الريف: براءة المعتقلين لا العفو عنهم

سياسة25 يوليو، 2018

 

 

بقلم: وائل المراكشي

قدم النائبان البرلمانيان عن فيدرالية اليسار الديمقراطيي للبرلمان مشروع قانون عفو عام عن معتقلي الاحتجاجات الاجتماعية.
أشارت ديباجة مشروع القانون إلى اعتراف الدولة بمشروعية مطالب الاحتجاجات، انطلاقا من «التدابير العقابية في حق عدد من المسؤولين الرسميين» انتهاء بـ»الإشارة الواضحة من طرف رئيس الدولة إلى فشل «المشروع التنموي» والتي تحولت إلى إجماع سياسي على قيام هذا الفشل الذي لا يمثل المحتجون إلا جزءا من ضحاياه».
يعتبر مشروع القانون بهذا التقديم أن مسار التعامل مع الريف كان يسير بشكل سليم، متجها نحو «إقبار الملف سياسيا بإطلاق سراح من اعتقلوا». لكن انحرافا حدث بـ»تكريس المقاربة المنية والقضائية الصرفة بإصدار أحكام قضائية بالجملة…».
يريد مشروع القانون التأكيد على وقوف النظام والمعتقلين المحكومين على أرضية واحدة. أي أنهما انطلقا من مسارين مختلفين ليلتقيا في نقطة واحدة وهي أرضية «الاعتراف بالفشل التنموي». وأكد البرلمانيان أن هذه الأحكام تهدد بنسف هذا «الإجماع السياسي».
روح مشروع القانون: الغيرة على الاستقرار السياسي
أصبح تنبيه النظام إلى ما يمثله تشدده الأمني من خطر على الاستقرار السياسي موضة سياسية رائجة لدى أنصاف الديمقراطيين وبيروقراطيي النقابة. يتوهمون أن لفت أنظار النظام، ومحاولة إرعابه بما سينتجه القمع، سيجعله يخفف القبضة. لكنهم بذلك لا يخدعون إلا الجماهير الكادحة المناضلة، بجعلها تنتظر عطف المستبدين، بدل مواصلة النضال لهزمهم.
أشار مشروع القانون المقدم إلى ذلك بقول إن الأحكام «لا تخدم… الاستقرار الاجتماعي… بل من شأنها أن تزيد في الاحتقان وتكرس انعدام الثقة بين المواطنين والدولة المؤسسات». ينسجم هذا مع خطاب فيدرالية اليسار الديمقراطي، التي تلتقي مع أحزاب البرجوازية الأخرى الحكومية المبدية بدورها خوفا من «تشويه سمعة الدولة في المحافل الدولية» بسبب هذه الأحكام.
وهو تخوف نابع من جبن برجوازي يخشى تجذر النضالات الشعبية ورقي الوعي العمالي والشعبي إلى حد يتجاوز احترام المجتمع القائم على الاستغلال الطبقي والاضطهاد السياسي.
هذا فيما تكمن مصلحة النضال الشعبي وتقدمه في توسيع الشقة بين «المواطنين» و»الدولة والمؤسسات»، وفي فقدان هذه «الثقة» تزداد ثقة الكادحين في نضالهم وتنظيمهم الذاتي واقتناعهم بأن «تحرر الكادحين يكون من صنع الكادحين أنفسهم».
وهم استعمال المؤسسات
يشير المدافعون عن مشروع القانون إلى أن هذا الأخير تفعيل لمكتسبات حركة عشرين فبراير ومكاسب دستور 2011. هذا ما عبر عنه أحمد السباعي في مقال بعنوان «ملاحظات حول مقترح القانون الذي تقدم به رفيقينا في مجلس النواب»، بقول: «تفعيلا لرؤيتنا القاضية بضرورة استغلال تواجدنا في المؤسسات السياسية… لطرح قضايا المواطنين والذود عنها في إطار استراتيجية النضال الديمقراطي التي تربط جدليا بين النضال الجماهيري والتواجد في المؤسسات».
جرى الحديث كثيرا عن تنازلات الملكية عن جزء من صلاحياتها للمؤسسات في دستور 2011. وانتقدت حكومة بنكيران بسبب استنكافها عن استعمال هامش الصلاحيات المتنازل عنها. يتغافل المنتقدون عن واقع ميزان القوى الحقيقي الذي لا يشكل الدستور سوى التعبير الحقوقي عنه.
ستتنازل الملكية على الورق، تحت ضغط النضال طبعا، لكنها تظل في الواقع متمسكة بالسلطة الفعلية. هذا ما أشار إليه مقال أحمد السباعي بقول: «كان باديا للعيان أن المؤسسة الملكية لن تتنازل عن إشرافها على الأجهزة الأمنية». إن أساس الأحكام القضائية هو استمرار الحصار القمعي للريف سواء أثناء المحاكمات أو بعد النطق بالأحكام.
أشار السباعي إلى دفاع الحزب الاشتراكي الموحد، إبان تعديل الدستور سنة 2011، عن «توسيع صلاحيات البرلمان في التشريع»، حيث أوردت وثيقة الحزب «ضمن الاختصاصات التي يجب أن تسند له حقه في إقرار العفو العام». وبرر السباعي هذا المقترح بأن «تقوية دور البرلمان» كان بهدف «مواجهة التعسف والتسلط والشطط الذي قد تمارسه السلطة التنفيذية في حق المواطنين».
ليس جديدا في التاريخ أن تتواجه سلطة الملكية مع سلطة البرلمان، وكان ذلك وراء اندلاع الثورات البرجوازية الكبرى في بريطانيا وفرنسا. ولم ينتصر البرلمان في هذين البلدين نتيجة توافق تاريخي بين الطرفين، أو لأن القائمين على البرلمان آنذاك كانوا يخشون على «الاستقرار الاجتماعي» ويتفادون «كل ما من شأنه أن يزيد الاحتقان». انتصر البرلمان لأنه كان مستندا على قوة الشعب الثوري. انتصر البرلمان لأنه هزم الملكية المطلقة بقوة الثورة.
لكن برجوازية القرن العشرين ليست هي برجوازية القرن السابع عشر، لقد خلفت البرجوازية فترتها الثورية الزاهية وراءها منذ قرنين، واحتل مكانها الطبقة العاملة التي تقود وراءها جماهير فقراء القرى والمدن.
تحافظ فيدرالية اليسار الديمقراطية على نفس الوهم البوعبيدي الذي كان يسعى إلى استعمال ما يتنازل عنه نظام الاستبداد من هوامش ضيقة في مؤسساته، وهم مراكمة المكاسب المؤسساتية الجزئية والوصول إلى «الديمقراطية» بجرعات متوافق حولها مع الملكية.
أشار السباعي إلى درس رئيس من دروس الصراع الطبقي، وهو أن صلاحيات البرلمان في تشريع العفو العام كان نتاج «حركة 20 فبراير المجيدة فرضت التنازل عن هذا الاحتكار وجعل العفو أيضا من اختصاص المؤسسة البرلمانية».
لكن يجب دفع هذا الدرس إلى نتائجه المنطقية القصوى. إن الملكية تنازلت تحت ضغط حركة 20 فبراير، وبزوال هذا الضغط ستعمل لاستعادة ما تنازلت عليه. وما دام النضال الشعبي لم يبلغ بعد مستوى ما كان عليه أيام 20 فبراير، فلا مجال للحلم بتطبيق هذا «المكسب المؤسساتي». أكبر دليل على هذا هو مصير مشروع قانون استعادة 17 مليار درهم المعتبرة «ربحا لا أخلاقيا» استولت عليه شركات المحروقات.
لن تقبل الملكية تفعيل صلاحية البرلمان في تشريع العفو العام، ليس لدواع قانونية ودستورية، ولكن لما يمثله حراك الريف من مجابهة سياسية صريحة استهدفت الملكية كنظام. ورغم ذلك هاجم أكاديميون وقضاة مشروع القانون من وجهة نظر قانونية، مشيرين إلى مسألة «دخول القانون المقترح حيز التنفيذ حتى قبل نشره في الجريدة الرسمية»، ومستحضرين من يطلقون عليه متضررين أي أسر «الضحايا» من رجال القمع، ومؤكدين على لسانهم أن الأحكام كانت «مخففة واقتصرت فقط على الأحد الأدنى من العقوبات”. يعكس هذا الرفض خشية نظام الاستبداد أن ينفلت أمر مشروع قانون من داخل مؤسساته، الخشية من تلقفه من طرف الكادحين والنضال من أجل تحقيقه على أرض الواقع.
هناك استعمال للمؤسسات يتحاشاه نواب فيدرالية اليسار الديمقراطي، وهو استعمال منبر البرلمان لإيقاظ فئات الشعب التي لم تلتحق بعد بالنضال. لن يغامر أنصاف الديمقراطيين بهذا النوع من الاستعمال، لأن من شأن ذلك «أن يهدد الاستقرار الاجتماعي ويزيد من حدة الاحتقان».
يعترف أنصاف الديمقراطيين دائما بميزان القوى المائل لصالح الاستبداد، لكنهم لا يسعون قط لتغييره لصالح الكادحين. أشار السباعي إلى أن مشروع القانون يأتي في سياق عجز «احتجاجاتنا من أن تفرض على القضاء إصدار أحكام عادلة منصفة». إن الإقرار بعجز الاحتجاج يستوجب بالضرورة تطوير الاحتجاج، وليس استجداء مؤسسة واجهة الاستبداد «البرلمان».
البراءة لا العفو
معتقلو الحراك الشعبي هم أسرى النضال في سجون الاستبداد، وأقل من براءتهم لا يمثل إلا انتصارا للنظام. جرت محاولات عديدة لدفع معتقلي حراك الريف لطلب العفو الملكي، لكنهم رفضوا وأصروا على براءتهم.
يعد طلب العفو إعادة كاريكاتورية لملتمس بئيس تقدم به المجلس استشاري لحقوق الإنسان إلى الحسن الثاني سنة 1999، قصد العفو عن ضحايا سنوات الرصاص. يصر المدافعون عن مشروع القانون على عكس ذلك، يقول السباعي في مقاله: «إننا لسنا بصدد طلب العفو أو تقديم ملتمس للعفو عن المعتقلين كما هو متعارف عليه بالشكل التقليدي، حيث تتقدم بعض الجهات بدور الوساطة لدى المؤسسة الملكية للعفو عن بعض المذنبين أو المفسدين المتنفذين».
العفو عفو، سواء صدر عن المؤسسة الملكية أو عن واجهتها البرلمانية. رغم أن أنصار مشروع القانون يحاولون إقناعنا بعكس ذلك، كما يقول السباعي: «تقديم مقترح القانون لا يعني إطلاقا إقرار بشرعية ومشروعية التهم الملفقة لشباب الريف».
ليس العفو محض تدبير قانوني، بل تدبير سياسي يقوم على اختيار طبقي واضح. ما دام كادحو الريف وغيرهم مستعدين لاستئناف النضال ما أن ترتخي «القبضة القمعية»، ما دام حراك الريف مشتعلا سيحتفظ النظام بالمعتقلين كأسرى حرب. وهو ما عبر عنه وزير العدل محمد أوجار في حوار مع هسبريس، تعليقا على مشروع القانون: «وعندما تصل المسطرة التشريعية إلى الحكومة ستتعاطى مع الأمر بما يتجاوب ومصلحة البلاد… ووفقا لمتطلبات المرحلة».
النظام يعفو عن خدامه دون الحاجة إلى مشروع قانون مقدم إلى البرلمان. جرى العفو عن المتورطين في نهب أموال الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وبجرة كلام تخلص العديد من المتورطين في ملفات الفساد الاقتصادي من المتابعة، حينما صرح بنكيران بضغط من أعلى قائلا: «عفا الله عما سلف».
إن ضغطا حقيقيا من أسفل هو وحده الكفيل بإطلاق سراح معتقلي الحراك الشعبي ومحاسبة المتورطين في قمع الاحتجاجات الشعبية في الريف أو غيره.
يحتاج رفع القمع وحرية المعتقلين إلى قوة نضال شعبية، تشير إلى تطورها الكمي والنوعي جملة ما يخترق المجتمع من نضالات عمالية وشعبية (جرادة، زاكورة، أيمنتانوت… الخ)، إضافة إلى ما تمثله حملة المقاطعة من قوة كامنة يستوجب تحويلها إلى قوة فعلية للنضال في الميدان. هذا هو الطريق الفعال لتحقيق مطالب النضال.
لنضع ثقتنا في قدرة العمال والكادحين على انتزاع أسرى النضال الشعبي من فك «العدالة البرجوازية» وسجون الاستبداد.

شارك المقالة

اقرأ أيضا