إصلاح التعليم المزعوم: رؤية إستراتيجية لإتمام مسلسل تفكيك التعليم العمومي

نسخة معدة للقراءة الالكترونيةpdf

نسخة PDF معدة للطبع

محتويات الكراس:

ماذا بعد 13 سنة من تطبيق الميثاق؟

“رؤية إستراتيجية للإصلاح 2015 -2030” ما لا يأتي بالتخريب، يأتي بمزيد من التخريب

التعليم العالي تحت مطرقة الإصلاح

=================

“رؤية إستراتيجية للإصلاح 2015 -2030” ما لا يأتي بالتخريب، يأتي بمزيد من التخريب

أصدر المجلس الأعلى للتعليم تقريرا تحليليا عن تطبيق الميثاق 2000- 2013، وأتبعه بإصدار وثيقة بعنوان براق وإشهاري: “من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء، رؤية استراتيجية للإصلاح 2015- 2030”.

جرى تقديم وثيقة “الرؤية الاستراتيجية” بنفس الطريقة الدعائية التي قدم بها الميثاق وبعده المخطط الاستعجالي؛ عبارات مفخمة مثل “المقاربة التشاركية” و”الحكامة الناجعة” و”المرونة الانفتاح”، إضافة إلى ادعاء مصلحة المواطن (“الإنصاف وتكافؤ الفرص، الجودة للجميع، الارتقاء بالفرد والمجتمع”) وهي عبارات لا تفيد إلا تغطية المراد الحقيقي من هذه الوثيقة الجديدة؛ استئناف الهجوم على الحق في التعليم العمومي المجاني والجيد.

تتكون الرؤية الاستراتيجية من أربعة فصول مقسمة إلى 23 رافعة، تفصل محاور “الإصلاح الجديد” بلغة تقنية ومفخمة لإيهام المتلقي بأن المدرسة المغربية ستدخل عهدا جديدا من الارتقاء والجودة.

الميثاق جيد.. لكن تطبيقه سيء

يتساءل واضعو الوثيقة: “لماذا لم تنجح الإصلاحات المتعددة المتوالية في التمكن من تحقيق النتائج المطلوبة، هل الخلل كامن في التصور أم في التطبيق؟”.

تشير وثيقة الرؤية الاستراتيجية بأننا سنجد “أجوبة مستوفية في التقرير التحليلي المتعلق بتطبيق الميثاق”.. وهو التقرير الذي يرد الخلل إلى التطبيق وليس إلى التصور. لذلك أصرت الرؤية الاستراتيجية على اعتبار الميثاق الوطني للتربية والتكوين إحدى مرجعياتها إلى جانب فصول الدستور والخطب الملكية.

لا جديد تحت شمس الميثاق الوطني للتربية والتكوين

تمثل “الرؤية الاستراتيجية 2015- 2030” تحيينا ثانيا للميثاق الوطني للتربية والتكوين، بعد التحيين الأول الذي مثله “المخطط الاستعجالي 2009- 2011”.

نفس المبادئ والمرامي والتوصيات الواردة في الميثاق والمخطط جرى تفصيلها مرة أخرى وبلغة أكثر تنميقا في وثيقة “الرؤية الاستراتيجية”، لذلك عبثا تبحث عن جديد، غير وارد في الميثاق.

الدعاية للاستبداد

لا يترك الاستبداد فرصة دون استغلالها للدفاع عن مشروعيته، سواء أكانت تدشينا أو إصدارا لقانون أو ادعاء إصلاح، وهو ما وفت به وثيقة “الرؤية الاستراتيجية” التي جعلت مرجعيتها الرئيسية دستور 2011، “الذي كرس الخيارات المجتمعية، لا سيما تلك المتعلقة بإقرار الحق في التربية والحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة”.

خصصت الرؤية الاستراتيجية للمدرسة مهمة تكوين المواطن القابل للاستبداد والخانع، “مواطن متمسك بالثوابت الدينية والوطنية والمؤسساتية للمغرب.. وقادر على الموازنة الذكية والفاعلة بين حقوقه وواجباته”.

دائما قصة الإجماع الوطني

ولإضفاء المشروعية على الهجوم الجديد على التعليم الذي تمثله “الرؤية الاستراتيجية”، تدعي هذه الأخيرة أنها نتاج إجماع وطني وليس خطة منزلة من أعلى: “إطلاق مشاورات موسعة شملت الفاعلين في المدرسة، والأطراف المعنية والمستفيدة، والشركاء، والقطاعات المسؤولة عن التربية والتكوين والبحث العلمي، ومن له رأي في الموضوع من الكفاءات الوطنية والخبراء.. بخصوص واقع المدرسة المغربية واستشراف آفاقها”.

تضم وثيقة الرؤية الاستراتيجية نفس المحاور الرئيسية للهجوم على المدرسة العمومية المفصلة في الميثاق الوطني للتربية والتكوين:

أولا: المزيد من تقليص التمويل العمومي

تؤكد الوثيقة على غرار التقرير التحليلي (دجنبر 2014) على “استمرار الدولة في تحمل القسط الأوفر من التمويل مع تنويع مصادره”.

تمثل عبارة “القسط الأوفر” مدخلا لشرعنة القضاء على الطابع العمومي والمجانية الكاملة لقطاع التعليم وبالتالي تحميل الأسر جزءا من هذا القسط، وقد تم ذلك أصلا في جزء كبير منه بفتح الباب أمام القطاع الخاص، فالجانب الذي ستتحمل فيه الدولة القسط الأوفر من التمويل هو ما تبقى عموميا من المدرسة.

إن منظور الدولة في تمويل التعليم محكوم كليا بتوصيات وأوامر البنك الدولي، فهذا الأخير يوصي بتقليص التمويل العمومي إلى حدود يحقق فيها “الفعالية والنجاعة” ويقصد بها مستوى من التمويل لا يثقل الميزانية العامة ولا يقف عائقا أمام حفز القطاع الخاص وأداء الديون، فقد جرى “إعادة تشكيل مفهوم الإنفاق العام للدولة، واعتباره مبررا فقط عندما يجعل الرأسمال المحلي أكثر تنافسية. وبينما يسمح ذلك بمستوى معين من الإنفاق العام على التعليم والصحة وغيرها من الخدمات الاجتماعية، يظل هذا الإنفاق مقيدا من وجهة نظر الليبراليين الجدد بالقدر الذي يحقق الكفاءة الاقتصادية”[i].

ولا تهتم الدولة بالآثار الكارثية لتقليص التمويل العمومي للتعليم؛ “قد يؤدي تراجع التمويل العمومي للتعليم تكريس نظامين تربويين، نظام عمومي ضعيف المردودية والجدوى ونظام خاص ذو جودة عالية وفاعلية وهكذا تتلاشى مؤيدات تكافؤ الفرص ودعائم الإنصاف ليحل محلها التمييز واللامساواة”[ii].

فصلت الوثيقة في الطرق التي ستتمكن بها الدولة من تنويع مصادر التمويل، أي الطرق التي ستتخلى بواسطتها عن تمويل تعليم أبناء الكادحين.

أ. ضمان مجانية التعليم الإلزامي باعتباره واجبا على الدولة

أي التعليم  من سن 5 حتى 15 سنة أما التعليم الثانوي التأهيلي والجامعي فليس واجبا على الدولة، ومرة أخرى يقصد هنا الجانب الذي تبقى عموميا من المدرسة، فالقطاع الخاص يغطي نسبة كبيرة من هذا التعليم، وليست الدولة “ملزمة” بضمان تمويله.

ضمان هذا التمويل يشترط أيضا “إسهام من الشركاء المعنيين كافة، ولا سيما الجماعات الترابية، بما يتلاءم مع اختصاصاتها ومواردها وفق شروط مؤطرة من قبل الدولة”.

ومرة أخرى الدولة وفية كل الوفاء لأوامر البنك العاملي الذي يعتبر في كل تقاريره- التي تتخذ طابع الإلزام-، تمويل التعليم “لكافة المراحل.. بدون تمييز.. إجراء غير كفؤ وضد اعتبارات عدالة  التوزيع”. ويقترح البنك العالمي “استرداد التكاليف وإعادة التخصيص لصالح المراحل التعليمية ذات العائد الاجتماعي الأكبر”[iii].

ب. التخلي عن تمويل التعليم الثانوي والجامعي

ربطت الرؤية الاستراتيجية “مجانية متابعة الدراسة بعد التعليم الإلزامي باستيفاء الكفايات والمكتسبات اللازمة لذلك في حالة عرقلت أسباب مادية محضة هذه المتابعة”.

ج. دعم الأسر المعوزة: رافعة لتحويل التعليم إلى سلعة

وعلى غرار ما قامت به الدولة في قطاع الصحة، تتعهد الوثيقة باستهداف الأسر المعوزة التي لا تستطيع تمويل تعليم أبنائها بمختلف أشكال الدعم الاجتماعي؛ “تحسين طرق استهداف الفئات المستفيدة من الدعم الاجتماعي، وتعزيز برامج الدعم المالي لفائدة ضمان تمدرس أبناء الأسر المعوزة”.

إنه نوع من “التغطية التعليمية” على غرار “التغطية الصحية”. فإلغاء المجانية ستكون له عواقب اجتماعية وخيمة تسعى الدولة إلى تلطيفها بهذه الوسيلة، باستهداف الأكثر فقرا بالدعم.

إن فرض رسوم التسجيل على التعليم الثانوي والجامعي يصطدم بانعدام القدرة على الأداء لدى الغالبية العظمى من الكادحين، لذلك يوجه البنك العالمي الانتباه إلى ضرورة دعم الأسر الأكثر عوزا والتي تعجز عن تمويل تعليم أبنائها ما بعد الابتدائي.

رسخ البنك العالمي فكرة أن “الحكومات لا تستطيع أن تمول التعليم لكافة المواطنين، وهو الأمر الذي يقودنا إلى أحد أهم القضايا الخاصة بكيفية التمييز في دعم الرأسمال البشري، معبرا عنه بالقيم، بالشكل الذي يضمن عدم تسريب (التسطير من عندنا)، أو على الأقل التقليل منه، أموال الدعم للفئات الاجتماعية الأقدر ماليا، وبالتالي عدم الإساءة لمفهوم الدعم من كونه يوجه لخفض تكلفة السلعة أو تقليل سعرها لتسهيل مهمة استهلاك السلعة الأساسية من قبل الفئات الأفقر”[iv].

إنها نفس حجة إلغاء صندوق المقاصة، حجة أن تمويل الدولة للصندوق يستفيد منه الأغنياء أكثر من الفقراء، لذلك يجب إلغاءه وتخصيص دعم محدد للأسر المعوزة.

إن الدعم موجه لإسناد القدرة الشرائية للمعوزين كي يكونوا قادرين على الحصول على خدمة التعليم بتخفيض “تكلفة السلعة أو تقليل سعرها”، ويتحول بذلك الدعم إلى رافعة لتحويل التعليم من “خدمة عمومية” إلى “سلعة”.

ويقترح البنك الدولي هذا الدعم الاجتماعي لمواجهة الكوارث الاجتماعية التي ستترتب عن خصخصة التعليم؛ “إن أهم تحفظ على خصخصة التعليم، سواء الجامعي أم في المراحل التعليمية الأخرى، هي إمكانية التأثير سلبا على اعتبارات العدالة الاجتماعية في توزيع الخدمات التعليمية بالنوعية الواحدة على جميع الشرائح السكانية. بعبارة أخرى، ما لم تتخذ إجراءات تعويضية لصالح الشرائح الدخلية الأقل فإن من شأن الخصخصة أن تقود إلى استقطاب يترتب عليه حصول من يملك على نوعية عالية من التعليم، ومن لا يملك على نوعية متدنية من التعليم، الأمر الذي سيعمق من التفاوت في توزيع الدخول”[v].

د. تنويع مصادر التمويل

أي البحث عن مصادر أخرى لتمويل التعليم تساهم “إلى جانب الدولة، ولا سيما عبر تفعيل التضامن الوطني والقطاعي، مما سيمكن من إسهام باقي الأطراف المعنية والشركاء، ولا سيما: الجماعات الترابية، المؤسسات العمومية، القطاع الخاص، إقرار رسوم التسجيل في التعليم العالي، ولاحقا، في التعليم الثانوي التأهيلي، مع تطبيق مبدأ الإعفاء الآلي على الأسر المعوزة، إحداث مساهمة لتمويل التعليم ترصد مواردها لصندوق مخصص لدعم العمليات المرتبطة بتعميم التعليم والتكوين وتحسين جودتهما، على أن يتم تمويل هذا الصندوق من الدولة والخواص، احتفاظ مؤسسات التربية والتكوين والبحث بمداخيلها لتنمية مستلزمات الجودة والتأهيل…”.

لا تعليق.. ولا جديد تحت شمس ما جاء به الميثاق الوطني من سبل لتغطية انسحاب الدولة من ساحة تمويل تعليم الكادحين.

ثانيا: المزيد من تفكيك المدرسة العمومية

يشكل القطاع العمومي من التعليم عبئا كبيرا من الناحية المالية، لكنه يعد جهازا لا تستطيع الدولة التخلي عنه لما يقوم به من أدوار أيديولوجية، ولكن هناك مستويات دنيا من بقاء المدرسة العمومية  قد تقبل الدولة والإجراءات النيوليبرالية أن يصل إليه تفكيك القطاع العمومي من التعليم.

أ. إلزامية التعليم في حدود (4- 15 سنة)

رأينا أعلاه منطق البنك العالمي الذي يبرر حصر التمويل في التعليم الابتدائي وتسعير الخدمات التعليمية في الثانوي والجامعي، ويضيف البنك العالمي أن الإلزامية ذاتها لا يجب أن تتعدى حدود هذا المستوى.

على التعليم الابتدائي أن يمنح المهارات والمعارف والقدرات البدائية لجميع التلاميذ، كي يكونوا مواطنين مستهلكين، أما الاندماج في اقتصاد المعرفة والتكنولوجيا فليس متيسرا للجميع، بل يجب أن يبدأ الانتقاء الاجتماعي/ البيداغوجي، منذ نهاية الطور الابتدائي، أي انتقاء الأكثر قدرة على الاستجابة لمتطلبات هذا الاقتصاد.

أما غير القادرين على استكمال التعليم (ما بعد الإلزامي)، فسيكونون يدا عاملة للقطاعات المتخلفة والتقليدية من الاقتصاد.. لقد أنهى الميثاق مرحلة في تاريخ المدرسة المغربية وهي “المرحلة الجماهيرية”، وقد جاءت الرؤية الاستراتيجية” لاستكمال هذه المهمة.

ففي مرحلة ما بعد الاستقلال- التي تزامنت مع مرحلة من الازدهار طويل الأمد للنظام الرأسمالي ودولة الرعاية الاجتماعية، عملت الدولة على تجاوز التأخر الكبير في ولوج التعليم من أجل الاستجابة لحاجياتها إلى كادر إداري في كل القطاعات إضافة إلى يد عاملة في القطاع العام.

وهو عين ما لوحظ في أنظمة التعليم ببلدان العالم العربي: “توجد جل الأنظمة التربوية العربية اليوم في مفترق الطرق. فقد كان مطروحا عليها في المرحلة السابقة التي انطلقت في كل بلد عربي إبان حصوله على الاستقلال واسترجاع سيادته وحقه في تقرير المصير ومكافحة الجهل بنشر التعليم على نطاق واسع وضمانه لكل الأطفال بدون استثناء ولا تمييز”[vi].

انتهت هذه المرحلة من تاريخ المدرسة بالهجوم النيوليبرالي المضاد، الذي أراد أن يتخلص من رواسب المدرسة في مرحلتها الجماهيرية، فأخذ الحديث على أن التركيز على المكتسبات الكمية قد أفرزت سلبيات لازمت قطاع التعليم؛ “ويمكن اختزال هذه السلبيات والتحديات في قضية كبرى ذات أبعاد  وتشعبات وهي جودة التعليم”[vii].

إن الجودة والنوعية يقصد بها عادة التكيف مع “تحديات جديدة فرضتها التحولات المتسارعة التي شهدها العالم خلال العقدين الأخيرين”[viii].. والمقصود بالتحديات هو متطلبات السياق الاقتصادي الجديد وليس حاجيات التلاميذ والطلاب.

ب. المزيد من تشجيع القطاع الخاص

تعددت وسائل تشجيع القطاع الخاص بالمغرب من تحفيزات ضريبة وأشكال دعم مادية وبيداغوجية وإدارية، وهو ما تؤكد عليه الرؤية الاستراتيجية من جديد: “استفادة التعليم الخاص من تحفيزات من الدولة أو الجماعات الترابية للنهوض بتعميم التعليم الإلزامي، لا سيما بالمجال القروي” (الرافعة الثامنة).

تؤكد الرافعة الثامنة من “الرؤية الاستراتيجية” أن “التعليم الخاص شريك للتعليم العمومي في التعميم وتحقيق الإنصاف”. مع إضافة أن على القطاع الخاص الالتزام “بمبادئ المرفق العمومي، لأنه استثمار في خدمة عمومية تندرج في إطار الخيارات والأهداف المرسومة للمشروع التربوي الوطني”.

هذه التأكيدات كلها تسير عكس ما نطقت ولا زالت تنطق به وقائع تردي التعليم بالمغرب نتاج الانتشار الكبير للقطاع الخاص.

عبر “الائتلاف المغربي للتعليم للجميع[ix]” عن “قلقه الشديد في تقريره المقدم إلى لجنة الأمم المتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، من مختلف أنواع التمييز في التعليم الناتج عن التزايد الفوضوي للتعليم الخصوصي في المغرب. وكذا الأخطار التي قد تنجم بالنسبة لحقوق الإنسان، وخاصة الحق في التعليم من خلال تبني الشراكات عمومي- خصوصي في قطاع التعليم”[x].

ونبه تقرير صادر عن لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمنظمة الأمم المتحدة إلى آثار الخوصصة على التعليم في المغرب. استندت اللجنة على تقرير لتحالف منظمات دولية ومغربية، تشير إلى أن توجه الدولة نحو تخصيص %20 من التعليم للقطاع الخاص، لم يواكبه مراقبة هذا الصنف من التعليم، خاصة على مستوى المصاريف التي يحملها للأسر، بل إن التقرير يشدد على أن البرنامج الاستعجالي الذي تبناه المغرب، ساهم بشكل كبير في “خصخصة المدرسة العمومية وتسليع التعليم، عبر تفويت تدبير الحراسة والنظافة والداخليات والمطاعم المدرسية، ومعبر منح مدارس عمومية للقطاع الخاص، وتبني نظام هش لتوظيف المدرسين”.

تشير دراسات إلى “أن التعليم الخصوصي الذي انتشر بصفة كبيرة في العشرية الأخيرة، قد ألحق ضررا كبيرا بمنظومة التعليم التي طالما كانت سندا حقيقيا للاقتصاد المغربي، حيث اضطرت نحو 194 مدرسة عمومية منذ العام 2008 في المغرب إلى إغلاق أبوابها لأسباب مختلفة علاوة على وجود قائمة طويلة على لائحة المدارس المهددة بالإغلاق”[xi].

سيلقى القطاع الخاص المزيد من التشجيع مع استراتيجية الدولة القائمة على الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص من خلال “إرساء مقومات الشراكة بين الأطراف المعنية في إطار تعاقدي”.

سبق لمنظمات “الائتلاف المغربي للتعليم للجميع” أن نبهت إلى “الأخطار التي قد تنجم بالنسبة لحقوق الإنسان، وخاصة الحق في التعليم من خلال تبني الشراكات عمومي- خصوصي في قطاع التعليم… كما يعرب تجمع المنظمات عن قلقه من استلهام المغرب لنموذج الشراكات عمومي- خصوصي كما تطورت بالشيلي علما أن النظام التعليمي الشيلي يعتبر أحد الأنظمة الأقل إنصافا في العالم. كما أن الشيلي حاليا بصدد التراجع عن نظام الشراكات عمومي- خصوصي. إضافة إلى أن اللجنة الأممية لحقوق الطفل أيضا أعادت النظر في النموذج الشيلي.. خصوصا نتيجة “التمييز” الذي يخلفه”.

ج. مهننة التكوينات

إن المهمة التي أقرها الميثاق لا زالت قائمة؛ “ملاءمة المدرسة مع حاجيات سوق الشغل” برامجا ومناهجا. وقد وفت الرؤية الاستراتيجية لهذه المهمة؛ “ربط التعليم المدرسي بالتكوين المهني، من خلال دمجهما في تنظيم بيداغوجي منسجم ومتناغم، مع تعزيز سيرورة الدمج هاته بإحداث مسارات للتعليم المهني منذ التعليم الإعدادي تنتهي بالتعليم الثانوي التأهيلي بتخصص الباكالوريا المهنية”.

وتريد الرؤية الاستراتيجية تطوير انفتاح المدرسة على “المحيط الاقتصادي” إلى مستوى مأسسته: “مأسسة قواعد الشراكة بين الفاعل الاقتصادي ومؤسسات التربية والتكوين لضمان التفاعل بينهما، بما يفضي إلى الملاءمة بين التكوينات وسوق الشغل، وإلى تسريع اندماج الخريجين في النسيج الاقتصادي”.

الهدف واضح كل الوضوح منذ إقرار الميثاق وتطبيقه: المدرسة مجال لتكوين يد عاملة مؤهلة ورخيصة موجهة لتلبية المتطلبات المتغيرة للمقاولات في سياق اقتصادي مطبوع بعدم الاستقرار واشتداد التنافس، أي أن المدرسة ستكون مساهمة في تخفيض تكلفات العمل.

لقد سبقت الدول المتقدمة المغرب إلى ذلك: “تعتبر التجربة الألمانية من أفضل التجارب في هذا المجال. فمن خلال عقود التمهن يلتحق أولئك الشباب ممن لم يكملوا دراستهم الجامعية للعمل لدى منشآت تضمن لهم التدريب المناسب أثناء العمل. علما بأن هذه العقود تمتد ما بين ثلاث إلى سبع سنوات. وتتميز هذه العقود، بالإضافة إلى تنمية المهارات بشكل أفضل، بالاتجاه نحو خفض صافي تكاليف العمل (إجمالي التكاليف- أجر العامل). كما تتميز هذه البرامج أو العقود، بانخفاض تكاليف جذب المرشجين للتمهن حيث تختفي تكاليف سفر المرشحين (في حالة وجودها)، وتكاليف الإعلان، وذلك لأن الراغبين في هذا النوع من التدريب عادة ما يبادروا من أنفسهم في الاتصال بأصحاب المنشآت القريبة من سكن المرشحين. ومن مزايا هذه العقود أيضا، أن المصانع المتعاملة بها لا تضطر لدفع أجور أعلى بهدف جذب عاملين من مصانع أخرى، وذلك لقيامها بتأهيل المهارات المطلوبة من خلال هذه العقود”[xii].

ماذا تبقى من المدرسة العمومية؟

لم يعد مفهوم “العمومي” يحيل إلى “خدمة مجانية تقدمها الدولة ومؤسساتها العمومية، فقد لحق المفهوم تغير كبير مع النيوليبرالية الجديدة، وأصبح يفهم منه خدمة مقدمة للعموم سواء قدمت من طرف الدولة أو القطاع الخاص.

 فقد “أسفر المزج بين العولمة وفكر الليبرالية الاقتصادية الجديدة عن تغييرات ومستجدات عديدة في قطاع التعليم على مستوى العالم، وفي الوطن العربي، حيث تزايدت أهمية الأبعاد التجارية والسوقية، وغيرت من الطبيعة الاجتماعية والتنموية للتعليم”[xiii].

انقضى العهد الذي كان التعليم فيه حكرا على الدولة وكان ينظر إليه على أنه خدمة عمومية ذات طابع اجتماعي وإنساني؛ “ولم يعد من غير المألوف أن تتضمن الدراسات الأكاديمية التي تتناول قضايا التعليم عبارات مثل: الاتجار في التعليم، والتعليم العابر للحدود، والجامعات الهادفة إلى الربح، وتصدير واستيراد خدمات التعليم، وسماسرة التعليم، وشركات التعليم التي يتم تداول أسهمها في سوق الأوراق المالية وغير ذلك. وكل هذه عبارات تنتمي إلى أدبيات التجارة واقتصاد السوق الرأسمالي، لكنها فرضت نفسها على الباحثين عند تناول بعض قضايا التعليم كونها جزءا من نسيج هذه القضايا”[xiv].

وفي نفس السياق شجعت الدولة بالمغرب القطاع الخاص للاستثمار في التعليم وارتفعت نسب والجي القطاع الخاص في كل مستويات التعليم[xv]، وأصبح مألوفا الاتجار في هذه الخدمة، واعتبرت “الرؤية الاستراتيجية” ذلك “استثمارا في خدمة عمومية”.

ثالثا: لا مركزة القرار لخدمة رغبات الرأسمال

يستعمل مفهوم الحكامة كلما أريد به تكييف مؤسسات الدولة مع متطلبات رأس المال وأوامر مؤسساته الدولية، وهو ما رسخه الميثاق بإعادة هيكلة مؤسسات قطاع التعليم وتوسيع اللامركزة ومنح السلطات للأكاديميات والجامعة وتشجيع استقلاليتها.

الرؤية الاستراتيجية بدورها تستعيد نفس السيمفونية، في الرافعة 14 وعنوانها “استهداف حكامة ناجعة لمنظومة التربية والتكوين”، وفصلت ذلك من خلال: “إسناد مسؤولية تدبير منظومة التربية والتكوين لبنيات التدبير على المستوى الترابي، عبر تفويض الصلاحيات والمهام، في إطار الاستقلالية والتعاقد والمحاسبة”.

إن تملص الدولة من تمويل التعليم وتشجيع القطاع الخاص يجب أن يوازى بنوع من الإجراءات تسهل هذا التملص وهذا التشجيع، وأهمها نزع المركزة عن مؤسسات قطاع التعليم وتفويض الصلاحيات للمؤسسات الدنيا، وكل ذلك لجعلها قادرة على التكيف السريع مع حاجيات السوق.

والنتيجة تحويل المدرسة إلى “مؤسسات تدريب لها المرونة في التعامل مع متطلبات محيطها المباشر حتى تكيف تدخلاتها بما يلبي الرغبات المعبر عنها من قبل مؤسسات الإنتاج. ولها من الآليات ما يمكنها أيضا من القيام باستشراف الاختصاصات الجديدة أو تغير الملامح المطلوبة في الاختصاصات الراهنة. ولا يمكن لمؤسسات التدريب النهوض بهذا الدور ما لم تكن مرتبطة بمحيطها وفي علاقة دائمة مع جهاز الإنتاج”[xvi].

ينتقد البنك العالمي “ضعف إن لم يكن غياب المنافسة بين المدارس”[xvii]، أي التنافس على جلب الممولين واستقطاب الزبناء وعقود الشراكة، ما سيجعل المدرسة بعد منحها الاستقلالية الإدارية والمالية والبيداغوجية محلات تجارية يتنافس مدراؤها على إرضاء من يدفع أكثر.

رابعا: تشديد استغلال شغيلة التعليم

يقوم نظام التربية والتكوين على عمل شغيلة القطاع، ويعد إصلاح قانون الوظيفة العمومية بشكل عام، والنظام الأساسي لموظفي التعليم بشكل خاص، أحد جبهات الهجوم على الطبقة العاملة (أجورا واستقرارا وتقاعدا).

دأبت الدولة على تكييف شروط عمل شغيلة التعليم مع متطلبات هذا الهجوم، الذي تسعى الدولة لتمريرها حاليا. وتعد “الرؤية الاستراتيجية، باستعادتها نفس ما ورد في الميثاق والمخطط الاستعجالي، إحدى المخططات التي تشكل أسلحة هذا الهجوم.

تتحدث الرافعة التاسعة من الرؤية عن “تجديد مهن التدريس والتكوين والتدبير” باعتبارها “أسبقية أولى للرفع من الجودة”.

وهذا التجديد بالنسبة للرؤية الاستراتيحية هو “تدبير ناجع للمسار المهني، قائم على المواكبة والتقييم والترقية المهنية على أساس الاستحقاق وجودة الأداء والمردودية”.. ومرة أخرى لا جديد سوى إدخال علاقات الهشاشة والمرونة السائدة في القطاع الخاص إلى قطاع التعليم العمومي، انسجاما وتوصيات البنك العالمي.

بدل أن تطبق الدولة النزر اليسير من قانون الشغل في قطاع التعليم الخاص وتمتيع “شغيلة هذا القطاع” بالحقوق الواردة في هذا القانون، تعمل على جعل القطاع العمومي نسخة طبق الأصل لما هو سائد من علاقات شغلية داخل القطاع الخاص.

ولتسهيل ذلك تقترح الرؤية الاستراتيجية نقل صلاحيات التعاقد مع الأساتذة ومتابعة مسارهم المهني وتقييمه إلى الأكاديميات، في انسجام تام مع انتقادات البنك العالمي؛ “لا يوجد صلاحيات لا مركزية لمدراء المدارس في تقييم المدرسين والمناهج، ويتم الاعتماد بدلا من ذلك على صلاحيات مركزية”[xviii].

ولا يقتصر هذا الهجوم على تدبير المسار المهني، بل يتعداه إلى المنبع، إلى تعميم الهشاشة والمرونة منذ بداية الالتحاق بسلك التعليم؛ “يتم على المدى المتوسط، بالتدريج، اعتماد تدبير جهوي للكفاءات البشرية في انسجام مع المنهج اللامتمركز لمنظومة التربية والتكوين، ومع توجهات الجهوية المتقدمة، مع تنويع أشكال توظيف مدرسي التعليم المدرسي ومكوني التكوين المهني، وذلك طبقا للمادة “135أ” من الميثاق، والتي تنص على “تنويع أوضاع المدرسين الجدد بما في ذلك اللجوء إلى التعاقد على مدد زمنية قابلة للتجديد على صعيد المؤسسات والأقاليم والجهات”.

وقد بدأت الحكومة تنفيذ هذا الهجوم بإصدارها لمرسوم يفصل بين تكوين الأساتذة وتوظيفهم، وقبله أصدرت وثيقة تحت عنوان “التدابير ذات الأولوية”، وقد تضمن-إلى جانب إجراءات أخرى- جملة إجراءات لتحميل الأساتذة تكلفة أزمة قطاع التعليم “عبر المزيد من الضغط وتكتيف استغلال العاملين بالقطاع”[xix].

ولا يعني هذا أن القطاع مشبع بالأطر، وأن مإمكانية توفير المناصب منتفية، فإلى جانب الخصاص القائم، هناك ضرورة تعويض الذي سيحالون إلى التقاعد وأعدادهم كبيرة: “في سنة 2013، بلغت نسبة المدرسين الذين لا يقل عمرهم عن 50 سنة %35، وبهذا الصدد، تشير التوقعات إلى أن عملية التقاعد ستعرف زيادة ملموسة ابتداء من سنة 2016، لتبلغ مستويات أعلى ما بين سنتي 2018 و2020، حيث يتوقع حصول 32 ألف مدرس على التقاعد”[xx].

“فليسقط كل نظام تربوي يجعل الشغيلة التعليمية عبيدا للرأسمال ويوظف المنظومة التربوية كآلية لخدمة المؤسسات المالية والامبريالية والمقاولة ولوبي الرأسمال…”[xxi].

لا لكل إصلاح يخدم رأس المال ويضحي بمصالح التلاميذ والطلبة في تعليم مجاني وجيد.

لا لكل إصلاح يحمل الكادحين تكلفة أزمة القطاع.

بقلم أزنزار 

هوامش 

[i]  .         “التجارة بالتعليم في الوطن العربي: الإشكاليات والمخاطر والرؤية المستقبلية”، محيا زيتون، أستاذ الاقتصاد في جامعة الأزهر، مجلة المستقبل العربي.

[ii]             . التعليم في الوطن العربي، تقرير المرصد العربي للتربية، 2012.

[iii]             . “التجارة بالتعليم في الوطن العربي: الإشكاليات والمخاطر والرؤية المستقبلية”، محيا زيتون، أستاذ الاقتصاد في جامعة الأزهر، مجلة المستقبل العربي.

[iv]             . نفس المرجع.

[v]              . نفس المرجع.

[vi]             . التعليم في الوطن العربي، تقرير المرصد العربي للتربية، 2012،

[vii]            . التعليم في الوطن العربي، تقرير المرصد العربي للتربية، 2012،

[viii]           . نفس المرجع

[ix]             . ائتلاف يضم المنظمات التالية: الفيدرالية الوطنية لجمعيات آباء وأمهات وأولياء التلاميذ بالمغرب، المبادرة العالمية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حركة أنفاس الديمقراطية، جمعية بيتي، اتحاد الطلبة من أجل تغيير النظام التعليمي، زينو من أجل تكافؤ الفرص، أطاك المغرب

[x]              . بيان صحفي صادر عن الائتلاف بتاريخ 10 أبريل 2015

[xi]             . مجلة العرب، العدد 9817، 03 فبراير 2015.

[xii]            . “السياسة الاقتصادية ورأس المال البشري”، “العلاقة بين التعليم وقياس عوائد الاستثمار البشري”، أحمد الكواز، أكتوبر 2002.

[xiii]           . “التجارة بالتعليم في الوطن العربي: الإشكاليات والمخاطر والرؤية المستقبلية”، محيا زيتون، أستاذ الاقتصاد في جامعة الأزهر، مجلة المستقبل العربي

[xiv]                                                                                                                                                                              . نفس المرجع.

[xv]            . “يستوعب %13.6 بين مجموع التلاميذ المتمدرسين سنة 2013، في الوقت الذي لم يكن يستقبل سوى %4.7 من التلاميذ المتمدرسين سنة 2000”. المجلس الأعلى للتعليم، التقرير التحليلي، دجنبر 2014,

[xvi]            . “التعليم في الوطن العربي”، تقرير المرصد العربي للتربية، 2012.

[xvii]           . “السياسة الاقتصادية ورأس المال البشري”، “العلاقة بين التعليم وقياس عوائد الاستثمار البشري”، أحمد الكواز، أكتوبر 2002.

[xviii]          . نفس المرجع

[xix]            . “التنسيق النقابي بزاكورة: ما سمي بالتدابير ذات الأولوية معاول لإقتلاع التعليم العمومي من جدوره…”، موقع جريدة المناضل-ة، 14 أبريل، 2015.

[xx]            . المجلس الأعلى للتعليم، التقرير التحليلي، دجنب 2014.

[xxi]            . نفس المرجع.

شارك المقالة

اقرأ أيضا