جورج إبراهيم عبد الله: أربعون عاما من الأسر… وحياة كاملة في درب المقاومة

في فجر الـ 25 يوليوز 2025، طويت صفحة من أشد فصول الظلم السياسي في أوروبا المعاصرة: جورج إبراهيم عبدالله، المناضل الشيوعي اللبناني وأحد أبرز الداعمين التاريخيين للقضية الفلسطينية، يغادر زنزانته أخيرا بعد أكثر من أربعة عقود قضاها في سجون فرنسا. اعتقل عام 1984، واستوفى شروط الإفراج عنه منذ عام 1999، لكنه بقي رهينة التجاذبات السياسية والضغوط الأجنبية. واليوم، تمثل حريته أخيرا انتصارا للعدالة، ولإرادة الشعوب، وللصمود في وجه الإمبريالية والاستعمار.

انخرط جورج إبراهيم عبد الله في العمل السياسي منذ سنوات شبابه الأولى، متأثرا بالأفكار اليسارية والقومية (حركة القوميين العرب) التي وجهت بوصلته نحو قضايا التحرر ومناهضة الاستعمار. شارك في صفوف الحركة الوطنية اللبنانية قبل أن ينضم إلى المقاومة الفلسطينية، حيث أصبح عضوا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. في عام 1978، أُصيب خلال الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني، وهي تجربة زادت من اقتناعه بضرورة المقاومة المسلحة. وقد شكل الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 لحظة مفصلية، لم تترك أثرا في حياته فحسب، بل فجرت غضبا واسعا في صفوف الشباب اللبناني والعربي، الذين وجدوا أنفسهم مدفوعين إلى ملاحقة رموز الاحتلال في الخارج، دفاعا عن الكرامة وردا على المجازر والدمار الذي خلفته آلة الحرب الإسرائيلية في بيروت والجنوب.

رجل مقاومة في مرمى الاستهداف

اعتقل جورج عبدالله في مدينة ليون الفرنسية عام 1984. كان آنذاك عضوا في “الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية”. اتُّهم بالتواطؤ في اغتيال دبلوماسيين أمريكي وإسرائيلي عام 1982، لكن المحاكمة التي جرت لاحقا شابتها العديد من الخروقات، وبنيت على أدلة مشكوك فيها، حتى أن جاك أتالي، مستشار الرئيس الفرنسي آنذاك (فرانسوا ميتران)، أقر بعدم وجود أدلة قانونية كافية لإدانته.

ما كان يُفترض أن يكون ملفا قضائيا عاديا، تحول بسرعة إلى قضية سياسية بامتياز. وراء سجن عبدالله، كانت هناك إرادة فرنسية في الخضوع للضغوط الأمريكية والإسرائيلية.

إهمال الحق في الإفراج منذ عام 1999

منذ سنة 1999، أصبح جورج عبدالله قانونيا مؤهلاً للتمتع بالإفراج المشروط. ومع ذلك، رفض إحدى عشرة طلبا قدمه، بل وتمت عرقلة بعضه رغم موافقة القضاء. ففي 2013، وافقت المحكمة على إطلاق سراحه بشرط ترحيله إلى لبنان، لكن وزير الداخلية الفرنسي آنذاك، مانويل فالس، رفض توقيع أمر الترحيل، خضوعا مباشرا لضغوط سياسية خارجية أمريكية وإسرائيلية.

ولم تنكسر هذه السلسلة من التعسف إلا في 17 يوليو 2025، حين قررت محكمة الاستئناف الإفراج عنه مع ترحيل فوري إلى بلده. وقد عجزت الدولة الفرنسية هذه المرة عن إيقاف القرار، بسبب الحملة الشعبية الواسعة والدعم الدولي المتزايد.

انتصار التضامن الشعبي

على مدار سنوات، لم يخفت صوت المطالبة بالحرية لجورج عبدالله. في فرنسا نفسها، باتت التظاهرات السنوية أمام سجن لانميزان جنوب البلاد تقليدا راسخا. نقابات، أحزاب، منظمات حقوقية، مثقفون، ومناصرون للقضية الفلسطينية، وقفوا جميعا في صف واحد يطالبون بإطلاق سراحه.

عشية الإفراج عنه، احتشد أكثر من 400 شخص أمام السجن هاتفين: “جورج عبدالله رفاقك هنا، فلسطين ستنتصر!”، بينما اعتبرت جمعية التضامن الفرنسي الفلسطيني (AFPS) إطلاق سراحه “انتصارا للحق والعدالة”، تحقق بفضل “ثبات رجل لم يتخل يوما عن مبادئه رغم أربعين عاما من القهر”.

حرية نابعة من قلب المواجهة

في فجر يوم 25 يوليو، تم ترحيل جورج عبدالله بشكل سري إلى مطار فرنسي، حيث استقل طائرة نحو بيروت. عودته ليست عودة رجل منهك، بل عودة مناضل شامخ الرأس، خرج من ظلمة الزنازين أكثر إصرارا على مواصلة طريقه رغم بلوغة سن 73.

قال لمناصريه: “تحرري ليس فقط قرارَ قاضٍ، بل نتيجة نضالكم الجماعي”. لقد خاض معركته ليس من أجل نفسه فقط، بل نيابة عن كل الأصوات الحرة التي سُجنت وأُرغمت على السكوت.

لقد أرادت الولايات المتحدة و”إسرائيل” أن تبقياه خلف القضبان ليكون عبرة لكل المقاومين، لكن حريته اليوم تفضح نفاق القوى الغربية، وعلى رأسها فرنسا، التي طالما تغنت بالديمقراطية بينما مارست الظلم السياسي في أوضح صوره.

رسالة مقاومة وأمل

إن قضية جورج عبدالله ليست مجرد ملف قضائي أُغلق، بل هي مرآة لعصر كامل. عصر شهد تجريم المقاومين المناهضين للاستعمار، وتواطؤ الدول “الديمقراطية” مع أنظمة القمع، ومركزية القضية الفلسطينية في مواجهة منظومة الهيمنة الإمبريالية.

في الوقت الذي تتعرض فيه غزة لإبادة جماعية، ويُقمع الفلسطينيون في الضفة الغربية بلا هوادة، يبرز نموذج عبدالله كمنارة لكل من لا يزالون يرفعون راية الكرامة والحرية.

لقد رفض أن يساوم على حريته مقابل الاعتذار أو التوبة، وأصر على أن يكون خروجه من السجن خطوة جديدة في درب النضال، لا نهاية له.

وكما قال شقيقه روبير عبدالله: “لأول مرة تتحرر السلطات الفرنسية من الضغط الصهيوني والأمريكي”. هذه لحظة يجب أن نحتفي بها، لا فقط كإنجاز فردي، بل كمكسب جماعي يعيد الاعتبار لقوة الشعوب حين تُصر على انتزاع حقها.

أهلا بك حرا، يا جورج… المعركة مستمرة.

======

يان جمعية التضامن الفرنسي الفلسطيني (AFPS) بمناسبة الإفراج عن جورج إبراهيم عبد الله

تحيي جمعية التضامن الفرنسي الفلسطيني الإفراج عن جورج إبراهيم عبد الله وتعتبره انتصارا للحق والعدالة.

هذا الانتصار هو أولا انتصاره هو، انتصار المناضل الذي لم يتراجع يوما عن اقتناعاته السياسية ولا عن التزامه إلى جانب الشعب الفلسطيني، ودفع ثمن ذلك أربعين عاما من الأسر. وهو أيضا انتصار لحركة التضامن التي لم تتوقف على مدى سنوات، وتجمعت خلفه من أجل المطالبة بحريته، من جمعيات وأحزاب ونقابات، ومنتخبين وشخصيات، يستحق جميعهم التحية على دورهم.

لقد تطلب الأمر أحد عشر طلبا للإفراج المشروط، قبل أن يتمّ أخيرا إطلاق سراح جورج إبراهيم عبد الله بعد أكثر من أربعين سنة من الاعتقال، رغم أنه كان قابلا للإفراج منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما! وأخيرا، في يوم الخميس 17 يوليو/تموز، وصلنا الخبر الذي طال انتظاره: جورج إبراهيم عبد الله حر، وسيعود إلى لبنان في اليوم التالي. لقد بدأت العدالة الفرنسية تلعب دورها أخيرا!

لقد أصدرت محكمة الاستئناف قرارا بالإفراج عنه مقرونا بالطرد الفوري إلى لبنان، ولن يكون لأي طعن من الجهات التي لا تزال ترفض القرار أي أثر يذكر. وهكذا يمكن أن يطوى هذا الملف الفاضح، قضائيا وإنسانيا.

فهذا الإفراج يمثل قبل كل شيء انتصارا على الإصرار السياسي غير المعقول من قِبل السلطات الفرنسية والإسرائيلية والأميركية. هذه القوى التي لا تزال حتى اليوم غير مستعدة لتقبل قرار القضاء بفتح أبواب السجن أمام جورج، ليعود أخيرا إلى عائلته في لبنان خلال الأيام القادمة.

إنه يعود الآن إلى وطنه رجلا حرا، شامخا، دون أن يكون قد أنكر يوما مبادئه السياسية أو اقتناعاته العميقة بأن مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال والاستيطان ونظام الفصل العنصري هي مسألة مصيرية لمستقبل العالم.

هذاالاقتناع وهذا النضال نتقاسمهما معه يوميا، في وجه التطهير العرقي والإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة. وسنواصل هذا النضال، مستلهمين من قوته المعنوية والسياسية، ومن صلابته التي مكنته من الصمود لأكثر من أربعين عاما دون أن ينكسر أو يتراجع.

العزيز جورج، من أجل هذا الإصرار النادر الذي يلهمنا جميعا، نتوجه إليك باسم كل عضوات وأعضاء جمعية التضامن الفرنسي الفلسطيني بجزيل الشكر والعرفان.

ابتداء من الغد، ستفتح صفحة جديدة من حياتك، في لبنان الذي لا يزال يتعرض للعدوان والتجويع من قبل أعدائك القدامى. ونعلم أن العودة في مثل هذا الظرف لن تكون سهلة، ومع ذلك، نشاركك الفرحة، ونتمنى لك أن تنعم بحرية طال انتظارها، في كنف أحبتك وأرضك.

مع خالص المودة والتضامن

المكتب الوطني لجمعية التضامن الفرنسي الفلسطيني (AFPS)

باريس، في 24 يوليو/تموز 2025

شارك المقالة

اقرأ أيضا