الجزائر: من أزمة نظام إلى أزمة سياسية – جزء 2

بقلم، حسين بلالوفي

ثانيا: أزمة سياسية مفتوحة

انتقال إلى أزمة سياسية  

كان لأزمة الهيمنة أن تتواصل بضعة أشهر إضافية، وحتى بضع سنوات. لكن انتخابات رئاسة أبريل المقبل كانت العامل المفجر للازمة السياسية مع إعلان ترشيح  بوتفليقة لعهدة خامسة، ومع ما بلغت الوقاحة واحتقار الشعب بزعم أن المواطنين مبتهجون لهذا الترشيح، وحتى طلبوه بإلحاح. وهذا ما لا يمكن للجماهير، ولا لمختلف المعارضات، أن تتقبله.

لم تكن أي قوة سياسية أو اجتماعية، حتى 21 فبراير 2019، تتهدد السلطة. ولم تكن هذه موضوع اعتراض سوى بالكلام، من قبل معارضين عاجزين ومُهمّشين. وحتى إضرابات العمال التي كانت تميل إلى التكاثر لم تكن تخيفها فعلا. لذا كانت تستعد لإعادة تنصيب الرئيس المنتهية عهدته، أو بوجه الدقة، تنصيب صورته المستعرضة بكل المناسبات (حفلات رسمية، تجمعات…) من قبل المتحمسين له وأنصاره المُغرضين. كان الوضع القائم يبدو أفق البلد غير القابل للتجاوز.

مثل يوم 22 فبراير  نقطة القطع بما ميزه من اجتياح جماهيري هائل، بعد دعوات مجهولة المصدر في شبكات التواصل الاجتماعي، للساحة السياسية؛ تلاه بعد أسبوع تدفق شعبي غير مسبوق تاريخيا في ولايات البلد الثمانية والأربعين.

غيرت هذه التعبئة الشعبية التوزيعة السياسية. وحطمت جدار الخوف، وأتاحت استعادة حق التظاهر بالبلد برمته، ولا سيما بالعاصمة حيث جرى منعه منذ العام 2001. وحَدَتْ بالحكومة إلى معاقبة بعض العمدات المنتمين لأحزاب التحالف الرئاسي  ممن عرقلوا مساعي مرشحين للحصول على الكفالة من المواطنين. وأجبرت وسائل الإعلام العامة، بضغط من مستخدميها (صحفيين وتقنيين،…) على عرض الوضعية بالبلد بنحو أكثر إنصافا. وحررت الكلام والمبادرات ومهدت طريق احتجاجات ومظاهرات مختلف الفئات الاجتماعية: طلاب ومحامين ومدرسين وأطباء وذوي مهن شبه طبية وفنانين وكتاب وتلاميذ… وكانت ذروة هذا كله في مسيرات يوم 1 مارس المطالبة برحيل النظام كله وليس بوتفليقة وحده.

دفعت هذه المظاهرات المتواصلة حتى الآن، والتي من شأنها أن تتخذ بعدا جديدا يوم 8 مارس، النظام إلى إطلاق مناورة أخيرة سعيا إلى مواصلة التحكم بينما هو فاق المبادرة على نحو لا يمكن بعدُ قول إن كان مؤقتا أو دائما. في رسالة محسوبة على بوتفليقة تُليت  بالتلفزيون، اقترح المرشح أن ينظم، في حال إعادة انتخابه، ندوة وطنية مفتوحة شاملة في سياق الاقتراع من أجل تحديد إصلاحات سياسية، وكذا اقتصادية لم يطاب بها المواطنون في أثناء المظاهرات. وستحدد تلك الندوة تاريخ انتخابات رئاسة قبل الأوان يلتزم بوتفليقة بعدم الترشح لها.

لكن هذا جُحْر سبق للجزائرين أن لُـدغوا منه… فعشية ذلك الإعلان ذاته، تفجرت مظاهرات شباب عفوية بمدن عديدة، تلتها في اليوم التالي مظاهرات طلاب جديدة بكل ربوع البلد، وإعلان مجهول المصدر عن إضراب عام في أسبوع 10 إلى 15 مارس. وباتت الحركة الشعبية موحدة على نحو لا سابق له حول شعار “لا للعهدة الخامسة” ورحيل النظام برمته.

المعسكران المتقابلان

يتواجه منذ يوم 22 فبراير معسكران. معسكر السلطة والمعسكر الشعبي أو معسكر الشعب. ويجمع كل معسكر بداخله قوى اجتماعية متباينة ليست لها نفس المصالح.

يضم معسكر الشعب فئات اجتماعية وقوى سياسية مختلفة وحتى متعارضة لكن موحدة بأهداف سياسية آنية: عدم تجديد عهدة بوتفليقة وتغيير النظام، مع أن هذا الشعار الأخير غير معبر عنه بهذا النحو. ويمثل هذان المطلبان محرك هذا المعسكر وإسمنته. ويحظيان بدعم كامل القوى السياسية المعارضة، من ديمقراطيين ليبراليين (علمانيين و إسلاميين معا)، وأحزاب يسار بالمعنى الواسع: جبهة القوى الاشتراكية وحزب العمال وحزب العمال الاشتراكي وجملة مجموعات يسارية مهيكلة إلى هذا الحد أو ذات.

بات هذا المعسكر يضع على رأس مطالبه رفض انتخابات 18 أبريل، متغذيا في ذلك بديناميته الخاصة. وليس لديه برنامج سياسي أكثر تبلورا، وليس مهيكلا، ولا ناطقين باسمه، وليست لديه قيادة محددة ومعترف بها. بيد أن مكامن ضعفه تشكل بنحو مُفارق، في هذا الطور، نقاط قوة و لا تمنعه من الإمساك بالمبادرة وخوض الهجوم وكسب مزيد من صنوف الدعم والانضمام.

يُكثر هذا المعسكر، ككرة نار متحركة، التحركات النضالية: مظاهرات ضخمة أيام الجمعة في ولايات البلد الثمانية والأربعين، ومظاهرات دائمة ينظمها طلاب وتلاميذ ومحامون وفنانون ومستخدمو الصحة… إنه في وضع هجوم. وبعد إعادة فرض حقه في التظاهر، يوجد في طور الانتقال إلى مرحلة أعلى، مرحلة الإضرابات. إضرابات محلية أو قطاعية أولا( تم الشروع فيها في بعض الجامعات، ومرتقبة  يوم 13 مارس في قطاع التربية الوطنية بدعوة من التكتل النقابي المستقل…) ثم إضراب عام في فترة 10 إلى 15 مارس بدعوات مجهولة المصدر أو صادرة عن بنيات نقابية قديمة جرى بعثها بالمناسبة، مثل الكونفدرالية النقابية للقوى المنتجة. ويروج في إنترنت شعار العصيان المدني مأخوذا من نصوص الجبهة الإسلامية للإنقاذ المروجة في أثناء الإضراب العام الذي دعا إليه هذا الحزب في يونيو 1991.

تتيح هذه الدينامية الهجومية للمعسكر الشعبي كسب مزيد من الدعم من النقابات العمالية، ومن الجمعيات والحركات. كما يسجل أيضا انضمام شخصيات منها على سبيل المثال أعضاء من منظمة أرباب العمل (منتدى رؤساء المؤسسات) المساندة لبوتفليقة، وعمدات ومناضلين من جبهة التحرير الوطني… كما تجدر الإشارة إلى حالات انضمام دالة سياسيا. مثل التحاق المنظمة الوطنية للمجاهدين التي كانت العمود الفقري لـ”الأسرة الثورية” التي كانت السلطة تستند عليها، والتي تندد، فضلا عن دعمها للمتظاهرين، بـ”تضارب أقسام نافذة داخل السلطة ورجال أعمال بالغي الفساد استفادوا بكيفية غير مشروعة من المال العام”.  كذلك شأن جمعية قدماء وزارة التسليح والاتصالات العامة لحقبة حرب التحرير، وهي سلف مصالح الاستخبارات الجزائرية، بقيادة وزير الداخلية السابق دحو ولد قابلية.

يتكون معسكر السلطة أساسا  من أجهزة: رئاسة الجمهورية، وقيادة الجيش، والدرك الوطني، ومصالح الأمن والإدارة العامة للأمن الوطني والحكومة ومؤسسات أخرى (المحكمة العليا، المجلس الدستوري، المجلس الوطني الشعبي ومجلس الأمة…)، وأحزاب التحالف الرئاسي، والجهاز الإعلامي العام والخاص، وقيادات المنظمات الذيلية للسلطة: الاتحاد العام لعمال الجزائر، ومنتدى رؤساء المؤسسات، والاتحاد الوطني للنساء الجزائريات، وزهاء عشرة من المنظمات ذات النفوذ الديني: زوايا صوفية وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.  

هذا المعسكر منظم جيدا ومنضبط ولديه القوة العمومية، والإدارة، وجهاز إعلامي ضخم ووسائل الدولة المالية والمادية. لكنه، بالعكس، فقد المبادرة، ويوجد في وضع دفاعي، ويزداد عزلة ويفقد كل يوم من الدعم قسطا إضافيا.

بات هذا المعسكر موضوع اعتراض قوى وعازم من الشارع فداخ. كان بالأمس متعجرفا ومحتكرا الكلام الإعلامي، فلم يعد قادته يجدون آذان صاغية وحسب، بل باتوا خُرسا. وقد توقفت كليا حملتهم لصالح العهدة الخامسة. وبات متعذرا عليهم تنظيم تجمعات ولم يعودوا يظهرون في قنوات التلفزيون التي كانوا يحتلونها طيلة عقود.

الوحيد الذي يعبر اليوم هو رئيس ذلك ” الأبكم الكبير”!  عضو الدائرة الرئاسية الجنرال أحمد قايد صلاح يحذر ويتوعد ويؤكد أن الجيش الوطني الشعبي ضامن لاستقرار البلد ولتنظيم انتخابات الرئاسة في الأجل المرتقب. لذلك بات هذا الموعد نقطة تركز الصراع السياسي. إلغاء / تأجيل موعد الاقتراع او الحفاظ عليه.  ما يعني أن القائد الوحيد الذي يتكلم يوجد على خط دفاع “الشرعية” و “المشروعية”. مشكله افتقاد المشروعية السياسية لفرض خياره. إن لديه طبعا القوة (جيش، درك) كي يقمع عند الاقتضاء ويرسي ديكتاتورية. لكن قمعا بهذا الحجم، وإرساء دولة حالة استثناء، يستلزمان مسبقا نزع أقصى لشرعية المعسكر الخصم واستعادة المبادرة.  و الحال أن معسكر الشعب استخلص دروس التجربتين الليبية والسورية. إنه شعبي وجماهيري وسلمي، ويدعو الشرطة والعسكر إلى عدم القمع ويرفض دور حصان طروادة لصالح الامبريالية.

ما من سبب موضوعي يتيح اليوم تبرير لجوء محتمل إلى القوة. ومن جهة أخرى، من شأن هذا الحل أن يكون من أضعف الحلول من حيث حظوظ النجاح. فسيؤدي بلا شك إلى  إضراب عام وعصيان مدني، وقد يُولد الفوضى وتدخلات أجنبية كثيرا ما ندد بها نائب وزير الدفاع ورئيس القيادة العليا للجيش الوطني الشعبي.

ثمة أخيرا مشكل ردود الفعل داخل قوات الأمن ذاتها. السلطة الجزائرية من الأكثر عتمة، وتعطي انطباعا بأنها لم تخرج أبدا من السرية المميزة لحرب التحرير الوطني. لكن ثمة مؤشرات تدل بالأقل على وجود انزعاج داخلها، وحتى انشقاقات كان لها بلا ريب دور في ظهور الحركة، لاسيما بفضل الطابع المتستر للشبكات الاجتماعية.  يجب تفادي السذاجة. أن تكون المظاهرات عفوية لا يعني أن لا يد خفية تتدخل في إطلاقها. لا وجود لحركة بهذا الحجم خالصة بنحو كيميائي. وإن تلاعبات محتملة من عناصر مستاءة من مصالح الأمن، التي جرى تفكيك العديد من هياكلها في السنوات الأخيرة، سيكون لها في حال تأكدها أن توضح بوجه خاص أن الأزمة الراهنة ليست فقط أزمة بين الطبقات الدنيا والطبقات العليا، بل أيضا أزمة بين الطبقات العليا. إن تعبئة جماهير هائلة أمر يؤكد ببساطة أن الانزعاج  كان قائما وعميقا. وكما في العام 1988، لا يفضي فتيل قد تشعله أياد غير بريئة بالقدر المفترض إلى انفجار إلا إن كان برميل البارود (الاستياء)مملوءا من قبل.

لهذه الأسباب مجتمعة، يظل إمكان قمع بالغ الحدة، سيتطلب بلا شك حمام دم، قائما دوما، لكنه قليل الاحتمال راهنا بفعل ما يحبل به من أخطار على من سيطلقونه أنفسهم.  

وضع توازن نسبي

عشية فصل 3 إلى 8 مارس لم تضعف التعبئة الشعبية. إنها بالعكس تنغرس بين الطلاب والأساتذة الجامعيين والتلاميذ والمحامين والفنانين، وكذا بين فئات مهنية تُكثر التجمعات والمظاهرات والتي تشرع بطريقة ما وبنحو ناقص ومتفاوت في سيرورة تنظيم ذاتي.

إن لقوة الحركة هاته عواقب عديدة. ينسحب مترشحون واحدا تلو آخر من المهزلة  الانتخابية ليوم 18 أبريل، على غرار رئيس حركة مجتمع السلم. وكان آخرون، غالبا ما يمثلون أحزابا (جبهة القوى الاشتراكية، والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية)، أعلنوا رفضهم المشاركة في الاقتراع. وغادر مقران ايت العربي، المحامي الموقر المدافع عن حقوق الإنسان والمناضل الديمقراطي، حملة المرشح اللواء المنشق علي غديرين ، وكذا العملية الانتخابية. ورغم إصرار السلطة غير المفهوم على التمسك بها، فقدت انتخابات  الرئاسة مصداقيتها. وباتت المعركة السياسية تجرى خارج الميدان الانتخابي، إنها في الشارع.

وتتجذر المعارضات اليمينية واليسارية.  وقام الوجه الرمزي للمعسكر الديمقراطي الليبرالي الفائق، رئيس مجموعة سيڤتال، يسعد ربراب، الذي ينظم منذ شهور عديدة تعبئات لعمال ومستخدمين بدعم من أحزاب المعارضة فائقة الليبرالية للاحتجاج على “تجميد الاستثمارات” من قبل السلطات العمومية، قام بإلغاء المسيرة المقررة ليوم 5 مارس في تيزي اوزو (منطقة القبايل). لكنه برر فعله بأن اللحظة “ليست للمطالب القطاعية”، بل “لتغيير النظام”. ما أبعد زمن كان يقول بوجوب ابتعاد رجال الصناعة عن السياسة.

ومن جانبها، تدعو أحزاب جبهة القوى الاشتراكية وحزب العمال وحزب العمال الاشتراكي إلى دعم الحركة الشعبية، ورفض الاقتراع الرئاسي وتأييد انتخاب مجلس تأسيسي.  ويدعو حزب العمال إلى خلق لجان شعبية وإلى تضافر القوى الداعمة للمجلس التأسيسي، ويعتبر أن هدف فترة الانتقال نهب الجزائر. وأعلنت جبهة القوى الاشتراكية سحب كل نوابها من المجلس الوطني الشعبي ومن مجلس الأمة. ويدعو حزب العمال الاشتراكي، الذي تقدم باستمرار بشعار المجلس التأسيسي، إلى تنظيم الجماهير الذاتي وإلى إعداد إضراب عام بقصد قلب ميزان القوى.  وعلى غرار حزب العمال، يرفض حزب العمال الاشتراكي التدخلات الامبريالية، ويناضل من أجل دخول العمال ونقاباتهم الحركة بمطالبهم الخاصة. ويدعو الحزبان إلى استعادة المناضلين الحقيقيين للاتحاد العام للعمال الجزائريين. ويتعزز مسعى اليسار بالمواقف المتتالية للنقابات المستقلة الداعية إلى الانضمام إلى الحركة، والمنادي بعضها بإضراب عام. وتعارض قطاعات من الاتحاد العام للعمال الجزائريين زمرة الأمين العام المعادية للشغيلة  والمؤيدة لبوتفليقة، وتدعو إلى اجتماع لقيادة منظمتها.

بات جليا أن الطبقات الدنيا لم تعد راغبة. وقد عبرت عن ذلك بوضوح وكثافة بكل السبل الممكنة، لاسيما في الشارع.

لكن رغم النواقص المتكاثرة والمتسارعة بقدر تطور الحركة الشعبية، لا تزال الطبقات العليا قادرة. ليست قادرة على كل شيء، لكنها لا تزال قادرة على القمع. ويقوم الجيش بتجميع قوات قرب المدن ومحاور البلد الإستراتيجية الكبرى.

لسنا في وضع ثوري، لكننا في وضع لا ينقصه الكثير ليغدو قبل ثوريا.  وسيتوقف تطوره على ثلاثة عوامل:

  • استمرار دينامية التعبئة الشعبية السلمية، المنظمة ذاتيا بإطراد، وتعززها.
  • مدى تعمق التناقضات داخل معسكر السلطة وقبولها أو رفضها تغييرا سياسيا عميقا.
  • مقدرة القوى السياسية لمعسكر الشعب على الحفاظ على وحدة الحركة مع فتح آفاق قلب نهائي لميزان القوى لإرغام السلطة على التنازل.

الرهانات السياسية الآنية              

من جانب السلطة، يتجلى الضغط للإرغام في إبقاء ترشيح بوتفليقة، رغم أنه مرفق بمناورة رامية إلى كسب الوقت لإطفاء الحريق. لكنه يواجه معارضة متنامية في الخارج وحتى داخله.  ويؤدي تصلب موقف السلطة حاليا إلى صعوبة أي مساومة.

ويتسع معسكر الشعب بشكل بطيء لكن أكيد، ويتعزز ويتنظم. وليس لهذا المعسكر أي مصلحة في تصادم مع السلطة. إنه بالعكس بحاجة إلى وقت كي ينغرس ويتنظم بنحو أفضل فأفضل. وتتضح بوجه خاص ملحاحية إعادة بناء قاعدته الشعبية (عمال، عاطلون، متقاعدون، طلاب، تلاميذ) بعد ما تلقت من ضربات اجتماعية وسياسية كبيرة في العقود الأربعة الأخيرة: انقلاب وحرب أهلية، وخطة التصحيح الهيكلي، ونيل من المكاسب الاجتماعية، وقمع…  ويجب عليها في الآن ذاته أن توضح منظوراتها السياسية، وتختار بين خياري المعارضة فائقة الليبرالية واليسار.

هل ثمة لدى المعارضة فائقة الليبرالية، المنتمية في هذا الطور إلى معسكر الشعب، إرادة ووسائل مواصلة دعمها للتعبئة الشعبية، أم أنها ستنتهي إلى مفاوضة السلطة حول خروج من الأزمة لصالح الطبقات السائدة؟ هذه الفرضية الأخيرة محتملة.  إنها، إذ تعتبر أن أوان سيطرتها التاريخية قد حل وأن عليها أن تحكم لا أن تسود فقط، تنوي أن تنهي كل عرقلة لانتشارها. هذا ما يفسر جذرية موقفها من السلطة. تنوي البرجوازية اغتنام الفرصة التاريخية كي تبعد نهائيا البرجوازية الصغيرة الماسكة حتى اليوم بأجهزة الدولة، والتي لجمت تطورها منذ أمد طويل. لكنها تخشى، في الآن ذاته، أن تتجاوزها الجماهير الشعبية التي لن تكتفي برفعها إلى سدة الحكم، بل ستنتهي إلى التقدم بمطالبها الخاصة وأهدافها السياسية الخاصة.  لقد أكدت الثورة غير المكتملة بتونس أن سقوط الديكتاتورية وإرساء ديمقراطية برلمانية برجوازية ليس نهاية التاريخ. ليس لسواد الشعب الأعظم. إن انخراط الاتحاد المحلي للاتحاد العام للعمال الجزائريين في المعقل العمالي الرويبة الرغاية شرق الجزائر قد أوضح الرهانات بإبراز ما تتطلع إليه الطبقة العاملة:

“لا يمكننا البقاء على هامش التطلعات الشعبية العميقة المعبرة عن نفسها، نضم أصواتنا لتأييد تغيير للنظام.  نريد نظاما يحافظ على ملكية الشعب غير القابلة للتصرف فيما يخص الثروات الطبيعية للأمة، ويعيد الاعتبار لدور الدولة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومحاربة الفقر واللامساواة. نظام يتميز عن الأوليغارشيات ويعيد تثمين العمل ويضع الإنسان في مركز التنمية. نظام يضمن الحريات الفردية والجماعية وحرية ممارسة الحق النقابي”. إنه النقيض التام لمشروع الجناح فائق الليبرالية. هذا ما يجعل هذا الأخير، المناصر لمسار اقتصادي أكثر جذرية من مسار السلطة القائمة، يتقدم بمنظور انتقال يفضي إلى انتخابات رئاسية.

ومن جانبه، يقترح الجناح اليساري للمعسكر الشعبي (جبهة القوى الاشتراكية، حزب العمال، حزب العمال الاشتراكي) بكيفية منسجمة على هذا الحد أو ذاك، حلا من أسفل يعيد إعطاء الكلمة للشعب ويعيد له فورا دور السيد الوحيد عبر منظور انتخاب مجلس تأسيسي.  سيكون هذا المجلس، بنظر حزب العمال وحزب العمال الاشتراكي، مكلفا بتحديد طراز النظام المطلوب، وبإعلان فوري لقيام الحريات الديمقراطية وتلبية التطلعات والمطالب الاجتماعية للعمال والمحرومين بلا انتظار. ويقترح حزب العمال الاشتراكي بناء تلاق ديمقراطي مناهض لليبرالية وللامبريالية يضم الأحزاب والنقابات والحركات الاجتماعية التي تشاطر تلك الرؤية. لكن لديها تأخر يجب تداركه.

في انتظار ذلك، يجب رفع مستوى الضغط بقصد إجبار السلطة على التخلي النهائي عن اقتراع 18 أبريل. ولا غنى عن مواصلة المظاهرات. لكن موجة بالغة القوة وحدها قادرة على إرغام السلطة على التنازل.ويجب منذ الآن تعميم  فكرة الإضراب العام.

الجزائر، 7 مارس 2019

ترجمة جريدة المناضل-ة     

  

شارك المقالة

اقرأ أيضا