إلى أين تسير فنزويلا (بافتراض أنها تسير إلى وجهة ما…)؟

بلا حدود3 فبراير، 2019

مقابلة مع مانويل سوترلاند Manuel Sutherland


يوم 23 يناير/كانون الثاني 2019، قام خوان غوايدو، أحد أوجه المعارضة لنيقولا مادورو ورئيس الجمعية الوطنية (المجردة  من صلاحياتها من قبل السلطة التنفيذية)، بإعلان نفسه أمام آلاف الأشخاص القادمين  لمساندته “رئيس ممارسا” لجمهورية فنزويلا، واعدا بـ”حكومة انتقالية وانتخابات حرة”. هذا لحظة شروع مادورو في ولاية حكمه الثانية، قويا بإعادة انتخابه رغم نسبة امتناع عن التصويت عالية (54%) والعديد من الخروقات (تلاعب بتاريخ الاقتراع حسب الفرص الملائمة، إبطال  ترشيحات عديدة، تصويت تحت التهديد  بالحرمان  من البرامج الاجتماعية أو التسريح من القطاع العام…).

يتموقع غوايدو، قائد اليمين الشاب ومؤسس حزب “الإرادة الشعبية” ضمن إستراتيجية  الانقلاب، ويدعي بهذا النحو خلق وضع قد يفتح باب تدخل عسكري (مباشر أو مداور) من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. ترتبط هذه المناورة الانقلابية مباشرة بالحملة المفتوحة من قبل مايك بنس، نائب الرئيس الأمريكي، وتأتي بعد تمرد عشرات من عناصر الحرس  الوطني البوليفاري(شرطة عسكرية)، تمرد سرعان ما تحكمت به القوات المسلحة البوليفارية، التي تظل وفية للرئيس مادورو.

ومن واشنطن، حيا الرئيس ترامب فورا الرئيس المنصب نفسه واعترف به، وكذلك فعلت  العديد من  البلدان المتحالفة في مجموعة ليما منها كندا، وأيضا التحالف المقدس لليمين واليمين المتطرف بأمريكا اللاتينية: الشيلي، البيرو، كولومبيا، هندوراس، باراغواي والبرازيل بقيادة جايير بولسونارو، حكومات معظمها منتهك للحريات الديمقراطية.

لا تخفي الامبريالية الأمريكية، منذ شهور، أن “كل الاحتمالات واردة” فيما يخص فنزويلا.  وقد أعلن مادورو أن بلده قطع علاقاته الدبلوماسية مع “الحكومة الامبريالية للولايات المتحدة الأمريكية”، مانحا دبلوماسييها 72 ساعة لمغادرة البلد. وردا عليه،  أكدت وزارة الخارجية الأمريكية أنها “لا تعتبر الرئيس السابق نيقولا مادورو مخولا شرعيا لقطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأمريكية، أو لإعلان دبلوماسيينا أشخاصا غير مرغوب فيهم. ومن جانب آخر، أكد إيمانويل ماكرون مرارا تعاطفه مع هذا المسعى.

الفوضى، والحالة هذه، في تزايد ليس إلا، فيما  تتكاثر المواجهات في الشارع بين  أنصار غوايدو وداعمي مادورو. و تظل المعارضة الفنزويلية، رغم تهديدات الانقلاب والدعم الأميركي، بالغة الانقسام، رغم أن القطاعات الرجعية والنيوليبرالية تبدو الآن فصاعدا مستعدة لتجديد محاولات الانقلاب (كما فعلت في أبريل 2002 ضد تشافيز). أما الحكومة فتسعى من جانبها إلى إعادة حشد قاعدتها باسم النضال ضد الامبريالية، فيما  يقوم مواطنون فنزويليون كُثر بالتصويت “بأقدامهم” بمغادرة كثيفة للبلد، ويعيد وضع الانهيار الاقتصادي إلى الأذهان  وضع كوبا  أيام” الحقبة الخاصة”.(1).

من أجل رؤية إجمالية للتعقيد المأساوي لوضع فنزويلا، ننشر أدناه آراء الاقتصادي  الماركسي الفنزويلي مانويل سوترلاند في مقابلة مع بابلو ستيفانوني لمجلة Nueva Sociedad قبل أحداث 23 يناير.

******************


 التنصيب الأخير لنيقولا  مادورو لولاية رئاسية من ست سنوات أعاد الاهتمام بفنزويلا وأزمتها.  فيما تم إعلان الجمعية الوطنية، التي يتحكم بها اليمين، “مخالفة للقانون”، أدى الرئيس القسم أمام جمعية تأسيسية تتصرف كنوع من سلطة فوق حكومية بدل أن تصوغ دستورا. ومن جنب آخر لم يتح تصعيد الأزمة تعزيز المعارضة التي تسعى، مع رئيس جديد للجمعية الوطنية، إلى أن تتجاوز خلافاتها وتنبعث من رمادها. يعطي الاقتصادي مانويل سوترلاند بعض مفاتيح قراءة الوضع في فنزويلا، مع نظر أوسع إلى ثورة بوليفارية دامت منذ 20 سنة.

 بابلو ستيفانوني (ب.س) خلال تنصيبه، اقترح نيقولا مادورو “بداية جديدة”. بما أن التشافيزية موجودة بالحكم منذ 20 سنة ماذا يعني ذلك؟

مانويل سوترلاند (م.س): إن لأقوال نيقولا مادورو، في أثناء تنصيبه، أثر ما سبق سماعه. فالرئيس وعد بـ”بداية جديدة” بإشارات من قبيل “الآن، نعم”، و”هذه المرة ، نعم”. جُمل قد تمنح أملا لملايين أنصاره في إمكان سياسات تغييرات هيكلية تتيح بنحو ما تحسين مستوى معيشة السكان الهش.  بيد أن مادورو كان وعد، في السنوات الخمس السابقة، بنفس الشيء تماما: التغيير، وطلب مزيدا من السلطة له وحده ليتمكن من تحقيق “مزيد من الأشياء لصالح الشعب”.  وفي عز تضخم مالي فائق، يواصل مادورو الوعد بأنه “هذه المرة، نعم سيراقب الأسعار”، وأنه سيضرب بيد من حديد من قد يتجرأ على رفع الأسعار فوق التعريفة القانونية.؛ أقوال أثارت سخرية السكان. كل سنة، عندما يعد بأنه سيحبط “الحرب الاقتصادية” غير الشريفة، يخفض الناس أنظارهم ويتنهدون.  تموت الوعود فور ولادتها.  وتمثل الضحكات الساخرة لبعض كامبارساته، في أثناء حفلة التنصيب، عند سماعهم مثل تلك الوعود،  تحفا حقيقية.

 لكن، في غضون ذلك، تميزت السنوات الخمس 2014-2018 بتراجع متوال للنتاج الداخلي الإجمالي، ما لم يشهده قط اقتصادنا من قبل.  سببت ملايين القنابل والإبادة النازية في بولونيا (إبان الحرب العالمية الثانية) تراجع النتاج الداخلي الإجمالي بنسبة 44% (من 1939 إلى 1944). فيما يقارب تراجع النتاج الداخلي الإجمالي في فنزويلا نسبة 50% في السنوات الخمس الأخيرة، وهو رقم قياسي  في القارة، ومأساة لم يسبقها نظير.  وفي سنوات 1917 و 1918، تفاقمت الأزمة مع الوضع الصعب المتسم بتضخم فائق فاق كل أرقام العالم القياسية. يستمر التضخم الفائق في فنزويلا  منذ 14 سنة متتالية، وهو ثامن أكبر تضخم فائق في التاريخ.

ب.س: لماذا تبدو الكارثة الاقتصادية لا تقرض سلطة الحكومة، كما كانت المعارضة تتخيل؟ لماذا لا تنزل القطاعات الشعبية من التلال(2)؟ أم أنها لا تنزل سوى لتهاجر؟ 

م.س: على غرار المعارضة الكوبية في عز “الحقبة الخاصة”، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وحكومات أوربا الشرقية، يأمل أشهر قادة المعارضة الفنزويلية أن تجبر أزمة اقتصادية خطيرة الناس على النزول إلى الشوارع، وأن تفضي إلى “انتفاضة جوع”، تتيح التخلص بطريقة ما من الحكومة. يأمل معظم النخبة المعارضة، من منفاه أو مقطوعا عن قطاعات الأمة المفقرة، انهيار قصر الورق البوليفاري المزعوم.  وبما أن ذلك لا يحدث، تأمل هذه المعارضة أن تسوء الأمور وتؤدي إلى الانتفاضة  المنشودة.

ما يبدو أن هؤلاء الناس لا يفهمونه، رغم أنهم لا يكفون عن التنديد به، هو أن الحكومة تطور بكيفية ما خطة عريضة جدا من الهدايا، والمنافع والمساعدات الاجتماعية الكثيفة كي تحتوي بنحو فعال نسبيا السكان الأكثر عرضة للإفقار. تعطي الحكومة الأحياء  الشعبية أكياس مواد غذائية (بواسطة لجان تموين وإنتاج محلية  CLAP)، وأموالا في حساباتهم (سندات الوطن)، وخدمات كهرباء وماء وصرف صحي، والإفادة من النقل العمومي المدعوم على نطاق واسع والبنزين شبه المجاني. هذا فضلا عن السياسات المتساهلة مع الجريمة في الأحياء ومع تجارة المخدرات، وتجارة المواد المدعومة والتهريب.  تمنح الحكومة عددا لا متناهيا من السلع بأسعار بالغة الانخفاض، يُعاد بيعها في السوق السوداء بهوامش ربح هائلة. هكذا يمكن لهذه الأرباح اللاشرعية، عبر مستخدمين حكوميين، أن تمتد من  منزل أو سيارة إلى 500 غرام من لحم الخنزير. لقد طورت الحكومة بأموال قليلة جدا، شبكة سياسية زبائنية واسعة، عمقت سيرورة إضفاء الطابع الاجتماعي الرث على قطاعات عريضة من السكان. ويتيح هذا كله  احتواء أي انفجار اجتماعي  لشرائح المجتمع الأكثر عرضة للإفقار.

رغم أن الشرائح الأشد فقرا تهاجر منذ ثلاث سنوات، ليس الأمر مألوفا في الأحياء الشعبية.  إن ثمة طرقا عديدة للحصول على مال بكيفية سرية أو غير قانونية صراحة، ما يكبح بوجه عام هجرة بحجم أعظم.  وتجدر الإشارة إلى أن المعارضة لا تقوم بأي عمل سياسي في الأحياء. ما خلا خطورة العمل سياسيا ضد الحكومة في العديد من المناطق الشعبية، تخلت المعارضة كليا عن مهمة تنظيم تلك القطاعات الشعبية، التي تقف مع الأسف إلى جانب من يتوفرون على الموارد لـ”حل” مشاكلهم اليومية.  وحدها منظمات الدولة أو المنظمات الإجرامية لها تلك المقدرة. وأخيرا، توجد الأحياء الشعبية في وضع انفصال تام عن سياسة المعارضة، التي وجدت مخبأها في تويتر.

ب.س: لم تحصل هذه المعارضة ،لحد الآن، على أي نتيجة، لا في الشارع ولا في صناديق الاقتراع، ولا في المؤسسات التي ظفرت بها.  ماذا بوسعها أن تفعل والحالة هذه؟

م.س: أفلحت الحكومة تماما في توصيف المعارضة برديف “الفشل”. وبهذا النحو، أثارت لدى قادتها شعور إحساس هزيمة وحرمان. فرغم نجاحها الانتخابي الكبير وغير المألوف في العام 2015، لما حصلت على أغلبية المقاعد في الجمعية الوطنية، تفككت كتلة المعارضة بسرعة قصوى. وفي عز تشتت، حل قادتها مكتب الوحدة الديمقراطية (MUD) وتكرسوا لاستعمال الشبكات الاجتماعية لمهاجمة بعضهم البعض بالشكل الأكثر فظاظة. اختارت المعارضة، في تطورها المتعرج، اعتبار كل عملية انتخابية مغشوشة، عن حق لكن بموقف انهزامي لا يتيح حتى النضال للدفاع عن الأصوات.

 وانطلاقا من هذا، طورت سياسة استنكاف، أفلحت في نزع التسيس أكثر عن القواعد المعارضة.  امتنعت المعارضة عن التصويت في كل عمليات الاقتراع، وابتعدت بكيفية ضئيلة الفطنة عن القطاعات المفيدة سياسيا لأهدافها، ما أضعفها بنحو مأساوي، لدرجة أنها تبدو منحلة شكليا. وفي هذا السياق انبثق أطفالها الأشد تطرفا وأخيرا الأكثر مناهضة للسياسة.  رغم موهبة هؤلاء البالغة في  تأجيج الشبكات الاجتماعية  وإثارة حماس من لا يمارسون سياسة  فعلية، فإنهم عمليا يميلون إلى أن يكونوا الأقل ذكاء والأقل مهارة في فن بناء تحالفات وتوافقات. وهذا كله يجعل المعارضة عديمة التأثير وأكثر عقما.  ويبدو أن الزمن يشير إلى أنه لم يبق لها خيار غير محاولة حفز جديد لعملية تمفصل سياسي  أكثر فأكثر تعقيدا. وفيما يتوجب عليها القيام بعمل نمل، قررت المعارضة  اللجوء  إلى نقد قصوي لاذع: مواجهة حكومة “مغتصبة” في سياق غير ملائم نهائيا، وعقد الأمل على حصول معجزة قادمة من الولايات المتحدة الأمريكية؛  أو الزوال في ضوء وعود غير القابلة للتحقيق.

ب.س: لدى البلد راهنا رئيسان، إذا أخذنا على محمل جد إعلان الجمعية الوطنية الملتبس طبعا …

م.س:  منذ شهور والمعارضة الفنزويلية تقول إن مادورو كف عن كونه رئيسا شرعيا بعد 10 يناير. وقاطعت انتخابات الرئاسة في 20 مايو 2018- التي شارك فيها فقط الحاكم السابق هنري فالكون، ومن ثمة سيصبح مادورو “مغتصب سلطة”. بدأ إذن قادة المعارضة مناقشة الواجب فعله يوم 10 يناير.. قالت التيارات الأكثر اعتدالا إن لا شيء جديد سيحدث. وكان الأشد جذرية يتوقعون  إنزالا من قبل جنود البحرية والقوات شبه العسكرية الكولومبية بقصد “تحرير” البلد.

 لكن يوم 10 يناير مر دون حادث فيما يخص احتجاجات أو مواجهات في الشارع. وأعطى رئيس الجمعية الوطنية الشاب خوان غوايدو المثال بتنظيم ندوة صحافية بقدر من الخجل: بنحو مفاجئ، تجرأ على الكف عن الاعتراف بمادورا رئيسا للجمهورية، وأكد استعداده  لدور رئيس مؤقت للبلد بوجه ما تعتبره المعارضة اغتصاب وظيفة.  وفيما بعد صرح خوان غوايدو ببطلان تنصيب مادورو، ودعا القوات المسلحة والمجموعة الدولية إلى العمل ضد ما وصفه بالغش الانتخابي.

تناول غوايدو الكلمة بمقر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في كاراكاس أمام 3000 شخص، وكاد يعلن نفسه رئيسا للبلد، لكنه لم يذهب حتى النهاية.  ملوحا بالمادة 133 من الدستور ، وأكد أيضا أنه إذا لم يتمكن الرئيس المنتخب من الاضطلاع بوظائفه سيكلف رئيس الجمعية الوطنية بهذه المهمة.  وصرح غوايدو أن قانونا انتقاليا ومشروع عفو عام هما قيد الإعداد من قبل العسكر الذي قد يساند الحكومة الانتقالية الجديدة، التي ستدعو في ظرف 30 يوما إلى انتخابات عامة جديدة.  وأكد غوايدو (المنتمي إلى حزب الإرادة الشعبية) على ضرورة سند شعبي كثيف في الشوارع ودعم قوي من قبل المجموعة الدولية لتحويل تصريحاته إلى واقع.  وفي نهاية خطابه قال بشكل متردد إنه سيضطلع بـ”وظائف رئاسة الجمهورية”. ويبدو أن طابع خطابه التلميحي ناتج عن ضرورة تفادي سجنه من قبل قوات الأمن الحكومية بتهمة  تحضير انقلاب.

ب.س: وكيف ردت الحكومة؟

م س: تترك نداءات غوايدو النارية أمورا كثيرة عالقة.  من المؤكد أن منظمة الدولة الأمريكية وحكومات البرازيل والولايات المتحدة الأمريكية اعترفت به توا رئيسا شرعيا. ونشرت محكمة العدل العليا (بالمنفى) بيان مساندة لغوايدو، وحثته على أداء قسم الرئيس فعلا.

بوجه هذا الوضع، قام مادورو بتنشيط جيش الدعاية بالشبكات الاجتماعية الحكومية: 1000 سخرية ودعابة ضد “رئيس تويتر”، تم نشرها، ونحن نشير فقط إلى أكثرها ملاءمة.  وتنتظر المعارضة التي تقود الخطة التي اقترحها غوايدو بالضبط أن ترد الحكومة لترى إن كان بوسعها توجيه ضربات أرجل  في الطاولة، وتحريك الوضع بكيفية ما وإجبار العسكر أو “المجموعة الدولية” (لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها) على الإقدام على فعل أكثر حزما. وفي غضون ذلك، عبرت حكومتا روسيا والصين بسرعة عن موقف مساندة مادورو كرئيس، وطمأنتاه بشأن دعمهما ضد أي “تدخل أجنبي”.

وتسعى الجمعية الوطنية إلى خلق “ازدواجية السلطة ” أو ازدواجية حكومية. ويرى قادة المعارضة، بشكل صريح، أنه إذا اعترفت واشنطن وحلفاؤها (لاسيما مجموعة ليما) اعترافا كاملا بـ”الرئيس الجديد”، يمكن لهذا الأخير أن يضع اليد على أصول الأمة بالخارج (كما حصل في حالة غزو ليبيا)، بما فيه أداء الفاتورات، وعلى صناديق الدولة والمقاولات مثل البنية الضخمة الخاصة بالبترول CITGO، المستقرة بالولايات المتحدة الأمريكية والتي تمثل مصدرا قويا للعملة الصعبة. ويتضمن ذلك طبعا الذهب الذي يرفض بنك بريطانيا إرجاعه إلى الأمة، وممتلكات أخرى مجمدة من جراء العقوبات المفروضة على البلد. ويمكن  تخصيص الأموال المحصلة بهذا النحو لـ”المساعدة الإنسانية”، رغم أنها ستستعمل في الحقيقة  للدفع لميليشيا وطنية لمحاربة الحكومة.

من المرجح جدا ألا تحل الحكومة الجمعية الوطنية، هذه التي لا سلطة حقيقية لها بالبلد بعد إعلان “بطلانها”.  قد يكون غوايدو مهددا بالسجن، و”مدفوعا” بنحو ما للهروب إلى البرازيل أو كولومبيا لتشكيل حكومة في المنفى، وفق الصيغة الشهيرة لمحكمة العدل العليا الفنزويلية المستقرة في كولومبيا والتي سبقت أن خلعت مادورو مرارا.  تبدو فعالية حكومة في المنفى منعدمة، وتندرج في الدعابات حول لافعالية السياسة المحلية. كان العمل الفوري المقترح من الجمعية الوطنية دعوة إلى مسيرة انتفاضية كبيرة يوم 23 يناير (4)، اليوم التاريخي للنضال من أجل الديمقراطية في فنزويلا. لا أكثر.  وتروج شائعة قوية مؤداها  أن مفاوضات سرية بين المعارضة والحكومة جارية لعقد اتفاقات تعاون في حالة تفاقم الوضع. سيشهد القادم من أيام توترا شديدا.

الشكوك التي أثارها فورا الاجتماع المنظم من قبل قائد المعارضة ضخمة جدا.  أولا، لماذا لم ينصب غوايدو نفسه رئيسا للجمهورية خلال دورة الجمعية الوطنية تلك؟  يمكنه الاستناد قانونيا على المادة 233 من الدستور، وفي هذه الحالة إعلان كونه رئيسا في جلسة رسمية بالبرلمان.  كان من شأن هذا الأخير أن يصوغ “قانون انتقاليا”، ويعلن شغور السلطة التنفيذية وتعيين غوايدو في الرئاسة  بشكل نهائي، وهو ما يطالب به جناح المعارضة الراديكالي (الداخلي والخارجي). لكن غوايدو لم يتحمل الرئاسة حتى شكليا في “التجمعات” التي نظم.

 هاجم القطاع الأشد تصلبا في المعارضة غوايدو واصفا إياه بـ”الرخو” و”الباهت”. ويؤاخذ هذا الأخير بعدم تحمل مسؤولية الرئيس، متهما إياه حتى بـ”إهمال إداري”و بإخفاء مسؤوليته الملموسة، وكذا بخداع الأشخاص الذي وثقوا به. وفضلا عن ذلك يستنكر هذا القطاع المتصلب سماع غوايدو يطلب من العسكر تسليمه الرئاسة، فيما يجب حسب تأويله للقانون يصدر غوايدو أوامر العسكر ويأتمروا بها .  يبدو منح هذا التحكيم للقوات المسلحة تراجعا تاريخيا غير مسبوق. ويبدو النداء إلى تنظيم مزيد من “التجمعات” خجولا ومذلا وحتى جبانا، ويعتقد مناهضو التشافيزية الاشد شراسة أن غوايدو “يتهرب” لخوفه من السجن. وتبدو لهم الدعوة إلى مسيرة 23 يناير بعيدة جدا ويرون أن انتظار صراع فوري سينْفَـشُّ. ومما له دلالة أن ثلاثة من أهم أحزاب المعارضة Acción Democrática (AD), Primero Justicia (PJ), Un Nuevo Tiempo لم تشارك في تجمع كاراكاس، بل أرسلت مسؤولين ثانويين. لم تشارك ولم تفعل شيئا للدفع بالقوانين التي تسند وشاح الرئاسة لغوايدو.

 يوم 13 يناير، صرحت الحكومة أن عملية SEBIN “غير قانونية”، وأنه حدث نوع من “التسرب” أو عمل مستقل لموظف، اتخذ تلك المبادرة دون استشارة السلطة بنية مبهمة لإفقاد  التسيير الحكومي الاعتبار. يبدو الخطأ كله نازلا على المفوض Hildemaro Rodríguez التي اكتشفت لديه”صلات تآمرية مع اليمين المتطرف”، والذي أحيل، بعد هذا الاعتقال، على المدعي العام رقم 126 في كاراكاس. في هذا الوضع، يبدو أن الحكومة تعرضت لتسفيه قوي، ما قد يشير إلى صدع داخلي ونقص تنسيق كبير. جلي أن مادورو لا رغبة له في اعتقال غوايدو وأن ثمة، طبعا، من ناور كي يسفه بنحو ما الحكومة او يستثير أفعال عنيفة بارتكاب عدوان خطير على رئيس البرلمان.  كل هذا يندرج في مجال الممكن في هذا السيناريو المظلم.

ب.س: وماذا جرى مع “اليسار النقدي”؟

م.س: ربما كان المسمى”يسارا نقديا” هذا أكثر الضحايا خضوعا في السيرورة البوليفارية. في 2007، وعد تشافيز، عندما كان يؤسس الحزب الاشتراكي الموحد الفنزويلي، بتحويل من لم ينضم إلى هذا الحزب من القواعد المساندة للسيرورة إلى “غبار كوني”. ووفي تماما بهذا الوعد. “اليسار النقدي” الذي ساند في السنوات الأولى بكثافة التشافيزية، والذي ابتعد شيئا فشيئا عن السيرورة، اختفى كليا. بعد سنوات من دخولية بلا نتائج في البيروقراطية المتوسطة وفي الحزب، مع هدف إضفاء يسارية “من الداخل” على سيرورة يقودها أساسا العسكر، اختار  الهجرة، و الانتقال إلى صفوف اليمين المعتدل أو ببساطة الاختفاء خلف الحكومة، بحجة مكررة مفادها “عدم لعب لعبة اليمين” .

 كما أن تبعية السكان القصوى للدولة مس أيضا هذا  اليسار المشتت  الذي يخشى، في حالات عديدة، مواجهة الحكومة، مخافة فَـقْـد فرصة عمل أو منفعة طفيفة مكتسبة. عدد الذين قاوموا، فضلا عن التسريحات، والقمع والفقر، قليل جدا لا بروز له أمام الحكومة. تختفي النقابات والمراكز الجامعية والجمعيات كليا مع انخفاض الإنتاج في كل القطاعات ومع تحول الهجرة في مصير ملايين الشباب.  قسم آخر من اليسار الذي ينتقد مادورو يحمل العبء الإيديولوجي المتمثل بالانتساب إلى تشافيز عبر إبراز تعارض حكومته مع حكومة مادورو، ما قد يبدو طريقة لجذب القواعد الكبيرة للتشافيزية المستاءة، لكنه يتضح في الأخير مبهما ومتناقضا لدى أغلبية السكان التي لا تجد مرجعيات سياسية متينة.

 ب.س: لماذا يبدي يسار أمريكا اللاتينية ضربا من إنكار الوقائع في فنزويلا؟

م.س: بوجه عام، “عاش” يسار أمريكا اللاتينية بفضل التشافيزية، فعدد لامتناه من مسؤولي اليسار مروا بالبلد متلقين إعانات سخية، ومقابلات ونصائح. مئات قادة منظمات صغيرة حصلوا من الحكومة البوليفارية على مساعدات سخية، عبر السفارات في حالات عديدة. إن بذمة هذا اليسار دين إزاء الحكومة، ويصعب عليه، على هذا الصعيد، الانفصال عن نظام صفق له ودافع عنه بحزم، مع علمه بكيفية اشتغاله الفعلية : إن بعض الأسفار كانت”جولات سياسية” معدة بعناية، ، تعبر عن واقع مكيف لرؤية من كانوا يبحثون، بحسن نية، عن الإيمان بنور في نهاية النفق، بوجه النيوليبرالية او اليمين العالمي.  ويصعب عليهم كثيرا  التعبير عن رأي مغاير للذي سبق لن أبدوه ، كي لا يوصفوا بـ”عدم التماسك” أو بـ”الخيانة”. الطلاق له كلفة مرتفعة، كما كان الأمر مع الاتحاد السوفييتي.

 من جانب آخر، يسعى قسم كبير من يسار أمريكا اللاتينية بصدق إلى الابتعاد عن حكومات اليمين أو عن الانتقادات للسيرورة البوليفارية  من قبل قنصيلات  موريسيو ماكري، وجايير بولسونارو، او ايفان دوك. ضمن هذا التحول، يتزحلق هذا  اليسار محاولا تبرير سياسية خاطئة بجلاء، مع عواقب كارثية على الطبقة العاملة وعلى الشعب الفنزويلي، الذين يجب أن يكونا في هذه اللحظة مركز التضامن. يرفض اليسار، مثل نعامة، رؤية  الوقائع الاشد جلاء، ويستعيض عن التحليل بهذيانات “جيوسياسية”.

ترجمة : المناضل-ة

المصدر: https://www.contretemps.eu/venezuela-entretien-sutherland/

هوامش:

  • اسم للوضع الجديد المترتب عن انهيار الاتحاد السوفييتي والعلاقات الاقتصادية التي أقيمت مع كوبا في سنوات 1960.
  • إحالة إلى “كاراكزو” الانتفاضة الشعبية يوم 27 فبراير 1989 في كاراكاس والمدن المجاورة ضد خطط التقشف التي أطلقها الرئيس كارلوس اندريس بريز (المنتخب مؤخرا مرشحا للحزب الاشتراكي الديمقراطي Acción Democrática) وكذا إلى التعبئات الشعبية بعد انقلاب 11 أبريل 2002 ضد الرئيس هوغو تشافيز.
  • مجموعة ليما تشكلت في 8 أغسطس/أب 2017 في عاصمة البيرو، وتضم البلدان التالية:

الأرجنتين، البرازيل، كندا، الشيلي، كولومبيا، كوستاريكا، غويانا، غواتيمالا، هندوراس، المكسيك، باراغواي، البيرو، وسانت لوسي. هدفها حل الأزمة الفنزويلية، بحل متفاوض عليه يتيح عودة الديمقراطية. 13 من هذه البلدان الأربعة عشر(ما خلا مكسيك) صرحت ، مطلع يناير 2019، بعدم الاعتراف بنيقولا مادورو رئيسا شرعيا لفنزويلا.

  • 23 يناير 1958: تاريخ انتفاضة مدنية وعسكرية، أطاحت ديكتاتورية ماركوس بيريز خيمنيث.

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا