إضراب المفروض عليهم/هن التعاقد: تصعيد مبرر

نشرت جريدة أخبار اليوم مقالا يهاجم نضالات الأساتذة/ات المفروض عليهم/هن التعاقد، بعنوان استفزازي: “تصعيد غير مبرر”. غاية هذا العنوان تبرير موجة العقاب والقمع التي تمارسها الدولة حاليا أو القادمة مستقبلا في حق المفروض عليهم/ هن التعاقد ومجمل شغيلة التعليم.

بعض تمييز؟

لم يفت كاتب المقال الفرصة للإشارة إلى تعاطفه “مع “الأساتذة المتعاقدين” منذ بداية احتجاجتهم الأولى في 2017″، بسبب اقتناعه “بوجود بعض التمييز بينهم وبين أساتذة الوظيفة العمومية”.

يتضمن مبرر هذا التعاطف المنافق جوهر ما تريد الدولة ترويجه حول الفرق بين “المفروض عليهم التعاقد” وبين المرسمين، كونه ينطوي على “بعض تمييز”. لكن الأمر خلاف ذلك.

هناك فرق جوهري بين موظف مرسم في إطار الوظيفة العمومية وبين الذي والتي فرض عليهما التعاقد. إنه استقرار الشغل واستدامته الذي تعمل الدولة للقضاء عليه بفرض التشغيل بموجب عقود.

غاية التشغيل بموجب عقود هو تسهيل التخلص من شغيلة التعليم وإضفاء مرونة قصوى على أوضاعها القانونية. ويخدم هذا هدف الدولة الجوهري المتمثل في تفويت التعليم العمومي للخواص، وهو ما نصت عليه أول وثيقة مرجعية “الميثاق الوطني للتربية والتكوين”.

غزو القطاع الخاص لقطاع التعليم، سيجعل الدولة في غير حاجة للاحتفاظ بشغيلة مرسمة، ودور “التعاقد” هو تسهيل التخلص منها حينئذ. لا يتعلق الأمر إذن بـ”بعض تمييز”، بل بتمييز كامل الأركان، غايته النهائية القضاء على أحد طرفي المعادلة: الشغيلة الدائمة والمرسمة، وتعميم الشغيلة المفروض عليها التعاقد.

لكن “بعض التمييز” هذا مؤقت، فالدولة تعد عدتها للقضاء نهائيا على ما يمتاز به المرسمون بإصلاح كلي للإدارة والوظيفة العموميتين. وهذا ما لم يخفيه صاحب المقال ذاته: “الوظيفة العمومية التي تنتظرها بدورها إصلاحات”.

التعاقد مفروض أم مقبول: نقاش قديم يتجدد

ردد صاحب المقال أكاذيب الدولة حول قبول الأساتذة صيغة العمل بعقود، وبالتالي لا مبرر لاحتجاجهم ومطالبتهم بالإدماج: “كل هؤلاء كانوا يعرفون مسبقا، قبل اجتياز المباراة، أنهم سيشتغلون مع الأكاديميات”.

لا يدرك البرجوازيون والناطقون باسمهم من صحفيين وسياسيين، حجم أهوال البطالة التي تدفع الكادحين لـ”قبول” أي فرصة عمل تعتقهم من جحيم البؤس وانعدام الأجر. لذلك تراهم يهاجمون نضالات العمال وإضراباتهم مبدين الانزعاج من “استياء عبيد الأجرة”: ماذا يريدون؟ ألم نوفر لهم عملا؟ لماذا لا يقنعون بما في أيديهم؟

لكن التاريخ وواقع الصراع الاجتماعي لا يسير وفق تأوهات صحافيي البرجوازية العاجزين. ليس هناك قانون حديدي يستطيع أن يمنع احتجاج الشغيلة من أجل تحسين شروط استغلالها والسير على طريق إلغاء هذا الاستغلال مرة وإلى الأبد.

لا مبرر للاحتجاج؟

بالنسبة للصحافة البرجوازية، تنعدم كل مبررات احتجاج الكادحين. على الشغيلة أن ترضى بما قسم لها وقدر من فرص شغل يمن بها عليها أرباب العمل.

رأى صاحب المقال أن “استجابة وزارة التربية الوطنية للكثير من مطالبهم، وحذفها التعاقد، وتعويضه بالتوظيف في الأكاديميات”، قد نزع كل مبرر لـ”استمرارهم في الاحتجاج”.

جعل كاتب المقال من نفسه بوق ترويج أضاليل الدولة حول الاستجابة لمطالب المفروض عليهم/ هن التعاقد، وكأن الدولة لا تملك ما يكفي من أبواق ووسائل تضليل إعلامية كبرى.

ادعت الدولة إلغاء التعاقد و”تعويضه بالتوظيف في الأكاديميات”. أي أحمق ستنطلي عليه مثل هذه الكذبة؟ كيف نصدق أن الدولة ألغت التعاقد نهائيا بينما “الأطر المرجعية” التي أقرت التعاقد لا زالت قائمة: “الميثاق الوطني للتربية والتكوين” و”الخطة الاستراتيجية”، وتسارع الدولة الزمن للمصادقة على “القانون الإطار” الذي سيجعل من التوظيف بموجب عقود قانونا ملزما.

كيف نصدق أن اجتماعات استثنائية لمجالس الأكاديميات للمصادقة على تعديلات الأنظمة الأساسية، قد ألغت التعاقد؟ ما الذين يضمن ألا تجتمع هذه المجالس غدا للمصادقة على تعديلات أخرى “صيغة التعاقد” مرة أخرى، بعد أن وارتها إلى الخلف ظرفيا؟

أشار رئيس حكومة الواجهة إلى أن “الأنظمة الأساسية” ليس بقانون ولا مرسوم، وبالتالي لا مانع من تعديلها كلما لاحت للوزارة ومجالس الأكاديمية فرصة لذلك. وهذه هي غاية العمل بـ”التعاقد”، إضفاء أقصى مرونة على علاقة الشغل بين الأساتذة/ ات والأكاديميات. ويفتح هذا الباب أمام الأكاديميات لتعديل بنود هذه العلاقة في اتجاه إضفاء المزيد من المرونة وتشديد شروط الاستغلال وتسهيل عملية التخلص من الأساتذة/ ات.

ربما يعتقد الصحفي أن إلغاء الكلمة يعني إلغاء مقابلها الواقعي، ولكن هذا لن يصدقه إلا مثالي حالم، يظن واهما أن الواقع المادي رهن إشارة الكلمات والأفكار.

تعتيم أصل المشكل

يحاول صاحب المقال، على غرار أنداده من صحفيي البرجوازية، تغطية أصل مخطط التعاقد. ويرد فرض التعاقد على شغيلة التعليم إلى ارتجالية الوزارة و”تخبطها وعدم امتلاكها رؤية مستقبلية”. لكن الواقع عكس ذلك، فمخطط التعاقد إعداده على نار هادئة منذ إقراره في “الميثاق الوطني للتربية والتكوين” سنة 1999.

يقع مخطط التعاقد في قلب سياسة الدولة للتخلص من التعليم العمومي وتفكيك الوظيفة العمومية. وما سماه صاحب المقال تخبطا ليس إلا صيغا تجريبية تقوم بها الدولة لتنزيل سياستها بطريقة تدريجية تتفادى معها مقاومة جماعية لضحايا سياستها.

أدت التقليصات الرهيبة للميزانية المخصصة لقطاع التعليم وتقليص جسم الموظفين العموميين (المغادرة الطوعية، تقليص المناصب المخصصة لقطاع التعليم) إلى اكتظاظ رهيب في المدارس العمومية. وبذلك جهزت الدولة الأرضية وهيأت الكادحين نفسيا لـ”تقبل” صيغة التوظيف بموجب عقود. لقد ابتزت الدولة المعطلين والأسر والتلاميذ: إما أن تقبلوا العمل بموجب عبودية العقود أو أترك التلاميذ في ازدحام أقسام أقرب إلى الزنازين، وأديم بطالة ملايين المحرومين من العمل.

ورغم ذلك لا يضرب صاحب المقال في مشروعية التعاقد، فالبنسبة له “تبدو فكرة “تعاقد” الأكاديميات مع الأساتذة حلا ناجعا لمعضلة خصاص الأساتذة، فهي تمكن من خلق مناصب أكبر، مقارنة بالوظيفة العمومية”. يقدم صاحب المقال هذه “الفكرة” دون الحاجة إلى تبريرها وكأن مجرد النطق بها كاف لتصديقها. ما الذي يجعل “فكرة التعاقد مع الأكاديميات” حلا ناجعا “مقارنة بالوظيفة العمومية”؟ لا جواب. لماذا كانت الوظيفة العمومية قادرة مناصب أكبر في السابق؟.

لا يجيب صاحب المقال، ليس لأنه جاهل جواب، بل لأن الجواب يضرب في جوهر سياسة الدولة: تطبيق أوامر المؤسسات المالية الدولية (خوصصة الخدمات العمومية، تقليص كتلة الأجور، تعميم المرونة على علاقات الشغل..).

صحافي في جبة فقيه سلطان

ولأن صاحب المقال حريص على دوام نظام الاستغلال، وحريص على إنجاح عبودية التعاقد، أعطى نفسه حق تقديم النصائح للدولة من أجل تسهيل تمرير مخطط التعاقد.

لكن نصائحه لا تتعدى ما سبق للدولة أن قامت به وتتقنه: “تهييء الظروف المواتية، خلق إطار أفضل لتوظيف المتعاقدين بامتيازات أكبر من حيث الأجور والتحفيز، مقارنة بالوظيفة العمومية”… إنها محض رشاوي يريد صاحب المقال أن تتخلى مقابلها شغيلة التعليم على حق العمل القار والقبول بالعمل بموجب عقود.

لا بديل عن النضال والإضراب

منذ زمان والدولة تعمل من أجل تقييد حق الشغيلة في ممارسة حق الإضراب. ومن أجل ذلك أعدت مشروع قانون، وتستعمل أبواقها الإعلامية لتشويه الإضراب. وقد كان صاحب المقال وفيا لهذا، حيث هاجم إضراب المفروض عليهم/ هن التعاقد: “الإضرابات والمسيرات، التي لن تزيد صورة المدرسة العمومية إلا تدهورا، ولن تزيد الأسر سوى معاناة ونفور من التعليم العمومي إلى التعليم الخصوصي المكلف”.

إنها نفس الأسطورة التي لم تمل صحافة البرجوازية من تكرارها: الإضراب يضرب مصلحة الوطن ويضر بالاقتصاد الوطني.

ليس الإضراب هو من يزيد المدرسة العمومية تدهورا، ولا هو من يدفع الأسر إلى التعليم الخصوصي. إن سياسة الدولة النيوليبرالية هي التي خربت المدرسة العمومية، كما خربت الصحة العمومية، وهي من يدفع الأسر رغما عنها إلى الالتجاء للقطاع الخاص. فلو كانت شروط الدراسة والتطبيب ملائمة في القطاع العمومي ما اضطر الكادحون إلى تخصيص جزء من قدرتهم الشرائية، الهزيلة أصلا، للتدريس والتطبيب في قطاع غايته مراكمة الأرباح وليس تقديم خدمات عمومية.

إن غاية الإضراب هي القضاء على هذه السياسة التخريبية، هي رد الاعتبار للخدمة العمومية التي تولي الأهمية لحاجيات الكادحين وليس لأرباح البرجوازيين.

في الأخير، لا تحتاج شغيلة التعليم إلى تعاطفك المنافق، فهي تعرف أن تعاطفك الصادق موجه للبرجوازية ودولتها.

إن نضال المفروض عليهم/ هن التعاقد ليس إلا امتحانا تجريبيا، أما الامتحان الحقيقي فسيحين يوم تلتحق مجمل شغيلة الوظيفة العمومية وعبيد القطاع الخاص بالإضراب، آنذاك سينعدم كل مبرر لتعاطفك المنافق مع نضالات الشغيلة.

بقلم، شادية الشريف

شارك المقالة

اقرأ أيضا