أوهام الليبراليين وحملة «مقاطعون»

سياسة12 أغسطس، 2018

بقلم النمري

لم يسجل تاريخ النضال الشعبي، لحظة لا تخترقه فيه تيارات سياسية تعبر عن مصالح اجتماعية وطبقية نوعية. ليس النضال الشعبي، والحالة هذه، إلا وحدة وصراعا بين هذه التيارات والآراء، وعادة ما تكون الأفضلية إلى جانب الأحزاب الليبرالية بسبب ما راكمته من تجربة ولنفوذ أيديولوجيتها في «الوعي الشعبي».
تخاف الأحزاب الليبرالية من النضال العمالي والشعبي، فهو يهدد بنسف سلطتها الطبقية (الاقتصادية والسياسية)، لكن ما أن ينبعث هذا النضال حتى تكون أول من يسارع لتبنيه وضع سقف سياسي واقتصادي تعمل جاهدة حتى لا يتجاوزه.
تطرح الليبرالية مطالبها الطبقية الخاصة، مع إلباسها غطاء فضفاضا يظهرها استجابة لـ»الأمة» بكافة طبقاتها، طبقا لمأثور قولها: الرأسمالي يخدم المصلحة العامة وهو يسعى إلى مصلحته الخاصة.
لن نعدم في تاريخ المغرب لحظات سارعت فيه الليبرالية إلى تزعم نضال شعبي وحصره في حدود مصلحتها السياسية والاقتصادية، منذ النضال ضد الاستعمار، انتهاء بحراك 20 فبراير، حيث قامت المعارضة الليبرالية بطرح مطلب «الملكية البرلمانية» كأسمى ما يمكن أن تصل إليه «ديمقراطية المغرب»، في وقت كانت الثورة تحصد رؤوس أنظمة الاستبداد، وشباب الحركة بالمغرب ينادون بدستور ديمقراطي شكلا ومضمونا يضعه مجلس تأسيسي منتخب.
تكرر هذا في حراك الريف، حيث نادى الليبراليون بخطاب 9 مارس جديد يمكنهم من لعب دور وساطة حقيقي. وها نحن في عز حملة المقاطعة تنشر الأحزاب الليبرالية مطالبها مستفيدة من الضعف الكبير لأحزاب اليسار الجذري وتأخر التحاقه بحملة «مقاطعون».
طرحت هذه الأحزاب مجموعة من المطالب، مصورة إياها حلا جذريا لمشكل الغلاء ومشكل التنمية المعاقة بالمغرب: محاربة الريع، القضاء على الاحتكار، وضع حد لزواج السلطة والمال. تطرح الليبرالية هذه المطالب لتمويه الجذر الحقيقي لتخلف التنمية، أي علاقات الإنتاج وعلاقات الهيمنة الإمبريالية، وتحصر بذلك الصراع بين جزء من الطبقة البرجوازية المحتكرة من وجهة نظرها للاقتصاد والسلطة، وبين الشعب بكل طبقاته. وهو منظور يرد الصراع الطبقي إلى الخلف مرجئا إياه إلى أجل غير مسمى.
سنناقش هذه المطالب من وجهة نظر طبقية صريحة: المصالح التاريخية للطبقة العاملة النقيض تماما لمصالح الطبقة التي تعبر عنها الأحزاب الليبرالية.
محاربة الريع
يعتبر «الريع» المفهوم المفضل لدى الاقتصاديين الليبراليين، فهو يوفر عليهم تحليل علاقات الإنتاج الرأسمالية، ليس لعجزهم، بل لأن علمهم في الاقتصاد ليس موجها لذلك، ولكن للدفاع عن مصالح طبقية صريحة؛ مصالح أقسام برجوازية متضررة من احتكار الملكية وبطانتها للسلطة والثروة. وهكذا يتحول الاقتصاد على يدهم من علم إلى نظرية تبرير وتعمية.
لا يقصد بالريع عند الليبراليين فائض ناتج اجتماعي منتزع من الفلاحين من طرف نبلاء إقطاعيين، بل احتكارات رأسمالية كبرى تستأثر بها الملكية وبطانتها الاقتصادية، أي ما يطلقون عليه «مخزن اقتصاديا».
إن مطلب محاربة الريع هنا ليس مطلبا تقدميا بالمعنى التاريخي الذي اكتساه في أوروبا الغربية إبان الثورات البرجوازية الكبرى أو في روسيا بداية القرن العشرين، ليس مطلب فلاحين يعوقهم استئثار طبقة النبلاء الإقطاعيين بجزء كبير من فائض إنتاجهم ويعرقل تطور الرأسمالية.
أما إذا أخذنا الريع بمعناه الأكثر عمومية أي دخل منتظم لا يدره على صاحبه عمل يقوم به أو يستأجره، فإنه سمة مشتركة بين كل الأشكال التاريخية للنظام الرأسمالي، ولا يختص به الاقتصاد المغربي. وما يشير إليه الليبراليون في حالة المغرب هو ريع الدولة القائم على استغلال الثروات الطبيعية (المناجم، الرمال، الغابات، ثروات البحر)، ويمثل مصدر دخول نقدية يدرها احتكار عقاري، لكنه في هذه الحالة، يمثل ربحا فائضا يضاف إلى متوسط الربح على رأس المال المستثمر في استغلال هذه الموارد.
يعد المغرب من الدول الأقل اعتمادا على هذا النوع من «الريع» مقارنة بدول المنطقة الغنية بالنفط والغاز الطبيعي. يحتكر القسم الحاكم من الطبقة البرجوازية، معتمدا على جهاز الدولة هذا «الريع»، مسببا استياء أقسام غير مستفيدة من نفس الطبقة، وهو ما يعبر عنه سياسيا الاقتصاديون والأحزاب الليبرالية.
محاربة الريع عند الليبراليين هو مطلب صغار الرأسماليين وأقسام برجوازية محرومة من قطاعات تحتكرها الملكية ويغيب عنها قانون التنافس الرأسمالي الحر. ولذلك فهو ليس مطلبا ديمقراطيا بل هو مطلب رجعي، إذ المقصود به هو تفكيك احتكارات اقتصادية كبرى، لصالح توزيعها وتفتيتها على رأسماليين صغار.
إن المطلب التقدمي في هذه الحالة والذي يملك مضمونا طبقيا شعبيا، هو مصادرة تلك الاحتكارات الكبرى وامتلاكها بشكل جماعي وتسييرها لصالح الشعب وليس لصالح رأسماليين أفراد، مهما بلغت نواياهم الديمقراطية والتقدمية. قد يظهر هذا بالنسبة للعديد وهما طوباويا، لكنه بالنسبة للسادة الليبراليين «شبح شيوعية» يجب محاربته، فهم أدرى بدينامية مثل هذه المطالب لدى الطبقة العاملة.
القضاء على الاحتكار
ينشأ على قاعدة «اقتصاد الريع» احتكار ما يتولد عنه من فرص اغتناء اقتصادي من طرف أقطاب اقتصادية كبرى مرتبطة بالقصر، لذلك يربط الليبراليون أسباب تخلف تنمية المغرب بـ»الملكية التنفيذية».
يبني الليبراليون مطالبهم الاقتصادية، على تصور مثالي للرأسمالية، أي ما يطلق عليه «الرأسمالية النموذجية» كما وصفها ماكس فيبر في كتابه «الأخلاق البروتيستانتية وروح الرأسمالية»؛ رأسمالية تنافس حر قائم على مناخ قانوني وإداري ملائم.
يهتم الليبراليون بالرأسمالية كما هي في تصوراتهم الذهنية المستقاة من رأسمالية حقبة تاريخية ولت إلى غير رجعة، ولا ينتبهون إلى التطورات الكبيرة التي عرفها هذا النظام الاقتصادي.
تولدت الرأسمالية الاحتكارية عن رأسمالية المنافسة الحرة، فكل تنافس يؤدي إلى زوال الأقسام الضعيفة من الرأسماليين لصالح الأقطاب القوية، لذلك يجري السعي إلى الاندماج والتركيز للهيمنة على السوق وفرض الأسعار الاحتكارية وجني الأرباح الاحتكارية.
حتى لو جرى تطبيق هذا المطلب، وفككت الاحتكارات الاقتصادية الكبرى وجرى توزيعها على صغار الرأسماليين، وشهدنا منافسة شريفة (على غرار ما كانت في النصف الأول من القرن التاسع عشر)، فإن قوانين الرأسمالية ستحيل المنافسة لا محالة احتكارا.
شهدنا خلال القرن العشرين أحزابا وحركات سياسية جماهيرية، ادعت أنها تمثل مصالح البرجوازية الصغيرة المتضررة من الاحتكار وكل مساوئه الاقتصادية. ما أن وصلت إلى السلطة حتى ركزت سلطة الاقتصاد في يد الدولة ودعمت الاحتكارات أكثر مما كان عليه الأمر من قبل. ونقدم هنا نموذجين وإن كانا غير متطابقين تاريخيا: النازية في ألمانيا، والخيمينية في إيران.
يقدم الماركسيون الثوريون منظورا أكثر انسجاما مع الواقع الحي لتطور علاقات الإنتاج الرأسمالية، فبدل القضاء على الاحتكار، يطرحون احتكارا من طينة طبقية مناقضة جوهريا للاحتكار الرأسمالي الحالي.
إن الرأسمالية الاحتكارية في تطورها التاريخي لا يمكن أن تتطور إلى رأسمالية منافسة حرة، إنما إلى احتكار أشمل وأوسع من أكبر احتكار تعرفه البلدان الأكثر تقدما. إنها تسير إلى احتكار الدولة لكل الصناعة الكبرى ووسائل النقل ونظام التسليف وتجارة الجملة والتجارة الخارجية، لكن هذا لا يمكن أن يجري بشكل عفوي أو على يدي الدولة البرجوازية، بل دولة بديلة طبقيا؛ إنها دولة تقوم على سلطة الطبقة العاملة السائرة نحو بناء النظام الاشتراكي.
فصل السلطة عن الثروة
رفع الليبراليون هذا المطلب بشكل رئيسي أيام حركة 20 فبراير، مشيرين إلى تركز السلطة السياسية والثروة الاقتصادية في يد الملكية وبطانتها الاقتصادية. وفي كتابه «سيرة أمير مبعد»، فصل الأمير هشام مطالب هذه الأقسام من البرجوازية: تصفية أملاك الملكية وتسليمها للدولة والاكتفاء بقائمة أجور مدنية يجري نقاشها بشكل ديمقراطي في البرلمان، ثم تبني رأسمالية نقية قائمة على قانون التنافس الشريف بين الرساميل.
لا تعبر هذه المطالب عن إمكانيات للتحقق الواقعي في زمن يشهد اندماج السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية في كل البلدان بشكل لم يعرفه تاريخ الرأسمالية من قبل، إنما يعبر عن استياء أقسام الطبقة البرجوازية المحرومة من فرص الاغتناء الاقتصادي اعتمادا على سلطة الدولة واحتكار هذه الفرص من قبل القسم الحاكم من نفس الطبقة.
ينتقد الليبراليين صيغة تطبيق الخوصصة، ولا يرفضونها كمبدأ يصفي القطاع العام ويمنحه للاستثمار الخاص. ينتقدون استئثار المقربين إلى السلطة السياسية بالقطاعات المفوتة، ويعترضون على حصر حلب بقرة الدولة في يد الحاكم الفردي وحاشيته من الأقارب والأصدقاء والأعوان.
وما يقترحه الليبراليون ليس العدول النهائي عن سياسة الخوصصة، فهذا يناقض مصلحة الرأسمالي الفرد الذي يدافعون عنه، بل تعميمها على جميع الرأسماليين كبارا كانوا أم صغارا، مقربين أم مبعدين من دائرة السلطة السياسية.
يناقض مطلب فك العلاقة بين السلطة والثروة، ما شهده تاريخ هذه العلاقة طيلة مراحل تطور الرأسمالية.
ففي الفترة الأولى من تطور الرأسمالية، أي ما يطلق عليه مرحلة التراكم البدائي، كان دور الدولة جليا، ولعبت دور القابلة والمولدة لعلاقات الإنتاج الرأسمالي: بنهب المستعمرات وقمع شعوبها، وإخضاع الطبقة العاملة وإخماد طاقتها على مقاومة الاستغلال. حرصت الدولة في أوربا على ضمان التراكم الأولي للرأسمال عندما أصدرت القوانين حول التشرد، وأعدمت بلا شفقة «المتشردين» الذين رفضوا الانصياع لنير رأس المال، وعندما أصدرت القوانين حول الحد الأقصى من الأجور والحد الأدنى ليوم العمل.
استمر تدخل الدولة طيلة تاريخ تطور الرأسمالية، رغما تأوهات الليبراليين ورثة آدم سميث، وشهدت علاقة الدولة والاقتصاد مزيد التداخل بدل الفصل: عسكرة الاقتصاد أثناء الحربين العالميتين، دولة الرفاه والرعاية الاجتماعية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولم تأت مرحلة الهجوم النيوليبراليي في الربع الأخير من القرن العشرين بتخفيف هذه العلاقة بل تغيير صيغتها، بلغت أشكالا متطرفة باستعمال المالية العامة لدعم الأبناك والشركات المفلسة، واستعمال الدولة لفرض التوجهات النيوليبرالية.
لا يطالب الماركسيون الثوريون بفصل الثروة الاقتصادية عن السلطة السياسية، بل يناضلون من أجل تنظيم الطبقة العاملة وجماهير المفقرين من أجل انتزاعهما من يد الطبقة البرجوازية وسلطتها السياسية. فقط مركزة للثروة والسلطة في يد الطبقة العاملة سيتيح أكبر رافعة سياسية لتنمية اقتصادية تخدم مصالح الطبقة العاملة والمفقرين، وليس مصلحة قسم من أقسام الطبقة البرجوازية الحاكمة دون غيرها.
عجز واستجداء
بغض النظر عن طوباوية بعض مطالب الليبرالية ورجعية بعضها الآخر، فإن الأحزاب الليبرالية عاجزة عن فرضها بالنضال. تحرص هذه الأحزاب على ما تسميه استقرارا سياسيا وسلما اجتماعيا، لذلك تتفادى نضالا قد يهدد هذا الاستقرار، وتفضل بدله أشكال استجداء ونضال وفق ما يسمح به «القانون الجاري به العمل.
تعمل هذه الأحزاب داخل مؤسسات سياسية مفصلة على مقاس الاستبداد، وتسعى لاستعمال ما تعتبره هامشا ديمقراطيا لإيصال مطالبها، ولا يتعدى هذا رفع مذكرات ومشاريع قوانين داخل البرلمان يجري رفضها في الأخير، ورغم ذلك تعتبر هذه الأحزاب ذلك تمرينا ديمقراطيا يجب تثمينه وتطويره.
لكن عندما يقوم نضال شعبي فإن هذه الأحزاب لا تجلس مكتوفة الأيدي، بل تسعى لأقصى استعمال له لاستجداء مكاسب سياسية واقتصادية، وتعمد إلى تحذير الحاكمين من نتائج سياستهم التي تهدد الاستقرار السياسي، وفي نفس الوقت تتقدم بمطالب تطمئن الحاكمين وتوهم الكادحين.
لا يمكن لأي نضال تقوده أحزاب من هذه الطينة إلا أن ينتهي إلى هزيمة محققة، وقد شهد على ذلك تاريخ البلد السياسي منذ النضال ضد الاستعمار. لذلك على طلائع النضال الطبقي والسياسي بالمغرب أن تستنتج العبرة: الحاجة إلى حزب بديل ومغاير لن يكون إلا حزب الطبقة العاملة الثوري الاشتراكي.

شارك المقالة

اقرأ أيضا