نسوانية لأجل الــ 99% – بيان: أطروحة 7. الرأسمالية تسعى إلى التحكم في الحياة الجنسية. نحن نريد تحريرها.

النساء8 أكتوبر، 2019

بقلم، تشينسيا  أروتسا Cinzia Arruzza * تيتي باتاشاريا  Tithi Bhattacharya** نانسي فرايزر Nancy Fraser***

يبدو للوهلة الأولى بسيطا جدا على المرء/ة أن يختار معسكره في الصراعات المتعلقة بالجنسانية (الحياة الجنسية)- حيث تتعارض قوى الرجعية الجنسية مع قوى الليبرالية الجنسية. يسعى الرجعيون إلى منع الممارسات الجنسية التي يرون أنها تزدري القيم الأسرية الثابتة أو الشّرع الإلهي.  إنهم يتمنون، مع عزمهم على احترام تلك المبادئ المفترض أبدية، رجم “الزناة”، وجلد السحاقيات وإخضاع المثليين لـ”معالجات تحويل”. وعلى العكس، يناضل الليبراليون من أجل حقوق المنشقين/ات والأقليات الجنسية. ويشجعون اعتراف الدولة بالعلاقات المحرمة سابقا وبالهويات المحتقـَرة، ويدافعون عن “مساواة الزواج” ودمج الأقليات الجنسية في الجيش. بينما يسعى الصنف الأول إلى إعادة الاعتبار لنماذج عتيقة ورجعية- كالنظام البطريركي، وكره المثلية، والقمع الجنسي-، يدافع الصنف الثاني عن المعايير التي ترفع الحداثة لواءها- من حرية فردية وتعبير عن الذات وتنوع جنسي. وكم يبدو الخيار جليا!

 لكن واقع كلا هاذين المعسكرين غير ما يبدو عليه. فمن جهة، ليست الاستبدادية الجنسية التي نصادف اليوم مستحدثة بأي وجه. فالممنوعات التي تسعى إلى إرساءها، رغم عرضها كوصايا إلهية أبدية وتقاليد عريقة، هي في الواقع “تقليدية جديدة”، أي أنها ردود فعل على التطور الرأسمالي، وحديثة حداثة ما تعترض عليه. وبالنحو ذاته، يجري تصور الحقوق الجنسية التي يعد بها المعارضون الليبراليون تصورا يفترض أشكال رأسمالية من الحداثة؛ لا تتيح بتاتا تحررا حقيقيا، بل تفرض نموذجا بعينه وذات طابع دولتي واستهلاكي. 

ومن أجل فهم أفضل، لا بد من إعادة رسم شجرة أنساب هذه المعارضة. فقد حاولت المجتمعات الرأسمالية دوما التحكم في الجنسانية، بوسائل ومناهج تطورت عبر التاريخ. ففي حقب النظام الأولى، حيث العلاقات الاجتماعية الرأسمالية لم ترسخ بمتانة بعدُ، كانت السلطات الموجودة قبلا (بخاصة الكنائس والجماعات المحلية) مكلفة بوضع المعايير التي تحدد معالم الجنسانية المقبولة وبتعزيزها. ولاحقا، وفيما كانت الرأسمالية تعيد تنظيم المجتمع برمته، صاغت معايير وأنماط ضبط برجوازية جديدة وافقت عليها الدولة – من قبيل ثنائية الجندر واتخاذ الغيرية معيارا hétéronormativité[*]. لم تكن معايير الجندر والجنسانية “الحديثة” هذه مخصصة للمركز الامبريالي (المتربول) أو للطبقات البرجوازية، بل جرى نشرها على نطاق واسع، لاسيما في أثناء الاستعمار، استنادا على الثقافة الجماهيرية، ووطدتها الدولة بواسطة أدواتها القمعية والإدارية (كانت الخدمات الاجتماعية، مثلا، تمنح حسب معايير عائلية). بيد أن تلك المعايير واجهت مقاومات، ولم تصطدم بأنظمة جنسانية أقدم وحسب، بل حتى بتطلعات جديدة إلى الحرية الجنسية، تجلت بشكل أساسي في المدن داخل ثقافات مثلية وسحاقية مضادة وجيوب طليعية.

وشهد هذا النموذج بدوره تحولات. فبعد سنوات 1960، اعتدلت (نسبيا) الكتلة البرجوازية، فيما تجاوزت اندفاعات الحرية حدود ثقافات مضادة لتصبح سائدة. وبهذا النحو اجتمع هاذان التياران في مشروع جديد: تنميط أشكال جنسانية محرمة سابقا بواسطة أدوات ضبط دولتية واسعة، وذلك بمطابقتها مع النموذج الرأسمالي الذي يشجع الفردانية، والانطواء في الدائرة المنزلية والاستهلاك السلعي

ما يختفي خلف هذا النموذج الجديد هو انعطاف حاسم في طبيعة الرأسمالية ذاتها. فبتزايد طابعه المالي والمعولم والمنفصل عن الخلية الأسرية، لم يعد الرأسمال معارضا، من الناحية الشكلية، لأشكال الجندر والجنسانية غير الشائعة queer. لم تعد المقاولات الكبيرة تركز اليوم على نموذج أسرة أو جنسانية أوحد، ويَودُّ العديد منها أن يتيح لمستخدميه الحياة خارج أسر متغايرة الجنس- لكن بشرط أن يعودوا إلى جادة الصواب في مكان العمل كما في المركز التجاري. كما تجد الجنسانيات المنشقة مكانها داخل قوانين السوق: إنها تشكل ملجأ يقترح إعلانات تجارية جذابة وسلسلة منتجات أو متع جاهزة للاستهلاك. إن الجنس في المجتمع الرأسمالي يساعد على البيع- و تقوم النيوليبرالية بتصريفه في عطور عديدة جدا. 

 تحلُّ النضالات الحديثة المتعلقة بالجنسانية في حقبة مطبوعة بسيولة جندرية متنامية بين الشباب، وازدهار قوي للحركات النسوانية ولحركات مجتمع الميم وانتصارات قانونية هامة مثل المساواة الجندرية الشكلية، والحقوق الممنوحة للأقليات الجنسية ومساواة الزواج –  وهي حقوق مسجلة اليوم في القانون بعدد متزايد من البلدان عبر العالم. وإن كانت هذه الانتصارات ثمار معارك ضارية، فهي تعكس أيضا تغيرات اجتماعية وثقافية كبيرة خاصة بالنيوليبرالية- وتظل هشة ومهددة باستمرار. ولم تنه تلك الحقوق الجديدة الاعتداءات ضد المثليين والمتحولين. إذ لا تزال الأقليات الجنسية ضحية ضروب من العنف الجندري، ولا تزال تتعرض لصنوف ميز ولا تستفيد من أي اعتراف رمزي. 

 في الواقع تغذي الرأسمالية المُمَيّلة financiarisé ردود فعل بالغة العداء لهذه الحرية الجنسية الجديدة. فاغتيال النساء لا يقتصر على “العزاب لاإراديا” Incels  [1] الذين يغتالون نساء بقصد الانتقام من “سرقة” الجنسانية النسوية من “مالكيها الذكور الشرعيين”. ولا هي مقتصرة “فقط” على عتاة الرجعيين الذين يقترحون حماية “نسائهم” و”أسرهم” من الفردانية المتوحشة، ومن النزعة الاستهلاكية القذرة ومن “الرذيلة”. فثمة أيضا حركات شعبوية يمينية لا تقل شراسة. وتتسع بسرعة بالغة وتكسب دعم الجماهير بكشف بعض الأوجه السلبية فعلا للحداثة الرأسمالية- من قبيل عجزها عن حماية الأسر والجماعات من أضرار السوق.  بيد أن التقليدانيين الجدد يشوهون، على غرار الشعبويين اليمينيين، هذه المؤاخذات المشروعة بهدف إذكاء نوع من المعارضة يرتضيها الرأسمال جيدا: نمط “حماية” يضع بالمقدمة الأضرار المفترض أنها ناتجة عن الحرية الجنسية مع إخفاء الخطر الحقيقي: الرأسمال.

 يمكن للرجعيين أن يتأملوا انعكاس صورتهم في الليبرالية الجنسية. هذه الليبرالية التي تساند، حتى في أفضل الحالات، سياسات تحرم الأغلبية العظمى من الشروط الاجتماعية والمادية الضرورية لتطبيق ملموس للحريات الجديدة المدونة في القانون- على شاكلة بعض الدول التي تتباهى بالاعتراف بحقوق المتحولين جنسيا لكنها تواصل رفض تغطية نفقات التحول الطبية. كما أن الليبرالية الجنسية مرتبطة بتقنينات دولتية تُنمط وتُوطد أكثر الأسرة أحادية الزواج: إنه الثمن المطلوب من المثليين والسحاقيات كي يُقبلوا ويُقبلن.  بينما يتظاهر هذا النظام بتثمين الحرية الفردية، لا يطعن في الشروط الهيكلية التي تغذي كُره المثلية والتحول الجنسي، وبخاصة دور الأسرة في إعادة الإنتاج الاجتماعية. 

لكن التحرر الجنسي الزائف يقوم بإعادة تدوير القيم الرأسمالية حتى خارج دائرة الأسرة. فالثقافات الجنسية المتغايرة الجديدة، التي قوامها علاقات جنسية عابرة وعلاقات افتراضية، تحثُ النساء الشابات على “تملك” جنسانيتهن مع تشجيع الرجال الذين يستمتعون بتصنيفهن حسب مظهرهن. إن الخطابات الليبرالية التي تثرثر حول أهمية “تملك الجسد والحياة”، تنصح دوما البنات بإرضاء الأولاد: إن أنانية الذكور في مجال الجنس “مزية” باتتْ موضة شائعة جدا في المجتمع الرأسمالي. 

على النحو ذاته، تفترض الأشكال الجديدة من “السوية المثلية” مُسبقا سويّة رأسمالية. وبالعديد من البلدان، تتميز الطبقات المتوسطة المثلية، المطالبة بجدارتها بالاحترام، بأنماطها في الاستهلاك. غير أن قبول هذه الفئة الاجتماعية  يتعايش مع تهميش وقمع مستمرين للأقليات الجندرية الفقيرة، لاسيما إن كانت ضحية للعنصرية. وتزعق السلطات العمومية بلا انقطاع بصدد تسامحها مع المثليين الذين “يفكرون بشكل مستحسن، ويعيشون بشكل مستحسن”، وتستعمل هذا الاصطباغ باللون الورديpinkwashing  [ب] بقصد إضفاء شرعية على مشاريع استعمارية جديدة وامبريالية. وقد لمعت وكالات دولة إسرائيل بهذا الصدد بتبنيها ثقافتها “gay friendly”[ج]، وهذا بهدف تبرير الاستعباد العنيف للفلسطينيين/ات “المتخلفين/ات الكارهين للمثلية”. وعلى النحو ذاته، يستند بعض الليبراليين الأوربيين على”تسامحهم المستنير” إزاء الأقليات الجنسية لإضفاء شرعية على عدائهم “للمسلمين”، المعتبرين مجموعة متجانسة، مع الاحتفاء بأشخاص بالغي الاستبداد في مسائل الجنسانية، شريطة ألا يكونوا مسلمين.  

هكذا، توجد حركات التحرر الراهنة بين المطرقة والسندان: لا يمكن أن يتحقق تحرر النساء والأقليات الجنسية من السيطرة البطريركية أو الدينية إلا مقابل خضوع تام للضواري الرأسمالية. ترفض نسوانية الـ99%  المشاركة في هذه اللعبة. إننا نرفض في الآن ذاته الاحتواء النيوليبرالي وبُغض النساء وكُره المثلية الخاصين بالتقليدانية الجديدة، ونريد إحياء الروح النقدية لأحداث التمرد في ستونوول [د] في 1969، في نيويورك، روح التيارات النسوانية ” pro-sexe”، من الكساندرا كولونتاي إلى غايل روبين [هـ]، روح حملة السحاقيات والمثليين التاريخية المساندة لعمال مناجم بريطانيا المضربين في العام 1984. إننا نناضل من أجل تحرير الجنسانية من الإنجاب ومن الأشكال المعيارية للأسرة، وضد أغلال الجندر، والطبقة والعرق، وضد أشكال استيعاب النضالات من قبل الدولة والسوق. و ندرك من جهة أخرى أن تحقيق هذا الحلم يتطلب منا بناء شكل جديد من المجتمع غير رأسمالي سيؤمن القواعد المادية للتحرر الجنسي، منها دعم عمومي وافر لإعادة الإنتاج، مطابق لمروحة أوسع من النماذج الأسرية والزواجية. 

ترجمة: جريدة المناضل-ة 

============

[أ]Hétéronormativité: اعتبار جميع الأفراد منتمين إلى أحد النوعيين الاجتماعيين (الجندرين) المختلفين والمتكاملين (رجل وامرأة) بأدوار طبيعية في الحياة. 

[ب] pinkwashing  : موقف متسامح إزاء الأقليات الجنسية، من قبل مقاولة أو كيان سياسي، يسعى إلى تغيير صورته وسمعته في اتجاه تقدمي، متسامح ومفتوح.

[ج]gay friendly : تعاطف مع الأقليات الجنسية بإتاحة فضاءت وسياسات ومؤسسات مفتوحة ومضيافة إزاءها لخلق بيئة دعم واحترام ومساواة بلا أحكام 

[د] أحداث ستونوول Stonewall: مظاهرات عفوية وعنيفة ضد اقتحام الشرطة، في ليلة 28 يونيو 1969، نادي ستونوول الليلي في نيويورك. تعتبر هذه الأحداث مثالا أولا عن نضال الأقليات الجنسية (مجتمع الميم) ضد نظام تدعمه السلطات ومضطهد لمجتمع الميم، ورمزا لظهور حركة نضال الأقليات الجنسية في الولايات المتحدة وعبر العالم.

[هـ]: – كولونتاي: (1872-1952) مناضلة شيوعية ونسوانية روسية. 

  • غايل روبين: عالمة إناسة ومناضلة نسوانية أمريكية، وضعت أسس نظرية راديكالية للجنسانية.
  1. Incels= involuntary celibates   “العزاب لاإراديا” تعني في الأصل أشخاصا يعانون من عزلة عاطفية وجنسية كانوا يشكلون جماعات على انترنت. منذ متم سنوات 2000، بات التعبير يحيل أساسا إلى مجموعة شباب رجال ذكوريين ومبغضون للنساء يدعون إلى كره النساء، ويعتبرونهن أشياء جنسية، ويمجدون في صيغتهم الأقصى، مرتكبي عمليات قتل النساء.  

==============================

  • تشينسيا  أروتسا  Cinzia Arruzza : أستاذة فلسفة في New School for social Research  في نيويورك. لها مؤلفات عديدة تستكشف العلاقات بين الاشتراكية والنسوانية.

**  تيتي باتاشاريا  Tithi Bhattacharya:  أستاذة ومديرة برنامج Global Studies  في جامعة بوردو Purdue [انديانا]. تقيم مؤلفاتها تقاطعا بين النظرية الماركسية ومسائل الجندر.

*** نانسي فرايزر  Nancy Fraser: أستاذة الفلسفة والسياسة في  New School for social Research بنيويورك. لها مؤلفات عديدة، وهي إحدى الممثلات الرئيسة للنظرية النقدية  في العالم الناطق بالانجليزية . 

شارك المقالة

اقرأ أيضا