منذ 30 عاما، سقوط جدار برلين

المكتبة9 سبتمبر، 2019

في مساء 9 نوفمبر 1989، انهار رمز للحرب الباردة واضطهاد شعوب الكتلة السوفياتية: في برلين، عندما هزت المظاهرات النظام الألماني الشرقي، هاجم السكان الجدار الذي أقيم في غشت1961 ودمروه. لفت مشاهد الابتهاج والتآخي بين سكان برلين الغربية والشرقية العالم بأسره، معلنة انهيار الكتلة السوفياتية ونهاية الحرب الباردة. عودة بعد 30 عاما لإلقاء نظرة حول هذا الحدث، وجذوره، ومعناه ونطاقه، دون أي حنين، ولكن من دون استسلام.

ملف ترجمته جريدة المناضل-ة

****************************************

نهاية قرن

30 يوليوز 2019

في مساء يوم 9 نوفمبر 1989 ، انهار رمز للحرب الباردة وقمع شعوب الكتلة السوفييتية: في برلين، بينما شلت المظاهرات نظام ألمانيا الشرقية، هاجم السكان الجدار المقام في غشت 1961 ودمرته. وامتدت مشاهد الابتهاج والإخاء بين سكان برلين الغربية وبرلين الشرقية لجميع أرجاء العالم ، معلنة انهيار الكتلة السوفيتية ونهاية الحرب الباردة.

يعد سقوط جدار برلين، في الواقع، رمزا لنهاية قرن افتتح عام 1917 من قبل الثورة الروسية واستيلاء البلاشفة على السلطة خلال الحرب العالمية الأولى، خلفية ميلاد “قرن عشرين قصير” الذي حلله المؤرخ البريطاني إريك هوبسباوم في كاتبه الهام عصر التطرفات1. بالنسبة لهوبسباوم ، “كان العالم المنقسم في أواخر سنوات 1980 عالما شكلته آثار الثورة الروسية 1917. لقد طبعنا جميعًا، على سبيل المثال، بمقدار ما كنا معتادين على التفكير في الاقتصاد الصناعي الحديث وفق مفاهيم الأقطاب المتعارضة، “الرأسمالية” و “الاشتراكية” كنظم لا يمكن التوفيق بينها، أحدها جرى تحديده تبعا للاقتصادات المنظمة على نموذج الاتحاد السوفياتي، والآخر مع بقية العالم”.

في الواقع، إذا كان الأمل الهائل الذي أثارته ثورة أكتوبر قد سحق منذ فترة طويلة من قبل الثورة المضادة البيروقراطية للثيرميدور الستاليني، فإن وجود “آخر” ضد النظام الرأسمالي ظل مفتاح فهم العالم. لم يكن سقوط الجدار صاعقة في سماء هادئة، لكنه سرع انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة السوفيتية بأكملها. أعلن البعض “نهاية التاريخ”، متوقعين الانتصار المطلق والحاسم لرأسمالية الليبرالية الجديدة. بعد ثلاثين عامًا، نظرًا للأزمات المتكررة للرأسمالية وعدم استقرار النظام، من الواضح أن هؤلاء الأنبياء كانوا مخطئين وأن فكرة “عالم بديل”، إن لم تكن ضرورية، ظلت حية. بعد 30 عامًا، هذه عودة إلى هذا الحدث وجذوره ومعناه ونطاقه، دون أي حنين، ولكن دون استسلام.

بقلم، جوليان سالينج

  1. 1. إريك هوبسباوم ، عصر التطرفات، تاريخ القرن العشرين القصير ، طبعة مشتركة؛ لوموند ديبلوماتيك – إديسيون كومبليكس، 1999.

رابط المصدر: https://npa2009.org/idees/histoire/la-fin-dun-siecle

*******************************************

ماذا كانت الكتلة السوفيتية؟

30 يوليوز 2019

نشأ مفهوم الكتلة في يالطا، عندما تقاسم السوفيات والأنجلو أمريكيون أوروبا. في الحالة السوفيتية، ضمت هذه الكتلة البلدان المنهزمة أو المُدّمرة في الحرب، والتي كان الاتحاد السوفياتي يسعى إلى تحويلها إلى منطقة عازلة قادرة على حمايته من أي عدوان جديد من قبل القوى الرأسمالية التي كانت تهيمن على أوروبا الغربية.

مجال احتلال

تشكلت الكتلة السوفييتية على أنقاض البلدان التي هُزمت وصُدمت في الحرب. كانت تضم من جهة، بلدانًا، مثل رومانيا والمجر وبلغاريا، شكلت بلدانا تابعة لألمانيا النازية. ولأنها محرومة من سيادتها، ومحكومة بدفع تعويضات ضخمة عن الحرب للاتحاد السوفياتي، كانت هذه البلدان قد وضعت تحت إشراف الجيش السوفياتي، الذي أخضعها لجميع أنواع الابتزازات العقابية. وكانت بلدان أخرى، مثل تشيكوسلوفاكيا أو بولندا، قد خربتها الجيوش الألمانية، قبل تحريرها من قبل الجيوش السوفييتية التي كانت استفادت من الوضع لضم جزء كبير من أراضيها وإخضاعها لسيادتها. وأخيرًا، كانت ألمانيا الشرقية [جمهورية ألمانيا الديمقراطية] تشكل منطقة الاحتلال السوفييتي سابقا في ألمانيا وكانت خاضعة لنظام احتلال وعقاب بارز.

وهكذا جرى اعتبار الكتلة السوفييتية، أولاً وقبل كل شيء، أرضًا محتلة كان الاتحاد السوفياتي بسط فيها نفوذه الإمبريالي بموجب قانون الحرب. وبناءً على ذلك، لم تكن إقامة حكومات شيوعية نتيجة ثورة اجتماعية، بل نتيجة إرادة ستالين، الذي عهد بالسلطة إلى أحزاب كان يتحكم بها بشدة خاصة أن قيادتها كانت تعيش في المنفى بموسكو أثناء الحرب. لم يكن إرساء الأنظمة الاشتراكية في البلدان الشرقية والحالة هذه نتيجة سيرورة ثورية من قبل الطبقة العاملة للاستيلاء على وسائل الإنتاج، ولكن نتيجة فرض النموذج الستاليني من أعلى: في كل مكان جرى اخضاع الأراضي للتشريك على طريقة النموذج السوفييتي، وتنظيم الصناعة وفقًا للمبادئ المقررة في الاتحاد السوفياتي، وتدمير المجتمع عبر إرساء نظام رعب بوليسي.

جاءت الاستثناءات الحقيقية الوحيدة لهذه القاعدة من يوغوسلافيا وألبانيا، حيث كانت المقاومة، التي يسيطر عليها الشيوعيون، تمكنت من تحرير البلدين وحدها، قبل إقامة اشتراكية مشوبة إلى حد كبير بنزعة قومية. مكنت هذه الظروف التاريخية هذين البلدين من الحفاظ على سيادتهما والقطع مع موسكو، بالنسبة ليوغوسلافيا بدءا من عام 1948 وألبانيا في عام 1960. لكن هذه الإمكانات لم تكن قائمة بالنسبة لبلدان الكتلة الاشتراكية الأخرى، التي كان قادتها أكدوا ولاء غير مشروط للاتحاد السوفياتي وستالين، الذي كان يثابر على تطهير الأحزاب «الصديقة» بانتظام، لجعل قادتها يعيشون في حالة رعب. ومع نزعة التبرؤ من الستالينية، كانت الهيمنة السوفييتية أكثر مرونة، إذ سمح السوفييت لبولندا، على سبيل المثال، بحل جميع تعاونياتها الزراعية تقريبًا في سنوات 1950 أو أيضا المجر في سنوات 1970 و1980 لتطوير اقتصاد مبني إلى حد كبير على المقاولة الصغيرة الخاصة. مع ذلك، لم يتخلى السوفيات بأي وجه عن الأساسي: لم تكن بلدان الكتلة السوفييتية تتمتع سوى بسيادة محدودة، تجبرها على قبول الهيمنة السوفيتية.

اشتراكية شكلية

تنعكس الهيمنة السوفيتية بادئ ذي بدء عبر الاندماج العسكري لبلدان الكتلة، حيث إن جيوشها في الواقع كانت، بموجب ميثاق وارسو (عام 1955)، تحت إشراف الاتحاد السوفياتي. كما كانت أيضا تستتبع مواءمة دبلوماسية هذه البلدان مع المصالح الروسية، ما كان يؤدي بها، على سبيل المثال، إلى التصويت كما الاتحاد السوفياتي في الأمم المتحدة. كما كانت تتجسد في تكامل اقتصادي: في إطار الكوميكون [مجلس التعاون الاقتصادي] (عام 1949)، كانت البلدان الشرقية جزءًا لا يتجزأ من التخطيط السوفييتي، بقدر ما كانت مرتبطة بالاتحاد السوفياتي عبر نظام تبادلات تجارية مواتية جدا للمصالح الروسية.

كان اقتصاد البلدان الشرقية والحالة هذه اشتراكيًا، لكن هذه الاشتراكية كانت في الواقع شكلية. وبعيدا عن كونها في ملكية العمال والعاملات، كانت كبرى المقاولات في الواقع بين أيدي نخبة بيروقراطيين صغيرة عدديا، كانت تدير النظام تحت تحكم الروس ولمصلحتهم. وبعيدا عن التوجه نحو تلبية الحاجات الشعبية، أعطى اقتصاد هذه البلدان الأولوية لتطوير الصناعة الثقيلة، ما أدى إلى اعتماد اقتصاد ندرة، حيث كان السكان محرومين إلى حد كبير من المواد الاستهلاكية الأساسية.

مقاومة عمالية على نطاق واسع

لم يتقبل السكان بأي وجه العيش في هكذا معتقل الشعوب الجديد، الذي ما كان بالإمكان استمراره إلا عبر القمع البوليسي وخاصة التدخل العسكري المنتظم للسوفيات الذين كانوا يهرعون بانتظام إلى نجدة الأنظمة المرفوضة من قبل شعوبها. ومنذ عام 1953، كان الجيش السوفياتي مضطرا إلى التدخل في ألمانيا الشرقية لسحق بروليتاريا برلين وسط الدماء. وفي عام 1956، وضع الجيش السوفياتي حدا للثورة المجرية، وأعدم أثناء ذلك قيادة الحزب الشيوعي المجري رميا بالرصاص، بتهمة عدم احتواء تطلعات الشعب. وفي عام 1968، كانت الدبابات السوفيتية تدخل تشيكوسلوفاكيا، التي باتت خاضعة لنظام احتلال.

أثناء 40 عامًا من وجود الكتلة السوفييتية، كانت مقاومة الشعوب بناء على ذلك دائمة، كما كان شاهدا على ذلك تاريخ بولندا، المتميز بإضرابات جماهيرية ذات طابع تمردي في أعوام 1956 و1970 و1980، قادت النظام إلى اعتماد حالة الحرب في عام 1981، تفاديا لتدخل سوفياتي جديد. وتجلت المقاومة أيضا في هجرة جماعية؛ على الرغم من المخاطر المحدقة، وهروب الألمان الشرقيين إلى حد انتقال عدد سكان ألمانيا الشرقية من 18.3 إلى 16 مليون نسمة بين عامي 1950 و1990.

وكانت السمة الأبرز لهذه المقاومات طابعها البروليتاري. في كل مكان، في الواقع، كانت رأس حربة الانتفاضات الطبقةُ العاملةُ، التي كانت قدرتها على العمل أقوى بقدر ما كان تطوير الصناعات الثقيلة قد خلق تركزات عمالية قوية. من ألمانيا الشرقية إلى بولندا، كانت الانتفاضات المناهضة للسوفييت اشتعلت بحفز من إضرابات عمالية ضد وتائر العمل الجهنمية ولتقليص ساعات العمل وزيادة الأجور أو أيضا لممارسة الحق في الإضراب وتشكيل نقابات مستقلة. دائما ما طرح هذا الوضع مشكلة نظرية للماركسيين، بقدر ما قد بدا صعبا تحديد الطبيعة الاجتماعية لتلك الأنظمة التي كانت، عبر الأحزاب الشيوعية التي تقودها، متحدرة من الطبقة العاملة، ولكن ذلك لم يمنعها من إقامة نظام استغلال البروليتاريا. والواقع أن الأساسي موجود تماما فيما يلي: إن حرمان الطبقة العاملة من حقوقها الديمقراطية وإجبارها على قضاء ساعات عمل شاقة والحصول على أجور بؤس، جعلها في الواقع معارضة في كل مكان لهذه الأنظمة التي من الواضح أنها لم تكن أنظمة خاصة بها.

بقلم، لوران ريبارت

رابط المصدر :    https://npa2009.org/idees/history/that-the-sovieticalblock

**************************************************

وراء «الكتلة السوفيتية»، قاموس حرب باردة، وواقع قائم على نزاعات

بعد طور ترسيخ بيروقراطية الاتحاد السوفياتي (سنوات 1930-1940)، أعلن ستالين عن الاشتراكية القائمة على التخطيط المركزي والدولاني étatiste والتشريك collectivisation القسري في القرى.

نحو انشقاق يوغوسلافيا

غير أن الحرب الأهلية المناهضة للفاشية في الحرب العالمية الثانية أدت إلى سيناريو «قذر». إن ما كان ستالين قد سعى إلى توجيهه من تحالفات مناهضة للفاشية لصالح دبلوماسيته ولـ «بناء الاشتراكية في بلد واحد» تحول إلى الحرب الباردة بين الأنظمة: خطة مارشال للولايات المتحدة (وأبعادها المتطرفة المعادية للشيوعية مع اقرار نزعة المكارثية)، وتجدد الثورة (يوغوسلافيا وألبانيا والصين)، وحتى «انقلاب براغ» الذي جعل تشيكوسلوفاكيا نظامًا شيوعيًا بحزب واحد (ولكن متمتع بشعبية كبيرة): لا شيء من ذلك «احترم» تقسيم العالم بموجب اتفاقية يالطا.

كان الانشقاق الكبير الأول داخل الحركة الشيوعية مرتبطًا بالثورة اليوغسلافية، ما حفز مشاريع الكونفدرالية الاشتراكية في البلقان المنفلتة من تحكم ستالين. ومن هنا جاء «طرد» «أنصار الزعيم اليوغسلافي تيتو» من قبل الكرملين في عام 1948، وعمليات تطهير طالت أحزابا عديدة في المنطقة. ولاستنادهم إلى كومونة باريس وماركس ضد ستالين، منح القادة اليوغوسلاف صفة قانونية للمجالس العمالية (التسيير الذاتي) في المقاولات ثم في قطاع الخدمات، وبعد 1956، حثوا على اقرار «عدم الانحياز» المناهض للاستعمار. بعد وفاة ستالين (عام 1953)، أدى المؤتمر العشرين لـ«نزعة التبرؤ من الستالينية» في عام 1956 إلى استقرار بيروقراطي «إصلاحي»، عبر إعادة النظر في معتقلات الغولاغ وجرائم ستالين الرئيسية، وتلبية أكبر للحاجات الأساسية، ودخل اجتماعي غير نقدي ومنصب عمل مضمون، دون طعن في الحزب الوحيد.

مآزق التخطيط البيروقراطي

حتى سنوات 1970، سمح النمو الموسع بتقليص فجوات التنمية مع أوروبا الغربية –الذي كانت سماته «المساواتية» تعبر عن الضغوط الداخلية/الخارجية التي تمارسها «شيوعية» خلف وضد بيروقراطية الأحزاب الشيوعية وكذلك ضد الإمبريالية في سنوات 1960. ولكن في سنوات 1960، حاولت جميع البلدان الاشتراكية إيجاد إجابات لمآزق التخطيط البيروقراطي، وتحسين الجودة وخفض تكاليف الإنتاج. أدت المقاومات الاجتماعية (لقسم من الجهاز والعمال والعاملات) ضد إصلاحات منطق السوق إلى توقيف هذه الأخيرة دون حل اشتراكي ديمقراطي متماسك. وكان اللجوء إلى الواردات سبب المديونية الخارجية لبلدان عديدة بأوروبا الشرقية في سنوات 1970 (ولكن ليس في الاتحاد السوفياتي الخاضع إلى حين تفككه لمقاطعة الولايات المتحدة الأمريكية): رومانيا وبولندا والمجر ويوغوسلافيا وجمهورية ألمانيا الديمقراطية [ألمانيا الشرقية]. سيؤدي ذلك إلى مفاقمة الضغوط الخارجية لصندوق النقد الدولي على هذه الأنظمة، بينما تعرض الاتحاد السوفياتي لضغوط سباق التسلح الذي قاده ريغان.

حدث منعطف غورباتشوف (عام 1985) في هذا السياق، سعيا إلى تقليص نفقات التسلح والحصول على قروض وتقنيات غربية لإجراءات الإصلاحات الداخلية.  إن تقاربه مع جمهورية ألمانيا الاتحادية [ألمانيا الغربية] كان يعني «فك الارتباط» مع نظام هونيكر في جمهورية ألمانيا الديمقراطية [ألمانيا الشرقية] وقبول سقوط جدار برلين. كما أن نهاية التدخل السوفياتي «سيحرر» ميول قسم من الأجهزة البيروقراطية نحو تعزيز امتيازاتها الوظيفية بامتيازات المِلكية على أسس رأسمالية، وبالتالي بطبقة برجوازية جديدة.

بقلم، كاترين ساماري

رابط المصدر:  https://npa2009.org/idees/history/back-to-soviet-block-a-vocabulary-fire-froide-conflict-reality

**********************************************

لماذا برلين؟

30 يوليوز 2019

من أين أتى واقع أن يصبح سقوط حائط برلين يوم 9 نونبر 1989 تاريخ نهاية مرحلة، أكثر بكثير من انهيار الاتحاد السوفياتي في 26 ديسمبر عام 1991؟

تعد برلين واحدة من الأماكن الرمزية لتاريخ الإمبريالية في القرن العشرين. إنها في المقام الأول رمز الصعود القوي للإمبريالية الألمانية وقدرتها على تحدي موازين القوى القائمة بين الإمبرياليات. وتشكل رمز قدرة الثورة العمالية على توجيه ضربة حاسمة للرأسمالية، ما جعل لينين يصرح في آذار/مارس عام 1918: «الحقيقة المطلقة هي أننا سنصبح من الهالكين، ما لم تقم ثورة ألمانية». ثم تمثل رمز انتصار الفاشية وطريقة هيمنتها الجنونية، قبل أن تصبح رمز هزيمة النازية. وفي آخر المطاف، تشكل رمز الحرب الباردة بين الكتلة الإمبريالية والاتحاد السوفياتي.

برلين، رمز صراع الطبقات في ألمانيا

على عكس معظم العواصم الأوروبية، لا تمتلك برلين تاريخا يمتد لقرن من الزمن. ولم تصبح المدينة، سوى  في عام 1870، عاصمة الإمبراطورية الألمانية الناشئة والبرجوازية الصناعية التي، فيما كانت تعمل على ترويج أعمالها التجارية، سلمت زمام أمورها إلى هذه الإمبراطورية لإدارة السياسة الوطنية والدولية. كانت برلين، بدءا من عام 1919، مركز الثورة الألمانية. هنا، تسلم حزب ديمقراطي اشتراكي، للمرة الأولى في معقل إمبريالي، مقاليد السلطة بفعل ثورة عمالية وسحَقَها باغتيال روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت، وشكل ذلك منعطفا أكبر.

لكن سحق ثورة 1919-1923 لم يوقف صراع الطبقات، ما دفع البرجوازية الألمانية إلى الاعتماد على النازيين كملاذ أخير. باتت برلين والحالة هذه، بدءا من عام 1933، واجهة النظام، إلى جانب توطدها كمركز صناعي تعززه الطموحات التوسعية. كان النظام النازي أباد المنظمات العمالية، واستكمل الستالينية القضاء على قادة العمال الذين ظلوا مخلصين للمشروع الثوري. لكن شبح موجة ثورية منبعثة في ألمانيا تسلط على مؤتمرات الحلفاء العالمية. لم يكونوا يخشون بضعة آلاف من المناضلين والمناضلات الذين نجوا، بل انبعاث عقود من تجارب النضال الاجتماعية والسياسية في الوعي. من طهران إلى يالطا، حاولت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي والمملكة المتحدة، والإمبريالية الفرنسية التي جرى انقاذها في آخر لحظة، تنظيم التحكم بألمانيا المهزومة وبرلين عبر خطة احتلال رباعي.

بموجب هذه الاتفاقات، عملت جيوش البلدان الغربية على ترك الجيش السوفياتي، بدعم من قصف غربي، يحول برلين إلى أنقاض (جرى تدمير 600000 منزل). تعرض سكان برلين البالغ عددهم 2.8 مليون نسمة، بمن فيهم مليوني امرأة، لموجة عنف. وفي برلين، تعرضت مئات الآلاف من النساء للاغتصاب (ليس من قبل الروس وحدهم)، كما تروي مارتا هيلرز في صحيفتها “امرأة في برلين” (نيسان/أبريل – حزيران/يونيو عام 1945). أُجبر السكان على الجوع والأعمال الشاقة، في إطار منطق مزدوج قائم على فرض عقاب جماعي على النازية وتفكيك مختلف أشكال القوة الاقتصادية والسياسية.

برلين، مسرح ورمز الحرب الباردة

لكن تحالف الامبريالية والستالينية ضد الثورة لم يكن بالإمكان أن يكون دائماً. مع هزيمة ألمانيا، أصبح وجود الاتحاد السوفياتي مرة أخرى لا يطاق بالنسبة للقوى الإمبريالية. وأصبحت والحالة هذه برلين، المقسمة إلى أربعة مناطق محتلة في المنطقة التي يحتلها السوفيات، مسرح مواجهتهما عبر تعاقب أزمات تم في إطارها إعادة تقييم موازين القوى بين الدول وإعادة بناء دولة ألمانية.

كان حصار برلين (حزيران/يونيو عام 1948 – آذار/مايو عام 1949) أول مواجهة حرب باردة غير مسبوقة. ورداً على هجوم الولايات المتحدة الأمريكية الاقتصادي (خطة مارشال والتوحيد النقدي للمناطق الغربية المحتلة الثلاث) في محاولة لإعادة بناء اقتصاد سوق في ظل هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، قرر السوفييت إغلاق جميع الاتصالات بين برلين الغربية ومناطق الاحتلال الغربي، فارضين حصار المواد الغذائية والطاقة على سكان برلين لإجبارهم على رفض الغربيين. أقامت الولايات المتحدة الأمريكية، بدعم المملكة المتحدة، جسراً جوياً لتموين برلين الغربية: تهبط طائرة كل ثلاث دقائق لتفريغ البضائع ونقل المرضى… وتحت تهديد استعمال الأسلحة النووية الأمريكية، لا يهاجم النظام المضاد للطائرات السوفياتي أي طائرة ولا تحاول أية قوة غربية على الأرض كسر الحصار. إن عدم فعالية الحصار فرض على الاتحاد السوفياتي وضع حد له. كان ذلك نصرا سياسيا للإمبرياليات.

فرض الغربيون الحفاظ على وجودهم في برلين، وكذلك إنشاء دولة فيدرالية ألمانية التي رد عليها السوفييت بإنشاء الجمهورية الديمقراطية الألمانية. بدأت منافسة جامحة لتأكيد قوة اقتصاد السوق على الاقتصاد المخطط. لكن ذلك لن يؤدي إلى فوز بالضربة القاضية كما توقع الغربيون. وبالمقابل، في 16 حزيران/يونيو عام 1953، تجدد نشاط شبح الثورة العمالية في برلين الشرقية بمبادرة من عمال ورش بناء شارع ستالين ضد المعايير الجديدة للحكومة البيروقراطية. وفي اليوم التالي، أصبح الإضراب سياسيًا، وامتد إلى مصانع مدينة لوينا ومصانع أخرى عديدة، «من أجل الخبز والحرية». إذا شعرت حكومة جمهورية ألمانيا الديمقراطية [ألمانيا الشرقية] بخطر كبير محذق وضرورة تحمل المسؤوليات، فإن حكومة جمهورية ألمانيا الاتحادية [ألمانيا الغربية] والقوى الإمبريالية كان حريصة جدا على عدم التصدي لتدخل الجيش السوفياتي.

لا تحقق الإمبريالية نصرًا سياسيًا، لكنها بالعكس تسجل نقاطًا عبر تطورها الاقتصادي. في برلين، كما في باقي ألمانيا الغربية، تستميل طفرة المجتمع الاستهلاكي باطراد سكان ألمانيا الشرقية. في عام 1960، فر أكثر من 200000 ألماني وألمانية من جمهورية ألمانيا الديمقراطية إلى برلين الغربية، وفي تموز/يوليو عام 1961 بلغ عددهم وعددهن 30.000. سيجبر ذلك حكومة جمهورية ألمانيا الديمقراطية والاتحاد السوفياتي في آب/أغسطس عام 1961، على إقرار بناء جدار أصبح رمزا للفصل الأكثر إحكاما إلى أقصى حد ولسجن سكان ألمانيا الشرقية.  يشكل الجدار هزيمة سياسية للكتلة السوفييتية التي تقوي وتسرع المنافسة الأيديولوجية والاقتصادية والعلمية والثقافية، وكذلك سباق التسلح، ويمثل تبذيرا هائلا للموارد المادية والبشرية. حتى تشرين الثاني/نوفمبر عام 1989 …

بقلم، كاثي بيلارد

رابط المصدر: https://npa2009.org/idees/history/why-berlin

***************************************

1989: ثورة  أم ثورة مضادة؟

30  يوليوز 2019

“الشمبانيا وألكا-سيلتزرalka-seltzer! “[1]: بهذه العبارات، حدد دانييل بنسعيد فورا تصوره لثورات 1989، التي أدت إلى كل من التحرر السياسي والوطني لشعوب الشرق وإلى استعادة علاقات الإنتاج الرأسمالي. عبّرت هذه الصيغة المتناقضة عن حيرة الحركة العمالية العالمية، التي تساءلت عما إذا كان سقوط الكتلة السوفيتية يشكل ثورة أم ثورة مضادة.

الثورات “المخملية”

إذا اقتصر استخدام مصطلح “الثورة المخملية” فقط لوصف الثورة التشيكوسلوفاكية وحدها، يمكن تطبيقه على جميع بلدان الشرق تقريبًا، حيث تميزت العملية الثورية بطابعها السلمي الرائع. ويفسر هذا بحقيقة أن التغيير الثوري لم يكن اجتماعيا، لأنه لم يأخذ شكل الاستيلاء على السلطة من قبل الجماهير بل تغييرا في وضع الطائفة الحاكمة نفسها التي غيرت جذريا أسس هيمنتها.

في بولندا والمجر، وهما الدولتان اللتان كانتا محركتا التغيير، مرت الثورة بالكامل تقريبًا داخل الأحزاب الشيوعية، التي قررت التدمير الذاتي من خلال التخلي عن دورها القيادي، قبل أن تحل نفسها وتنشأ على أنقاضها أحزاب اشتراكية ديمقراطية. كانت رومانيا البلد الوحيد الذي اتخذت فيه العملية منعطفًا عنيفًا، لكن التغيير لم يكن نتاج ثورة شعبية بل نتيجة انقلاب، عندما جرت الإطاحة بنيكولاس كويسيسكو من قبل الجيش وجهاز الحزب الشيوعي، اللذين قاما بتصفية الحزب ونظام هيمنته.

ثمرة أزمة نظام

غالبًا ما فرضت الظروف هذه العملية، والتي تركت في الواقع خيارات قليلة جدًا للقيادات. كان هذا هو حال جمهورية ألمانيا الديمقراطية، التي كانت، مع ذلك، الدولة الوحيدة، تقريبا، في الكتلة السوفيتية التي تتمتع باقتصاد وظيفي: بما أن المجر قد اتخذت قرارًا بفتح حدودها الغربية وبما أن السكان الألمان الشرقيون قد سلكوا الطريق من بودابست للانضمام إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية، لم يكن أمام النظام أي خيار سوى إغلاق جميع حدوده، وهو أمر لا يمكن الدفاع عنه، أو فتحها جميعًا، ما سيسبب اختفائه. بشكل أعم، كما في حالة الغورباتشوفيين الروس، أدركت القيادات أن النظام لم يعد قابلاً للإصلاح وأن تحولات ثورية كانت حتمية.

منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، دخل اقتصاد الكتلة السوفيتية بالفعل أزمة عسيرة إذ كانت نظامية. كانت المزارع الجماعية تنتج عوائد متناقصة بسبب عجز الصناعة عن توفير الآلات اللازمة، وتدهور نظام النقل والتوزيع، ولكن أيضا بفعل تطور منفلت لاقتصاد موازي. لم تعد بلدان زراعية هامة مثل رومانيا أو بولندا أو المجر قادرة على إطعام سكانها واضطرت إلى استيراد كميات كبيرة من الأغذية من الغرب لا يمكنها أداء ثمنها إلا باللجوء إلى استدانة كانت وصلت بالفعل إلى مستوى لا يطاق.

كان السبب الرئيسي وراء المشكلة هو انهيار نظام التخطيط البيروقراطي. كانت المجمعات الصناعية الكبرى تنتج أشياء كثيرة جدا، قيمتها الاستعمالية شبه معدومة، حيث أن هذه المنتجات كانت إلى حد كبير ذات نوعية غير كافية للاستعمال أو غير مواتية للاحتياجات الاجتماعية. كانت وسائل النقل في حالة تدهور تام تقريبا والمساكن، التي بقيت بلا صيانة، كانت في حالة خراب وتدهور شديدين. دفع هذا الوضع السكان إلى العيش في اقتصاد يعاني نقصا دائما وقضاء معظم وقتهم بحثا عن شبكات موازية لتلبية احتياجاتهم العاجلة، وهو ما لم يكن بدون آثار على مشاركتهم في الإنتاج.

استعادة الرأسمالية دون مقاومة

قادت هذه الأزمة النظامية قيادات الأحزاب الشيوعية للاقتناع تدريجياً بأنه لا يوجد بديل سوى استعادة اقتصاد السوق. اندمجت تلك القيادات جزئياً مع البرجوازية السابقة، التي استعادت ممتلكاتها المصادرة عام 1945، وتحولت إلى طبقة رأسمالية جديدة، مستفيدة من موقعها في جهاز الدولة للاستيلاء على ممتلكات عامة تمت خصخصتها حينها مقابل حفنة خبز. لم تعارض الطبقة العاملة هذه العملية، رغم قوتها الشديدة، ورغم استنزافها باقتصاد الندرة هذا ومعاداتها الشديدة لهذه الأنظمة، مع أن هذه العملية أدت هذه إلى التصفية شبه الكاملة لجميع الصناعات القديمة، مع عواقب وخيمة من حيث البطالة الجماهيرية والفقر.

تفسر السمات الخاصة للعملية الثورية لعام 1989 بالأزمة النظامية لنموذج التخطيط البيروقراطي الستاليني. انخرطت البيروقراطية الحاكمة، بالنظر لأنها لم تعد قادرة على جني ثمار نظام متهالك، عن طيب خاطر أو بدونه في عملية استعادة الرأسمالية، معتقدة أنها ستكسب من ذلك أكثر مما قد تخسره. لم تكن الطبقة العاملة مهتمة بالدفاع عن نظام لم يكن أبدا نظامها، ولم يكن قادرا على تلبية احتياجاتها الأساسية. لم يكن لدى الطبقة العاملة أي مصلحة موضوعية للدفاع عنه. لم تجد الطبقة العاملة، المحرومة من أي بديل سياسي، أي حل آخر سوى السماح بأن تأخذ الأمور مجراها أو البحث عن طريق آخر من خلال النزعات القومية، التي وجدت على هذا الأساس مجالًا خصبًا كي تنمو.

بقلم، لوران ريبارت

رابط المصدر: https://npa2009.org/idees/history/1989-revolution-or-convention-revolution

***********************************************

1989-1991 : التحول الكبير” الرأسمالي الداخلي/الخارجي في أوروبا الشرقية

30 يوليوز 2019

يترك تسليط الأضواء السعيدة على سقوط جدار برلين في الظل التحليل الملموس لطرائق الإصلاح الرأسمالي وآثاره في أوروبا الشرقية(1). كان توحيد ألمانيا (أكثر بكثير من أنقاض الجدار) معلمه الأول، بعيدا عن صور الواجهة(2). ولا يزال من الضروري قياس عتامة “المفرق” التاريخي الذي مثله عام 1989 – وبعبارة أخرى طابعه غير الديمقراطي العميق لأنه مدمر لجميع أشكال الحماية الاجتماعية المنفلة من منطق الربح.

على غرار الكساد الكبير

حتى البنك العالمي، الذي لا شك في تواطؤه، اعتبر في تقريره لعام 2002 حول السنوات العشر الأولى من “الانتقال إلى اقتصاد السوق” ( تعبير مهذب عن “استعادة الرأسمالية”) في أوروبا الشرقية واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية السابق، أنه، بدون استثناء، جميع البلدان المعنية عانت “عدة سنوات” من “ركود عميق” يعرف باسم “أزمة نظامية أو انتقالية”. وأعلن أن “حجمها ومدتها” “مماثلة للكساد الكبير” (في سنوات 1930) و”بالنسبة لمعظمها أسوأ من ذلك”. أثّر انخفاض النمو على جميع القطاعات في السنوات الأولى، أو حتى في سنوات 1990 بأكملها، إذ تراوح الانخفاض بين 6 في المائة (بولندا) أو 15 في المائة (في أوروبا الوسطى) وأكثر من 40 في المائة في أماكن أخرى، مصحوبا بظهور بطالة هيكلية (لم تكن معروفة حتى ذلك الحين)، واتساع نطاق عدم المساواة “في بلدان تتوفر على بنيات الأكثر مساواة في العالم” كما يشير البنك العالمي لذلك. وليس لدى الناس أي فكرة عما تعنيه “الخصخصة” و”السوق” ولا يعرفون البطالة. هكذا خاضوا تجربة مريرة لتحولات التوجه الاجتماعي (الاجتماعي الليبرالي) وراء الأحزاب الجديدة في سياق التعددية السياسية الناشئة حينها في بداية سنوات 1990.

ثورات ديمقراطية؟

وصف العالم السياسي البريطاني تيموثي غارتون آش تحول عام 1989 بـ “النيولوجية” التي تجمع بين “الإصلاحات” التي أدخلت من فوق (والتي ليست بفعل الحركات الجماهيرية)، وكان هدفها تغييرات هيكلية، بالتالي ذات طابع “ثوري” – في هذه الحالة مضادة للثورة. والواقع أن أهداف برنامج الاستعادة في جميع البلدان المعنية كانت هي نفسها، بغض النظر عن أصل السلطات الشيوعية (ثوري، كما هو الحال في الاتحاد السوفياتي أو يوغوسلافيا أو “مشتق” بيروقراطيا من الدور المباشر للاتحاد السوفياتي في سياق استقطابات اجتماعية، وسياسات جذرية للكفاح ضد الفاشية خلال الحرب العالمية الثانية). لأن “بنيتها” الاجتماعية-الاقتصادية والأيديولوجية مشتقة عن نفس القالب.

ويمكن تحديد ملامح ذلك على نحو أفضل بتحليل هذه المجتمعات (لا رأسمالية ولا اشتراكية)، كما فعل البلشفيون في سنوات 1920 بالنسبة للاتحاد السوفياتي، باعتباره “مجتمعا ً انتقالياً”، سمي اشتراكيا أو شيوعيا، بالنظر لأهداف النظام وقاعدته الاجتماعية، ولكن منفتح على ميولات متناقضة: خطوات ثورية اشتراكية/شيوعية تحررية جديدة، وميولات مؤيدة للرأسمالية، وبينهما، تطور منطق بيروقراطي متأرجح بين الطبقات الأساسية ومتمكن في بعض الأحيان، وفقا للسياق. وتنطوي استعادة الرأسمالية على الطبيعة المهيمنة للتيارات المؤيدة للرأسمالية في جهاز الدولة، محولة الحقوق الاجتماعية والعلاقات الدولية في هذا الاتجاه. ومن المهم إدانة جميع علاقات القمع والاستغلال، حتى وإن لم تكن “رأسمالية” وتخترق المؤسسات والمنظمات “العمالية”. كانت المرحلة الشمولية الستالينية تبلوراً بيروقراطياً قضى على العلاقات السلعية موازاة مع الاعتماد على تعزيز عمودي كثيف للعمال في أجهزة الدولة/الحزب، باسم الاشتراكية. وكان الاتحاد السوفياتي الستاليني يهدف إلى الحفاظ على علاقات سياسية دولية مهيمنة مع الحركة العمالية. ولاحقا، حتى عندما كان وصول هؤلاء الأخيرين إلى السلطة قد استمد قوته من سلطة الدولة السوفياتية، فإن جميع الأنظمة الجديدة، سواء كانت متحالفة مع “النموذج السوفياتي” الذي كان يساعدها، و/أو في صراع مع الكرملين، سعت لتثبيت حكم الحزب الواحد بين العمال وإضفاء الشرعية عليه مع سحق حركات العمال المستقلة.

تضييق الفجوة بين الإعلانات الاشتراكية والحقائق

هذا هو سبب أن الحركات الديمقراطية الكبرى المناهضة للبيروقراطية، حتى سنوات 1980، البعيدة عن حصرها في “معارضات” مناهضة للشيوعية، ولدت في القاعدة الاجتماعية العمالية والفكرية لهذه الأنظمة، وتملكت الأهداف التحررية للماركسية والاشتراكية لتحويلها ضد العلاقات القمعية القائمة. هذه “الشيوعية” هناك، التدميرية للنظام القائم، شملت واخترقت جميع مؤسسات الدولة/الحزب الحاكم باسم العمال، وهدفت إلى تقليص الفجوات بين الإعلانات الاشتراكية والحقائق. وكان هذا هو الحال من عام 1956 (مع المجالس العمالية في بولندا وهنغاريا) إلى عام 1968 (حركات التسيير الذاتي اليوغوسلافية في خريف مجالس العمال في تشيكوسلوفاكيا) وإلى ما بعد، حتى مؤتمرات وبرنامج جمهورية التسيير الذاتي لحركة تضامن Solidarnosc  في بولندا الفترة 1980-1981، بمشاركة عشرات الآلاف من أعضاء هذه الأحزاب-الدول ونقاباتهم. وكما قال المفكر الماركسي البولندي كارول مودزيليفسكي، طوال حياته، الذي قمعه النظام، فإن النقابة الجماهيرية تضامن (التي كان مستشارا فيها) كانت “طفلاً اشتراكياً”؛ تماما مثل ظهور المجالس العمالية وتوسعها أثناء تدخل الدبابات السوفياتية، وضده، في تشيكوسلوفاكيا في خريف عام 1968، بدعم من المكون “التسيير الذاتي” للحزب الشيوعي والنقابات العمالية، المعبر عن دينامية “ ثورة سياسية” بمعنى وضع الحكم البيروقراطي للحزب الشيوعي موضع تساؤل. ولكن في نظم الحزب/الدولة هذه، كانت “السياسة” اجتماعية بعمق، وكان لأدنى “توقف عن العمل” دينامية “سياسية” تدميرية ضد القادة الحاليين، دون حقوق ملكية. ويهدف منطق الحركات الجماهيرية إلى تضييق الفجوة بين الحقوق الاشتراكية “القانونية” (التي أضفى عليها النظام الشرعية) والممارسات البيروقراطية والقمعية.

لماذا سيناريو آخر عام 1989؟

من ناحية، أدى “التطبيع السوفياتي” لتشيكوسلوفاكيا تحت احتلال الدبابات، وانقلاب جاروزيلسكي، في عام 1981، ضد نقابة التضامن، إلى تحطيم العدوى المحتملة لدينامية اشتراكية تخريبية داخل “الكتلة السوفياتية”. كانت يوغوسلافيا، من جانبها، تغرق في إصلاحات متناقضة وديون وأزمة كبيرة بعد وفاة تيتو (1980) دون تقديم منفذ اشتراكي متماسك لآلاف الإضرابات في أواخر سنوات 1980: سوف يحدث التفكيك القومي والرأسمالي للبلد بأسوأ عنف. وفي القارة وعلى صعيد جيوستراتيجي، كان ما يحدث في الاتحاد السوفياتي في ظل غورباتشوف حاسما. أعرب هذا الأخير عن أمله في أن يؤدي سقوط الجدار، وتفكيك المواثيق العسكرية للحرب الباردة (حلف شمال الأطلسي وميثاق فارسوفيا) والتعددية الحزبية إلى ظهور “تعايش سلمي” حقيقي بين النظم وأن يكسبه القروض الغربية. لكن توحيد ألمانيا لم يكن “تعايشاً” البتة وقررت الولايات المتحدة ضم ألمانيا الموحدة إلى حلف شمال الأطلسي (ومن ثم توسيعه إلى الأزمة اليوغوسلافية) في حين تم تفكيك حلف وارسو عام 1991. أما بالنسبة لقروض صندوق النقد الدولي، فإنها لن تأتي إلا بعد تهميش غورباتشوف بتفكيك يلتسين لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، الذي سيبدأ العلاج بالصدمة.

برنامج التقويم الهيكلي

منذ ذلك الحين، تم إرساء نظام التعددية الحزبية، المعلن في الاتحاد السوفياتي وفي جميع بلدان أوروبا الشرقية أو يوغوسلافيا، بعد تفكيك التيارات والتعبئات العمالية المجسدة لبدائل اشتراكية ديمقراطية ذات مصداقية (في تشيكوسلوفاكيا، بولندا). وفي البداية، وخاصة في الاتحاد السوفياتي، داست التيارات الليبرالية على العمال (وخاصة عمال المناجم) بالتظاهر بمنحهم “السيطرة” على ما تملكه الحزب/الدولة وراء ظهورهم. وسرعان ما اكتشفوا الآثار الاجتماعية الحقيقية ل”برامج التقويم الهيكلي” هذه المرغوبة من قبل صندوق النقد الدولي واقتصاديي “إجماع واشنطن”: تعميم “عمليات الخصخصة القسرية” وتسليع نظام الإنتاج، ونهاية الوضع القانوني المحمي للعمال، وتحويل دور العملة (التي لا يمكن تراكم كأموال)، وانتقاد “المساواتية”، والحق في إعلان إفلاس الشركات وتسريح العمال. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن هذه التدابير ليست متعلقة بعدد قليل من المؤسسات المؤممة، بل تتعلق بالصناعة برمتها في هذه البلدان والغالبية العظمى من القوى العاملة. وبالإضافة إلى ذلك، كانت المؤسسات الكبيرة (الأساس الاجتماعي للنظم الشيوعية) مكان إعمال العديد من الحقوق الاجتماعية والخدمات العمومية المرتبطة بالشغل: الإسكان ودور الحضانة والمحلات التجارية والمستوصفات وغيرها من أشكال “الدخل الاجتماعي” غير النقدية التي كانت تمثل في السنوات الأخيرة من الاتحاد السوفياتي أكثر من 60% من دخل العمال.

الخصخصة كيف؟

ولكن في حين أن برنامج الاستعادة كان “واضحاً”، إلا أن شرعيته وقاعدته الاجتماعية لم تكن كذلك. لم تظهر أبدا جبهات التعبئة ضد الحزب الواحد أو الجدار برنامج عمل مشترك لتغيير المجتمع. وكانت الخصخصة والسوق تجريدات بالنسبة للشعب. ولكن قبل كل شيء، واجه هذا البرنامج كل ما كان غير تجاري في الحياة اليومية، وغياب تراكم بدائي لرأسمال-نقد، في سياق الطبيعة غير الرأسمالية لهذه النظم.

وسرعان ما تم “حل” المشكلة في ألمانيا موحدة برأسمالية قوية من شأنها أن تفرض معاييرها في أوج إعادة تشكيل “ليبرالي نظامي”. وفي أماكن أخرى، جرى اللجوء إلى نوعين من المتغيرات الأولية الرئيسية: في بلدان البلطيق أو هنغاريا، جرى بيع أفضل الشركات إلى رأس المال الأجنبي؛ ولكن في كتلة كبيرة من البلدان الأخرى، تم اختراع “عمليات الخصخصة المكثفة” (بدون رأس المال) بأشكال مختلفة(3). من الناحية العملية، تم تقسيم الشركات إلى أسهم. ووزعت قسائم (أو وصولات) على المستخدمين تسمح لهم بالحصول على نسبة مئوية كبيرة من هذه “الأسهم”، بينما يذهب الباقي إلى الدولة لتصبح مالكاً “حقيقياً” (وبالتالي يحق لها الخصخصة). ثم لا حقا أعاد العديد من العمال بيع حصصهم من أجل دخل نقدي غير مستقر، مما عزز إعادة توزيع الممتلكات وتركيزها في مرحلة ثانية، بالقضاء على أي أساس لديناميات مجالس العمال والتسيير الذاتي. وسعى جزء كبير من الجهاز “الشيوعي” السابق إلى تحويل امتيازاته الوظيفية إلى امتيازات ملكية. وأصبح الكثيرون (مثل يلتسين ومعظم البرجوازية الجديدة في أوروبا الشرقية) “برواجيين كومبرادوريين”، يبيعون لرأس المال الأجنبي خبرتهم بأساليب عمل النظام ودخلوا النظام العالمي الجديد في وضع محيطي. وسرعان ما تعلم آخرون في الصين دروس هذه العلاقات التابعة وتملكوا الوسائل اللازمة لحماية أنفسهم منها لكي يظهروا كقوة عظمى في قلب الرأسمالية المعولمة. وسوف يسعى بوتين إلى استلهام ذلك منهم.

بقلم، كاثرين ساماري

1-  يستخدم هذا المفهوم هنا بأوسع معانيه، شاملا جميع بلدان القارة المنتسبة للاشتراكية ويقودها حزب شيوعي واحد.

2 – أنظر بخاصة سلسلة الجارديان في 2009 ،

https://www.theguardian.com/commentisfree/2009/nov/08/1989-berlin-wall [3] (« les Allemands de l’Est ont beaucoup perdu »).

3- انظر قسم “استعادة الرأسمالية” على الرابط التالي  http:///csamary.free.fr [4].

رابط المصدر: https://npa2009.org/idees/histoire/1989-1991-la-grande-transformation-capitaliste-interne-externe-en-europe-de-lest

*****************************************

عالم ما بعد الاتحاد السوفياتي

30 يوليوز 2019

قبل سقوط جدار برلين ونهاية الاتحاد السوفيتي، يشترك الماركسيون الثوريون إلى حد كبير في رؤية للعالم ومهامهم تلخصت بإيجاز باحتمال تقارب “القطاعات الثلاثة للثورة العالمية”. في البلدان التابعة (المستعمرة أو ما بعد الاستعمار)، تتمثل المهمة المباشرة في الثورة الوطنية الديمقراطية، وهي عملية يجب أن تلعب فيها البروليتاريا الحضرية والريفية دورًا رائدًا، تدافع عن أهدافها الخاصة، مع اعتبار الاشتراكية أفقها. في الدول البيروقراطية، هناك على جدول الأعمال ثورة سياسية يجب أن تسقط جهاز هيمنة البيروقراطية وبدء انتقال إلى اشتراكية حقيقية. وأخيرا، في بلدان الرأسمالية المتقدمة، الثورة الاشتراكية هي الأفق. حتى لو كانت المهام الفورية مختلفة، فإن التقارب بين كفاح المستغلين والمضطهدين هو حقيقة موضوعية وأفق فوري.

خيط أحمر لفهم العالم

وكما أشار دانييل بنسعيد في عام 2007، “في سنوات 1960، لم يكن هذا المنظور يفتقر إلى أدلة واقعية: موجة صدمة الثورة الصينية، وانتصار الثورة الكوبية، وكفاح التحرير في الجزائر، وفي الهند الصينية، وفي المستعمرات البرتغالية؛ وانتفاضة بودابست ضد البيروقراطية عام 1956، وربيع براغ في عام 1968، ونضالات ضد البيروقراطية في بولندا؛ واستئناف النضالات الاجتماعية وحركات اضرابية كبيرة في فرنسا وإيطاليا وبريطانيا في الستينيات؛ واهتزاز الديكتاتوريات الفرانكية والسلازارية. “1

لكنه يضيف: “في منتصف السبعينيات ، مع توقف الثورة البرتغالية عام 1975، والانتقال الملكي في إسبانيا، والصدع بين فيتنام وكمبوديا، والانعطاف نحو تقشف اليسار الأوروبي، والتطبيع في تشيكوسلوفاكيا ثم الانقلاب في بولندا، بدأت الرياح تتحول، وبدأت “القطاعات الثلاثة” في التباعد بدل التقارب بانسجام. سادت قوى التنابد…” ويشير إلى أن الثورة الإيرانية عام 1979، وهي ثورة شعبية حقيقية لعب فيها العمال، وخاصة عمال النفط ، دورًا مهمًا، كانت بمثابة مؤشر على هذا الوضع الجديد. ولكن عام 1979 هو أيضًا عام ثورة الساندينيستا في نيكاراغوا، والتي يبدو أنها تسير في اتجاه مخطط “القطاعات الثلاثة”.

كانت ميزة هذا المفهوم، إلى جانب تحديد إطار عمل لمهام الماركسيين الثوريين على المستوى العالمي، توفير خط أحمر لفهم العالم وتعقيده، بخلاف التأكيد المبدئي والخالد (الذي اكتفت به التيارات العقائدية) بخصوص وحدة البروليتاريا العالمية، الوحيدة القادرة على تغيير العالم حقًا. باتباع طرق مختلفة، بدت الكفاحات الاجتماعية والمعادية للإمبريالية تسير حتما في نفس الاتجاه.

ضربة كبيرة للتفاؤل الثوري

لكن نهاية الاتحاد السوفيتي وملحقاته الأوروبية الشرقية دون أن تلوح في الأفق حتى ولو مجرد بداية “للثورة السياسية” (بمعنى إسقاط البيروقراطية بموازاة حركات من أجل تحول اشتراكي حقيقي) وجه ضربة كبيرة لمخطط التقاء الكفاحات العالمية، وعلى نطاق أوسع، للتفاؤل الثوري. في حين أن إنهاء الرأسمالية وبناء مجتمع آخر يبدو أكثر فأكثر ضرورة موضوعية بوجه جميع الاضطرابات العالمية: البطالة، وعدم تلبية الاحتياجات الحيوية، وعدم المساواة، وملاحقة اللاجئين، وإهدار الموارد، وأزمة المناخ، ومخاطر الحرب… برزت الأسئلة، سواء بإضعاف الأحزاب التي واصلت الدفاع عن “الاشتراكية القائمة بالفعل” أو حتى انهيارها، أو بتحويل الأحزاب الشيوعية الممسكة بالسلطة (في المقام الأول في الصين) إلى وكلاء فاعلين للانتقال الرأسمالي، جارة النقابات إلى انحرافاتها أو انحدارها الذي لم تستفد منه البتة التيارات الثورية. في نفس المسار، ستشهد التيارات المعادية للاستعمار، والمناهضة للإمبريالية استنفاد ديناميكياتها، خاصة في أمريكا اللاتينية والعالم العربي.

مهمة متجددة باستمرار في النضالات اليومية

ستتشدد الطبقات الحاكمة، في سياق الإحباط هذا، دفاعًا عن امتيازاتها، معرضة للخطر بعض الحقوق المرتبطة بالديموقراطية البورجوازية، ووصول مغامرين إلى السلطة رافعين الخوف من الأجنبي وجميع أنواع الأوهام الرجعية (موجهة بشكل خاص ضد حقوق النساء).

طبعا، استمرت البروليتاريا في النمو. يناضل العمال من أجل حقوقهم في جميع البلدان المصنعة حديثا، وخاصة في آسيا (فيتنام وكمبوديا وبنغلاديش…)، رغم الصعوبات الموضوعية والقمع. هذا دون إغفال تركيا والصين. واستيقظت الحركة العمالية في روسيا.

لكن للانتقال من النضال النقابي، حتى الحازم، إلى المعركة لتغيير المجتمع، والتغلب على الانقسامات، والأممية، يمكن أن توجد فجوة كبيرة. لا تؤدي الطبيعة المناهضة للرأسمالية لحركة اجتماعية (مثل تلك ضد الاحتباس الحراري) بالضرورة إلى أن يصبح المشاركون فيها مناهضين للرأسمالية شخصيا ويشعروا بالتضامن مع كفاحات أخرى.

وكما أكد دانييل، “إن تجميع قوى مقاومة النظام الذي أنشأه رأس المال وتقويضه مهمة تتكرر باستمرار في النضالات اليومية، وتتعدى كونها نتيجة ميكانيكية للتطور الرأسمالي. وهي مهمة لا تكون نتائجها نهائية أبدًا.”

إن عالم ما بعد الاتحاد السوفياتي ليس عالم عدم اليقين بشأن ضرورة الثورة والاشتراكية (ونفس الأمر ينطبق، كآليات، على أحزاب ثورية منسقة دوليًا)، بل هو عالم نهاية اليقين بشأن حدوثها الحتمي. لا يمكن اختزال أزمة التمثيل السياسي، والتنظيم اليومي لبروليتاريا أعيد تشكيلها بعمق، و أبعد من ذلك ل “المعسكر الشعبي”، بصفتها فاعلا سياسيًا، في غياب القيادة الثورية: يجب بناء وحدتها على جميع المستويات. خلاف ذلك، لن ننج من كوارث نظام يختار دائمًا أسوأ الحلول إن ترك لنفسه. “اشتراكية أو بربرية! “.

بقلم، هنري ويلنو

  1. 1. دانييل بنسعيد، مقدمة نقدية لـ “مدخل للماركسية” لإرنست ماندل، 2007: http://danielbensaid.org/Introduction-critique-a-l- مقدمة -ماركسية-إرنست-ماندل [4]

رابط المصدر: https://npa2009.org/idees/histoire/le-monde-dapres

[1] يحتوي دواء الكاسيلتيزر Alka-Seltzer على المادة الفعالة بيكربونات الصوديوم Sodium bicarbonate والتي تستخدم لمعادلة الحموضة الزائدة نتيجة افراز كمية كبيرة من الحمض المعدي مما يتسبب في حدوث الحموضة الزائدة وعسر الهضم ، الحمض المعدي هو حمض الهيدروكلوريد Hydrochloric acid وهو حمض يتم افرازه في المعدة لتسهيل عملية الهضم و تنشيط بعض الانزيمات التي تعمل على تكسير المواد البروتينية والنشوية وغيرها من المواد المفيدة وتخزينها في الجسم وقد يحدث خلل في القناة الهضمية ويزيد افراز الحمض مما يؤثر على حموضة المعدة ويتسبب في حدوث التهابات في المعدة وقد تتفاقم الى حدوث قرحة في المعدة او نزيف معدي .

شارك المقالة

اقرأ أيضا