الفترات الكبرى للقايدية

لقد تعمدنا وضع اصطلاحي القايدية Caïdalité والنظام القايدي Caïdalisme على وزن إقطاعية والنظام الإقطاعي أو على الأصح فيودالية والنظام الفيودالي. والتفسيرات حول هذين الصطلحين كانت موضوعا بالغ الأهمية لدى مؤرخي القرن التاسع عشر ومؤرخي الحماية. غير أنه لم تكتب بعد أطروحات بهذا الشأن، وسرعان ما يطفو الخلاف من جديد غالبا عند تناول هذا الموضع في الأحاديث والمحاضرات والخطب، أو في مقالات قصيرة جدالية. ويبدو أن روبير مونتاني Robert Montagne هو الوحيد الذي حاول أن يواجه المشكل بعد دوتي Doutte -وينبهنا كلود كاهان Claude Cahen إلى ضرورة عدم الخلط على الخصوص بين الفيودالية الأوربية وبين النظام الغالب طيلة العصور الوسطى العربية . ولكن المقصود هو منطقة الشرق.

لقد حذرنا هؤلاء المفكرون الثلاثة الكبار. وجل الذين ما زالوا يتناولون الموضع يتوخون كل الحذر ملمحين تلميحات مجدية تؤكد من جديد أنه يجب عدم الخلط بين الأشياء المختلفة أصلا! .

وفي موازاة هذا الحذر الشديد نجد أن المصطلحات المعتادة والقاموس السياسي لا يعرفان للدلالة على علاقات الإنتاج والعلاقات المجتمعية الناجمة عنها تحت ظل نظام القياد، سوى المشتقات عن فيودالي بالفرنسية وإقطاع بالعربية.

يجب أن نلاحظ بادئ ذي بدء فشل المعاجلة العلمية التي آثرت في اللغة العادية تفرد النموذج المغربي، ثم نتساءل لماذا ألح دائما على التشابهات مع الفيودالية الأوربية، لنسلم أخيرا بأن المؤسسة جديرة بأن تدرس لذاتها، وبالتالي أن يدلل عليها بكلمة معبرة نستطيع بها أن نتعرف على وضعيتنا، وأن نقارنها، إذا بدا لنا ذلك ضروريا، مع ما يمكن مقارنته بها دون أي تحفظ خاطئ أو معقد.

ولم يتردد سوسيولوجيا أو مؤرخو المغرب بشأن دراسة القبيلة والزاوية والمخزن مستعملين الكلمات الموجودة، دون خشية الوقوع في التصنيف ارتكازا على تلك التسميات. وبديهي أن تلك المؤسسات كانت جد فريدة وخاصة في نوعها مما لا يدع أي مجال للتقريب بينها وبين الأشكال الأوربية. ألم يكن من اللازم أن تكون تلك الأشكال المجتمعية التي أنشئت حول القايدية جد مألوفة حتى نحترس من التماثل وأن لا ن3عاجلها سوى بالسلب؟ أو أن الإداريين الذين لم يكونوا ليخلطوا الزاوية بالدير كانوا مقتنعين كل الاقتناع بتطابق القايد مع السيد وأن الشيء الملح هو إقناعهم بعكس ذلك؟ .

إن الموقف الغامض للحماية تجاه «سياسة القياد الكبار» قد يفسر لنا جزئيا ميل الإدارة بكل مستوياتها وكذلك قسم السوسيولوجيا في إدارة الشؤون السياسية إلى افتراض التماثل بلا تبصر وروية بين قايدي وفيودالي. والمسألة المعقدة التي أقلقت بعض المهتمين هي الدعم الذي قدمه بعض رجال الإدارة الفرنسية لكبار القياد في الأطلس . وكان من اللازم محو العمل بالنسبة للتشابهات البديهية التي لم تفتر عن فرض ذاتها: أكيد أن الدعم كان تكتيكيا ولكن على أية حال كان دعما من طرف «الجمهورية لصالح الفيودالية» . إذن كان لا بد من الإلحاح على أوجه الاختلاف. وقد كان أحدها مسلم به ضمنا وحتى نقتصد في تقديم البراهين: درجة «همجية» المجتمع المغربي . ومع ذلك فالنزاهة العلمية لروبير مونتاني R.Montagne جعلته لا يجزم في حكمه ويشجعنا على البحث عن المقارنات في ربوع فرنسا (طبعا) وايرلندا، وأيكوسيا وألمانيا وكورسيكا وسردينيا وألبانيا .

لنتفق هنا مؤقتا على أن في الجنس توجد أنواع كثيرة أدت تاريخيا وجغرافيا إلى تثبيت أشكال متمايزة دون أن يستحق أي شكل منها أن يكون مرجعا. إن أسبقية الوصف الذي احتفظ لبعض الأنماط بتحديد خاص، ليجعلنا هنا لا نتكلم عن الفيودالية في معناها الحرفي: بل سندرس النظام القايدي Caïdalisme في الحوز كشكل خصوصي لعلاقات الإنتاج والمؤسسات التي سادت بشكل أوضح في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

إن مشكل نشأة النظام القايدي يتجاوز الاختلافات في التصنيف. وثلاث اتجاهات لم تنجرف كلها نحو نزاعات المدارس السوسيو تاريخية نظرا لعدم توفرها على مدافعين عنها، ولكنها تغذي مجالات حامية أكثر منها بحثية، وتنافس تلك المدارس في تفسير مصير النظام القايدي في الفترة المعاصرة. أو وجهة نظر في هذا الموضوع هي التي حللها روبير مونتاني بإفاضة «الأمغاريون يكبرون بعيدا عن المخزن ثم يطمح الأمغار في أن يصبح رئيسا مخزنيا بشرط الاعتراف بوضعيته» .

ففي المناطق الخالية التي تتخلى عنها السلطة المركزية تتشكل السلطة الشخصية التي ينتهي بها الأمر إلى الانضواء تحت وصاية «تاقبليت» أي القبيل وتحت التولية المخزنية. وإنه لمن طبيعة القبائل المستقلة أن تقيم فترة الرؤساء ثم تحطمهم: وهذا تأرجح خلدوني صرف بين الاستبداد والفوضى، من ازدهار «البيوتات» إلى انهيارها.

وجهة نظر ثانية بعكس ذلك تعتبر أنه حين يقترب المخزن ويشرع في وضع ثقله على القبيلة، إذ ذاك يبرز نظام الرؤساء حيث يكون هناك ممثلين اوليغارشين بالتأكيد ولكن ديموقراطيين. فالتخوف من مصادرة الأموال والخوف من قمع السلطة المركزية للقبيلة تجعلهم يعلنون حالة الاستنفار ويوقفون مداولات المجالس ويعينون رئيسا حربيا لصد جيوش المخزن. وحين يكسب «الأمغار» الحرب وينتصر غالبا يستطيع إذ ذاك أن يدعم سلطته بسهولة وأن يستجيب لطموحاته كمؤسس لسلالة حاكمة. والمجتمعات اللاتينية والملحمة النابوليانية تمدنا بأمثلة عظيمة عن أزمنة وأمكنة أخرى. وحين ينهزم الأمغار يصبح قايدا، وسيطا بين السلطة والقبيلة، إذ من الأفضل أن «يلتهم» الفرد من طرف أهله من أن «يلتهمه» غريب. وهذا الموقف القوى أي الذي يجعل المخزن العربي مسؤولا عن إقامة الفيودالية في القبيلة البربرية الجمهورية هو موقف أوجين كيرني Guernier الذي يتغنى بالنظام البربري والذي يعبر عن إجماع واسع لدى الإداريين الاستعماريين بهذا الخصوص.

هناك اتجاه ثالث نشأ داخل الحركة الوطنية ينزع إلى اعتناق فكرة أن ظهور القياد الكبار في قبائل الجنوب، كان بدرجة أولى صنيعة السياسة الاستعمارية وأنه قبل الاحتلال لم يكن لهذه الظاهرة المجتمعية أي ثبات أو شمولية مثلما عرفته في في بداية الحماية. وبتعبير آخر أن النظام القايدي هو تلقيح لقح به الاستعمار المجتمع المغربي، وإقحام لنموذج أوربي، مأقلم مع المغرب كما هو الشأن بالنسبة للشارات العصرية الراهنة للنظام الملكي: تاج، شعار، لقب، والرسوم الملكية على قطع النقود وفي البنايات العمومية، علم، بروتوكول الخ، والتي هي جد مخالفة لتقاليد المخزن القديم.

إن الاتجاهات الثالث هذه والتي تبدو متعارضة كل التعارض، نعتقد نحن أنها معالجات متقاربة ويمكن الجمع بينها في نفس الظاهرة كما سيتبين لنا ذلك انطلاقا من الملاحظات والوقائع التفصيلية التي سنقدمها في هذا الفصل. ويبدو لنا أنه مما لا جدال فيه أن النظام القائدي يجب أن يميز عن النظام المخزني في معناه الدقيق، حيث تضع السلطة المركزية على رأس الجماعات المسيطر عليها والتي لم يتبق لديها من القبيلة سوى الاسم، خداما ينتمون كلية للسلطة المركزية (وصيف، قايد، خديم، عامل…).

فالنظام القايدي لا يمكن أن يوجد إلا في حضن قبيلة مستقلة نسبيا تعين بنفسها رؤساءها وتختار ممثلا عنها من أسرة قوية ليستلم قيادتها. فنحن هنا نتفق مع الذين (مثل روبير مونتنى)، يجعلون من استقلال القبيلة شرطا ضروريا لظهور الأمغار، الذي سيصبح قايدا. لكن مع تحفظنا في أننا لا نعرف في المغرب حالات كانت فيها القبيلة مسيطرة ومنتصرة أي تكون النموذج الطلائعي للمجتمع، وبتعبير آخر، بما أننا لا نستطيع أن نثير هنا إمكانية وضعية قديمة مخالفة، فإن القبيلة بالنسبة لنا هي دائما شكل هامشي ومسيطر عليه، على الأقل ماديا، بصفته نموذجا وذلك منذ بزوغ الدولة الإسلامية. كما أن ظهور الأمغار لا يمكن تقييمه خارج المجال الإيديولوجي الذي يقدم النموذج المخزني.

ذلك أن الاستقلال القبلي المزعوم إنما هو جد نسبي، هو وضعية جزئية عابرة، إنه شكل من الانتظار حيث تهيؤ القوى المتنافسة الغد: إنه تمفصل كلي –خضوع-؟ للسلطة المركزية. ونتفق أيضا مع الاختصاصين في النظام البربري على أن الاقتراب المادي للمخزن يزعزع تلك القوى ويسرع إيقاع عملية صعود الرئاسة chefferie. إنه في المناطق التي كان فيها المخزن على اتصال مع القبائل الشبه المستقلة، تم تعميم ظاهرة تقوية الرئاسة على شكل قايدية.

أما فيما يتعلق بالتأثير الاستعماري فيظهر أن يحدث على مستويين: على مستوى الأحداث وفي العمق، وذلك بزيادة سرعة عملية السيطرة القبيلة بسبب ضعف المخزن حاليا، والسيطرة الاستعمارية، التي كانت في بداية تجارية ثم مصرفية وأخيرا عسكرية أجبرت السلطة المركزية على أن ألا تبدو للقبائل إلا في صورة ضريبية قاسية اضطهادية وليس كسلطة تنظيمية. وحتى القبائل التي لم تكن تعترض أبدا على الشرعية الدينية والاجتماعية ومكانة المخزن العالية قد فرض عليها بقوة أن تعطي مجموع الفائض الذي لديها من النقود والمؤونة والرجال في سبيل تصريف المياه وأداء الضريبة الاستعمارية، ومقاومة التدخلات المسلحة الأجنبية ومساعدة المخزن الذي أنهكته تلك التدخلات، على مجابهة الفوضى الناتجة عن هذا الضعف ذاته. نستطيع القول إذن أنه على مستوى العمق يعتبر الاستعمار مسؤولا عن تعميق وعنف عملية تأسيس النظام القايدي .

وعلى مستوى الشكل أيضا لا ريب أن الإدارة الاستعمارية قد زودت النظام القايدي بقانون أساسي وإطار قانوني لم يكن ليدركه بدونها سواء من الناحية التقنينية أو من ناحية دلالته ذاتها. إن العبقرية (أو الهوس) القانونية الفرنسية الفرنسية قد بلورت وأرست الناظم القايدي في مسطرات وأشكال قابلة للاندماج في الدواليب الإدارية للحماية، وبذلك أدت إلى تجميد ظاهرة كانت بركانية إذ ذاك وحركتها تلك كانت ثمرة الأحداث الأخيرة والصدفية، وساعدت الاتنوكرافيا الاستعمارية على تصنيفها في قوالب جاهزة لا يمك تغييرها.

غير أن تلك الكيانات التي أوجدت جزافا، وغالبا ما كانت بعيدة عن الواقع في مكان معين وزمان معين لم يحل دونها ذلك عن خلق كائنات اجتماعية وأشكال مجتمعية وتصلبات ما زالت إلى يومنا هذا تؤثر في التشكيل الاجتماعي في الحوز أو في غيره.

وتعقد التاريخ القايدي في حوز مراكش لا يتيح لنا أن نصل إلى أبعد من وصف أولي وذلك بأخذ بعض الأمثلة انطلاقا من وثائق أولية. وقد اخترنا أن نتتبع حالتين مشهورتين هما الكلاوي والكوندافي وذلك لأنه أولا يتعلق الأمر هنا «ببيتين» اختفيا الآن على الأقل في مراكش وثانيا لأنه لا يمكن الكلام عن الحوز دون التعرض للصعود الباهر لعشيرة الكلاوي وثالثا لأننا استطعنا الحصول على مجموع الوثائق العائلية عن الكوندافي مما يتيح لنا أن نضيف إلى المؤلفات المعروفة بعض الإيضاحات الجديدة فيما اعتقد. وقد كنا نود أن ندرس أيضا تطور عائلة العيادي التي استطعنا أن نجمع عنها عدة وثائق، غير أن هذه الأسرة ما زالت تتمتع بنفوذ قوي، ولا تسمح لنا الاعتبارات بالتعمق في دراستها، بالإضافة إلى أن هذه الأسرة هي موضوع لأطروحة دكتوراه في الولايات المتحدة مما جعلنا نتخلى عن هذه الدراسات حتى لا نكرر نفس العمل . وأخيرا استرعت أسرة متوكى اهتمامنا غير أنه بالاضافة إلى بعد مركز جاذبيتها بالنسبة للحوز، لم نتوصل بشأنها سوى إلى مجموعة من الأرشيفات المتفرقة بحيث ارتأينا أنها غير كافية في الوقت الراهن لتدعيم نقد موضوعي للوقائع التي سجلها موظفو الإدارة الاستعمارية .

أ- أمبراطورية الكلاوي :

لقد سبق القول بأنه من المستحيل دراسة التاريخ الاجتماعي والبنيات الزراعية في حوز مراكش دون التساؤل عن صعود رؤساء كلاوة وأكثرهم شهرة ونفوذا أي المدني والتهامي الكلاوي. ولكي نعطي فكرة عاجلة عن الأهمية السياسية الاجتماعية للتهامي الكلاوي نسارع بتقديم بعض الأرقام. فعند تنفيذ الحجز سنة 1958، كان مجموع الملكيات القروية المسجلة في الحوز وحده يغطي مساحة تبلغ 11.400 هكتار مسقية. وأسرة الكلاوي تملك أكثر من 16.000 هكتار في الحوز، و«العشيرة» (أي بإضافة ملكيات البياز والحاج ايدر) تملك 25.000 هكتار في المجموع مرسمة. ولا يدخل في ذلك الأراضي التي ليس لها رسوم، ولا شجر الزيتون (660.000 شجرة) مملوكة دون الأراضي ولا المياه ولا الملكيات الموجودة في أقاليم أخرى (خاصة واد درعة وداداس).

ويعتبر هذا أكبر تركز عقاري عرفه المغرب يفوت بشكل كبير ملكيات السلطان، في فترة الحماية. وقد قدرت مساهماته في الأعمال الصناعية والتجارية بمليارين من الفرنكات سنة 1956. وقد حكم الباشا مباشرة أو بواسطة أبنائه طيلة 44 سنة عددا من السكان يفوق المليون نسمة إلى سنة 1955. وقد رفعت الذاكرة الشعبية شخص الكلاوي إلى مصاف الشخصيات الأسطورية العظيمة مثل سيدي رحال، أو السلطان الأكحل. ودراسة للبروفيل السيكوسوسيولوجية لهذه الأسطورة أمر يحتاج إلى دراسة. ولم نسجل منه سوى التعبير عن العنف القاهر واغتصابه لكل ثروة ظاهرة، وكذلك صورة الحامي الذي يحترم تعهداته ووعوده ويتدخل دائما ليدافع عن قومه وحلفائه بحماس وقوة شديدة نظرا لاطلاعه الواسع على الأعراف والعادات ومعرفته الشخصية بالأفراد. وبديهي أن شخصية تمثل عصرا انتهى ينسج وتتراكم حولها أحكام مناقضة للأحكام التي لدينا عن الحاضر، وتكتسي تلك الأحكام صبغة التسامح والطابع اللاشخصي للإدارة. ذلك أن الأسطورة لا تصاغ انطلاقا من الماضي فحسب أو المستقبل المثالي، بل تصاغ بشكل يساعد على تحمل الصعوبات الراهنة!

ودراسة «النظام الكلاوي Glaouisme» كان حريا به أن يكون هو الموضوع الرئيسي في دراسة الحوز ومع ذلك فالبحث حول مصير هذه الأسرة لا يمكن أن يبدأ فعلا ما دامت الوثائق المتعلقة بها لم تصبح بعد عمومية. وحتى نضع بحثا علميا حولها علينا أن ننتظر إلى أن يصبح الأرشيف العائلي لهذه الأسرة والمحتجز لدى سقوطها في المتناول، وأن نستطيع انتقاد التقارير والوثائق الفرنسية التي كتبت في عهد الحماية .

وبالإضافة إلى ندرة المصادر الموثوقة والأصلية يمكن أن نجرد كتلة مدهشة من الكتابات والمقالات بل بالأحرى الروايات التي أوحت بها الشخصية المربعة والقلقة لباشا مراكش . والمؤلفات العديدة التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية وعشية الاستقلال والتي إما غالت في المديح أو الهجاء، قد جعلت من «الباشا» وحشا مقدسا، ونجما لامعا حديثا خرج من العصور الهمجية، إلى أن بلغ درجة أصبح فيها نموذجا يقتدى به .

هناك إذن وفرة في الوقائع الذاتية وندرة في الوثائق الموثوقة مما يضعنا في ظروف يصعب فيها القيام بشيء آخر سوى تحويم أولي انطلاقا من بعض الأحداث المحقة والمبعثرة هنا أو هناك. لهذا نعتمد على سماحة القراء وخاصة الذين عايشوا بعض الأحداث ولهم اطلاع عليها أكثر منا وربما استطاعوا أن يعارضونا ببعض الأحداث التي لم يهيء لهم الكشف عنها بعد. هذا ونحن ندرك جيدا إلى أي حد يكون التحليل الذي يتناول إمبراطورية ثلاثة أرباع تاريخها لم يعرف بعد اليوم، ولكن سينكشف في الغد، تحليلا عقيما وتافها. إنها وضعية مريحة ولكنها صحية بالنسبة للفكر. ومهما توخينا الحيطة والحذر فلن يكون ذلك كافيا!

من مزوار إلى أمغار:

يوحي لنا روبير مونتاني بأن الكلاويين يمكن أن تجمعهم قرابة بالامزواريين الذين كانوا يحكمون الشعبة العالية لوادي درعة، في القرن الرابع عشر. ولكن لا شيء يجيز الاستنتاج في هذا الاتجاه: فاللقب مزواري هو اسم مشترك كثير الشيوع بما أنه يوجد في كل جماعة بادئ: Inititor شخص مختلف عن أكورام وعن أمغار (بالعربية مقدم: البادئ): الذي يتكلف بالقيام بالأخطار المترتبة عن الأعمال الصعبة التي تهددها المصادفات و«الأرواح». ففي المجتمع القبلي الذي يرى أن كل تجديد هو رجس أو بعبارة متبذلة، بداية تمايز فردي عن المجموعة، لا يتم أو يحدث شيء إلا إذا خضع لتقنين فكل مبادرة تخرج عن التقنين تحمل الاستبداد أو الفوضى. لذلك تكلف الجماعة بعض الأفراد يكونون وحدهم القادرين على القيام بالأعمال المهمة مثل أول عملية في الموسم للحرث أو الحصاد أو جني الزيتون. وقد اخبرنا مقدم الصالح سيدي وسيدن بالقرب من تلوات سنة 1963 أن الشخصيات الغامضة أو النازحة قديما أو المشوهة هي وحدها التي كانت تعين من طرف القبيلة للقيام بمهمة بداية أي عمل باسمها وذلك لأنهم مندمجون في الجماعة بشكل كاف وفي نفس الوقت هامشيون، وحتى تتفادى الجماعة أي خطر. ونراهم يستفيدون من هذه المزية ويأخذون في تجميع السلطة بين أيديهم. غير أن هذا الرأي إما قد صيغ بعد صعود الكلاويين وإما أنه تطور للمؤسسة ذلك أنه منذ القرن 12 كان الايمزواريين يعتبرون في الأطلس رؤساء قبائل .

ولا يطالب الكلاويين بأقدمية محلية بل يدعون أنهم ينتسبون إلى أصل دكالي بل ينتسبون إلى الشرف عن طريق أبو محمد بن سعيد بن انصارن لبني ماكر ولي دكالة . وقد ترأسوا دفعة واحدة على كلاوة وذلك في عهد مولاي إسماعيل، وعلى أية حال فهذا ما صرح به الكلاوي في رسالة بعث بها إلى السلطان يقدم فيها احتجاجه على اثر نشر كتاب جوستاف بابان Gustave Babin .

وقد يكون الكلاويون ينحدرون من منطقة تعرف باسم تيكمي نـ. ايمزوارن، في قبيلة فطواكة بالقرب من تاساوت ، وربما طردوا من تلك الأماكن في سنة 1772 عندما نهبت قبيلة زمران قبيلة فطواكة والتجأوا إلى قبيلة كلاوة بصفتهم أمزواك (أي لاجئين يحتمون بالقبيلة المستقبلة) وعلى ما يبدو فالكلاويون مثل المتوكيين والكوندافيين هم في الحقيقة أجانب، فارون لجأوا إلى القبيلة التي أصبحوا هم سادتها. فلأنهم مهاجرون وهامشيون فهم أقل خضوعا واحتراما للأعراف المتداولة، من أبناء القبيلة الحقيقيين والمنحدرين من سلالات الأسلاف. كما أنهم أقل محاسبة على سلكوهم، وهو أكثر قابلية لانتهاز الفرص التي سيهيؤها انهيار البنيات القبلية أمام تفوق المخزن.

وقد كان يوجد في شعبة أسيف ايمارن ولي لم يخلف أي عقب وكان اسمه سيدي عبد الصادق ابن أبي محمد صالح صاحب آسفي، ومن هذا الفقيه صار جد الكلاويين أمحراس ، بتزوجه أمة دكالية اسمها تيت (أي عين) كانت في ملك الفقيه . ولدى وفاة عبد الصادق ورث أحمد بن الأمة الدكالية بركة الولي ونفوذه كمزوار، وسمي نفسه حمو (صيغة بربرية لأحمد) بن عبد الصادق .

ويعارض ورثة وحافظي ذكرى باشا مراكش هذه الأصول الغامضة للأسرة. فهي لا تعدو أن تكون حكايات ونوادر يقصها بعض المغرضين. وقد كان يوجد من قبل في مكتبة الكلاوي صورة على أحد الجدران تشتمل على شجرة النسب ولكنها اختفت عند نهب قصره. غير أنه تمكن من إعادة جزء منها وهي تعطي بالتقريب ما يلي: يدعي الكلاوي أنه ينحدر من قبيلة قريش من فخذ بني مخزوم وعن طريق عبد المناف أعطى ابن الحكم والد ابن مروان ثامن خليفة أموي. غير أن الجزء المستعاد من الشجرة يتوقف هنا، ثم نجد بعد ذلك سلسلة من أربعة أبناء أجداد السايح أبو محمد صلاح، مؤسس رباط آسفي حوالي 530هـ/1174. وربما كان لهذا السايح ثلاثة أبناء، محمد، أحمد، عبد الله وربما استقر هذا في قبيلة درن وأصبح أمغار واعتبر بعد ذلك هو جد الكلاويين. غير أن شجرة النسب هنا مقطوعة ثانية. ثم هناك قطعة ثالثة تحمل اسم وارثين اثنين: أحمد الراضي أمزوار الذي سمى قايد كلاوة في عهد مولاي إسماعيل قبل سنة 1700 على أية حال وهو والد عبد الصادق أمزواري الابن بالتبني لمولاي إسماعيل قايد كلاوة بعد 1700 . وهنا تتوقف شجرة النسب للمرة الثالثة قبل الإشارة إلى أحمد أمزوار أب جد الكلاوي التهامي.

فما القول في كل هذا؟ إن شجرة النسب هي مصدر الانتساب إلى السلطة، وهي نفسها وضعت لخدمتها. ثم هناك ثلاث ثغرات تضم بشكل جدي الدليل على تسلسل النسب. وهي بشكلها ذاك تظهر بشكل صريح أنها مصطنعة ومنقولة عن المؤلفات الكلاسيكية. ونعثر فيها على كل الدروس التقريبية التي وضعها كوفيون Gouvion .

لكن علينا أن نتمسك بالواقع فحتى لو فرضنا أن أحمد أمزوار كان له جدود مرموقين كهؤلاء وحتى لو أنه لم يكشف عنهم بعد ذلك وبفضل انتصار المدني التهامي، فيجب أن لا ننسى أن هو نفسه قد بدأ من الصفر وتسلق وصعد من المنحدر. ففي بضع سنوات أصبح أمغار تلوات عندما تزوج ببنت الحاج محمد تارهنوست. وكان يتوفر، في ذات الوقت على مداخيل الزاوية، ومدخوله كمزوار وعائداته من تجارة الملح . وأدرك أحمد درجة شيخ تحت قيادة الهاشمي الزمراني الذي كان يدير أراضي شاسعة في شرق الحوز (كلاوة، هوجدامة، فطواكة، دمنات، زمران، سراغنة، وقسما من تادلة الغربية).

وقد أقلق الصعود السريع لأحمد صهره أحمد بن الحاج محمد الذي قرر أن يقضي على هذا الواصل فالتجأ إلى تاقبيلت (القبيلة) المجاورة لآيت أونيلة وهم الورثة المنافسون لآيت تلوات. وقد توفي حمو في المنفى قبل سنة 1855. ويبدو أن ثروة الكلاويين ستتوقف هنا. لكن ابنه محمد الذي يحمل لقب ايبطاط لكي يزيد من نفوذه الخاص، أصبح رئيسا لآيت أونيلة سنة 1855 لكي يحارب القبيلة المعادية. وقد قتل الأمغار الحاج محمد لترهنوست وارث النسب الذي تبع أباه، في ترهوفار أيت رباعة.

وقد لاحظ المخزن كفاءات رئيس ايبطاط وعينه مولاي عبد الرحمن سنة 1856 بظهير في إدارة أهل تلوات، وآيت أونيلة، وآيت تامنات (آيت تومجشت) الذين تحالفوا مع تلوات في المعركة الأخيرة .

واعتراف السلطة المركزية بنجاح الأمغار الذي برز داخل فريق الرؤساء وفي حضن الجماعات التي تتحكم في مضيق تيزي نـ -كلاوي ربما كان يدخل في إطار سياسة أوسع وضعها المولى عبد الرحمن. وقد حاول هذا أن يتأكد، بعد مرور ثلاث سنوات، من السيادة على طريق أركانة وذلك بتشجيع متوكة على الخروج من وصاية حاحا المستقلة.

مع ذلك يمكن أن نتتبع كيف حدث صعود عشيرة الكلاوي: لقد كان منفيا ولكن تبناه ممثل زاوية غربية عن كلاوة وحصل على العفو وعلى حق استغلال منجم الملح كان شبه موقوف على الزاوية، وقد لعب الدور التقليدي للأولياء في أعالي الجبال: التحكيم في الخصومات بين الأفراد والجماعات بشأن المراعي، وقد أتاح له ذلك اكتساب معرفة عميقة بالنفسيات والدوافع، كما أتاح له تقوية نفوذه. وبديهي أن التجارة في الملح يتطلب تنقلات عديدة واستثمار مجال أكثر اتساعا وبالتالي وفر له ذلك القيام بمقارنة الوضعيات الاجتماعية والسياسية في مناطق شديدة الاختلاف، سواء في السهل أو في الجبل. غير أنه لم يقنع بهذا الدور بل كان يتطلع إلى أبعد من ذلك، فتحالف مع أسرة قوية ودخل في الحروب بين الفصائل وأفخاذ القبائل. والسلم الثاني الذي ارتقاه هو نسق الانضواء في نسب وقبيلة وهنا كان لا بد أن ينجح أن رغب أن لا يظل دائما هامشيا رغم ما يتمتع به من تشريف واحترام. فكان عليه أن ينضم إلى جناح ما ويحمل السلاح ويتحمل المخاطر وقد تعرض ارنست جلنر Ernest Gellner بدقة لهذه الظاهرة: فالمرابط بعد أن ينزع منه السلاح يستطيع أن يمد تأثيره على نطاق واسع جدا ولكنه لا يستطيع أن يصل إلى السلطة السياسية الحقة. ولا يصل إليها إلا من ينجح في جعل احد الأطراف يصدق أنه إذا وضعه كرئيس له، فسيستطيع ذلك الطرف أن يسيطر على الطرف الآخر بالقوة والعنف ومن المحتمل أن حمو المزوار لم يتوصل إلى ذلك لأنه كان مزدوج الولاء. أما محمد ايبطاط فسيكون رجل حرب حقيقي، يدفعه حب الانتقام لأبيه المنفي.

أسياد الحرب:

لقد كان أول هم ايبطاط بعد أن أصبح قائدا هو أن يستقر في تلوات أي في الحوض الأول الصغير الذي تضطر كل قافلة أن تعبر منه قبل اجتياز مضيق قبل اجتياز مضيق تيزي نـ -كلاوة، نحو الشمال وقد شيد قصره في ذلك المكان، وأصبح قاعدة حربية له تولي وجهها نحو الجنوب بشكل أكبر. كما أقام في تلوات بطلب من تاقبيلت التي كان يحكمها، سوقا أسبوعيا (سوق الخميس) ومأوى للقوافل حيث يتوقف حتما التجار المارون والمتجهون إلى الاتجاهين الاثنين عبر الأطلس. واعتراف السلطة المركزية به وتشييده للحصن العالي قد أعاد للزاوية حمايتها التي كانت قد اندثرت. وكان يتلقى، باسم السلطان، الضرائب على السوق وعلى اجتياز المضيق. وستبدو تلك الاداءات ضرورية أو جديدة مما سيدفع المخزن سنة 1856 إلى توسيع سلطة ايبطاط لتشمل آيت أوزارهار ، أي من الحوض الصغير لاسيف ايفرادن، ينحدر إلى شمال المضيق إلى حوض تلوات. وهنا أقام سوقا ثانية ومأوى آخر للقوافل بالقرب من زرقطن ومن المعبد اليهودي الإسلامي لمولاي اغي. ومنذ ذلك الحين وهو يستولي على المضيق في الاتجاهين الاثنين ويفتح آفاقا سواء على شعبة ردات التي توصل إلى الحوز أو على تيميدرت التي توصل إلى ورزازات ودرعة.

وفي سنة 1680-1870 انفجر النظام القديم للحكم المخزني الذي كان يحافظ على توازنه بالاقتطاع الضريبي المقنن أي أنه كان شرعيا ولم يكن ذلك الاقتطاع مرتفعا فكان محتملا، أقول أنه انهار في كل مكان ذلك أنه وجد نفسه عاجزا عن فرض الاقتطاع اللازم للحرب الناتجة عن التسلل والتسلط الاستعماريين هذا وقد كان القياد المكلفون بتصريف غالبية فائض الإنتاج، هم قياد النظام الشرعي القديم ورثة مولاي إسماعيل. فهم ليسوا موظفين بالمعنى الدقيق، ولكنهم أبناء أسر مخزنية كان لها جاهها ونفوذها من قبل ولكن اندثر كل ذلك. بحيث تصدق عليهم نظرية ابن خلدون. أما هذه الأزمنة التي تحتاج على دكتاتورية ضريبية غير شرعية فيلزمها رجال جدد، رؤساء حربيون بكل معنى الكلمة.

ولم يلح سوسيولوجيو ومؤرخو القرن التاسع عشر بشكل كاف على الآثار السياسية والاجتماعية لظهور الضرائب القايدية لتفسير الموقف الغامض والغريب للقبائل. فرغم اعترافها بالسلطة الروحية للسلطة المركزية، فهي ترفض أو تحاول رفض السلطة الزمنية للقياد مع أن تلك السلطة تصدر عن السلطة المركزية ذاتها. ليس لأن القبائل تجهل أن الضرائب الجديدة يطالب بها المخزن ذاته ولكن لأن الاستيلاء على الفائض الذي أدت إليه تلك الالزامات الجديدة كان يقضي على سلطة الاوليغارشيات القبلية نفسها. وقد كانت مجالس الشيوخ المسنين تدعم سلطاتهم في تاقبيلت انطلاقا من الضرائب القبلية التي يقتطعونها باسم الدفاع (شراء الأسلحة تحصين مخازن الحبوب، غرامات، ثمن التحكيم) وبفضل عمليات النهب والتسلط على الجماعات المجاورة.

وخدمة الضريبة لصالح المخزن معناه إما نهاية استقلال شيوخ القبيلة (الممثلين لها) وإما زيادة محسوسة وسريعة في الإنتاج، أي حدوث تغير تقني يصعب تصوره غالبا خارج إطار الجو العام المحيط بالمتنازعين. وبديهي أن الاحتمال الأول هو الغالب عن طريق الخضوع التركزي لتاقبيلت لجماعات أصبحت قوية نتيجة لوضعيتها الجيوسياسية، ونتيجة لمساندة المخزن لها. إن خط تسلسل العوامل بدءا من الاستيلاء على المضايق إلى قيادة قبيلة كبرى ومحاربة نتيجة للاغتناء بفضل مدخول الضرائب المفروضة على البضائع الواردة: «الصنك»، والتسلح بأسلحة حديثة، إنما هو خط تبسيطي لا فائدة منه. ولكنه يفسر بشكل إجمالي التطور الذي عرفه القياد الكبار في الأطلس مع ما في هذا التطور من صعود ونزول.

وعلى أية حال فإن الشيء الأكيد هو أن أية جماعة قوية، أي تاقبيلت عليها أن تؤدي في النهاية نصيبا إلى المخزن وهذا لا يفتح أمامها سوى بابين: إما الخضوع وإما أن تسيطر على جيرانها وتجعلهم يدفعون ذلك النصيب عوضا عنها.

وقد قام قياد الحرب بتوحيد القبائل انطلاقا من السيطرة على «تاقبيلت»، ولكن كانوا يلجأون في كل مرة إلى الحصول على تصريح بالتقليل من الانشقاقات بواسطة ظهائر التسميات على رأس تاقبيلت، والقبائل. ويظهر أنه على الأقل في بداية هذه المرحلة، كان القياد يتلقون ظهير تسمية يمنحهم مشروعية التصرف وإعانة مادية (تسليح) مقابل الالتزام بتحصيل الضريبة، وتحدد هذه الضريبة قبل تسميتهم على حسابهم. وسنرى أنه في مرحلة تالية كان المقدم يدفع مسبقا الضريبة عن القبيلة التي يحصل على ظهير تسميته عليها، ويتحمل هو استرجاع المبلغ المدفوع من القبيلة بعد أن يتولى حكمها. كما أن ظهائر التسمية لم تكن تمنح سوى سلطة اسمية، تضمن للمخزن أن هذا القائد معترف به كمسؤول عن مراقبة هذه القبيلة . ويبقى على القائد بعد ذلك أن يظهر مهارته وقدرته على تحويل تلك السلطة الشكلية إلى سلطة فعلية.

وفي مرحلة القايد سيد الحرب لا يهتم هذا لا بالملكية العقارية ولا بالحق في المياه ولا بأية مصادر إنتاجية أخرى. ومداخيله تأتي كلها من الاغتصاب والأداء المباشر. والاقتطاعات بواسطة تقسيم الغنائم بين رجال العصابة عند نهب جماعة معادية تؤدي إلى زيادة المصادر المنتظمة للإمدادات الغذائية (مونة) ، واقتطاعات استثنائية للضرائب (فريضة) . وهدايا الولاء (هدية) وأشغال شاقة في خدمة القائد (كلفة) : بناء الحصون، قطع الأخشاب، النقل، ثم من فترة لاحقة، فلاحة (العزيب) (الضيعة).

وهاته الاقتطاعات لها أصولها العريقة في التقاليد ذاتها بما أنها كانت غالبا مقننة لصالح مجالس القبيلة أي شيوخها أو لصالح أمغار الحرب، وذلك حتى يكفل لمؤسسات تاقبيلت وسائل العمل. لا يعود الأمر إذن أن يكون تطورا بسيطا وذلك بتغير القابض والمؤسسة، ويتم ذلك أحيانا مع الحفاظ حتى على المصطلحات المستعملة في ظل النظام القبلى (تويزة = كلفة).

وإن معالجة دقيقة لهذه الفترة لتجعلنا نعتقد أن المداخيل الأولى المهمة كانت هي الناتجة عن نهب (أكادير) أي مخازن الحبوب، والحصون، والبيوت أكثر مما كانت ناتجة عن الزيادة في الضرائب. ذلك أن الجماعة لا تقبل دفع الضريبة إلا حين تفقد احتياطها من الحبوب والخيول وحين تسقط حصونها بحيث لا يبقى لديها الثروة اللازمة لمواصلة الصراع.

وهكذا نجد محمد ايبطاط انطلاقا من قاعدته بتلوات، يساعده فرسان «تاقبيلت» الذين يترأسون القبائل، يقوم بحملات عسكرية ضد آيت واوزكيت. ويفرض على القبيلة التي أصبحت تحت رحمته ريالا حسنيا عن كل بيت بعد أن يكون قد نهب كل احتياطها، وتحالف مع أعيان ورزازات الذين فضلوا التفاوض مع حارس المضيق الذي تمر منه بضائعهم، على التنازع معه. كما تحالف أيضا مع أوريكة حتى يطبق فكيه على مسفيوة، الجار القوي الذي يشد على زمام الطريق في السهل وفي الحوز بين مراكش وتلوات. وشارك أيضا في حملة بقيادة المخزن ضد الكوندافي ولكن بطريقة غير حازمة وفي ظروف غامضة، ولا ندري إذا ما كان الكوندافي قد حصل سرا على قبول انسحابه من الحملة مقابل تحالف معه أو مقابله مبلغ مالي .

وحينئذ عاقت سلسلة من الفشل المتوالي تطور صعود الكلاويين: ففي الشرق قايد دمنات جد قوي، وفي الغرب سلطة الكوندافي لها شوكة، وفي الشمال مسفيوة الكثيرة العدد، بالإضافة إلى هزيمتين أمام الأمغار محمد آيت زينب وأواركيت في الجنوب، كل ذلك أضعف ادعاءات الكلاويين. وتوفي محمد ايبطاط بعد أن قوى قاعدته ولكن دون أن يتجاوز المناطق الجبلية المحيطة بها. وقد كان له ستة أولاد ذكور من زوجاته الأربع (أول حادثة تعدد الزوجات في القبيلة)، وسيكون مدني ثاني أبنائه هو مؤسس قوة الكلاويين.

تسلم المدني السلطة في الأسرة بعد وفاة أبيه وكان حينئذ هو اكبر أبناء ايبطاط ذلك أن أخاه البكر امحمد قتلته في ظروف غامضة سنة 1876 إحدى إماء أبيه. والمدني هو الذي قاد المعارك الفاشلة ضد جيرانهم وتحت إمرة أبيه. وقد فضل في بداية توليه السلطة أن يلجأ إلى الديبلوماسية والدسائس بدلا من الالتجاء إلى القوة. ثم أنهى بناء حصن تلوات، وورزازات وتازرت في مشارف مقاطعته. وأخذ ينتظر ساعته ويدعم سيطرته التجارية على المبادلات بين درعة والحوز.

ولا يوجد في البادية محتسب فالقياد هم المكلفون بجباية الضرائب لحساب المخزن ونظرا للصعوبة المتناهية في التحقق من الحسابات واستلام مجموع المبالغ المؤداة وجدت الدولة من الأفضل تأجير الأسواق مقابل أداء سابق لمبلغ تقدري، أو تأجيرها في مزايدة وتمنح لمن دفع أكثر. وكانت النتيجة هي سحق التجار والمراقبة المباشرة على تنقل البضائع من طرف القايد. فكان التجار يهربون من الأسواق التي يراقبها القياد ويحاولون إقامة أسواق أخرى غير رسمية بل بطريقة خفية تحت حماية إحدى الزوايا. وفي سنة 1888 علم المدني أن القوافل التي كانت تخترق الأطلس ليبيع تمور وادي درعة بعد أن تؤدي الضريبة للكلاوي في تلوات وزركتن قد نظمت سوقا أخرى بين سوق إنزل (بقرب سيدي رحال) وسوق آيت ورير، الأول يراقبه الكلاوي والثاني المسفيوي. فقامت كتيبة من الفرسان ونزلت فجأة على ذلك السوق وقتلت البائعين ونهبت البضائع. ولم يتحمل أحد مسؤولية العملية. لكن محتسب مدينة مراكش الذي كان يراقب سرا القوافل الذاهبة من مراكش على السوق قدم رسالة احتجاج إلى السلطان مولاي الحسن. وقد رد عليه هذا بالعبارات التالية: «لقد توصلنا برسالتك المتعلقة بأحداث سوق الخميس توكانة والأعمال التي قام بها كلاويو الخليفة الكلاوي. تقول أنه يوجد في السوق كل أنواع المنتجات والفواكه القادمة من وادي درعة وأن ذلك السوق يتوجه إليه أناس كثيرون حتى يتفادوا دفع الضرائب المفروضة على الأسواق الأخرى، وتقترح فيها أن لا يقوم المخزن باقتطاع ضرائب من هذا السوق لأن السلع التي تباع فيه تتجه في النهاية إلى مراكش لصالح العامة، وقد بحثنا اقتراحك وقبلناه. وقد كتبنا إلى الكلاوي طالبين منه أن لا يتدخل في السوق وأن يتركه .

غير أن المدني لم يمتثل للرسالة الملكية فلم يقبل أن تفلت من قبضته الضرائب، وقام بمحاولات عديدة ضد سوق توكاني. وقد رد عليه السلطان بظهير:

«لقد طلبت إلينا توكانة بواسطة قايدهم الإذن بإقامة سوق على أرضهم كما كان الأمر سابقا. وقد أبدوا استعدادهم لدفع الضرائب الواجبة عليهم للمخزن كما هو الأمر بالنسبة لمسفيوة وكلاوة جيرانهم. غير أن السوق الكلاوي (أنزل) الذي يقع بين مسفيوة وزمران وتوكانة لا يدفع ضرائب للمخزن مع أن تجار وادي درعة والحوز يذهبون إليه وقد طلبت إلينا (أي المحتسب) أن لا نفرض ضريبة على السوق (توكانة، انظر أعلاه) وذلك حتى يظل تموين مراكش بالفواكه الجافة عاديا ومستمرا، وقد امتثلتم للأوامر المعطاة في رسالتنا الموجهة إلى القائد (مدني الكلاوي) حتى لا يقبض أي واحد منكما أية ضريبة. لكن الكلاوي لم يطع أمرنا، إذ يقال أنه يقبض سرا واجبات السوق لحسابه الخاص، وقد ذكرتم أن أحدهم عرض عليك استئجار هذا السوق (أنزل) مقابل 25 ألف مثقال في السنة. وقد أعطيته له في النهاية مقابل مساندته ومساعدته» . ولم يتوان الكلاوي عن تعلية المزاد فطالب المخزن حينئذ بـ 32500 مثقال حتى يعجز المدني الذي انسحب:

«لقد قررنا أن نرفع قيمة إيجاز السوق أنزل كلاوة إلى 32500 وقد أخبرنا خديمنا القايد الكلاوي أنه يستطيع أن يستأجره بهذا السعر إذا رغب في ذلك أو أن يتركه للمزايدين. وقد كتب إلينا يخبرنا بتخليه عن شراء السوق بهذا الثمن» .

ويتفق كل المؤلفين المغاربة والأجانب الذين درسوا هذه الحقبة على أن الصعود الحقيقي لكلاوة كان إثر مرور مولاي الحسن في الأطلس. ونعلم أنه بعد القيام بحملة على تافلالت أراد أن يعود إلى مراكش عن طريق مضيق تلوات وقد استقبله المدني استقبالا حافلا فخما بحيث جعل تحت تصرفه الخيول المسرجة من فركلة إلى سيدي رحال ومد كل حاشية السلطان بالمواد الغذائية لمدة 25 يوما. وقد أكد كل المعاصرين لذلك الحدث على فخامة وأبهة الاستقبال وعلى الفضل الكبير الذي أولاه السلطان للمدني بتعيينه خليفة على كل الجنوب (تودرهة وتافيلالت وفيجة) وأهداه مدفعا نوع كروب Krupp وأسلحة حديثة .

وقد كان مولاي الحسن أكثر مهارة سياسيا ويقظة. فعلى ما يبدو ترك ذلك السلاح لأنه لم يستطع اجتياز الأطلس به، ولأن بعض الصناديق اختفت عند وصوله إلى هناك فلم يكن ليتهم بها شخصا مثل المدني الذي استقبله استقبالا رائعا. وقد سجل أحد المسؤولين عن البعثة العسكرية الفرنسية الذي كان موجودا بسيدي رحال ساعة وصول مولاي الحسن وجيشه: «إن أقسى محنة مرت بها فرقة تافلالت كانت بسبب المنطقة الجبلية الوعرة في الأطلس. إذ توفي العديد من الرجال جراء البرد القارس، كما أن الخسائر في البغال والخيول كانت فادحة. أما المدفعية التي كانت تشتمل على مدفع ميدان كروب من عيار 9 بوصات ومدفع كووي Couet من عيار 75 مم ومدفع الهاون من عيار 15 مم وذخيرتها فلم يستطيع السلطان العودة بها فتركت القطع كوديعة لدى قايد دمنات والكلاوي اللذين سيعيدانها حين تصبح الطريق سالكة .

والذي حدث هو أن المدفعية لم تعد أبدا فبعد ستة أشهر توفي مولاي الحسن واستولى بامحمد على السلطة الفعلية وقد كان هذا يسيطر على مخزن مولاي عبد لعزيز بفضل شخصيته القوية. والغريب أن الكلاويين لم يهتموا بمنطقة الحوز طيلة فترة حكم فترة حكم بامحمد. ولم يشاركوا في تنافس محمد وحسين وعبد العزيز على العرش: كما أنهم لم يتدخلوا في تمرد الرحامنة سنة 1894. لقد كان المدني يرغب في أن يتأكد أولا من سيادته التامة على قاعدته الجبلية في حين أن السهل كان منشقا ولم يقم سوى ببعض الغرات لنهب وسلب مسفيوة وزمران حين هوجمتا من طرف جيش المخزن. كان أمامه إذ ذاك مهام عديدة في الجبل وفي اتجاه الجنوب، أي في المجال الذي عيد فيه بظهائر السلطان المتوفى. وجدد ذلك التعيين مخزن بامحمد. وقد قام تنافس قوي بينه وبين أمغار آيت زينب وعلى نـ آيت بن حدو بن محمد الذي هزم ايبطاط. وقد اختبأ في حصن تامدخت التي لم تستطع المدافع أن تنال منه شيئا نظرا لتحصنه الطبيعي. وقد انتصرت الدسائس والمنكر والاغتيالات على آيت حدو. وبذلك أصبحت آيت زينب والجنوب مفتوحا أمام الكلاويين.

لن نتابع هنا تحركات المدني مع كل صغار الأمغاريين في الجبال الذين كان يهزمهم إثر قصف حصونهم بالمدافع أو إزاحتهم بعقد الزيجات مع بناتهم لعدم توفرهم على أسلحة . وحين كان القياد الكبار المنافسين له ينهكون أنفسهم في مشاكل المخزن المعقدة وفي صراع الأطراف حول القصر، وفي الحوز، وفي حملات بعيدة كان الكلاويون يقوون مركزهم في الجبل ويمدون سلطتهم على الجنوب. وليس من الممكن معرفة نصيب السلوك المتبصر والإرادي من نصيب السلوك اللاشعوري في تسلسل الأحداث. وفي هذا الاختيار سنلاحظ فحسب أن نتيجته ستجعل الكلاويين فيما بعد أكثر قدرة على تحمل تقلبات ثروتهم السياسية وعلى البقاء فترة أطول من المتوكيين والكوندافيين .

وبعد أن قوى المدني سيطرته على الجنوب وأنشأ في كل مكان حصونا في أسفل المخزن المهدمة أو المنهوبة، أدار بصره نحو الحوز حيث كان يتنافس الكوندافي والمتوكي.

وإثر وفاة بامحمد أعطى المولى عبد لعزيز المدني قيادة مسفيوة المتمردة والتي ظلت يجب الاستيلاء عليها. وقد كان من ضمن الإستراتيجية الجغرافية السياسية لكلاوة مسألة فتح باب على الحوز ذات يوم من خلال شعبة زات. ذلك أن الباب التي فتحوها بإنشاء قلعة تازرت قبالة زمران لم تكن تتجه نحو قلب الحوز وعاصمته مراكش. فتحالف المدني مع القايد عبد الحميد للرحامنة لكي ينهب مسفيوة. وقد كان يوجد في الجيشين الذين سيتحدان فيما بعد فارسان متواضعان يساعدان الرئيسين: أحدهما يسمى العيادي الذي سيصبح قايد الرحامنة، والتهامي المزواري الذي سيصبح باشا مراكش. وقد أتاح انهزام مسفيوة حصول كلاوة على غنيمة عظيمة سرعان ما ستنقلها قوافل البغال إلى تلوات. ومنذ ذلك الحين أصبح المسفيون يدفعون الضرائب لكلاوة، وأقام مدني قلعته بالسهل في آيت ورير.

وقد أدى فشل الحملة العزيزية ضد بوحمارة تلك الحملة التي شارك فيها المدني والتهامي وخسرا فيها أمولا طائلة وتكبدا مشاق صعبة دون فائدة تذكر لا من حيث الغنيمة أو من حيث الاستيلاء على أراضي جديدة لفرض الضرائب عليها، إلى أن ينفصل فريق الكلاوي عن المولى عبد العزيز. وقد جعلتهما عودتهما غير المظفرة عن طريق الجزائر التي تحتلها فرنسا وعن طريق البحر إلى أن وصلا إلى طنجة، يشكان في قدرة السلطان على القضاء على الفوضى التي عمت تدريجيا كل البلاد. فعاد الأخوان إلى بلدهما وحاولا أن يمدا سلطتيهما على جزء من الأراضي على حساب الكوندافي .

فمع الاحتلال الفرنسي لوجدة ونزول الفرق الفرنسية بالدار البيضاء أصبح عجز المولى عبد العزيز عن إعادة السلطة للدولة المغربية أمرا واضحا للعيان. لذلك اجتمع القياد الكبار في مراكش: المتوكي، والعيادي والكلاوي… ليتشاورا لدفع مولاي حفيظ إلى السلطة. وقد ظل الكوندافي وحده بعيدا عن تلك الحركة لما كان مولاي عبد العزيز يغمره به.

غير أن المتوكي غير بعد ذلك موقفه إذ انهزم أمام تحالف الكلاوي والعيادي ضده فاضطر إلى أن ينسحب إلى منطقته الجبلية الصغيرة وسينتقم لنفسه بعد ذلك.

إن تحليل التتابع البالغ التعقيد للتحالفات الدائرة بين كبار القياد، طيلة هذه الفترة يجعلنا نعتقد أن الحوز والمناطق الأطلسية حيث توجد قواعدهم للانطلاق كانت بالنسبة لهم رقعة شطرنج يلعبون فيها لعبة التوازن الحساس.

وفي هذا الغموض الشديد التي كان سائدا حينئذ يجب أن نشير إلى الأطروحة التي حللها لنوكس Lennox وحسبها يعتقد أن المتوكي والكلاوي لم يذهبا إلى خلق شخصية مولاي حفيظ إلا بقصد قطع الطريق على صعود الكوندافي المقلق .

إنها أطروحة جد متحيزة، فمن كان يدفع الآخرين؟ وقد استطعنا بفضل أرشيفات القنصلية وضع خريطة للتحالفات المعقودة والمفسوخة في الحوز في الفترة 1905 إلى 2192 بين كبار القياد والقبائل وذلك بترتيبها حسب المعسكرات الموجودة (العزيزي، الحفيظي ثم الحفيظي-الهبي). وخلال رقعة شطرنج من التعارضات البنيوية المزدوجة فإن الحركة التي تتجلى منها هي أنه في كل مرتين يحدث الانضمام إلى بطل الكفاح ضد الأجنبي إلى أن ينتهي كل المتعارضين إلى إدراك أن التدخل الفرنسي هو أمر لا رجعة فيه. والتأخرات عن هذه الانضمامات هي وحدها المشيرات للنسق الجغرافي السياسي للتنافسات داخل الحوز. كما أن العديد من تلك الانضمامات يكشف عن حيوية وقوة إدراك التغير وذلك على غرار ما يحدث في الانضمامات الانتخابية، إذ هناك دينامية للفوز ما أن تتضح حتى يسرع الأفراد إلى نجدة الفائز، ولكن بعد أن يتحرروا من الالتزامات السابقة التي كانت تثقل كاهلهم. وفي فترة صاخبة مثل هذه الفترة، ما يجب علينا أن نحتفظ به عنها، في رأينا، هو انه في غياب منظور لمدى طويل لنسق مجتمع ما يتفاهم فيه الأسياد حول اقتسام دائم «للوعاء الضريبي» assiette fiscale فإن التنافس لمدى قصير هو الذي يبرز شبكات الأسياد.

فكل استيلاء على الأرض يعني كم رجلا وكم ضريبة يجب اقتطاعها، وتحت وطأة المزاحمة بين القياد الذين يتنازعون هكذا على مجموع الفائض القابل للتصريف، تنسحق تاقبيلت، وتتشتت، وتواصل الإنتاج لتحافظ على البقاء وتبحث عن إخفاء ذلك الإنتاج تحت الأرض أو في الجدران أو في الكهوف. وتتوقف العمليات المسلحة طيلة فترة جني الزيتون وحصاد الحبوب ولكن تستأنف بقوة حالما يعصر الزيتون وتدرس الحبوب.

وقد كان من نتيجة هذه القايدية الحربية القضاء على المؤسسات القبلية وتدمير وسائلها ومنجزاتها المادية. وبلا شك أنه على مستوى القرى وعلى الأكثر على مستوى قطاعات السواقي، ستظل الممارسات والقواعد والأعراف المنحدرة من العصر القبلي القديم، قائمة فترة أطول، لكن دون أن يستطيع هذا النظام أبدا الظهور من جديد في الحوز على مستوى أوسع. فخلال ثلاثة أرباع قرن استطاع أسياد الحرب أن لا يتركوا من نظام اجتماعي كان في طريقه إلى الانحلال منذ ثمانية قرون سوى المظاهر فحسب. ولا جدال أن التسليح الحديث الذي حصل عليه القياد هو المسؤول عن هذا الانهيار السريع. فطالما كانت المجابهات تتم بين أشخاص متساويين في القوة، فإن العدد والتكتل بين تلك الشخصيات هو وحده الحاسم في الانتصار. كما أن البنيات القبلية التجزئية والمتدرجة هرميا، بفعل تحالفات الأجنحة، وضد الأجنحة، كل ذلك كان يعيد التوازن بين المتنافسين بدون انقطاع. غير أن الأمور لم تسر على نفس المنوال حين استولت عصابة صغيرة ولكنها مجهزة بنادق سريعة تملأ من مؤخرتها ومدافع تستطيع في بضع ساعات القضاء على المدافعين عن مخازن الحبوب، وتحطم الحصون وتقضي على كل الدخائر والثروات الدائمة لتاقبيلت.

يمكن أن لا نجد في هذه المعارك سوى صراعات بين أسياد ستولون على أقنان ولكنهم هم أيضا أدوات بقدر ما هم ذوات لتدخل استعماري واسع غاشم، يقيم لهم أسس قوتهم أو يترك الميدان لهم ليفعلوا ذلك أو حتى بدون علمهم يتيح لهم الفرصة لصعود عجيب. كل ذلك مقابل نهب البلد وانهياره الاقتصادي وتوقف الإنتاج في البوادي التي تمول صندوق المخزن في مدى قصير بالتأكيد ولكن ليكون في خدمة ضريبة حرب لمعاهدة جائرة، ولخدمة السيطرة الاقتصادية الاستعمارية ولشراء أسلحة ومنتوجات مصنوعة. وبعبارة أخرى أن أسياد الحرب هؤلاء هم أدوات هدم البنيات السياسية والاجتماعية للبلد. وسيكونون هم المستفيدين المتحمسين مؤقتا إذ سرعان ما ستبعدهم الإدارة الاستعمارية باستثناء واحد منهم هو التهامي الكلاوي .

القايدية المخزنية:

إن المساندة التي قدمها الكلاويون لصعود مولاي عبد الحفيظ إلى العرش (مراكش-غشت/آب 1907) ومساهمتهم في دحر الجيوش العزيزية في زمران، قد كان جزاؤهم عنها تعيينهم في الجهاز المخزني .

مدني: صار قائدا للجيوش الشريفية سنة 1907 والوزير الأعظم سنة 1909 ومنه لقبه «الفقيه» وشمل حكمه كلاوة إلى أولتانة دمنات وفطواكة، ورهوجدامة، وتوكانة وكدميوة أمزميز. وقد خلفه ابنه الأكبر محمد العربي على رأس الجيوش الشرفية.

التهامي: سمي باشا على مراكش في يوليوز/تموز 1909 (ظل في هذا المنصب طيلة 47 سنة متواصلة) وبهذه الصفة كان يراقب كل القبائل المعروفة بالجيش.

حاسي: سمي خليفة للتهامي وقايد غيغاية الدايرة (قبائل صغيرة دير مثل الرحامنة وتدرارة وعرب).

علال: عين باشا على دمنات.

حمو بن محمد: زوج لالاحليمة بنت مدني، قايد كلاوة وكل الجنوب إلى زاكورة وتنغيرت وإلى جانب هذه المشاركة في المخزن الحفيظي تحالفت كلاوة مع الأسر المخزنية الكبرى.

لالاربيعة: بنت مدني أهديت زوجة للمولى حفيظ سنة 1910.

لالاخدوج: بنت التهامي تزوجت عبد السلام المقري وزير المالية وتزوج مدني زينب بنت المقري.

ثلاث بنات لمدني تزوجن بقياد الدير: وريكي، بن ادريس، درودوري.

التهامي: تزوج بنت الحاج المهدي المنبهي، وزير مولاي حفيظ سنة 1918 أي بعد إقالة الوزير القديم.

كانت إذن عائلة الكلاوي تبسط سلطتها المباشرة على 500000 نسمة و35 ألف كلم2 كما كانت تتصرف في كل التداول النقدي وتسيطر على كل الأسواق والمواصلات والمبادلات. ويستولي الباشا الكلاوي على التجارة المهمة متنافسا مع التجار الأجانب ويبعدهم من السوق. وهو الوسيط الوحيد بين المشترين الأوربيين والفلاحين الموجودين على أراضيه.

والمزاحمة بين الشركات الأجنبية والقياد الذين كانوا يجمعون هم الإنتاج الزراعي الفائض لم تتم دون تشكيل تحالفات، ودون انفتاح على «السياسة الكبرى». وقد حاول القياد إقناع الأوربيين بأن عليهم التعاون معهم لكي يسيطروا على النزعات «الفوضوية» التي تثيرها القبائل. ويشهد على ذلك الحديث الذي دار بين لاسالاس Lassallas والتهامي الكلاوي في 8 يناير/كانون الثاني 1909 وكتبها الأول في تقرير رفعه في نفس المساء في مراسلته مع الإدارة العامة للشركة المغربية:

الكلاوي: «إنا نرغب مثلكم في السير نحو التقدم، نأمل أن يتمتع بلدنا بنمو اقتصادي يناسب ثرواته، وبمساعدة فرنسا. وسنبذل مجهودنا لكي نصل إلى النتائج التي تودونها. غير أنه بما أنكم ترغبون في إصلاحات حقيقية وليس في تجارب لا جدوى منها مثل ما حدث في عهد مولاي عبد العزيز، فاتركوا لنا الفرصة لكي نصبح أولا أقوياء وتصبح القبائل طيعة، وسنعطيكم كل ما تطلبون، إذن لن يستطيع أحد بعد ذلك أن يعارض الإصلاحات التي سيفرضها المخزن» .

غير أن صعود الكلاوي في المخزن الحفيظي بشكل سريع ومدهش سيظهر هشا حين يضطر المولى عبد الحفيظ (أو ارتاح) تحت ضغط الممثلين الفرنسيين، إلى إقالة نفس الأشخاص الذين أتوا به إلى الحكم. فخلال بضعة أيام انتقلت السلطات التي كانت بيد الكلاوي إلى أيدي أخرى . وهكذا نهبت ممتلكات كلاوة أو على الأصح الأراضي التي كان يحتلها، والمزروعات، وقام بذلك المغامرون الذين ينتهزون كل هزيمة. وقام كلاوة بدورهم بنهب كل ما كان قريبا من قواعدهم . وينقل تقرير انجليزي في سنة 1911 الوضعية السائدة بكل دقة:

«إن السمسار المحمي الانجليزي لعزيز روزيليس (؟) جاء المقابلتي عدة مرات ليشكو لي أن الحبوب المزروعة في مسفيوة قد حصدها رجال الكلاوي. وحين تحادثت في هذا الشأن مع متوكي حاكم الحوز في ذلك التاريخ أجبت بأن ذلك كان رد فعل لكون السلطان أعطى كل حبوب المدني والحاج التهامي إلى إدريس ولد الحاج منو الذي كان حينئذاك باشا على مدينة مراكش» .

لقد وجهت الضريبة إلى كل العشيرة. وحمو وحده هو الذي احتفظ بكلاوة وآيت واوزكيت وقد قيل أن خروج المدني كان مثل خروج الغزواني من المخزن المريني. وقد أخبر أن السلطان لا يرغب في رؤيته فأجاب على ذلك: «خلاني الله يخليه!» . وانسحبت إلى قطاع تلوات لتتأمل حول تحول القوى والسلطة ولكي تفكر في مزايا الحماية الفرنسية.

والسلطات الفرنسية هي المسؤولة عن إقالة الكلاويين، لذلك لم تتوان عن إبداء ندمها على ذلك القرار وحاولت أن تتدارك الأمر. إذ تحت سوط الكلاويين اختلفت التوازنات السياسية الاجتماعية وحل بدلها نظام طغياني أكيد ولكن تسهل السيطرة عليه من طرف قوى أجنبية تشعر بمسؤوليتها تجاه مستقبل المنطقة. أضف إلى ذلك أن إدريس ولد منو أدرك الإيقاع الجامح لزمن السياسي وكان حينئذ منهمكا في تجميع الثروات وتبديدها في أشهر قليلة، ففتح باب المناقشة على مصراعيه ضد القوى الاستعمارية الأجنبية الأخرى على أراضي الحوز وخاصة ضد ألمانيا. وبذلك أصبح هو الوسيط الضروري للمكتسبات الجديدة.

وقد كتب مكريت Maigret، وهو موظف في القنصلية الفرنسية بمراكش إلى روبير دو بيلي R.De Billy الذي كان حينذاك سفيرا لفرنسا في طنجة:

«لقد علم أمس خبر إقالة الحاج التهامي وقد أثار هذا الخبر انفعالا عميقا لدى الأهالي ولدى الأوربيين. وقد استاء الجميع من اختيار السلطان الذي وقع على إدريس ولد الحاج منو. ويذكر الكل القسوة والجشع اللذين يتصف بهما الحاكم الجديد لمراكش الذي لم يكن سوى باشا على القصبة، بل نرى اليوم أن حتى أعداء الحاج التهامي الكلاوي قد استاؤوا هم أيضا لإقالته. وبعض الأوربيين وخاصة السيد لينوكس Lennox أشاروا إلى أن القرار الشريفي قد اتخذ بتحريض منا لكسر شوكة عدوين لدودين وبالتالي تبرير تدخل فرقنا العسكرية. وقد قابلت الحاج التهامي بهذا الشأن منذ الأمس، وقد بادرني بالتعبير عن دهشته وأسفه لتخلي السلطان عنه وتخلينا نحن عنه لصالح عدو من نفس أسرته. «لقد وعدتموني بتقديم حمايتكم لي فهل أعتمد على هذه الحماية أم يجب علي أن أدافع عن نفسي بنفسي؟».

وقد ذكرته، في كلمات قليلة، أن أول واجب عليه هو الخضوع لأمر السلطان، والاستمرار في إدارة المدينة والحفاظ على النظام فيها إلى أن يصل خلفه. وإن هذه فرصة أخرى لكي يبرهن على إخلاصه لفرنسا أن اتبع نصيحتنا. وأنه بذلك سيخدم المستقبل. وقد أكدت له أن مفوضية بعثتنا لن تنسى خدماته الجليلة، ولكنه أفهمته في ذات الوقت أن موقفه إذا لم يطابق ما ننتظره منه فسيجلب له ذلك عواقب وخيمة.

وقد صارحني الحاج التهامي بأنه إذا كان محميا فرنسيا فلن يتردد: سيقبل القرار الشريفي، وسيخضع لنا كلية لندافع عنه في حالة ما إذا هدده الباشا الجديد لمراكش في شخصه أو أسرته أو في أملاكه الخاصة.

وقد تلقيت في هذا الصباح البرقية التالية من الدار البيضاء من مفوضيتكم: «إن السلطان بعد إجراء استعلامات جادة ينوي أن يقبل أعضاء أسرة وزيره الأعظم. قل للتهامي الكلاوي: إننا لن ننسى تعهداتنا إذا لم يضطرب النظام في مراكش» .

وأخيرا اختارت أسرة الكلاوي الحماية الفرنسية كطريقة وحيدة لوقاية وضعيته ولم يكن ذلك الاختيار سهلا كما يبدو اليوم في وقت قام الأدعياء في كل جهة في البلاد وكان الهبة ابن ماء العينين قد أعلن الجهاد وقدم من الجنوب واستقر كسلطان بمراكش بتاريخ 17 غشت/آب 1912. وقد استطاع الكلاوي رغم إقالته أن يلم حوله كل الذين كان يخفيهم الهبة بمن فيهم أنصار مولاي حفيظ وعدوه اللدود إدريس ولد منو. وقدموا للهبة مبايعة زائفة وكانوا في نفس الوقت يتسترون على رجال القنصلية الفرنسية واستدعوا الجيش الفرنسي وساعدوه بتقديم المعلومات فأدى ذلك إلى هزيمة الصحراويين .

وإذ ذاك عين الكلاوي من جديد باشا على مدينة مراكش وظل كذلك إلى استقلال المغرب .

القايدية العقارية: بين القطاع والحجز:

أول عملية قام بها الباشا الحاج التهامي هي تفكيك الشبكات التي حاربته وذلك بمبادرة لصالحه الفردي كل أراضي أعدائه التي استحوذوا عليها . وكان احتلال الأراضي يتم في غالب الأحيان بالعنف والرعب وبصفة خاصة أراضي مسفيوة. فكانت تنزع الملكية بشكل لا رجعة فيه من كل معارض أو رافض لدفع الضريبة. وفي ظرف بضعة أشهر استولى السيدان المنتصران الكلاوي والعيادي على آلاف الهكتارات وعلى الحقول الشاسعة المزروعة بالقمح طواعية أو بالإكراه .

لكن إذا كانت ظاهرة الاحتلال الفيزيائي العنيف لحقول القمح الشاسعة منذ 50 سنة خلت، هي القاعدة التي أصبحت تفرض نفسها تدريجيا وبوضوح في الحوز كنتيجة للعنف وللسطوة السياسية، فإن ما هو جديد ابتداء من 1912 هو جعل تلك المكتسبات مشروعة وضمان دوامها وحماية تلك الملكيات من طرف جيش دولة حديثة كما سنرى في الفصل التالي.

إن الجشع الكبير الذي أبداه كبار القياد على العقارات ونما في بداية القرن 19 ليصل إلى أقصى مداه في الحوز في السنوات الأولى بل الأحرى الشهور الأولى لدخول الفرق الفرنسية، ليستحق التحليل كخاصية أساسية لمرحلة القايدية هذه.

يجب أن نتساءل أولا لماذا تخلت الملكية العقارية الفردية وملكية المياه التي يمكن اعتبارها هي أيضا عقارا تلك الأهمية القصوى الفجائية بالنسبة للقياد وذلك حوالي سنة 1900. من المؤكد أن أعيان النظام والشخصيات المخزنية، طيلة القرن 19، كانت توفر وتكدس العقارات المهمة في الحوز، ولكن كان من المألوف أن إقالة وذهاب المستفيد يتضمن عودة الأراضي إلى الدولة لأن المسؤولية المخزنية هي وحدها التي يمكن أن تكون مصدر الإثراء. إن آخر إثراء هو الذي تم حين أصدر المولى عبد العزيز سنة 1900 أوامره بالحجز، واهتز لذلك الرأي العام في الحوز وانشغل به الناس لفترة طويلة، على ممتلكات باحمد عقب وفاته. ويظهر أنه كان يرمي بذلك الرفع من قيمة الحوز وتغذية بيت المال أكثر مما يرمي إلى الزيادة في المساحات التابعة للمخزن، وعلى كل فتلك الأراضي المحتجزة كانت ملكيتها تنتقل من شخص إلى آخر دون أن يتغير المستغلون للأرض بالمشاركة ودون تغيير نوع المزروعات. ونقصد أن تلك الأراضي أشبه ما تكون تابعة لمسؤولية المخزن. ولا نبالغ فندعي أنها كانت تشكل دخلا يعترف به المسؤولون الوزاريون أو القايديون، وإنما كانت تضمن في الواقع، نصيبا لا يستهان به من ذلك الدخل. وفي مجتمع يحرص أكثر على تقرير الحق ويؤكد مشروعية هذه المبالغ المالية مقابل القيام بالمهام، فمن غير شك أننا كنا سنسميها «اقطاعات terres d’apanges». غير أن من خاصيات المجتمع القايدي تفادى إقرار الحق ذلك أن التبرير القانوني لذلك الحق سيصعب غالبا إعطاؤه، وسيخلق سوابق ستقيد من حرية تصرف الأمير .

وانتقال القطاعات من الحائز القديم إلى الجديد يتم حسب ثلاثة أشكال:

1-الحجز عليها من طرف الدولة وبيعها في مزادات عمومية لصالح بيت المال .

2-حجز الدولة للمتلكات وبيعها إلى المستفيد الجديد.

3-دفع ديون الموظف المطرود، يدفعها المستفيد الجديد على أن يتحمل تغطية ممتلكات الأول لصالحه .

إن ما أصبح تدريجيا مجرد شراء للوظائف المخزنية لم يكن في البداية سوى مسطرة لتغطية الدولة لديون الموظفين المعزولين بواسطة مصادرة ممتلكاتهم التي غالبا ما اكتسبوها عن طريق استخدام السلطة والنفوذ.

والتعاقب السريع لموظفي المخزن عن طريق التوالي السريع لعمليات العفو، والإقالة لم يتح للمخزن الاحتفاظ بسجل مضبوط لملكياته العقارية ابتداء من سنة 1905.

ومن جهة أخرى فإن عبارات الاتفاقات حول الديون المغربية من الخارج تجعل من ملكيات المخزن إحدى الرهائن الأكثر ضمانة للدين، مع الجمارك، ولا تشجع المخزن على الإعلان على الملكيات التي حصل عليها بطريق المصادرة. أضف إلى ذلك أن التطور تم في اتجاه ترك حرية التصرف للماسكين على زمام السلطة المخزنية الجدد، في الاستفادة هم أنفسهم من أراضي الأشخاص المقالين.

كما لم يثنهم ذلك عن بسط أيديهم ليس فقط على ممتلكات السابقين المقالين، بل أيضا على ممتلكات الأشخاص الذين كانوا يساندونهم –لأن المناطق أصبحت منقسمة إلى أعداء وأصدقاء- بل حتى على أراضي جيرانهم، وذلك نظرا لانعدام سجل المساحة ومسطرات الأحكام المستقلة. وهكذا ارتفعت مساحات الأراضي المصادرة في الحوز حتى أصبحت تغطي كل المجال الواقع خارج القطاعات الأولى المسقية بصفة دائمة. فكان الطرد من الأراضي –وقد طبق مرتين ضد مسفيوة ولصالح الكلاوي- هو وحده الكفيل بإفراغ البقع الأرضية ونزع الحقوق في المياه بشكل كاف حتى يهتم بها القائد. والعمليات التخريبية مثل اقتلاع أشجار الزيتون، وحرق البيوت، التي قام بها كلاوة سنة 1894 وخاصة سنة 1907 في مسفيوة لم يكن الهدف منها فقط قمع التمردات بقيادة المخزن بل تهجير مسفيوة غير أنهم لم ينجحوا في ذلك نجاحا تاما.

السبب الثاني للاهتمام الجديد الذي أبداه القياد نحو الملكية العقارية يظهر أنه يعود إلى محاكاة سلوك الأجانب. فقد تعدد الاتصال بينهم وبين رجال الأعمال الأوربيين ، الذين يهتمون بشكل خاص بتملك الأراضي. والمعلومات المستقاة من المهاجرين الجزائريين والعائدين من الحج ، حول التطور الاجتماعي والسياسي في الجزائر، أقنعت المتبصرين أن ضمان الملكية هو وسيلة للإثراء وخاصية من خاصيات الأزمنة الحديثة. غير أن هذا لم يدركه كل الناس وخاصة الطيب الكوندافي الذي ظل إلى النهاية محتفظا، في سذاجة، بصورة سيد الحرب رغم أنها لم تعد تماشي العصر. وقد أرسلته الحماية باتفاق مع الكلاوي إلى حملات بعيدة في وقت كان فيه القياد الحذقون يتقاسمون الحوز .

حول هذا الموضوع يمكن أن نقابل كومتين من الأدلة تحاول أن تثبت من ناحية أقدمية الملكية العقارية ودقة تشريعها ومن ناحية أخرى كيف أن الملكية العقارية كانت عابرة وموضوعا لحجوزات دائمة وضمانها زائف بعقود لا تحمل محمل الجد إلا حسب القوة التي يمكن أن تسخر لها.

غير أنه في نهاية القرن 19 يظل أمرا صحيحا أن ما يكفل الإثراء السريع هو السلطة السياسية، والقوة والعنف، وحوزة سلاح حديث. إن المصدر الزراعي لهذا الإثراء إنما كان بدرجة أولى السلطة الممارسة على الرجال الذين يفلحون الأرض مهما كانت وضعية ملكيتها. فقد اكتسب أسياد الحرب نفوذا وثروات من خلال مصادرة الفائض الزراعي، وفرض ضرائب قاسية، وبحصاد الحقول لا بفلاحتها، وحين كانوا يقولون: «أراضي ملكي» فذلك كان يعني: «هذه مقاطعتي» ولنقل الكلمة: «هذه اقتطاعتي» (Mon fief).

إن ما تغير ابتداء من سنة 1912 هو الشعور بأن ملكية الأراضي أصبحت هي القاعدة الجديدة التي تضمن السلطة والنفوذ والثراء. وهذا قلب كامل للرؤيات التي عاصرها المتنازعون. فالمحظوظون حينئذ كانوا هم الذين يتوفرون على مواقع ممتازة. ولنتخيل مثلا دخول الفرق الفرنسية إلى مراكش في أبريل/نيسان 1911. فقد كان من المفروض أن يكون المتوكي هو القوة الكبرى إذ ذاك، ذلك أنه في ظروف مماثلة لظروف الكلاوي في سنة ونصف بعد ذلك، كان هو الذي سيحبك الدسائس مع الأجانب. ولو تم دخول الفرنسيين بضع سنوات من قبل لكان الكوندافي هو الذي سيقوم بهذا العمل إذ كان في تلك الفترة في أوج صعوده.

إن سكان الحوز الذين تابعوا باندهاش التوالي الغريب لعدد من الأسياد وربما اعتقدوا أن من الصعب تجاوز ذلك وأملوا أن لا يحدث تغيير في الوضع، قد شاهدوا فجأة قيام ثروات عقارية جد ضخمة واستقرارها، لصالح الأشخاص المقالين من مهامهم والذين كانوا قد فقدوا كل شيء بضعة أشهر قبل هذا.

وفي سنة 1918 حين توفي المدني الكلاوي عين التهامي الكلاوي خلفا له ولم يكن قد طرأ سوى تعديل بسيط على التوزيع الجديد للقبائل التي كان يحكمها. وقد رد المارشال ليوطي بلهجة حادة على الجنرال «دو لاموث de Lamothe الذي دعا إلى ضرورة انتهاز تلك الفرصة للحد من سلطة عشيرة الكلاوي:

«إن الوضعية في أوربا وفي جنوب المغرب جد مضطربة ترغمنا على الاعتماد على أشخاص لهم وزنهم، أذكياء ونشيطين ويمكن الاعتماد عليهم. والتهامي أحد هذه الرجالات فهو الوحيد من كلاوة الذي تتوفر فيه كل هذه الشروط. ولكن يجب الاعتماد على تعاونه معنا دون تحفظ. ذلك أني متأكد أنه لن يوافق على التخلي عن حكمه على مدينة مراكش. يجب ألا يغيب عن أذهاننا كل ذلك العنف الذي سبغ التنازع على هذه الباشوية سنة 1912 حتى ندرك جيدا إلى أي حد كان هذا المنصب محط اهتمام القياد الكبار في الجنوب. باختصار نحن الآن في حاجة إلى كلاوة أكثر من أي وقت مضى وخاصة التهامي. ولا تسمح لنا الظروف الحالية بأن نبخل عليه بإسناد هذا المنصب له. يجب إذن أن نتابع المسير. وسنرى بعد الحرب…» .

والحقيقة أنه بعد الحرب كان من الضروري أن يتسع مجال حكم الباشا ليشمل عددا من القبائل الأخرى بمناسبة «الحركة التي حدثت في تودغة وتافلالت. وقد أخذت إدارة الحماية سنة 1924 تحاول زعزعة قيادات الطيب الكوندافي ، وعبد المالك المتوكي والتهامي الكلاوي، وذلك لقلقها من تزايد قوة كبار القياد. وقد عهدت بهذه العملية إلى ضابط فرنسي هو أورتليب ORTHLIEB الذي سجل في حيثيات تقريره:

«إن الباشا وابن أخيه سي حمو قد تقمصوا الآن بجد أدوارهم كأسياد كبار، لقد أصبحوا يعيشون حياة مترفة يوفرها لهم دوام مداخيلهم المالية الناجمة عن التنظيم الحالي أي الاستغلال المكثف للقبائل. ويعلمون أن مراقبتنا ستحد من إمكانيتهم في هذا المجال ولذلك يفعلون كل شيء ليعوقون كل تحسين لطريق تلوات وإقامة الخط التلفوني وإلحاق ضابط من الجيش» .

ويبدو أن السلطات المحلية للحماية تحاول الحد من نمو سلطة الكلاوي، دون أن تكون متأكدة من أن الدوائر العليا لها نفس الموقف. ذلك أن كل تقرير يبلغ يبعث به ضابط من ضباط الشؤون الأهلية إلى الرباط ينقل فيه مطالب هذه القبيلة المضطهدة أو تلك، يرد عليه بطريقة متأففة بحجة ربح الوقت أو إثارة وضعيات مؤقتة صعبة. وقد تراكمت إرساليات الاحتجاج المتعلقة بالابتزازات والتمردات، والقمع الضروري والنزوح من القرى بل بالأحرى دفع بأفخاذ بكاملها إلى الإفلاس . وقد قدم أورتليب إلى المارشال ليوطي بتاريخ 12 يوليوز/تموز 1924 تقريرا واقتراحات محددة لجعل حد للطغيان الذي يمارسه الحاج التهامي الكلاوي. وقد وافق المقيم العام على الحيثيات واستنتاجات التقرير، غير أن حرب الريف قامت إذ ذاك بحيث أخرت وسمحت للكلاوي من جديد بأن يلعب دور المنقذ الذي لا يستغنى عنه.

وقد أصبح الحاج التهامي الكلاوي سنة 1930 قوة مالية. وإذا كانت قوته السياسية قد أتاحت له غداة 1912 اغتصاب مجالات مالية كبرى وأهم أراضي الاقتطاعات apanage في الحوز فإن ما حدث هو العكس وذلك فيما بين الحربين العالميتين: فالمجالات التي كان يملكها أتاحت له اهتمام رجال الأعمال بها وكذلك رجال السياسة وبالتالي ضمان وتوسيع تطلعاته السياسية .

ب-ثورة الباشا:

كان من الصعب دائما تقدير ملكية الحاج التهامي الكلاوي وهو على قيد الحياة. وقد حاولت مصالح الحماية ذاتها عدة مرات ورغم السرية التي كانت تتحراها، أن تضع جردا لملكياته غير أنها لم تستطع قط أن تنهي ذلك العمل نتيجة للضغوط القوية التي مورست عليها لصرفها عن ذلك. وقد عرفت فقط الملكيات العقارية التي صرح بها الباشا كضمان لهذا الرهن أو ذاك القرض. وإثر مصادرة أمواله سنة 1958 كنا نأمل في أن نحصل على بيان تام على الأقل فيما يخص الملكيات العقارية، غير أن ذلك لم يحدث: إذ انه بين وقت وفاة الباشا ونشر ظهير مصادرة ممتلكاته وإنشاء سجل لها ، مرت فترة طويلة بحيث استولت على جزء من ممتلكاته غير المسجلة الشخصيات المهمة المحلية أو أفراد الجماعات التي اغتصبت ممتلكاتها في السابق .

وقد قدر مستشارو الكلاوي الألمان ديونه بحوالي 50 مليون فرنك، سنة 1931، «وبهدف التعامل مع دائن واحد وتوضيح وضعيته، ويطلب من الدولة إقراضه هذا المبلغ مقترحا إعطاء ملكياته الموضوعة في الرهن مقابل قيمة مماثلة» .

فأنجز إحصاء لثروته العقارية وقدرت قيمتها حينذاك بـ 139 مليون (70 مليون فرنك 1974) موزعة كالتالي:

مراكش المدينة 16%

حوز مراكش 26%

الرباط 21%

الدار البيضاء 19%

طنجة 18%

ولم يأخذ في الحسبان في هذا السجل التقديري سوى الملكيات التي لها رسم عقاري.

وبمناسبة هذا البيان الذي كان الغرض منه تغطية القرض وضع أيضا سجل تقديري للملكيات المنقولة وخاصة في الميدان المنجمي . وقد كان التهامي الكلاوي يملك في الواقع أسهما في مناجم بوعزير Bouazzer (الكوبالت والسيانور) مشاركة مع جماعة CTM Epinat. وقد ارتفعت حصة الأسهم من مليون سنة 1936 إلى 53 مليون فرنك سنة 1953 . (تقريبا 500000 فرنك 1974). وقد كان الباشا يحصل على مداخيل تقدر بـ 2 مليون فرنك سنة 1940 و38 مليون سنة 1953 (حوالي 800000 فرنك 1974) وذلك من مناجم ايميني (المنغنيز) التي تستغلها شركة موكتا الحديد MOKTA EL HADID. وفي الحوز ذاته كان الكلاوي يملك ثلاث معصرات للزيت حديثة و4 معامل للحلفاء النباتية.

الملكيات العقارية

لقد سبق القول أن الأراضي التي يلكها الكلاوي قد اغتصبت كلها تقريبا منذ الشهور الأولى للحماية. ولكن هذا المجموع أصبح ملكية خاصة له خلال فترتين: أولا في السنوات 1918-1924 فوضع رسوم الملكية على الأراضي التي ورثها عن أخيه والأراضي التي كانت في يد القبائل، وبعد ذلك بين 1947 و1950 سجل في اسمه عقارات الدومين الخاص للدولة Domaine Privé de l’Etat التي كان يحتلها بصفتها اقطاعات منذ سنة 1912.

وأساس الثروة العقارية للكلاوي في الحوز يأتي من ثلاثة مصادر: طرد مسفيوة من أراضيها، أراضي اقطاعات الجيش، وراضي الدول Domaine de l’Etat.

وأراضي كلاوة لا تنفتح شمالا على حوز مراكش، إذ كان مدني يرغب منذ البداية في تحطيم مسفيوة ليضمها مع توكانة في القطاع الكلاوي بحيث يكون في حوزته شريط من الأرض متصل إضافي يمتد من ورزازات إلى مراكش.

وفحص الخريطة الموجودة خارج النص أن عائلة الكلاوي قد نجحت عمليا في الاستيلاء على أهم المساحات الكبرى خارج مخروط مسفيوة ووصلت إلى أسوار الجنوب الشرقي من المدينة. ونلاحظ أن المجالات الواقعة خارج السطوح الأولى لمخروطات وريكة –رحمات من ناحية، ومن ناحية أخرى الزات، كلها متفرقة ومساحتها كبيرة، وبعكس ذلك القطع الأرضية الصغيرة (رقم 22) متجمعة وتقع داخل نفس المخروط.

وبغض النظر عن الاعتبارات الخاصة بظروف اغتصاب كل ملكية فإن دوافع توزيع الملكية في المجال يمكن أن نعرضها كما يلي:

أ-إن السطوح الأولى من المخروط قد احتلت في زمن قديم من طرف سكان أكثر كثافة. اقتسموا فيما بينهم قطاعات «السقية» في أجزاء جد صغيرة، تقسم الأرض إلى تلال معقدة مصرف المياه، والطرقات والحواجز والجدران الصغيرة.

ب-إن هذا المجال لا يمكن أن يهم الملكية الكبرى. فمن الصعب إجلاء السكان العديدين عنها، والذين لا مورد للعيش لهم سواها وبالتالي فهم متمسكون بها بكل قوة. أما في السطوح المرتفعة أو خارج المخروط فالأمر بعكس ذلك. إذ لم يستطع السكان الأقدمون إقامة ري قوي. كما أن تلك الأراضي كانت تحتلها أساسا المواشي الصغرى (الغنم والماعز). فكان من السهل طرد الرعاة منها وجعلها مسلكا خاصا.

ج-وأخيرا فلا قيمة للأرض في الحوز إلا إذا كانت مسقية. وبديهي أن الملكيات الكبرى تتطلب قسطا وافرا من الماء. واغتصاب الأراضي الموجودة في أعلى المخروط أو خارجه يتضمن مصادرة ضخمة لحقوق المياه ولا يمكن القيام بها إلا ساقيات مختلفة. وبالتالي غالبا ما تقع الأراضي على مجالات مختلفة.

وبعكس ذلك، فرغم قوة الكلاوة باشا مراكش، ورغم شدة رغبته في إقامة ضيعة كبيرة بالقرب من آيت ورير في السطح الأول من الزات، يشرف عليها القصر الذي كان يملكه، فإنه لم ينجح في أن يستولي على أكثر من 30 هكتار في عشرة بقع أرضية.

واحتلال الكلاوي للأراضي في حوض نفيس قد استخدم إستراتيجية مخالفة. فأولا بما أنه كان باشا على مدينة مراكش فقد اقنع إدارة الحماية بضرورة دمج الدائرة القديمة لباشا المدينة مع باشا القصبة. وبهذا ضم قيادة دائرة مراكش الضاحية مع باشوية مراكش. ثم طبق ما يمكن تسميته بـ Guichisation أي إرجاع تلك الدائرة تابعة لأراضي الجيش يعني تغيير الوضعية القانونية للسكان المقيمين في نفيس لإدخالهم في إطار سياسي قانوني جد مائع. والباشا وحده فقط، يستطيع الفصل في الأمور في مراكش. وفي سنة 1914 بعد أن كانت أراضي الجيش جزءا من أملاك الدولة ، أبعدت النصوص التشريعية هذا القانون العقاري من مسطرات التدبير، بحيث لا نعرف وضعية الجيش سوى عن طريق النفي: نعرف أنها ليست أراضي جماعية ، وليست أراضي الدومين وطبعا ليست أراضي ملك بما أنه لا يجوز التصرف فيها .

وباختصار، احتل باشا مراكش بصفته قائدا للجيش كل الأراضي المعروفة بأنها أراضي اقطاعات، ولكي لا يخلق مشاكل مع الجماعات المعنية فقد قبل الاستيلاء على الدومين الخصوصي للدولة الواقع في الضفة اليمنى لنفيس على «سقية» سعادة .

وفيما بين 1923 و1929 تنازلت الدولة للكلاوي عن العقارات التالية وذلك حسب ما ورد في التقرير الذي أشرنا إليه في الهامش:
سنة عقار هكتار آلاف الفرنكات سنة 1929 فرنك/هكتار 1974
1923 سعادة 2300 150 30
1925 سويهلة 500 40 40
1926 تاملالت 1500 100 33
1928 كولف وحانوت البقال 1000 800 400
المجموع 5300 1090 200

وينتهي كاتب التقرير إلى أن هذا التنازل حدث مقابل دفع المبالغ السنوية «التي لم تكن تمثل حتى القيمة الإيجارية لتلك الأراضي».

بالإضافة إلى «عمليات الشراء» من الدولة فقد منح الباشا حق التمتع مجانا بـ 980 هكتار على ساقية «اجديدة وتامسكفلت باسم أنها إقطاعة لصالح قايد الجيش على سنة 1949 أي التاريخ الذي وضع فيه رسوما لهذه الأراضي في اسمه هو بكل بساطة.

وأخيرا حسب ما يعرف رسميا كان الباشا مؤجرا لأكدال الكبير وأكدال باحمد أي 150 هكتار مقابل مبلغ 150 ألف فرنك (سنة 1932) أي أراضي تعتبر في مراكش علامات السيادة والجاه.

وفي موازاة الممتلكات العقارية للكلاوي استطاع خدامه خاصة الحاج ايدر والحاج محمد البياز أن يستوليا على مساحات معادلة لمساحات الكلاوي إن لم تكن تفوقها وذلك تحت حماية سيدهم. فمثلا استطاع البياز أن يضع في اسمه رسوما لما يقرب من 5000 هكتار .

حقوق الكلاوي في الماء:

رغم الطابع المدهش لتمركز أراضي الحوز في أيدي عائلة وأقرباء الكلاوي وحاشيته فلم يكن له أي إجراء مشترك مع اغتصاب المياه.

ففي حوض الزات استطاع الكلاوي سنة 1953 أن يستحوذ بمفرده على الحق المطلق في توزيع المياه، أولا برفضه حق التقدير حتى لا تتدخل الإدارة في تقنين وتوزيع المياه على شاكلة ما كانت تفعله في أحواض أخرى (نفيس، غيغاية، أو ريكة).

وفي بحث أجراه ب.روش P.Roche وفي عهد الحماية أظهر أن الكلاوي كان يصادر المياه في أعالي واد زات ويوزعها بشكل مخالف:

– كان يستعمل جزءا منها لتوفير أفضل ري لملكياته الواقعة في مسفيوة، خاصة أراضي الساقيات المعنية:

– بالرغم من سقي ملكياته سقيا جيدا خاصة التي فيها الأشجار كان يتبقى له الماء الكافي لسقي الملكيات الواقعة في أسفل الواد خارج مسفيوة . وقد تسبب هذا في مشاكل النقل التي يتغلب عليها بطريقة غريبة ماكرة بل اقتصادية إذا تصورنا مدى ندرة وقيمة الماء. ولنذكر هنا حالة أخذ الماء من واد زات يصل حتى يسقى به ملعب الكولف وحدائقه الواقعة على بعد كيلومترات من الأبواب الجنوبية الشرقية لمراكش. وحتى يتم ذلك يسير الماء في مجرى معقد يناهز طوله 50 كلمترا. فينطلق الماء من الساقية الأولى الناجمة عن فيضان واد زات ثم يعبر واد الحجر في ساقية فيضان هذا الواد ثم بعد تعرجات كانت تشمل مصارف المياه العارية في قنوات بعد خروجه من الأرض يصل إلى الكولف. ولنا أن نتصور مقدار ما يضيع من المياه بفعل التبخر ومدى التسرب في المجاري التي تكون عادة جافة لأنها ساقيات تتكون بفعل الفيضان. بالإضافة إلى ذلك كان يحدث شيء من نوع آخر: فمرور المياه في مجرى طويل كهذا كان يثير أطماع الذين لم يروا قط مياها جد قريبة من حقولهم، وهذا أمر مفهوم. وكان الكلاوي ينذرهم بواسطة وضع حراس «ثقاة» من رجاله في كل الأماكن التي يمكن تصريف الماء منها. وخلال النهار كان الماء يصل إلى هدفه المحدود إما في الليل فكان أولئك الحراس هم أول من يبيع ذلك الماء إلى المستعملين الشرعيين الذين تقع أراضيهم بالقرب من ممر المياه.

– وكان الكلاوي يؤجر جزءا من مياهه إلى مزارعي مسفيوة الذين كان هو نفسه قد نزع أملاكهم منهم. ولم يكن الأمر في الحقيقة سوى ضمان الحصول على ضريبة مقابل ماء النهر. ومعنى ذلك أنه كان يقوم بما لم تستطع إدارة الحماية القيام به بما أنها كانت تعترف بالملكية الشخصية التي تنقص من مقادير المياه بالنسبة للأملاك المخزنية (السابقة 1914).

– وأخيرا كان يؤجر المياه إلى مستفيدين خارج مسفيوة خاصة في الرحامنة، شمال وشمال غرب شبكة واد زيت. ونفس مشاكل النقل المذكورة سابقا كانت هنا موضوعة أيضا.

ونلاحظ هنا أن سحب الماء من أسفل النهر على حساب أعلاه يتجاوز إطار الاحتياجات في حالة الكلاوي: لقد أصبح عنصرا مهما في نسق استغلال مصادر المياه في الحوز الذي أصبح يوفر مداخيل مهمة بواسطة عقود الإيجار. ولم يعد يطرح أي مشكل من حيث أعلى أو أسفل النهر بما أن الماء كان يمر من صهريج إلى آخر عابرا حوض النهر حتى ولو كان جافا.

وحل آخر كان يمكن في إجبار الجماعات الواقعة على أعلى النهر والتي لها أسبقية طبيعية من حيث حقها في السواقي على التخلي عن تلك الحقوق إلى المالك الذي تقع أراضيه في أسفل النهر. وهذا معناه الاحتفاظ بأسبقية أعلى النهر بكاملها على حساب أسفله وذلك باغتصاب تلك الأسبقية وتطبيقها لصالحه.

وكان هذا المبدأ غالبا مدعما ومساندا على هذه الشاكلة: فلم يكن يكتفي باقتطاع كمية الماء اللازمة لري زراعات قطاعه الخاص من الساقية، بل يزيد في قوتها بإعادة حفرها وتوسيعها حتى يوصل الماء إلى الأراضي الواقعة في أسفل النهر.

ونجد نموذجا مماثلا على واد نفيس حيث كان الكلاوي يستعمل ساقية تاركة كان يملكها المخزن ثم المعمرون لكي يجلب الماء بمقدار إجمالي يصل إلى 130/ل/ث تروي 600 هكتار التي كان يملكها في قطاع السعادة.

ونموذج آخر جد معبر تمدنا به ساقية تازمورت أول ساقية تنبع من واد غدات في مدخله إلى السهل، ومصرفها يقع على الضفة اليسرى، في أراضي قبيلة كلاوة. وكانت تلك الساقية ملكا خاصا للكلاوي .

ولم تكن تلك الساقية، في زمن سابق، سوى مصرف بسيط لري مزرعة زيتون كان يملكها الكلاوي وتقع على مقربة من زاوية سيدي رحال غير أن قوتها زادت بشكل محسوس منذ سنة 1914 على حساب ساقيات أسفل النهر. وبما أن الماء لم يعد في الإمكان استخدامه كله في مزرعة الزيتون فقد زيد في طول الساقية. ونتج عنها مباشرة قناة أخرى تخترق ساقية أفياد بواسطة قناة، بعد أن تمر في مطاحين الكلاوي، تصب في واد غدات الذي خرجت منه في نقطة أعلى. ثم يؤخذ الماء ثانية في أسفل النهر بواسطة ساقية تاخيارت الواقعة على الضفة اليمنى، ولكنه لا يدخل ضمن تقسيم مياه هذه الساقية (رغم أنه يزعج المستعملين): بل كان يستعمل لسقي أراضي الكلاوي أو يؤجره لآخرين. وقبل أن يصب الماء في الواد فقد تطلب نقله أشغالا كبيرة لكي يخترق التضاريس الصعبة الموجودة في سفح الجبل (حيطان للتدعيم، أنفاق، سواقي مرتفعة عن سطح الأرض).

وكان تركيز الكلاوي للمياه في واد نفيس أمرا ملحوظا. فبينما كانت الملكيات العقارية تغطي 8% من المساحة المزروعة في مخروط واد نفيس، كان الباشا يستولي على 15% من مجموع منسوب تدفق مياه النهر كملكية شخصية، و3% كإقطاعة على «الجيش» أي 18% من مجموع المياه .

أما على مياه واد وريكة فقد توصل الحاج التهامي الكلاوي سنة 1918 إلى أن يجعل إدارة الحماية توافق على أن يستولي هو على ثلثي مياه تاسولتانت، وهي ساقية ممتازة. ولم يكن ذلك بلادة من طرف الإدارة بل لأن موظفيها كانوا «يرفعون أيديهم… عاجزين» أمام قدرة الكلاوي على غلبة كل معارضيه. وإلا ما القول؟ فحين أخذت الإدارة العامة للفلاحة والاستعمار تضع جردا لحقوق المياه على وريكة، اكتشفت أن الكلاوي كان يملك ثلثي منسوب هذه الساقية. ولكنها نجحت في جعل الكلاوي بصفته «أميرا شهما» يقبل التعويض الذي أعطته إياه ويجعل الشركاء الذين لهم الحق أن يخلوا المكان. ولكنها اكتشفت بعد عدة شهور أن حقوق الكلاوي على تاسولتانت لم تكن تبلغ 3/2 ولكن ثلثا واحدا. وأن الثلثين الباقيين هما ملك لمسفيوة التي يجب التفاوض الآن معها… بواسطة الباشا بالطبع! مسخرة حقة قام بها الطرفان بجدية وبكل الحيثيات المتبعة: «إن حقوق الماء في قطاع تاسولتانت ستكون غير مهمة، بدرجة محسوسة، ثمل ما كان عليه الأمر من قبل، اعتمادا على المعلومات التي أوردها في 9 ماي/أيار 1922 مراقب الأملاك المخزنية الذي أكد أن تاسولتانت تتوفر على 3/2 منسوب مياه واد وريكة في الصيف.

«وهذا التشريع الذي طبق طيلة المدة التي كان للباشا فيها حق الانتفاع ببلاد تاسولتانت لن يعترف به الآن من طرف المستعملين في أعلى النهر خاصة من طرف القائد الوريكي قريبه. وسيقدم هؤلاء رسوما تثبت أن كمية المياه من واد وريكة التي لهم الحق فيها، في المتوسط وفي حالة انخفاض مستوى المياه ستعكس. أي أن تاسولتانت لن تستفيد سوى من ثلث الكمية أي نصف ما كان موجودا ».

وبعد بضعة أيام قام أحد رجال الإدارة العامة للفلاحة والاستعمار بالإدلاء برأيه في مذكرة سرية تحمل تاريخ 30 أبريل/نيسان 1924:

إن المخزن يستولي على ثلثي مياه الصيف وتستولي قبيلة وريكة على الثلث وإذا استطاعت هذه الأخيرة ببعض المراوغات والحيل أن تأخذ أكثر من ثلث منسوب الواد فذلك الواقع لا يعني حقا، ولكن تعسفا يجب أن يوقف عند حده. ولا جدوى من الاعتقاد أن قبل إقامة الحماية، وباعتبار شكل وروح الحكومة الشريفة القديمة، كانت قبيلة وريكة تأخذ ثلثي منسوب الواد والمخزن الثلث فقط بل العكس هو الذي كان يحصل أي أن المخزن كان يستولي على منسوب المياه التي يرغب فيها حتى ولو أدى الأمر إلى جفاف النهر. وإذن فإذا تمسكنا بممارسات رجال المخزن فإن مجموع مياه واد وريكة كانت تسحبها ساقية المخزن حال ارتفاع مستوى المياه. غير أن قيادة واحدة انتصرت ضد هذا التعسف فقبل ضمنا أن الوريكيين لهم الحق في ثلث مياه النهر أثناء فصل الحرارة.

وهذه الحالة التي وجدناها سنة 1912 قد استمرت إلى يومنا هذا.

ذلك أن بلاد تاسولتانت بما أنها كانت إقطاعة للباشا الكلاوي فمن الصعب الاعتقاد بأن هذا المؤجر سيسكت عن المساس بحقوقه والمساس بالعرف الجاري به العمل.

«فمن العبث أن نعارض هذه الوضعية الفعلية الموجودة قبليا والتي تولدت عنها وضعية الحق بالعقد الموثق بتاريخ 4 رمضان 1333 الذي ينص على أن الوريكيين لهم الحق في الثلثين والمخزن في الثلث».

«فلصالح الأخلاقية الإدارية من الأفضل أن لا نعير اهتماما لهذه الوثيقة لننتظر أن يؤكد عكس ذلك الأشخاص الذين سيعينون كممثلين للدولة».

وأنا كشاهد على هذه الحقبة أتذكر أننا في قرارة أنفسنا كنا نعتبر دائما أن القضية قد سويت على أساس عقد 4 رمضان 1333 بأن نسبة الثلثين هي للمخزن والثلث هو للوريكيين. ونعترف حقا أننا لم نحصل قط على النسخة الأصلية للعقد.

ثم ما قيمة هذا العقد؟ وفي أي شيء يلزم الدولة؟ ولكي يمكن معارضة الإدارة به كان لا بد أن تثبته هي».

والواقع أنه في كل تلك الإجراءات نشعر أن الإدارة لم يكن أمامها طريق سوى ما يرغب فيه الباشا الذي يدفع دائما شركاءه ثم مسفيوة ثم الوريكيين وأخيرا صهره القايد الوريكي وفي كل مرة كان هو الحكم الذي تبعثه العناية الإلهية وهو وحده القادر على أن يعرف العرف، وينقد الإدارة من المأزق الذي وضعها هو نفسه فيه من جراء فرض الحلول التي يريدها هو.

ويجب أخيرا أن نسرد استخدام الوسائل الأكثر سرعة والتي غالبا ما تثار في التحريات، تلك الوسائل التي يمكن في الإلقاء بالحائزين على حقوق المياه في جوف الأرض (المطمورات) إلى أن يأتي أهاليهم بعقود الملكية .

وبديهي أنه ليس لنا أي دليل على هذه الممارسات غير أننا مقتنعون بأنها تظهر متلائمة مع نظام الاغتصاب والتطاول على القايدية.

مداخيل الباشا:

بما أن الحاج التهامي الكلاوي يكون نموذجا متطرفا للقايد الكبير في حوز مراكش يبدو أنه من المفيد بحث أصول مداخيله على حسب المستطاع معرفته من مصادر موثوقة أي قبل أن يصبح قويا ويمنع كل تحري حوله ويخفي كل معلومة. وبفضل التقارير المحفوظة في أرشيف وزارة الحربية وأخرى محفوظة في إدارة الشؤون السياسية (مصلحة الاستخبارات العامة الفرنسية) ، استطعنا أن نلقي بعض الأضواء على عالم من الممارسات الخفية الفعالة استطاع بواسطتها الباشا أن يصبح ثريا عن طريق الاقتراض. وقد كان من الممكن أن لا تعطي هذه الدراسة سوى إفادة من قبيل الحكايات وبالتالي مظاهر تبعث على الغثيان لو لم تكشف لنا الوسائل المستخدمة نموذجية تحريف الأعراف والمعاملات القديمة وتقنين ذلك بقوانين عصرية حتى تعطي صبغة المشروعية للامتيازات القايدية. رغم شهرة الباشا بهذه الممارسات لم يكن هو المحتكر الوحيد لها! ففي الحقيقة كان كل قايد وكل تابع له يتوفر على قسط من النفوذ في النظام القايدي، يستفيد من الامتيازات كل حسب إمكاناته .

بنية المداخيل:

– راتب عن الوظيفة 2% من مجموع الدخل

– تخفيضات ضريبية 20%

– أرباح وإعفاءات من الضرائب 4%

– ابتزازات «وضريبة الحرب» 14%

– مداخيل عقارية حضرية 8%

– مداخيل عقارية قروية 20%

– مداخيل من المناجم 32%
ـــــــــــــــــــــــــ
100

ومن الممكن تقدير المجموع سنة 1953 بـ 5 مليون فرنك (1974) والتخفيضات الضريبية التي تكون فصلا مهما من المداخيل هي من خاصيات آثار «القايدية الضريبية» وهي فترة كانت أهم المداخيل تتكون من ضريبة الحرب أي «الفريضة» أي «المساعدة الواجبة اتجاه السيد لكي يغطي نفقات مسؤوليته، على جميع السكان الرعايا. (الغير المعفاة من الضريبة بظهير خاص. انظر تامصلوحت) وهذه «الفريضة» السيادية تحولت إلى الفرض أو ضريبة الرؤوس في عهد الحماية .

ولم يعرف أبدا مبلغ الفرض الذي كان يؤدي للباشا. وتدور مختلف التقدريات حول مليون فرنك (1974). ونعلم هذا فضل التسوية التي تمت بين الباشا وإدارة المالية سنة 1931 لإيجاد حل لضمان تغطية أقساط القرض. فقد قدر الفرض سنة 1935 مثلا بـ 1.8 مليون فرنك (أي 1.3 مليون فرنك سنة 1974): كان الحاج التهامي يحتفظ بـ 10% منه (أي 180 ألف فرنك) ويؤدي مليون فرنك كتقدير لتأدية ضرائبه إلى قباضة مراكش، والباقي لتغطية الأقساط السنوية للقرض. وإذا كان المبلغ المستحق لضرائبه أقل من مليون، يحتفظ له بالفرق .

وقد أثارت قضية الفرض عدة مراسلات ذلك أن الباشا رغم انه لم يكن وحده المستفيد رسميا من اقتطاع يوصف بأن مخالف للعصر وأنه «فيودالي»، فقد كانت تصرفاته فيما يخص الضرائب تثير أعصاب كل المصلحين. وقد قام المحامي زروق المنتدب في المجلس الثالث يعارض الحكومة في العبارات التالية:

«من البديهي أنه يجب التخلي عن نظام النسب المائوية المقتطعة في ظروف غامضة ويجب منح القياد والشيوخ، خدام الدولة مرتبات حسب المهام التي يؤدونها. ففي ذلك ضمان لهم وللملزمين بدفع الضريبة. فهناك 560 قايد يتقاضون 180000 مليون أي في المتوسط 327000 فرنك لكل واحد، و3000 شيخ يتقاضون 120 مليون أي في المتوسط 40 ألف فرنك لكل واحد سنويا. وهذه الأرقام كافية للدلالة على عدم جدوى هذا النظام إذ لا يمكن أن يصدق أحد أن الشيخ مهما كانت حالته متواضعة يستطيع أن يعيش بمرتب 40 ألف فرنك سنويا يكاد يعادل ما يتقاضاه رئيس فرقة عمال» .

وبالإضافة إلى الفرض والتخفيض من الترتيب كان الحاج التهامي يستفيد من تأدية إجمالية تبلغ 45000 فرنك يتقاضاها عن مدينة مراكش كتعويض عن الإعفاء القديم الذي كان يستفيد منه مقابل الرخصة (مكوس وحقوق الإخلاء) وري مجاني لكل حدائقه وملكياته الواقعة في المدينة.

ولائحة الابتزازات والضرائب الخصوصية طويلة وبدون شك ناقصة. فداخل مدينة مراكش ذاتها كان الباشا يتقاضى باسم شرطة الليل والحراسة مبالغ نعتبر أنها شكلا من العصابات أو الشرطة الخصوصية . وكان يقتطع ضرائب خاصة أخرى غير محدودة يأخذها من أصحاب الدكاكين والخرازين وبائعي الزيوت والدباغين وبائعي الفواكه الجافة والصباغين وسوق الحبوب والموازين والكيالين والبغايا .

أما في البادية فقد كان الباشا يفرض على سكانها الاعتراف به كخليفة حقيقي للسلطان وكان يتشدد في المطالبة بتقديم نفس الاحترام ونفس الانحناءات التي تقدم حركيا وماديا، والتي كانت تقدم للمثل السابق للسلطان في مراكش. فكان يتلقى «الهدية» في كل احتفال كبير، وكانت تعبيرا عن مبايعته وتطور ذلك تدريجيا نحو الاعتراف بسيادته.

وتلك الهدية التي كانت في السابق احتفاء عينيا أصبحت بعد ذلك تأدية إجبارية نقدية. فبعد حصاد 1937 نظم الباشا جولات في الجنوب لاستلام المبالغ الضرورية له ولحاشيته للقيام بزيارة ودية إلى أوربا وعند نهاية هذه الحملة عاد بمبالغ ضخمة من المال ولكن في نفس الوقت ملأ سجنه الخصوصي في تلوات بمآت من المتمردين .

وبالإضافة إلى «الهدية» و«المونة» «التموين»، كان الباشا يتلقى نصيبا من الأغنام في فصل الربيع وآخر في عيد الأضحى (كان كل شيخ يوجد في مقاطعته يعطي خروفا). أما حوالات التخفيض على «الترتيب» التي كان يتمتع بها رسميا الشيوخ فقد كان هؤلاء يتسلمونها ويعطونها لرجال الباشا إجباريا وبهذا كان يستولي على مجموع التخفيضات. وكان المؤجرون في تاسولتانت وأغواتم الذين توسط لهم الحاج التهامي ولم ينجح في الحصول على وقف تنفيذ إجلائهم من أراضيهم بغرض توزيعها لصالح الاستعمار، قد حصلوا على تعويض، مقابل ذلك الإجلاء، لكن دفعوا نصفه إلى الباشا ليعبروا عن امتنانهم له على تدخله لصالحهم. وفي القطاع الذي كان تحت مراقبته كان الباشا يتمتع حسب ما يقتضيه الحال، بحق اقتطاع أربعة أيام عمل دون أجر من كل أسرة (كلفة) حتى يعتنوا بزراعاته الخاصة . والمحاصيل لم تكن فقط تحصد وتنقل إلى أماكن الدرس مجانا وكأشغال شاقة ولكن السيد كان يفرض على القبيلة أن تنقل المحاصيل على نفقتها الخاصة إلى أماكن التخزين أي إلى تلوات ومراكش . ونجد في هذا التقرير المجهول المصدر ما يلي:

«يملك الباشا أغلبية الأراضي الصالحة للزراعة المحيطة بتازرت . والقائم عليها من مهمته توفير اليد العاملة اللازمة، فكان يسوق أربعين أو خمسين رجلا يعملون بالإكراه بحيث أن كل فرد كان يجد نفسه يؤدي يوما كاملا من العمل كل أسبوع دون أجر. ومن يرفض الخضوع لذلك كان يزج به في السجن . وطبعا كان العديد منهم يرفض أن يعامل كالعبيد فكانوا يهاجرون تازرت ويتوجهون إلى الدار البيضاء أو الرباط أو أماكن أخرى. وقد غادرت 100 أسرة تازرت منذ صيف 1935. وبذلك انخفض عدد العمال إلى عشرة أو 15. ويبدو أن تازرت تمثل نموذجا كاملا لقصر إقطاعي محاط برجال السخرة التابعين له. ويتناقل الناس أنه من المستحيل الإقامة بتازرت إلا بشرط القيام بكل الأشغال الشاقة التي يفرضها السيد وهؤلاء لا يحاولون حتى تقديم الشكوى لأنهم متأكدون أن سلطات المراقبة ضعيفة».

وقد تذكر الكلاوي مسؤوليته بصفته مزواري فقام بتحديث الاستعمال القديم لعادة «البادي»: فهو الأول الذي له الحق في بيع محصوله من الزيتون والمشمش واللوز والنعناع. ويشتري بأثمان أقل من الثمن العادي وليس لأحد الحق في أن يبيع لآخرين غيره حتى يشتري الكلاوي القدر المطلوب من الصنف المرغوب فيه. وقد كان يحتكر وحده سنة 1938 تجارة اللوز في وازكيت. والمقرضون في مراكش يقدمون للكلاوي مبالغ كتسبيق لشراء اللوز في الشجر.

وفي ظرف بضعة أسابيع يشتري مجموع محصول اللوز، في سكتانة (الجانب الجنوبي) والحوزية وأوتلين. وبالتالي فكل لوزة تحمل إلى السوق تكون في ملكية الكلاوي، ثم يسلم اللوز إلى القياد والمقرضين الذين يبيعونه ثانية أثناء الأعياد الإسرائيلية وطيلة شهر رمضان والأرباح يتقاسمها مناصفة الباشا والقياد والمقرضون.

غير أن أكبر حصة من الابتزازات حسب أقوال الذين عرفوا الكلاوي والتي لا يمكن التأكد من صحتها، كانت تأتي من تسوية الأمور القضائية. فباسم التحكيم والعدالة التي أصبحت من شأن الخواص، اخذ النظام القايدي يحول لفائدته الأعراف القديمة والغرامات والصدقات التي كانت من حق الجماعة ، وقد صور بعض الإداريين الكلاوي على أنه عدو لدود للقضاء العرفي لأن «شراء فقيه هو أسهل بكثير من شراء الجماعة» غير أن هذه الحجة واهية إذ يجب التمييز، كما هو الشأن بالنسبة لكل عمل يقوم به الكلاوي، بين الأراضي التي تبدو له أنها جزء من أراضيه وبين الأراضي الأخرى التي يسيطر عليها. ففي كلاوة رغم أنه لم يكن ليترك للجماعة أي استقلال ذاتي، فقد كان يحترم الأعراف والعادات: وتدخل الشرع فيها ضعيفا. أما بالنسبة للجماعات الأخرى فقد كان القضاء يمارس باسمه الخاص أكثر مما يمارس باسم الشرع، غير أنه كان يبرر إلغاء العادات بضرورة تطبيق الشرع.

وعلى هذا المنوال كانت شمولية القوة والنظام القايدي الذي ترك الكلاوي عليه طابعه في الحوز إلى درجة أن نفسية سكان الحوز ومراكش ما زالت متأثرة إلى حد كبير بذلك الطابع وإلى يومنا هذا رغم أن كل ذلك أصبح في طي التاريخ.

إن السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا والذي طرحه معظم الإداريين في مراكش هو مدى الحتمية والاحتمال في ظاهرة القايدية. ونظل مشدوهين أمام قوته ومعارضته للعصر إذ ذاك. وبعبارة أخرى، هل كان القضاء على النظام الكلاوي سيؤدي إلى الفوضى كما حلا لبعض القول؟ هل كان النظام القائدي ضروريا وحتميا لدعم النظام الاستعماري؟ أم العكس هو الصحيح بحيث كانت الإدارة الفرنسية في تلك المنطقة غير مباشرة فعلا، ولم يكن المغاربة محكومين إلا من طرف مغاربة آخرين؟

ومع ذلك فلم ينكر بعض المراقبين الاستعماريين لسياسة القياد الكبار، أن الكلاوية كانت شرا لا بد منه. نجد في مذكرة مجهولة الكاتب: «لقد ندمنا لكوننا قضينا على القياد في بعض المناطق دون أن نعوضهم».

«ولم يعد أمامنا سوى شذرات لا تأثير لها لأنه لم يعد لدينا الوسائط المسموح بها بيننا وبين الأهالي. إن السكان لم يعد لهم من يؤطرهم ويتحتم علينا أن نوفر لهم تلك الأطر» «لم يعد لنا أي سند لدى الشاوية (الجزائر) بما أننا قضينا على كل شيء وأصبح الكل مسوى اجتماعيا. لقد حطمنا هناك القيادات الكبرى كما ورد ذلك في «المذكرة البربرية» وكما هو مطابق لسياستنا المتعلقة بالأهالي، غير أننا لم نبال بضرورة تعويض القوة التي أزلناها بوسائل عمل أخرى جديدة» .

ونفس الموقف عبر عنه بعد ذلك في عبارات لا تختلف عن سابقاتها: «كيف أن نظاما (قايديا) يمثل في صفائه شكلا من الإدارة والسياسة يصعب على فكر ليبرالي أن يتقبله أو يتصف شيئا ما بالعدالة، يمكن أن يحافظ على رصيد من النفوذ وذلك خلال تطور ذكي وتكيف مع سلطة مركزية لا تجيزه إلا بصعوبة، وسيكون من اللامجدي بل من الخطير التضحية به، وسيؤدي إلى جعل الشكل الجديد من السلطة التي قد نقيمها عوضا عنه أمرا تافها ».

كما يجب أن نلاحظ جيدا الاستمرارية التي لا جدال فيها لنفس السياسة التي استخلصت بعض العبر من المغامرة الاستعمارية في الجزائر وقد قامت بكل تبصر بتقوية أو العمل على خلق النظام القايدي وذلك منذ صدور تعليمات ليوطي سنة 1912 ، التي تهدف إلى مجرد الاقتصاد في الوسائل الحربية إلى أن خلع ونفي محمد الخامس بحجة محاربة الحركة الوطنية واحتجاج البرجوازية الحضرية.

وفي الوقت الذي حصرت فيه الحماية السلطان الشرعي للمغرب في قصره داخل بلده، أعطت حرية كبيرة في العمل والحركة للكلاوي الذي كان غالبا ما يسافر إلى الخارج بدون أن يحتاج لأي إذن رسمي بذلك، ويتصل بمختلف الشخصيات السياسية الدولية الفرنسية والانجليزية على وجه الخصوص، ويتمتع بحياة مترفة فخمة وله أملاك تفوق ممتلكات السلطان نفسه ويمنح نفسه تسميات وكأنه رئيس الدولة .

ولا شك أن فئة كبيرة من القادة الاستعماريين التي بدأت تتقوى شيئا فشيئا قد كانت ترغب منذ البداية في أن تمنح الكلاوي مكانة سياسية أهم من مكانة السلطان.

والضربة القاصمة التي تمت سنة 1953 إنما كانت بذورها تعود إلى سنة 1936: إنها لم تكن حصيلة اختيار شخص معين ولكن اختيار مجتمع معين.

وفي الحوز، وحتى لا نتعدى هذا المجال الذي استطعنا أن نجمع وثائق عنه يبدو أنه مما لا جدال فيه أن الحماية قد اختارت تدعيم النظام القايدي الذي كان الكلاوي أكبر ممثل له ويتمتع بالحماية الفرنسية، وكانت ترمي من وراء ذلك جعل نظامه نموذجا للسيطرة على المجتمع لسيطرة على المجتمع المغربي بكامله.

ح-الكوندافي:

إن الصعود الاجتماعي السياسي للطيب الكوندافي ليمدنا بمثال آخر عن نمو القايدية في الحوز. غير أنه كسيد حرب ورئيس عائلة الكوندافي لم يتجاوز مستوى الفيودالية الضريبية مثل الكلاوي والعيادي، وفي مستوى أقل من عبد المالك المتوكي وذلك أن نحن اقتصرنا فقط على الشخصيات المرموقة.

وليس غرضنا هنا أن نعطي التاريخ المفصل لبروز السلطة الفردية لدى الكوندافيين ، ولكن نرمي إلى أن تلقي الضوء على الخاصيات المرضية للقايدية قبل الحماية، من خلال تقديم نموذجين (أو ثلاثة) يشتملان على دلائل كافية.

حين نحاول تحليل السلوك الاجتماعي والموقف السياسي للقياد خلال تلك الفترة المميزة كل التميز لصعودهم، تعوزنا دائما الوثائق الأصلية أي الكتابات التي هي جزء لا يتجزأ من النشاط الذي قاموا به وليس الاعتماد على مجرد الشائعات المروجة بغرض الإطراء أو إطلاق الأحكام. وحتى لو وجدت تلك الوثائق وبوفرة وتصف بدقة مظاهر نواياهم وممارستهم، فإن الباحثين نادرا ما تتاح لهم فرصة الاطلاع عليها وبالتالي يضطرون لتقديم وصف عائم ومن الزاوية المرئية الواضحة فحسب.

وقد ساعدنا الحظ في الحصول على أهم الأرشيفات العائلية المتعلقة بأربع قياد كبار وحكام مراكش، تتناول أساس الفترة السابقة على سنة 1912 وبهذا نتوفر على ما يقرب من 2000 وثيقة تاريخية يتكون الجزء الأكبر منها من المراسلات العائلية. والصعوبة الوحيدة التي واجهناها في هذا النوع من الوثائق هي أنها توجد في مجموعتين:

مجموعة يمكن تسميتها شبه عمومية ذلك أنها تحتوي على رسائل شريفية «للتقديم» présentables خاصة ظهائر التعيين، ورسوم الملكية والعلاقات بين الأحداث الايجابية أما المجموعة الأخرى فمخفية أو مبعدة، وغالبا «منسية» وفي حالة سيئة وأتلف جزء منها وهي تتضمن المراسلات الشخصية وذكر فترات الضعف، والخلع، والحجز. وبما أن الورثة غالبا لا يهتمون كثيرا بما جاء في تلك الوثائق فهم لا يكلفون أنفسهم عناء قراءتها أو تصنيفها .

لذلك فالمجموعتان حين لا تتلف أو تباع لهاوة جمع الوثائق، ينتهي بها الأمر إلى جمعها في صندوق واحد، وحينذاك يمكن التوفر على سلسلات متصلة من المعلومات تبين الوجه المرئي والمخفي وراء بعض الأحداث .

والأرشيف الكامل للكوندافي الذي استطعنا أن نصنفه ونترجمه يشتمل على 405 نص كتب بين سنة 1671 و1957 ويتعلق بنفس السلالة: 307 نص مؤرخة و98 ليست تامة. ما عدا 15 نصا يمكن تحديد تاريخها بسهولة، نجد فيها بغزارة تاريخ كل الأسرة: النصوص الأكثر قدما تتعلق بالملكيات (الأشجار والمياه) وعقود الزواج. ومنذ 1850 تتعلق بتقارير سياسية مع المخزن الذي يتصدر المكانة فيها ثم تطغى المشاكل المالية والحسابية للمحصولات. ولكن نعثر فيها هنا وهناك على أخبار تتناول «اختطاف بعض الخادمات» وحكايات تتكلم عن فرار مجند ما، ومتمنيات للمطر، وسرد للمساعدات المقدمة ووصف بعض الأوبئة، وطلب ملابس الصيف من طرف الشركاء. وتقرير عن «التويزة» والدرس، وعقود البيعة لشيخ ما. كما نعثر فيها على صيحات الرعاة الصغار حين يطلبون الملابس أو يؤاخذون المالك على عدم عنايته بهم أو احد المؤجرين، حين يطلب الزيت لأن خدميه لا يمنحهم الزيت مما يؤثر على عملهم الخ.

وفي هذا الجبل من الوثائق اخترنا بعض العينات التي لها دلالة والتي يمكن أن تلقي الأضواء على الإجراءات المعمول به.

شراء المسؤولية القايدية سنة 1905.

سمى السلطان المولى عبد العزيز الطيب الكوندافي سنة 1905 قايدا على غيغاية وسكتانة ومجاط وناظرا على زاوية تامصلوحت . ونتوفر حول شروط الحصول على هذه التسمية على 20 وثيقة نصف العملية بتفصيل وخاصة رسالة من الطيب موجهة إلى إخوته:

الحمد لله وحده

خلائفنا الارضين الأخوين الارشدين إبراهيم ومحمد وولدنا الحسن وفقكم الله وسلام عليكم ورحمته وبركاته وعن خير سيدنا نصره الله وبعد فلا زائد لله الحمد وله الشكر والأحوال منا صالحة وجميع من معنا بخير لله الحمد نسأله تعالى كونكم كذلك مع جمع الشمل إليكم عاجلا بأحسن حال وأكمله بجاه النبي وءاله ءامين هذا وقد كنا قدمنا إليكم قدومنا بعد جواز العيد والهدية فإذا به ورد الحضرة الشريفة صانها الله نصراني نائب دولة فرنصيص دمرهم الله يطلب من المخزن أمورا وبسبب قضيته حصرنا المخزن هذه الأيام ويوم الكتب وأعدنا المخزن أعانه الله بالوداع يوم السبت القابل ويوم الاثنين أمامه ثامن التاريخ نسافر بحول الله إليكم مع هؤلاء العمال رفقة واحدة بلا شك أن شاء الله وعليه فاعلموا أن مولانا أيده الله بسط لنا ردى الرضى والقبول وساعدنا في جميع المطالب وقضى لنا الاغراضات كلها لأنفسنا ولمن تعلق بنا حمدا لله بالسعادة إلا أننا أخذنا عدة من الدراهم عند الناس دفعناها للمخزن على ذلك وعاملنا مع أرباب الدراهم أول دخولنا ووصولنا لمراكش ترد لهم دراهمهم في الحال وإن تأخروا عن وصولنا إليه بالانترايس حفظنا الله منه والآن بوصوله إليكم إن لا زلت أيها الأخ إبراهيم بالبلد فتتلاقا مع الأخ محمد وافرضوا شيئا من المال على الايالة كلها جبلا ووطاء واحسبوا كلا بما يصلح ويليق ويناسب وأرسلوا للأشياخ كل قبيلة وبيتوا كل ما جاءه وناب إخوانه وحرضوهم بأداء ذلك عزما عاجلا نجده ميسرا موجودا تحت اليد ولا بد كونوا على بال من ذلك وقوموا له بالجد واليقين ونضضوا بحيث لا هرج ولا طيش يحدث بذلك فافهموا أعانكم الله واخدموا أحسن السياسة وأكمل تدبير أرشدكم الله ووفقكم وألهمكم أصلحكم وأصلح بكم وكون بكم كل خير ءامين والسلام في 29 حجة الحرام عام 1322هـ ومنه فافرضوا اثني عشر ألف ريال بحسب كل قبيلة بما يناسبها وما جاءها مع سكتانة وزكيتة وامطاع وقدميوه واحضروا أشياخ كل قبيلة حتى تجعلوا لكل شيخ ما نابه وجاءه وكلفوه باذائه واحبكوا الأشياخ بأداء الجميع واضبطوهم وبعد ونضضوا ذلك عزما عاجلا بحيث إذا وصلنا بسلامة لمراكش إن شاء الله نجد كلا منكم من الخلائف حاز ونض تحت يده ما ناب من يحركه من القبائل فلا يقبل عذر ما ولا تأخير ما عند مجيئنا إن شاء الله ولو أن تنضوه من أنفسكم وافرضوا على الإخوان قبيلة واد النفيس كذلك ما أمكن ولاق واخرجوا الجميع من الناس بلطافة وحيلة وحسن سياسة بدون هرج ومطيش. افهموا أعانكم الله وها كتاب قواد سوس وأصلوه لهم ولا بد أصلحكم الله والسلام.

ولكي نوضح موضع الرسالة فإن عدة وثائق وخاصة رسالة وجهها من فاس اثنان من مرسلي الأغنام إلى إبراهيم أخ الطيب الموجود في أكركور. ويشرحان فيها أن السلطان قد استقبلهما بعد خمسة أيام من العيد وأنهما سلماه الأغنام. «ويقال أن القائد المكلف بمسفيوة ودمنات ورهوجدامة. ولكننا غير متأكدين من ذلك. وقد صفى الطيب جميع الحسابات مع عبد العزيز برادة واستطاع أن يضيف 1150.5 ريالا».

وفي الواقع في 21 فبراير/شباط 1905 أصدر السلطان ظهيرا يعين فيه الطيب على إدارة قبيلة غيغاية . وقد حصل الطيب في 9 مارس/آذار من دار بروشفيك وشركاؤه شيكا مؤرخا بـ 5 مارس/آذار. «بعد شهرين من هذا التاريخ نرجو أن تدفعوا مقابل هذه الرسالة مبلغ 5 آلاف دورو نقدا مخزنية قيمة مستحقة على السيد القائد الطيب الكوندافي في مراكش». وقد كتب الطيب على الهامش بالعربية ندين للتاجر برونشفيك بـ 5 آلاف ريال نردها له في بحر شهرين «2 محرم 1323». وقد أعيد الشيك للسيد عبد العزيز برادة (وزير المالية). ووقع على ظهره بتاريخ 25 ابريل/نيسان 1905 في طنجة. ورسالة أخرى للتبديل Change 1200 دورو مثل الأولى وموقعة من طرف نفس الشخص وكتبت في 12 مارس/آذار. وفي 14 مارس/آذار عين الطيب في إدارة زاوية تامصلوحت وسكتانة، وعلى قبيلة مجاط في الحوز .

وفي 3 مايو/أيار بعث الطيب بورقة إلى أخويه وابنه تحمل هذه الكلمات الألغاز: «ابعثوا البغال لحمل الأشياء الثقيلة. يجب أن تكون قوية، وانتبهوا. افعلوا ذلك بسرعة ذلك أن الشريف (السلطان) سيخرج بوم السبت. ابعثوا 10 بغال من كدميوة، و4 من أولاد مطاع، 4 من وزكيتة. 4 عن سكتانة الجميع 22». وهذا يعني نقل القطع النقدية للفرض، ومن هنا يمكن تقييم الضغط الضريبي النسبي الممارس على القبائل الاربع. ونذكر هنا أن سكان تلك القبائل كان على النحو التالي وذلك في سنة 1917

أسر عدد البغال

كدميوة 5600 10

ولاد مطاع 1400 4

وزكيتة 1160 4

سكتانة 1200 4

والرسائل المتعلقة بتأدية المبالغ ظلت تصل إلى نهاية شهر يونيو/حزيران. فمثلا كتب يوشا. كوركوس إلى الطيب في 13 يونيو/حزيران: لقد توصلنا برسالتك التي تطلب فيها أن أسلم لصديقك سيدي على بن ولد الدرقاوي مبلغ ست مائة ريال. وقد سلمتها له بحضور سي لحسن راني. وأديتها له على حسابك».

ولكن بعض القبائل قاومت ذلك فأرسل الطيب بعض الفرسان. وقد كتب الطيب إلى أخيه رسالة بتاريخ 23 يونيو/حزيران 1905:

أخبرت به من مشافهتك أعيان شرفاء تمصلحت وعوامها على أداء الترتيب وصوبتم لها الزمام وقرأ عليهم وسمعوا وأطاعوا وقاموا للأداء وصار مولاي الحاج يوسوس لبعضهم لخ ما شرحت كنا من ذلك يبال كما كنا ببال من كونك نازلا بسجتانة لتحريضهم ووزكيتة على أداء الترتيب وأن الناس شرعوا في الأداء معاذ شياطين غغاية لا زالوا يتلوون ويروغون لخ وبما وقع للظالم الفأر ببهائمه وتبعه الأصحاب ووقع عليه البارود مع فساد دوار تكانة ودوار مولاي إبراهيم نفع الله ومات من المفسدين موتين دمرهم الله لخ صرنا من ذلك ببال فقد كتبنا للمخزن بذلك وأنت فلا بد أصلحك الله رغم الناس على أداء ترتيبهم عزما عاجلا وارتكب السياسة لأولاد الحرام حتى نقضو الغرض.

وفي 30 يونيو/حزيران انتهى مجموع العملية بوصل محمد التازي: «أنا الموقع أسفله اعترف أنني توصلت من الطيب الكوندافي (المبلغ) الذي يدين به لصاحب الجلالة أي 25 ألف ريال. 26 ربيع الثاني 1123».

وفي النهاية يكون الطيب قد أدى 23350 ريال (170000 فرنك 1974) وللحصول على حكم ولاية غيغاية ومجاط وزاوية تامصلوحت أي حوالي 4000 أسرة. ولجمع هاته المبالغ باع كل محصول اللوز والجوز إلى شركة برانشفيك Braschewig المقرضة إلى صمويل Samuel وكوركوس Corcos وجعل القبائل يدفعون المبالغ. وقد دفع المخزن في الصويرة لتأدية الأقساط السنوية للدين وشراء الأسلحة لكي تستخدم ضد القبائل لاقتطاع الضرائب بصفة أكثر، الخ.

وقد كانت هذه هي الحلقة المفرغة التي تدور فيها الوضعية السياسة الاجتماعية التي تدهورت أكثر فأكثر وأعطت سلطة أكبر للقايدية إلى حد انهيار دولة المخزن والاحتلال الأجنبي. وسنرى فيما بعد أنه لملء هذا الفراغ السياسي الناجم عن هدم المنظمات القبلية اضطرت السلطة السياسية الجديدة للحماية إلى ترك المنظمات التي عملت هي على خلقها، دون وعي منها في مكانها.

الاقتطاع الضريبي:

لن نعود هنا إلى التمييز بين الاقتطاعات القانونية والاقتطاعات القايدية. نريد فحسب أن نأتي ببعض النصوص التي توضح الظروف التي كانت تتم فيها تلك الاقتطاعات خلف المستوى الرسمي والعبارات المخزنية.

وقد كان قصر تاكونتافت الذي بناه والد الطيب الكوندافي كأشغال شاقة مفروضة، على أعلى وادي نفيس، يشتمل في مدخله، مثل باقي الحصون في ذلك العهد، على ملحق يحصنه باب مزدوج ضخم من الحديد حيث كان يقيم الحراس والبواب وحيث كانت تدفع الضرائب على شكل تموين وكان البواب يقوم في الحقيقة بحساب المخزون في سجل الدخول والخروج وكان يسلم وصولات تدفع كل اعتراضات لاحقة. وقد عثر على بعض الصفحات من هذا السجل ممزقة ومبتورة، في أنقاض تاكونتافت مع بعض الوصولات. وطيلة السنوات 1896-1897 نجد أن عبارة «مونة» (تموين) تتكرر أمام أسماء بعض الأسر فمثلا في صفحات سنة 1314 (1897-1896) 5 ربيع الثاني (13 شتنبر/أيلول 1896):

آيت علي 30 دجاجة
3 خرفان
6 أكياس شعير (غرارة)
6 ريال عوض 11 كيلو تقريبا زبدة».

وهذه الإشارة الأخيرة لها دلالتها من حيث تطور الاقتطاع من شكل عيني إلى اقتطاع نقدي. وفي بداية 1314 (أي منتصف، يونيو/حزيران 1896):

«وهذه لائحة قصب الحدائق بتاكونتافت، كل واحد يجب أن يؤدي «غرارة» من الشعير أو القمح…» تليها لائحة بأسماء الأشخاص.

وبعد بحث قمنا به في عين المكان استطعنا أن نوضح طبيعة هذه الضريبة فالأراضي المسقية في تاكونتافت قد سجلت كلها في سجل المساحة، بواسطة قصب مقياس طول يساوي قامة. (1.75م تقريبا) وفي الحقول المنتظمة والمستقيمة السفلى، و«القصب» كان هو مساحة قطعة لها 10 قصبات وكان يقال عنها أيضا «أفوس» يد أي عشرة أصابع –عرضا في رأس الساقية وطولا، كل القطعة الأرضية الصالحة للزراعة المتقاطعة مع ضفتي الواد .

«والقصب-المساحة» للقطع السفلي قد أصبح نوعا ما يقوم بوظيفة عيار متري بالمقارنة التقريبية للمساحة في المناطق القليلة الانتظام. وما يجب ملاحظته هو إحلال فكرة مساحة مقاسة محل مساحة-سعة. فالطريقة التقليدية الجاري بها العمل كانت تقوم على تقدير مساحة الأراضي بواسطة الحجم (وزن) الحبوب التي يمكن زرعها فيها. وإن مقاييس دقيقة تبين أنه في الحوز مثلا يمكن بذر 60 إلى 120 كلغ من الحبوب في الهكتار، حسب منسوب الماء المتوفر، بوزن يقدر بـ 80 كلغ. غير أن الضريبة هنا تتناسب مع مساحة مسجلة فهي إذن ضريبة عقارية وليست تقديرا على المحصول (خرس)، ويلزم أن يتناسب معه ذلك بطريقة غير مباشرة.

ونجد في السجل أيضا أنه بالنسبة للسنة 1316 (1899) تسليم الجوز المقشر (مكسور) من طرف عمر نايت عبد الله وأهله كفرض ثم يلي ذلك لائحة للأشياء التي نقلت مكالة بالصاع . وفي المجموع كيل 147 وسجلت وسلمت إلى «القاعة» المعينة. وسلم لهم وصل بذلك: فبين ورقتين من السجل نجد ورقة طائشة:

فيها بيد الحامل ثلاثين ريال من ثمن الجوز بايت احسين وان ثمانين ريالة عند الهاشمي بن وحمان فإن جاء بهم فذاك وان دفعهم لنا يصلك في القرب وثمن الجميع مائة وعشر ريالة 110 وكيفية الإخبار في رأس الحامل والسلام.

ونعلم أن في سنة 1906 كان الطيب الكوندافي يبيع كل الجوز الذي يملكه لدار برانشفيك وكوركوس. ويظهر أن في سنة 1901 لم يكن هو المحتكر الوحيد لتجارة الجوز في نفيس بما أن أحد رعاياه باع جوزه في الشجر لآخر غيره. وبما أن القياد كانوا يقومون بدور الوسيط بين المنتجين والمشترين الأجانب فقد عملوا على إطالة نظام الاقتطاع عينا وقد كان من الجائز أن لا يطول ذلك لو كانت التجارة حرة. وقد علمنا من خلال برقية وجهتها وكالة تابعة للقنصلية أن الكوندافي كان يعارض المعاملات التجارية الأجنبية.

غير أن القياد حين يقعون تحت ضغط الحاجة إلى النقود في فترة لا يجدون ما يجني فيها أو يباع، فإنهم يرغمون الأهالي على دفع المبالغ نقدا ويرفضون الضريبة العينية.

«لقد تلقينا رسالتك مع المائة ريال الا بسيطة مقابل الفريضة عن الزيتون «وموزونة» عن الكراء (ملزوم). وقد دفع المسؤولون عن اللزوم من 80 إلى مائة ريال أما أنت فقد بعثت موزونة، فما هي هاته الموزونة؟ ألم أطلب إليك أن تأتي بنفسك؟ لقد وصلني من جهة أخرى أنكم اتفقتم على أن تعلنوا بأن محصول الزيتون كان سيئا هذه السنة بحجة أنكم يجب أن تدفعوا عنه نقدا…

الاقتطاع من عدد الرجال.

بالإضافة على الاقتطاع المالي الذي يشمل أولا الضريبة الشرعية (العشور، الزكاة) ثم مختلف الضرائب والابتزازات (فريضة، مونة، هدية) فإن مصادرة الفائض يتم أيضا في العهد القايدي على الرجال بواسطة نظام دوري. وقد شاهدنا الأعمال الشاقة (الكلفة) التي أصبحت ضريبة حقيقية تؤدي على شكل عمل ففي أراضي الكلاوي.

وبالإضافة إلى الأشغال الشاقة نجد التجنيد بهدف زيادة وسائل تحصيل الضرائب من القبائل المجاورة قد تزايد في أواخر القرن التاسع عشر. وعلى اثر توصيات البعثات العسكرية الأجنبية، (خاصة الفرنسية، الألمانية والانجليزية) قام المخزن بوضع إصلاحين مهمين: أحدهما في التسليح (المدفعية، البنادق الحديثة) والآخر في نظام تسجيل جيش احتياطي. وقد كان على كل قائد أن يأتي ليحارب ضد القبائل التي تمتنع عن دفع الضريبة يحوط به عدد كبير من المشاة والفرسان يجهزها المخزن جزئيا وتأخذ أجرها من المنطقة المغلوبة.

فنأمرك أن تكون على أهبة واستعداد للحركة الميمونة بالعدد المعتاد من خيل إخوانك ذوي النجدة والحزم والقوة بحيث إذا ورد عليك أمرنا الشريف بالنهوض.

وتحدد هذه الرسالة أن الفرسان يجب أن يأتوا بخيولهم وعدد المشاركين اللازم. أما بشأن التعبير «الاخوة» فيجب أن لا يخدعنا. فالرسالة موجهة فحسب إلى الطيب ويطلب له بتودد في آخر الرسالة بذل التشجيعات.

وندرك هنا إلى أي حد أن نظام الانخراط الذي كان يسيطر عليه القائد، وسيلة فعالة لإضعاف عشيرة ما وتقوية أخرى.

«لقد مر تاريخ رحيل المجندين إلى «الحركة» بخمسة أيام منذ صدور الأمر بالانخراط. وبما أن سيدنا (الحاكم) يرغب في ذلك فنحن على استعداد لكي نرسل المخازنية لتعقب المتمردين .

ورد علينا الأعز كتابك وفهمنا مضمنه من قدومنا لالوس وواضب الحركة، أما الزاوية فإننا أرسلنا إليها من يراقب عليها وما وجدوا فيها إلا نحوى خمسة وعشرون راميا أو ثلاثين وهكذا رأينا فيهم حيث رأينهم على الفطرة وأما كلاهـ الحركة فها نحن نبين لك عدد المكاسي كل واحد باسمه المقيدون يمنته واخرج عليهم صاحبنا بملزومه ليحرضهم على الحركة .

وأيضا:

… ذاتا كبيرا على ما قدمناه لك من التشديد والحزم على أشياخ وزكيتة وسكتانة يقومون على ساق الجد ويتوجهون للحركة فإنهم ما بقي هنا بالحركة أحد لا من وزيكتة ولا من سكتانة وبقينا وحدنا وحتى العسة ما وجدنا من يعس علينا ما هذا التراخي والآن بمجرد .

وبعد مرور 11 سنة نجد نفس الصيحات:

فبوصوله إليكم فنأمركم أن تقدموا لحضرتنا على حد الصائم بمكاحلكم الصالحة بحيث فكل من قرء عليه كتابنا هذا يجمع رأسه ويقدم لحضرتنا بمكحولته ولا ينتظر أحد منكم بالآخر.

«إننا ننتظر منذ ثلاثة أيام «الناس اللي فوق». ونوجد في مأزق مع الوالد. لقد قلنا لكم أن ترسلوا كل من هو في سن قادر على حمل السلاح. أسرعوا فنحن ننتظر» .

لدينا نماذج أخرى عن الأشغال الشاقة تعبر عن سحب طاقة العمل واستغلالها لصالح القايد:

… يا سيدي فوصلنا السويهلة بسلامة لله الحمد وضربنا فيه يومين ونصف في الحصاد في كراننا ونحن مائة وخمسين راميا وأربعين حميرا وضربنا في كران ووزيكتة .

.. نحوا عشرين راميا يكون رأسهم أحمد الماطي ومع أحمد أهم والعمال أن أرادوه أن يطلعوا، يطلعون وقد كتب لنا عبد الرحمان من أجرة علي .

«لقد جمعنا كل الركائب والرجال وهم ثمانون. وتجدون في الهامش حصة كل تاقبيلت ما عدا ثلاث أغريس الذين لم يظهروا بعد وقد وعد الفقيه بأن يعاقبهم. وكل واحد سيقوم بمعمله وقد قسمنا العمل وإذا تبقى لدي الوقت فسأبعثهم إلى كيك .

العلاقات الاجتماعية:

إن شكلية المصطلحات التي تدل على علاقات الإنسان بالإنسان لم تحلل ولم تثبت. فالنصوص تفصح عن نوع من الحياء (أو النفاق) بشأن تحديد الوضعية الاجتماعية للأفراد. ذلك أن التنافس الاجتماعي حي ومفتوح دائما: فهناك «مستويات وليس حواجز» على حد تعبير جوبلو Goblot.

… وردنا كتابك صحبته الذمى ابن حيم ذاك أنه شاكيا بالشيخ الحسين نيت أحمد الادوزي بتعديه عليه وطالبا أن يستقل بنفسه وأموره الخ. وعليه فها هو رددناه إليك شد له العضد فيما احتاج به من أموره بموجب شرعي لا سواه والله بعينك .

… فغير مرة أمرناك بالوقوف مع الشيخ محمد امبارك مارس وشدان العضد له في سائر الأمور ولم تبال بأمرنا وصار عندك .

… وكما تعلم أن إبراهيم الذيب كان خطب ابنت محمد ابقدير المريقي ونلزم له بها وعزموا على العرس فإذا بهذا السفر المبارك فنأمرك أن لا تقبل له أن يعطيها لأحد ما فقد ذكروا أنه أراد أن يزوجها لأولاد مطاعة بتزفرت ولا نتركه يعطيها لأحد حتى يرجع بحول الله ومنه كنا سلفناه من الدراهم للحاج الطاهر والحاج محمد العماريين فلم سكنت عنهما فلا بد حرضهما عليهم كما تشد العضد لعبد السيد على ما قدم عليه ولا بد .

«إن الموقعين يشهدون بتعلقهم بإبراهيم ويطلبون منه أن يحميهم (حماية). نعلن عن المتمردين… (لائحة بأسمائهم)» .

وفي سنة 1905 يمكن أن نلاحظ خلال النص التالي أن الشيوخ يعينهم خليفة القايد:

إخواننا كافة الجماعة الذين كان عليهم عثمان بن القنديل بدار اكماخ أعانكم الله وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته عن خير مولانا نصره الله وبعد فماسكه الشيخ على بن محمد اجراي وليناه عليكم شيخا وكونوا عند أمره ونهيه فيما هي مصالحتكم في وظائف المخزن، فمن خلف أمره ونهيه فلا يلوم إلا نفسه والسلام.

وبعبارات أخرى: أن تفويض السلطة يتم من القريب إلى القريب ومن درجة إلى درجة دون أن تساهم فيها الدرجات العليا أو تخضعها لها فمن يوجد في أعلى درجة يسمى من يليه في الدرجة وهذا يمسى من بعده وهكذا تقوت شبكات فيودالية على نمط الأسياد Seigneurie الأول في أوربا.

فلا يخفي عليك أن محبنا الارضى الحاج لحسن الحداد منا وإلينا ومن خاصيتنا وأهل محبتنا ولا بد… قبل بأن تنفذ له بلاد يحرث فيها مع ما يكفيه من الماء ولم تنفذ له شيء وعليه فنأمرك أن تنفذ بلاد يحرث فيها باغاطيم بالمحل المسمى بشعبة أكزول وكذلك نفذ له ما يكفيه من الماء ولا تقصر معه لأني لا نحتاج إلى وصيتك عليه لما نعلم ما هو عليه من صدق المحبة والخدمة الخالصة .

شرطته للانجال نطلب الله أن يسمعنا عليهم وعليكم خيرا بجاه مولانا رسول الله ونطلب من سيادتك أن تشد عضدنا في البلاد الذي نفذت لنا بثلاثين النوائل وتوجهت بكتابها لمن كانوا فيها وطلبوا منا إبقاءهم فيها على وجه الشريكة وتفاصلت معهم على الشريكة وتشاهدنا بالعدول ولما حرثوا فيها وطاب المذكور تعرضوا لنا على نصيبنا الحاج قدور عراض قابيلن وأنهم اشتروا من عندك والآن نطلب من سيادتك أن تنفذ في نصيبي في أيام الله وأيامك وما ضرني سوى كلام ولد عراض في وسط تامصلوحت وأنه منعني من حقي ولم نقدر له على شيء والآن رعاك الله ما رضيت بهذه المذلة بين الناس والاحتقار وأنت في الوجود فطالبا من سيادتك أدام الله لنا .

ويظهر أن الشركاء قد استسلموا مع أراضيهم وأن أحدهم وقد كان لاجئا في حرمة زاوية تامصلوحت شعر بأنه في مأمن حتى يستطيع توجيه الشتائم غير انه منذ 14 مارس/آذار 1905 كان القايد الكوندافي هو القائم على الزاوية وعينه المولى عبد العزيز بظهير. فهل سيعرض عن ممارسات الحفاظ على الزاوية؟

«حمود وأخوه لحساين المنبهي لسوس كانا يقيمان معنا ويعملان معنا في امزوغ. ولكن شيخ لمطة أخذهما وشغلهما. لصالحه. لا نود أن يقيم معنا أحد ويشتغل عند الآخرين ويدفع «الفريضة» للمطة. لذلك إذن استولينا على بقرته ونطلب إليك مساندتنا إن ذهب لديكم شاكيا».

وهنا جماعة المؤجرين الشركاء في أراضي الخليفة هم الذين رفضوا أن يروا أمامهم قوى العمل تستغل لصالح شبكة أخرى. وكون شيخ لمطة «قد أخذهم» هو أمر غير مؤكد. ذلك أنه منذ 16 دجنبر/كانون الأول 1903 كان هذا الشيخ تحت سلطة الكوندافيين وعلى ذلك لا يبدو لنا أمر معقولا اغتصاب حق شركاءه سيده. ولم ينقل هؤلاء إلا بموافقة إبراهيم. لكن شركاء امزوغ لم يردوا الاعتراف بذلك وكانوا يرفضون إعطاء أي شيء لامزوغ. «لأنهم لا يعملون ولا يؤدون القسط الواجب (الفريضة)». وهذا يعني استعادة القواعد القبلية في الشبكة القايدية. ورسالة شركاء امزوغ يجب مبدئيا أن تدفع إبراهيم إلى الضغط على الآخوين لتحويل مسكنهم إلى لمطة».

الاقتطاع على شكل أراضي:

على الرغم من أن الكوندافي لم يتوصل، مثله في ذلك مثل الكلاوي أو العيادي، إلى أن يقيم ممتلكات مهمة في الحوز، فقد استفاد مع ذلك من الحجز على ممتلكات القياد المغلوبين أو المقالين.

وفي نهاية سنة 1903 أجبر القبائل الموجودة حول تارودانت على دفع الضريبة وقضى على انشقاقاتها وقد لفت الكوندافي الأنظار إليه بقدرته على الحرب وفعاليته. ولكن ما أن دخل إلى مراكش حتى أصدر إليه الحاكم الأمر بالاستعداد للذهاب في حملة ضد بوحمارة الذي كان يستولي على جبل تازة . وحين كان موجودا أثناء «الهدية» في عيد الأضحى حصل كتعويض عن المصاريف التي سيتحملها من أجل «الحركة»، على حق حيازة أملاك الحسن المزميزي القايد السابق لكدميوة.

الحمد لله…

يعلم من كتابنا هذا أعز الله أمره أننا بحول الله وقوته كلفنا خديمنا الأرضى القائد الطيب الكنتافي بحيازة الأملاك التي كانت للخديم الحسن المزميزي بقبيلة جد ميرة وكذالك الدور التي له بمراكش وإذ ناله في التصرف فيها الجانب المخزن بحسب ما يراه من المصلحة ما عدى الأملاك التي ثبت أنها ارث للمزميزي عن آبائه فتبقى له ولا تحاز تكليفا وتصرفا تامين فنأمر الواقف عليه من عمالنا وولاة أمرنا أن يعلمه ويعمل بمقتضاه ولا يتعداه صدر به أمرنا الشريف في 20 حجة عام 1321هـ» .

وقد تلقى الطيب في نفس التاريخ بظهير أيضا مسؤولية إدارة «الأملاك المخزنية» الموجودة في قبيلة الكدميويين.

الحمد لله

يعلم من كتابنا هذا اسماه الله وأعز أمره أننا بحول الله وقوته وشامل يمنه ومنته كلفنا خديمنا الارضى القائد الطيب الكنتافي بسائر أملاك المخزن التي بقبيلة جدميوة والمحوزة من متروكات العمال هناك وخصصناه بالقيام بمقابلتها ونفذنا له التصرف فيها على وجه المصلحة تكليفا وتنفيذا تامين فنأمر من كانت… صدر به أمرنا المعتز بالله في 20 حجة عام 1321 هـ» .

والظهيران ب و حـ المختلفان يؤكدان الفرق الواضح بين الأملاك المخزنية المتخلى عنها باسم «التنفيذية» (الربح في المعنى الفرنسي في القرون الوسطى) ومصادرة الأراضي بعد إقالة مزيمزي باسم حق التمتع والتصرف (jouissance) أما بالنسبة للقايد الكوندافي فقد كان الأمر لا يختلف عن ذلك: فهو المستفيد الرئيسي بكل شيء ما عدا الهدايا والتشريف المقدم من هذه الأملاك إلى السلطان مهما كانت وضعية الأراضي.

وبعد خمسة أيام عين الطيب في إدارة زوايا سيدي أحمد أو موسى الواقعة في مجاط ولدى ولاد مطاع .

وقد أصبحت الأملاك والثروات المركزة بيمن أيدي القياد المتتالين عادية تدريجيا ودخلت في نطاق ملكيات المخزن. ولم يكن القايد يتلقى هذه الاقطاعات إلا على شكل تصرف جزئي بما أنه يجب أن يحتفظ بنصيب من الأرباح لصالح الخزينة العامة. وبالتالي سيحاول أن يوسع ممتلكاته بالاستيلاء على أراضي ما زالت في يد أفراد القبائل التي تخضع لإمرته. وخطوة خطوة استولى على مجموع الأراضي لصالح المخزن في النهاية. والإقالة والحجز كانا وسيلتين طبيعيتين لاستيلاء المخزن قانونيا على الأملاك، أي أنه في الواقع تزايد الضغط الضريبي على نفس الشركاء الفلاحين.

د-التنافس بين القياد:

خلال السنوات الأولى للقرن العشرين وبالضبط منذ وفاة باحمد إلى دخول الفرق العسكرية الفرنسية إلى مراكش، كان الحوز الأوسط مجالا لمنافسات قوية بين القياد الثلاثة للأطلس: كوندافي ومتوكي والكلاوي.

وإن تتابع السلطات السياسية على رأس القبائل الضريبية قد أصبح سريعا ثم توقف نتيجة لإقامة الحماية ومساندة الكلاوي كأمير غير منازع لمنطقة مراكش. وقد قلنا سابقا أنه كان من المحتمل أن يكون شخص آخر غير الكلاوي: فليس هناك حتمية خاصة تضمن مصير الكلاويين. وتدخل الفرق الفرنسية ضد تصاعد حركة الهبة في اللحظة والمكان اللذين كان يحدث فيهما ذلك التصاعد قد قبض على عنصر لحظى في الحركة الفوضوية للمنازعات بين القياد.

في حين أنه في القرن 19 كانت إدارة الحوز مجزاة إلى عشرين قيادة تقريبا، ومنذ 1900 كانت ثلاث أسر كبرى تتقاسم المسؤوليات القايدية وأرست سيطرتها على مجموع السهل طيلة فترات قصيرة ما عدا الفترة الأخيرة:

1900-1906: الطيب الكوندافي

1906-1908: مدني الكلاوي

1908-1911: عبد المالك متوكي

1912-1956: التهامي الكلاوي

وليس غرضنا أن ندخل في تفاصيل المنافسات والتحالفات المتقلبة بين المتنازعين الثلاثة. ولدينا وثائق وفيرة حول هذا على الخصوص نتيجة للتقيظ الكبير الذي كانت تبذله فروع القنصلية في تتبع عن كثب التصرفات المتقلبة والممارسة من طرف أولئك المتنازعين، والإشاعات السارية والتي كانت تحاول أن تكون رأيا انطلاقا من ذلك عن النظام السياسي المغربي. والمواقف المتطرفة تكشف جيدا عن أسس اللعبة السياسية. ذلك أن القوى المجتمعية حينئذ كانت تتواجه وقد سقطت أقنعتها. غير أن انهيار جهاز الدول المركزية، التي كانت عاجزة عن قمع الأطماع والتحكيم في الصراعات، قد تركت المجال مفتوحا لظهور مرحلة المنازعات القايدية من جديد.

وفي الحقيقة، في السنوات الأولى من القرن العشرين كان الوضع يتلخص وكأن «تاقبليت» التي كان مسيطرا عليها وأعيد تجمعها على شكل قطاعات ضريبية كبرى (خمس الأخماس) بواسطة أسياد الحرب بمساعدة من السلطة المركزية، كانت تكون تحت ظل سطوة القياد، كيانات سمتها الإدارة الاستعمارية فيما بعد «قبيلة» «tribu». وأن ظاهرة توسيع المجال الاجتماعي والسياسي من «تاقبليت» إلى القبيلة لم يكن لا مستمرا ولا سائرا في خط مستقيم واحد ولا غير قابل للتراجع. فقد تم من خلال تصفية امتيازات مجلس الشيوخ المسنين والالوغارشيين، بمناسبة الاستيلاء المطلق على السلطة من طرف القياد. وقد حدثت قفزة كبرى في توسيع المجال السياسي الداخلي وذلك بين سنة 1900 و1912، انطلاقا من تشخيص سلطة القياد ذاتها الذين استعملوا من جديد الوهم الإيديولوجي لكيان القبيلة. وبدون أي تدخل خارجي كان من الظاهر أن نوعا من التوازن هو في طور التكوين لكي يقطع مجموع الجنوب الغربي المغربي إلى ستة أو سبعة مجموعات كبرى «اتحادات»: حاحا، متوكة، كوندافة، كلاوة، رحامنة، سراغنة، الخ، تمتص كل الجماعات، الموجدة على الحدود، والمستضعفة والمسحوقة بعمليات عديدة من النهب والابتزاز. ولكي نوضح جيدا فترة من الفترات القصيرة –ولكنها معبرة- التي حققت في بضعة أسابيع سنوات من الانتظار والترقب. لقد اخترنا أن نستعرض فترة بارزة ولها دلالة مهمة تتناول الصعوبات التي صادفها الطيب الكوندافي لكي يدخل إلى قبيلته خلال فترة ربيع سنة 1906 .

ففي نهاية حفلة عيد الأضحى لسنة 1323 (10 ذي الحجة-5 فبراير/شباط 1906) التي أقيمت في قصر المولى عبد العزيز بفاس، تسلم الطيب الكوندافي إدارة وريكة في ظروف مشابهة لظروف السنة الفارطة، وقد كانت هذه يديرها ب. القرشي الوريكي . كما حصل على إدارة زوايا أمغاريين أي تامصلوحت وفروعها وكذلك فيما يبدو قيادة ولاد بوسبع .

وإلقاء نظرة واحدة على خريطة الحوز تفسر أن الكلاوي والمتوكي معا قد اعتبرا تلك التعيينات كضربة موجهة ضدهما، ومنذ ذلك الحين دخل الكوندافي إلى السهل بواجهة عريضة. والتحالف القديم بين رحامنة وكوندافة يقطع شريطا أرضيا من سوس في نهر أم الربيع ويقع في وسطه مراكش وبذلك حرم كلاوة ومتوكة من كل أمل في محاصرة العاصمة.

وحين كان الطيب في طريق العودة حاملا معه ظهائر التعيين الخمسة عشر والطوابع لتوزيعها على القياد الصغار الذين سيكونون تحت امرته قرر التهامي الكلاوي وعبد المالك المتوكي في 4 أبريل/نيسان 1906 أن يشتركا في مكيدة ضد الطيب وأن يمنعاه من تنفيذ تعديل مولاي عبد العزيز وأن يدفعا مولاي حفيظ إلى المطالبة بالعرش.

وسيكون من السخف الاعتقاد كما يدعي أغلب الملاحظين الأجانب المسؤولين في مراكش أن شخصية مولاي عبد الحفيظ قد صنعها المتوكي والكلاوي بهدف وضع حد للصعود المزعج للكوندافي. يجب أولا اعتبار الوضعية العامة للبلاد، فالقوى الأوربية قد ضيقت الخناق على النظام لكي يقبل السيطرة الاستعمارية. وقد وقع بالفعل عقد الجزيرة الخضراء في 7 أبريل/نيسان 1906 وعرف الكل بعد بضعة أيام أن المولى عبد العزيز قد فتح أبواب المغرب للتدخل الأجنبي. والمعارضة الصامتة للسلوك الخاص والسياسي للسلطان تلك المعارضة التي كانت تتكون وتتقوى منذ أصبح مجيء وذهاب المبعوثين الأوربيين واضحا للعيان، قد اتخذت شكلها وكيانها. وكان مولاي حفيظ بمثابة حل للأزمة على ما يبدو، على اعتبار أنه أكثر احتراما للتقاليد وأكثر مقاومة للضغوط الأجنبية. وبديهي أن لم تمارس عليه أية ضغوط بعد لأنه لم يكن هو السلطان. ولا جدال أن حركة مولاي عبد لحفيظ كانت موجودة قبل سنة 1324. ولا شك أنه كان لا بد من ضم التشجيعات المحلية إلى الفرص المواتية لإعطاء قوة لشيء كان سيظل مجرد احتمال. ولا نعلم بالتفصيل من منهم: الكلاوي أو المتوكي أو مولاي حفيظ كان يحرض الآخرين في ربيع 1906، غير أن نجاح الكوندافي لدى مولاي عبد العزيز لم يكن ليؤدي سوى إلى سرعة الأحداث .

ويمكن أن نتتبع تقوية محور الكوندافي –مولاي حفيظ- الموتكي وذلك مرحلة مرحلة أي كلما اقترب الكوندافي من مراكش. وحين وصل في 22 أبريل/نيسان 1906 إلى عاصمة الجنوب حاملا معه رسالة من مولاي عبد العزيز موجهة إلى خليفته لكي يوصيه على الطيب ويطلع على تعيينات القياد الجدد ، ظل ثلاثة أيام يطلب مقابلة مولاي حفيظ ولكن هذا رفض ذلك . وبديهي أن الطيب وعى بالخطر الذي يتهدده حين علم بأن كتائب مسلحة من متوكة وكلاوة قد استقرت على الطرق المؤدية إلى واد نفيس: معناه أن دخوله إلى أراضيه الجبلية قد أصبح ممنوعا. صحيح أن يتوفر على ظهائر التعيين على قبائل ديارة، ولكن تنقص القوة الفيزيائية حتى يجعل تلك الظهائر واقعا ملموسا. وفي الحقيقة لم تعد السلطة على الحوز كلها بين يدي المولى عبد العزيز.

فتصرف الطيب حينئذ له دلالته من حيث العودة إلى الجيوبوليتيك القبيلة القديمة. فعقد حلفا مع قايد أنفلوس في حاحا، لأن ذلك هو الوسيلة الوحيدة لإبعاد أطماع المتوكي عن الحوز. وأخبر الحاحي أن لديه ظهائر التعيين لقيادات الغرب، لصالح أصدقاء أنفلوس، وأن المولى عبد العزيز سيرسل له جنودا يقودهم مولاي العرفة لمعاقبة المتوكي، وبمساعدة الرحامنة، على قضية الذخيرة . وفي الحقيقة لا نعرف مدى الاستعداد لهذا التدخل، وعلى كل لم يحدث نظرا لاشتغال مولاي عبد العزيز بمشاكل أخرى ولنسجل هنا أن الكلاوي لم يكن يعتبره الكوندافي هو العدو الأول الذي يجب مواجهته.

ثم قرر الطيب أن يذهب إلى نفيس العالي مهما كلفه ذلك. ففي 26 أبريل/نيسان وصل إلى الورديين حيث قامت جماعة من رجال المتوكي بقطع الطريق عليه فاضطر للرجوع على عقبيه. وفي 27 أبريل/نيسان ذبح ثورا لزاوية بن ساسي ليطلب مساعدة الرحامنة. وقد اقترح هؤلاء أن يتوسطوا بينه وبين مولاي حفيظ حتى يحد من النزاع . غير أن الطيب غضب فهو لا يريد أن يخضع لسلطة غير شرعية، واقترح تحالفا مع الرحامنة: فإن هم ساعدوه على تنصيب ولد الحاج حمادى، الذي سماه مولاي عبد العزيز قايدا على مسفيوة فسيعدهم بأنه سيحصل لهم على أراضي مسفيوة الموجودة في السهل. وعندما علم المتوكيون باجتماع زاوية بن ساسي، استعدوا لمهاجمة الرحامنة. وإذ ذاك في 9 ماي/أيار احتل أنفلوس زليتن وصرف المتوكيين عن الحوز الأوسط. وبعد بضعة أيام وصل الكوندافي إلى ملجأه الجبلي. ويذكر جوستينار الحكاية الكلاسيكية للسجين الذي فر حين اعتقد أنه ذهب ليتوضأ.

وكل هذا غير واضح جيدا ولكن سنلاحظ أن الطيب قد استطاع الاقتراب من أكركور، دون حراس بعكس ما يذكره جوستينار . بفضل تواطؤ أو وساطة الحاج عبد السلام الورزازي خادم حاكم مراكش. وغداة مروره احتل الكلاوي الكيك، ولو فعل ذلك يوما من قبل لقطع على الكوندافي الطريق على الجبل . ويظهر أنه كان مطمئنا إلى أن معارضي الكوندافي يفضلون أن يروا هذا سجينا في جبله على أن يروه مدبرا للمؤامرات في السهل.

انقلاب التحالفات:

كذلك كانت سلطة أخرى في طور الميلاد والنمو في جنوب المغرب: حركة ماء العينين التي كانت تهدد التوازن السياسي القار في الحوز وقد تكسح تلك التقسيمات ومنازعات الوادي، وذلك بانضواء الكل تحت نفس السطوة القوية. ولكن التاريخ دار بسرعة: فالمولى عبد العزيز لم يخلع بعد عن العرش والمولى عبد الحفيظ الذي لم يبرز كثيرا بعد أم كانت سلطته المستقبلة مرهونة بهالة رجل يزايد في ميدان التمسك بالدين واستقلال الدولة اتجاه القوى الأوربية. ولم تكن اللحظة مناسبة بالنسبة لقياد الأطلس الذين وجدوا في مولاي عبد الحفيظ بطل قضيتهم، لكي يتحركوا في فوضى. وقد تجلى أن المدني الكلاوي قد أبان عن حنكة سياسية حين استطاع أن يفهم الطيب الكوندافي أن المولى عبد العزيز لم تعد لديه أية سلطة، وأن الظهائر التي كان يحملها لم تعد لها أية قيمة ، وفي ذات الوقت ساعده على الإفلات من هوان القبض عليه أو التعرض للهزيمة.

وفي 25 شتنبر/أيلول 1906 تم اجتماع غريب في أكركور بين التهامي الكلاوي وإبراهيم أخ وخليفة الطيب الكوندافي. ويتعلق الأمر بالاقناع بمصير مولاي حفيظ ومباشرة تقسيم متوازن للحوز. والثمن المدفوع لإدخال الكوندافي في التحالف هو إرجاع كيك له، وأمزميز ومجاط أي الواجهة المؤدية إلى السهل. وقد انتظر الطيب مدة سنة حذرا قبل أن يعقد المصالحة ويزور مولاي حفيظ ويشارك في الدعوة له في مراكش بتاريخ 16 غشت/آب 1907 .

وقد أدرك عبد المالك المتوكي أن الحوز سيفلت من بين يديه فتقرب من المولى عبد العزيز .

وهذه التقلبات واللعبات المزدوجة والرهانات على المتنافسين لها دلالتها فيما يخص الغياب السياسي لنفوذ الدولة. والتضامنات الوحيدة والتي حوفظ عليها هي التي تضمن نجاح الجماعة القبلية الأصيلة وأبناء القايد.

ويمكن أن نعطي عن هذا مثالا آخر:هو اللقاء بين الكلاوي والمتوكي ولد منو وميكريت قنصل فرنسا في مراكش بتاريخ 3 غشت/آب 1911 وفي حين أن الهبة قد دخل لتوه منتصرا إلى تارودانت، من جهة، واللقاء الآخر بتاريخ 12 غشت/آب 1911 حيث التزم الكلاوي والمتوكي والكوندافي بالتزامات معاكسة لذلك مع الهبة الذي كان يعسكر بفروكة وعلى وشك محاصرة مراكش.

إن النظام القايدي بصفته مؤسسة سياسية قد ولد في حضن تاقبليت وذلك بتأسيس سلالة قوية انطلاقا من أفراد غرباء عن الجماعات في غالب الأحيان أو هامشيين فرضوا أنفسهم بممارسة العنف على جماعات يتزايد عددها كما أن أفرادها يكونون غرباء عن السلالة الأولية على أن يعترف بهم من طرف السلطة المركزية كوسطاء إجباريين بين المخزن والجماعات التي يلزم عليها تأدية الضرائب. والاعتراف بالقايدية ليس تفويضا محضا للسلطة عليها تأدية الضرائب. والاعتراف بالقايدية ليس تفويضا محضا للسلطة كما يدعي كلود كاهان Claude Cahen ولا بيعة إرادية وتلقائية من محمي تجاه حامي. فليس هناك قانون statut للنظام القايدي ولا تقنين ولا تشريع. والقواعد الشرعية لا تتكلم عن هذا النظام. والبروتوكول المخزني يعتبر القياد مثل خدام «أرضياء لجلالته» والذين بالتالي يخضعون كلية له. ورسالة من مولاي الحسن إلى قياد سوس الذين عينوا جديدا نعتبرها من هذه الناحية لها خصوصيتها:

…«بعد أن وطأنا لهم عنف الترحيب فبوأنا مع توسمنا فيه الأهلية للتولية على إخوانه مهادا وقلدناه أمرهم جمعا وفرادى وضربنا للكل فيها على مقتضى السياسة بمعونة الله بسهم مصيب وأرعيناه من مربع خدمتنا الشريفة المرعى الخصيب حتى وقع التمكن من أزمتهم وأجلسنا خاصتهم وعمالهم على أسرتهم فاتصلت بهم المخزنية اتصال الأرواح بالأجساد واستنارت هذا الأرجاء بنور الله استنارة عمت الحاضر والباد فأدوا من الطرف والهدايا ما فيه غنية لمن ركب متن المزايا مع كون البلاد لم تحكم بالمخزن مدة من السنين تنيف على عدد الستين…»

(الاستقصا… ج9 ص 175، 176)

ولكن القياد كانوا يعرفون أن مجرد استطاعتهم رفع الضريبة إلى أقصى حد على القبائل التي كانوا يسيطرون عليها كان يتيح لهم الحصول على ظهير تنصيبهم على تلك القبائل. وتلك الظهائر التي كانت وظيفتها قبل سنة 1860 على الخصوص بالنسبة للقبيلة كيكان يدفع الضرائب لتحديد القابض، قد أصبحت بالتدريج، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، تكون نوعا من التحكيمات، تعين الحدود بين أطماع القياد المتنازعين. ذلك أن السكان قد أدركوا في تلك الحقبة أن مشروعية الضرائب غير القانونية لا جدوى من المطالبة بها أمام قوة عنف القابضين الذين أخذ ارتباطهم بالجماعات التي يطالبونها بالأداء يتلاشى شيئا فشيئا.

ولا نغفل أن تطور القايدي ذاك كان وثيق الصلة بالوضعية السياسية العامة النوعية، أي وضعية سيطرة الرأسمالية الأوربية التي أخذت تتجلى بوضوح لأعين الأفراد الذين يصنعون تاريخ المجتمع كشيء حتمي ولا رجعة فيه بدليل الأمثلة التونسية والجزائرية.

وندعم إذن أطروحة أن النظام القايدي الذي ولد في الهامش وفي نفس الآن مع التدخل الاستعماري، دون أن يستنفذ نمطه المثالي، يطابق تعبيرا مجتمعيا يلتصق بالتكوين المجتمعي المغربي. ولكنه لم يستطع أن ينمو إلا كإجابة عن ضعف السلطة المركزية الناجم عن السيطرة الاستعمارية ذاتها. وانطلاقا من الحوز لم يستطع الاستعمار أن يجد حلا آخر سوى الاعتراف ثم تدعيم وفي النهاية تعميم الصياغة التي وضعت في هذه المنطقة، على مجموع المغرب.

وأخيرا لنلاحظ فشل انتشار النظام القايدي على مستوى التكون المجتمعي بكامله: لم يكن المجتمع المغربي مجتمعا قايديا بشكل تام، وسنوضح فيما بعد بعض التحفظات التي يجب القيام بها بشأن اختفائه التام.

بقلم: بول باسكون
المصدر:
المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع تصدرها جمعية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية والإحصائية، تحت إشراف المعهد الجامعي للبحث العلمي

العدد الخامس والسادس/1981

ص ص: 67 إلى 149

شارك المقالة

اقرأ أيضا