الحوار الاجتماعي: المقايضة الرخيصة، والرد النضالي الضروري

بقلم: سليم نعمان

يشير ما تسرب من أخبار الصحافة إلى خواء جلسات ما يسمى حوارا اجتماعيا. إجمالا يمكن القول إننا بصدد مقايضة رخيصة أبطالها حكومة متعنتة وباطرونا متعجرفة وقيادات نقابية أصابها الهزال.
السياق
تلتقي أطراف «للحوار الاجتماعي» الثلاثة في سياق استخدام الدولة ملف الصحراء من أجل «تمتين الجبهة الداخلية»، أي تقوية ما تسميه سلما اجتماعيا، واستقرارا سياسيا، باعتبار أي تصعيد نضالي وأي مناوشة مهما صغرت ضربا في «مصلحة الوطن» و»خيانة له». وفي نفس الآن تجري تصفية حساب شرس مع معتقلي الحراكات الشعبية الأخيرة، الريف وجرادة وغيرهما، بمواصلة ماراتون جلسات محاكمة معتقلي الريف، وإنزال أحكام قاسية ببعض معتقلي جرادة.
يتسم السياق أيضا، بتفاقم أزمة اقتصاد البلد المزمنة، وصرامة اشتراطات المؤسسات المالية الإمبريالية المطالبة بشدة تعميق «إصلاحات» ماضية، والإسراع في تبني أخرى أكثر قساوة. لا يترك هذا للدولة هامش مناورة كاف للتعامل مع المطالب الملحة للنضال العمالي والشعبي.
تريد الدولة إجراء مقايضة تكون هي الرابح الأكبر فيها مع حرص شديد على ضمان مصلحة رأس المال وتوسعه وجني أقصى الأرباح. لذا ليس منتظرا من هذا المسمى حوارا سوى إجبار قيادات نقابية مستسلمة أصلا على توقيع اتفاق على بياض يمكن الدولة من مواصلة تعدياتها الظالمة على الطبقة العاملة وكافة الطبقات الشعبية المضطهدة.
يتضمن عرض الحكومة مقترحات بمثابة جزرة تخفي عصا إجراءات نيوليبرالية شديدة القسوة.
تعديات كبيرة على حقوق الطبقة العاملة وعلى مكتسباتها
تمكنت حكومة الواجهة من تقليص عجز الميزانية منذ سنة 2012، وخفض عجز ميزان الأداءات، وحسنت حجم احتياطات العملة الصعبة إلى ما يقارب سبعة أشهر من الواردات. وقد حققت هذه التوازنات المالية بكلفة اجتماعية باهظة، وخاصة تفشي الغلاء جراء إجراءات تفكيك متواصلة لصندوق دعم أسعار مواد الاستهلاك الأساسية، وتحسين التحصيل الضريبي خاصة ضريبة القيمة المضافة غير العادلة بتاتا والتي تنزل بثقلها على ذوي الدخل الضعيف الذين شهدت قدرتهم الشرائية تدهورا لا ينفك يتزايد.
تأتى ذلك أيضا بتقليص نفقات الاستثمار والأجور، حيث تمكنت من تقليص كلفة الأخيرة بنحو 10 مليارات درهم في الفترة 2012-2016، إضافة لانخفاض فاتورة الطاقة والاستفادة من منح الخليج، ومن خط سيولة صندوق النقد الدولي… ومن تطور إيجابي للصادرات خاصة قطاعي السيارات والفوسفات، ومواسم فلاحية عادية نسبيا.
مرت الولاية الأولى لحكومة الواجهة بسخاء كبير لرأس المال، وإصرار على ضمان استقرار نظام الاستبداد والاستغلال، وبتعديات كبرى على طبقة العمال والكادحين؛ إذ تم ضرب استقرار الشغل بالوظيفة العمومية بإقرار التشغيل بالتعاقد، و»إصلاح» نظام تقاعد الموظفين برفع سن التعاقد ونسبة الاقتطاع، ورفع الدعم كليا عن المحروقات، ورفع فاتورة الماء والكهرباء…
أما الحريات النقابية فتدهورت باستفحال القمع والتسريح لأسباب نقابية ومحاكمة النقابيين والعمال المضربين، ولا ننسى بالمناسبة مصير نضالات عمالية كبرى مثل ضحى أيت ملول-أكادير، ولاسامير والصلب بالبيضاء، وسيكوميك مكناس، وعمال المناجم والفنادق بوارزازات واللائحة طويلة…
إصرار على مزيد من التعديات
تسير الولاية الحكومية الثانية بنفس النهج: تعميق «الإصلاحات» السابقة يشمل صندوق دعم أسعار البوتان، ومراجعة أقسى لما تم إقراره بشأن نظام التقاعد، ومد التشغيل بالتعاقد ليشمل كامل أسلاك الوظيفة العمومية، وتعديل مدونة الشغل، والاقتطاع عن الإضراب، وقانون إطار للأكاديميات يكرس التعاقد، وتشديد تحرير قطاعات التعليم والصحة ليشملها جشع الاستثمار الخاص دون قيود. وتبني تعديات جديدة قاسية من قبيل تحرير صرف الدرهم المدمر لقدرة الأجراء الشرائية…
كما تصر الحكومة الشكلية على رفض أي زيادة في الأجور، وأي تراجع عن مشاريع قوانين قمعية هائلة مثل تقنين حق الإضراب، وقانون النقابات، وتشديد ضريبة القيمة المضافة وتوسيع وعائها، مع رفض كلي لإقرار الضريبة على الثروة، وإقرار ضريبة تصاعدية فعلية على الشركات والدخل.
يستمر تفشي البؤس والبطالة الجماهيري لاسيما وسط الشباب والمتعلمين والنساء. ومن المرجح تفاقم كل مصائب الرأسمالية التابعة والمتخلفة أخذا بالاعتبار عزم الدولة مواصلة خفض عجز المالية العامة إلى 3.3% من إجمالي الناتج المحلي، تماشياً مع التزام الحكومة خفض العجز إلى 3% من إجمالي الناتج المحلي بحلول الأعوام 2019-2021 وخفض الدين العام إلى 60% من إجمالي الناتج المحلي بحلول عام 2021. مزيدا من التقشف الصارم في كل ما هو اجتماعي، وسخاء متواصل للأقلية المستفيدة على طول الخط من مجمل الإجراءات النيوليبرالية المنتهجة مند بداية ثمانينات القرن المنصرم.
هكذا تستخف الدولة بما يسمى حوارا، فهي تمرر تعدياتها الهائلة دون التفاف لموقف القيادات النقابية. تحدد الدولة جدول الأعمال وتفرض ما تريد.
عرض حكومي خاوي، وغير رسمي
لا يرقى العرض الحكومي لأبسط الانتظارات، وهي الزيادة العامة في الأجور، وإعادة إقرار السلم المتحرك للأجور والاسعار. عرضت الحكومة زيادة قدرها 300 درهم في أجور «الفئات الدنيا»، التي لا تتجاوز السلم العاشر، ويهم 752 ألف و423 موظف بتكلفة قدرها 3 مليارات و826 مليون 340066 درهم، وزيادة مائة درهم في التعويضات العائلية عن كل طفل بالنسبة لـ 387 ألف و626 موظف بتكلفة قدرها 981 مليون و62400 درهم، والرفع من قيمة منحة الولادة إلى ألف درهم، وهو ما سيكلف 37 مليون درهم. وأيضا تحمل الدولة الجزئي لنفقات الأبناء في حدود 3 أبناء، وذلك بتخصيص 200 درهم لكل ابن بتكلفة سنوية قدرها مليار و139 مليون درهم، وكذا إحداث درجة جديدة لفئة الموظفين المرتبين في السلالم الدنيا، حيث رصدت لها الحكومة 10 مليون درهم، فضلا عن إحداث تعويض عن العمل في المناطق النائية قدره 700 درهم، سيهم 50 ألف مستفيد.
حتى الآن، لازالت المحكومة تنتظر رد النقابات على عرضها من أجل التوصل لاتفاق قبيل فاتح ماي، وهي تهدد، إن فشل ما تسميه حوارا، بتنفيذ عرضها من جانب واحد.
أما اتحاد أرباب العمل فيرفض، أي زيادة في أجور أجراء القطاع الخاص، ولا زيادة في الحد الأدنى للأجور والتعويضات العائلية، وأكثر من ذلك يطالب بمراجعة مدونة الشغل لفرض مزيد المرونة، بالإضافة لإقرار قانون الإضراب.

مطالب نقابية دون تعبئة نضال
رد النقابات مشتت، إذ كل بيروقراطية تعمل باستقلال عن نظيراتها، وتهيئ تخاذلها في صمت، وأهم من ذلك دون تعبئة قواها للضغط النضالي الضروري لإجبار الدولة على التنازل والاستجابة للمطالب الأساسية للحركة النقابية. بل إن البيروقراطيات تدبج بلاغات وبيانات تأكيد حرصها على ما يسمى سلما اجتماعيا واستقرارا سياسيا، وشراكة، والوحدة الوطنية… للتدليل أنها مستنكفة عن أي فعل نضالي ميداني لفرض الاستجابة للمطالب. أضف لذلك أن الوحدة النقابية التي دعت لها القيادات سابقا لم تر النور أبدا، ولا خضعت لنقاش ولتقييم، ليتبين أنها رد للرماد في عيون القاعدة النقابية وحسب.
فإلى متى سيستمر شراء الحكومة لصمت القمم البيروقراطية للنقابات العمالية، وتعاونها، بالفتات نفسه في قوالب شتى باسم الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية والشراكة والتنافسية وهلم جرا من التسميات. إنها رخيصة هذه المقايضة التي تنسج خيوطها لتلتف على رقبة الطبقة العاملة والكادحين كافة.
والحال أن الدولة لم تعد تلق بالا لوعيد البيروقراطيات النقابية وبلاغاتها «النارية» الجافة منذ التنازل الهام الذي اضطرت له تحت الضغط النضالي لحركة 20 فبراير وما رافقها من احتجاج شعبي متنوع. ووصل استخفافها بهذا الطاعون المتفشي في جسد النقابات العمالية أنها لم تنفذ إجراءات هامة من وعود اتفاق 26 أبريل المشهور، ومنها مساواة الأجور بين قطاع الفلاحة وقطاع الصناعة والخدمات…
تتفرج هذه القمم البيروقراطية مستسلمة على شتات نضالات الأجراء والأجيرات بالقطاعين العام والخاص، مثل الإضرابات الوطنية بقطاعات التعليم والصحة والبريد والجماعات المحلية، كما نضال فئات متنوعة من موظفي التعليم وغيره… ونضالات لا تحصى بالقطاع الخاص. إنها نضالات هامة وتعد عاملا إيجابيا في السياق الراهن، وتوجب فعلا على قيادة نقابية طبقية حازمة فعل كل شيء لجعل هذا النضال موحدا وممركزا ونوعيا ومتصاعدا…
ستحتج النقابات في فاتح ماي، ليس بإلغائه كما السنة الفارطة، لكنها ستكتفي بالاستنكار والوعيد، إن لم تحتفي بما تجود به الدولة وتبرز أهميته رغم هزالته وعدم ملائمته للأوضاع المتدهورة لشروط حياة وعمل جماهير العمال والعاملات.
اليسار النقابي الكفاحي ومهام البناء والنضال
يتوجب على يسار نقابي كفاحي حقيقي بناء النقابة العمالية ديمقراطيا لتكون في مستوى الدفاع الضروري عن آخر خطوط المكاسب التاريخية للطبقة العاملة والعمل على توسيعها وانتزاع حقوق أساسية أخرى، وباستعجال عليه التعبئة دون كلل من أجل إسقاط التعديات التي أنزلتها الدولة بطبقة العمال؛ منع تعميم العمل بالعقدة بالوظيفة العمومية وإسقاطه بقطاع التعليم، وإسقاط مشروع القانون التنظيمي رقم 97.15 القاضي بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب، والحيلولة دون تمرير مخطط الباطرونا الرامي إلى تعميق هشاشة أوضاع الشغل والهجوم على ما تبقى من مكاسب قانونية للطبقة العاملة، والضغط النضالي الحازم من أجل تنفيذ التزامات الباطرونا والدولة المتضمنة في اتفاقات فاتح غشت 1996 واتفاق 2008 واتفاق 26 أبريل 2011.
إن التعبئة النضالية الجماهيرية مجدية، فقد أجربت نضالات شعبية كبرى الدولة على التفاوض، على سبيل المثال لا الحصر، اضطرت الدولة لإرسال وفود حكومية للتفاوض إثر نضال الريف وجرادة الشعبيين، وطنجة ضد أمانديس وغلاء فواتير الماء والكهرباء، وأجبرتها نضالات طلبة وطالبات الطب كما نضال الأساتذة/آت المتدربين على التفاوض والتنازل، وعلق إضراب قطاع النقل بعد إجبارها أيضا على التفاوض. إنها النضالات الكفاحية والبطولية طويلة النفس التي وجب على يسار طبقي حقيقي الإفادة منها ومن دروسها وحفظها وتعميمها.
إن استسلام قمم النقابات العمالية البيروقراطية غير مجدي بتاتا، ولن يتأتى منه سوى المزيد من الهزائم والأهوال، وقد آن الأوان ليحمل النقابيون الكفاحيون لواء النضال النقابي الطبقي الديمقراطي والكفاحي الضروري مطلقا لإجبار الدولة على التفاوض والتنازل المفضي لتحسين فعلي لظروف حياة وعمل جماهير العمال والعاملات على درب تحرر شامل وعميق من براثن الاضطهاد والاستغلال.

شارك المقالة

اقرأ أيضا