظم لعلاقات العمل بالقطاع الخاص. هذه الأخيرة التي شهدت بالفعل تهشيشا كبيرا لأوضاع العاملين، وسهل استغلالهم المفرط، وتسريحهم. وهذا ما يجري إدخاله تدريجيا للتوظيف العمومي ليصبح هو أيضا خاضعا لمنطق المقاولة الخاصة.
بدأ الهجوم على الوظيفة العمومية بتخلي الدولة عن التوظيف تماشيا مع إملاءات المؤسسات المالية الدولية منذ التقويم الهيكلي المشؤوم سنوات 1980. وها هو يتواصل بإجراء نوعي ينهي في الحقيقة ما مثلثه الوظيفة العمومية لدى الطبقات الشعبية الكادحة من وسيلة للاستقرار والترقي الاجتماعي.
ليس التعاقد إجراء مؤقتا بمبرر سد الخصاص وما شابه، بل هو سياسة مملاة من المؤسسات الرأسمالية الدولية، المالية والاقتصادية والتجارية… إنها من يتحكم فعلا بسياسة البلد الاقتصادية والاجتماعية خدمة لمصالح الدائنين الخواص ومتعددي الأطراف. إنها سياسة فرضتها الاشتراطات الخاصة بإدارة مديونية البلد، ومصالح برجوازية محلية وأجنبية هي المستفيد الأول من تفكيك مكاسب تاريخية للشعب المغربي انتزعت بنضال وتضحيات مريرة.
هجوم عالمي على المكاسب والحقوق الإنسانية، وعلى منظمات النضال
انهارت الدول العمالية المبقرطة، وتوسعت الرأسمالية محمولة بسياسات نيوليبرالية شديدة القسوة على الطبقة العاملة والطبقات الشعبية الكادحة، وعلى منظمات نضالها الطبقي، السياسية والنقابية والجمعوية… لقد دكت النيوليبرالية كل شيء أمامها، ونشرت ثقافة «لينج من استطاع» و»التعاون الطبقي» و»الشراكة»، و»السلم الاجتماعي» و»نهاية التاريخ» وما إلى ذلك.
كان التعليم، ولا يزال، من بين أكبر المستهدفين ليكون مجالا لأرباح الرأسماليين. نادت النيوليبرالية بربط التعليم بسوق الشغل، تم بتشجيع القطاع الخاص للاستثمار في التعليم، وبتقليص النفقات العمومية للتعليم، وبخفض أعداد العاملين بالتعليم العمومي (خفض كثلة الأجور)، وبإدخال «عقلانية» المقاولة الرأسمالية للوظيفة العمومية…
إنه هجوم عالمي قاده الرأسمال العالمي على الطبقة العاملة والطبقات الشعبية بالمراكز الرأسمالية الأكثر تطورا، كما بمحيطها التابع والمتخلف. غير أن النتائج أكثر كارثية، حتى الآن، بهذا المحيط. وهذا ما يمكن التأكد منه من خلال التجربة المغربية، حيث أدت سياسة الدولة برعاية مؤسسات الراس المال العالمي، إلى الرداءة وتبوؤ المراتب المتخلفة عالميا، أكثر حتى من بلدان تشهد حروبا، في مجال التعليم.
لم يكن لهذا الهجوم أن يلقى نجاحا، من وجهة نظر البرجوازية ودولتها، لولا أنها أخضعت المنظمات النقابية بتواطؤ قياداتها البيروقراطية، وروضت المنظمات السياسية المعارضة التاريخية، وأضعتها لتولي ترويج وتنفيذ السياسات النيوليبرالية التي أتت على الأخضر واليابس من مكاسب هزيلة أصلا.
اشركت الدولة، من موقع التابع المستسلم، قيادات المركزيات النقابية المغربية في تعدياتها. وأشرت هذه البيروقراطيات، دون أدنى مقاومة حتى، على ما سمي ميثاقا وطنيا للتربية والتكوين، وكل ما لحقه من مخططات (البرنامج الاستعجالي والرؤية الاستراتيجية) للإجهاز على التعليم العمومي بجميع أسلاكه. لقد أجهز الميثاق فعلا على التعليم العمومي كما كان حتى سنة 2000. هو من كرس الخوصصة، وضرب المجانية، ونادى بالتعاقد والتراجع عن المكاسب من قبيل الترقية بالأقدمية والشهادة، وأسهم في بروز الفئوية واستفحال الاستغلال بالساعات التضامنية والدعم، وإعادة الانتشار…
قادت أحزاب برجوازية ملكية حركة الطبقة العاملة المغربية وهيمنت على وعيها وكفاحها، وجرتها لمستنقع الخضوع والاستسلام، وتلقي الضربات المتوالية دون مقاومة. لقد قادت أحزاب الاتحاد الاشتراكي وتوابعه، وحزب الاستقلال، والآن حزب العدالة والتنمية، تطلعات الجماهير الشعبية الكادحة إلى الباب المسدود، باب الاستجداء بدل التنظيم والوعي والكفاح، ما ألحق ضررا بليغا بكل تعبيرات الطبقة العاملة والطبقات الشعبية، النقابية والجمعوية، وبأوضاعها الحياتية والعملية.
ما نشهده اليوم من هزال نقابي خير دليل على إجرام أحزاب غير عمالية وغير شعبية في حق كادحي العشب المغربي. لا شيء سوى الخضوع والاستجداء، وتكرار لازمة التعاون والشراكة والسلم، مقابل عنف الدولة وقمعها وإصرارها على انفاذ تعدياتها.
بوادر المقاومة من فينة لأخرى
طبعا، لن تنهزم الطبقة العاملة دون مقاومة، وهي تقاوم بالفعل وتحقق أحيانا انتصارات جزئية. شهدنا بروز تجارب نقابية فئوية عديدة، صارعت في الآن ذاته عنف الدولة وتحكم البيروقراطيات النقابية. ناضلت ضد تقشف الدولة وتعدياتها على حقوق الأفواج الجديدة الملتحقة بالوظيفة العمومية، وواجهت استكانة البيروقراطية النقابية وتخاذلها. كانت تلك سياسة الدولة التدرجية، سياسة «فرق تسد»، والتي أبطأتها في الواقع نضالات فئوية بطولية طيلة سنوات التسعينيات، ولا زلنا نشهد استمرارها من خلال تنسيقيات نضال عديدة (العرضيون، المجندون، أساتذة متدربون، الممرضون، الأطباء، المتعاقدون…). صمدت كل هذه التجارب في وجه مشروع الهشاشة وحقق، بعضها، مطلب الترسيم بعد سنوات من النضال، ولا تزال معارك أخرى جارية. ارتكزت هذه التجارب على مقومات أساسية، ولها نقاط ضعف عديدة عجلت بانتهاء بعضها دون فرض سحب قوانين تراجعية.
مقومات صمود تجارب نقابية فئوية بقطاع التعليم:
*الفئات المناضلة بالتجارب السالفة الذكر هي اجيال شابة خبرت النضال النقابي والسياسي معظمها عاش تجربة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وتجربة جمعية حاملي الشهادات المعطلين.
*هذه التجارب لم تنفصل عن النضال النقابي بل كانت منخرطة، ومندمجة بالنقابات، وكانت تناضل على واجهتين، واجهة نقابية وواجهة اخرى خاصة بالفئة.
*جسدت هذه التجارب ديموقراطية في التسيير واتخاد القرار، وتنفيذ الخطوات النضالية بشكل جماعي.
*كان النفس الطويل والابداع في الاشكال النضالية، والرهان على الجهد الخاص للفئة، ودعم النقابات، وفئات المجتمع المتضررة الأخرى، من مقومات هذه التجارب.
*كان مطلبها واضحا، وتوجهت به مباشرة للدولة، وكان نضالها مستميثا وطويل النفس
نقاط ضعف التجارب النقابية الفئوية:
*النضال الفئوي ليس بديلا للنقابة، انه نضال منقوص ما لم يندرج في اطار نضال نقابي شامل.
*النضال الفئوي المنغلق على الذات يساهم في تكريس ثقافة انتهازية، ويحرم الطبقة العاملة من تحقيق وحدتها، ويضعف قواها.
*مع تعاظم الخط البيروقراطي داخل النقابات، وتدني الوعي العمالي في صفوف الشغيلة، تنامت خيارات سلبية كالعزوف عن الانتماء والفعل النقابي، ما حرم النقابات من دماء جديدة ومكافحة …
وضوح المطلب، والوحدة، والتضامن، والنضال، والتسيير الديمقراطي الحازم، وطول النفس
يحتاج عمال المغرب وعاملاته، موظفوه وموظفاته، مستخدموه ومستخدماته، إلى نقابة طبقية ديمقراطية كفاحية مستقلة. لن يتأتى لهم ذلك بالتمني، بل بفعل يومي صبور ومقدام. على الشباب أن يتنظم نقابيا على مطالب واضحة وموحدة. هذا الشباب غير المثقل بالهزائم، والذي لا تشله قيود الإفساد البيروقراطي، والمتدمر عن حق من حال المنظمات النقابية، والمزود بطاقة تجارب نضال بطولية منتصرة، وشبه منتصرة، وحتى مهزومة، هو من تقع على عاتقه مسؤولية النهوض بالمهام العاجلة والملحة لبناء منظمات كفاح نقابي حقيقية، تعيد الثقة إلى النضال، وتوسع آفاقه من أجل التحرر من الاستغلال والاستبداد.
لن يوقف إصرار الدولة على مخططاتها الجهنمية سوى إصرار مضاد على النضال لوقفها، ممن يتلقون ضرباتها المتتالية، وعلى وضع بدائل فعلية تحررنا من عبودية الأجرة وإذلال الاستبداد. سيكون المنطلق نضالا نقابيا وحدويا مناهضا لسياسة دولة رأس المال، ولسياسة التعاون الطبقي برعاية بيروقراطية نقابية متواطئة.
معركة الأساتذة/آت الذين فرض عليهم التعاقد تواصل المشوار
استطاعت التنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد قيادة مسيرات احتجاجية كسرت جسر الخوف، والهمت الجماهير التعليمية، وكان تصريح وزير التربية الوطنية مباشرة بعد مسيرة 6 ماي 2018 مستفزا للجميع. إنه الدليل على أن الدولة المغربية لن تتراجع عن مخطط التعاقد، وأنها ماضية في تفكيك أنظمة الوظيفة العمومية. طبعا، لن تستطيع التنسيقية الوطنية للمتعاقدين إجبار الدولة على التراجع فورا، فالأخيرة أحرص على ما تسميه هيبتها أكثر من أي شيء آخر ربما، وهذا ما شهدناه خلال تجارب كفاح عمالية وشعبية كبيرة، ليس آخرها حراك الريف، إذ تتحايل الدولة كي لا تظهر بمظهر الخاضع لضغط الاحتجاج. هكذا، ستطول معركة الأساتذة والأستاذات المتعاقدين والمتعاقدات، وهي بحاجة لطول نفس كي تأتي أكلها: ترسيم الكل كموظفين عموميين لدى الدولة عبر وزارتها في التعليم.

بقلم سلامة نعيم

شارك المقالة

اقرأ أيضا