بوجه الأزمة الاجتماعية والسياسية في نيكاراغوا، تضامننا مع المطالب الشعبية وضد القمع الأورتيغي

بيانات6 نوفمبر، 2018

 

 

 

الثورة الشعبية الساندينية

ولدت الجبهة الساندينية للتحرير الوطني(ج.س.ت.و) بما هي”منظمة طليعية” مع توجه مناوئ للامبريالية وثوري، كما حُدد في برنامجها التاريخي(1969)، “قادرة على استلام السلطة السياسية(…) بإرساء نظام اجتماعي يلغي الاستغلال والفقر اللذين أُخضع لهما شعبنا عبر التاريخ”. كانت الجبهة الساندينية للتحرير الوطني  تحظى، بعد هزيمة ديكتاتورية سوموزا في يوليو/تموز 1979، بدعم من أغلبية السكان، وسعت إلى وضع الأسس الموضوعية والذاتية لمشروع ثوري ذي طابع اشتراكي، رغم وجود تحديات كبيرة في بلد ذي اقتصاد تابع جدا ويعاني من تفكيك اجتماعي عميق، فضلا عن الثورة المضادة المشجعة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في سنوات 1980، والتي ستكون حاسمة في طور الساندينية هذا. لقد حيّت الأممية الرابعة فورا إطاحة الديكتاتورية وكانت متضامنة تماما مع الحركة الشعبية الثورية.

وعيا منها بالطابع التدريجي الذي ستكتسيه التغييرات الاقتصادية والاجتماعية، شكلت الجبهة الساندينية مجلس إعادة بناء وطنية تمثلت فيه الكتلة الساندينية والبرجوازية. وتم إعلان أن مبادئ الثورة هي الاقتصاد المختلط، والتعددية السياسية وعدم الانحياز، بما هي استراتيجيات ضرورية في المدى القصير.

 وعلى المدى الطويل، كان البرنامج التاريخي للجبهة الساندينية يشكل الإطار العام المطلوب تطويره، رغم أنه لم يكن منفذا بكامله، مع  بقاء ديون هامة بذمته تخص تحرر النساء (لاسيما إبقاء القوانين المقيدة  للإجهاض التي لم تكن تسمح بوقف الحمل سوى في حال خطر على حياة المرأة) أو مطالب الفلاحين، وكذا جملة أخطاء جسيمة، من قبيل الالتزام بديون الدكتاتور سوموزا الخارجية وتطبيق سياسات مستوحية للمذهب النقدي في متم سنوات 1980.  بيد أن القادة الساندينيين وضعوا، بدءا من سنة 1988، خطة تقويم هيكلي تُدهور ظروف حياة الفقراء دون مساس بالأغنياء.  كانت تلك السياسات شديدة الشبه بالشروط المعتادة المفروضة من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي فيما كانت المؤسستان قد أقدمت بنحو مواز، بضغط من واشنطن، على وقف مساعداتها للسلطات الساندينية.  كانت سياسات التقويم تلك منتقـَدة جدا من قبل بعض الاتجاهات داخل الجبهة الساندينية لأن جهود التقويم كانت تثقل كاهل الطبقات الشعبية.

غير أن برنامج الجبهة الساندينية كان يتضمن بناء حكومة ثورية تتيح مشاركة تامة للسكان برمتهم، على صعيد وطني ومحلي، واحترام حقوق الإنسان، وحرية تنظيم الحركة النقابية في المدن وفي القرى، وحرية تنظيم مجموعات الفلاحين، والشباب، والطلاب، والنساء،الخ.  وجرى نزع ملكية كبار ملاكي الأراضي، وتوزيع الأرض، وتشكلت نقابات وجمعيات فلاحين. كما جرى تأميم مصانع وبنايات وأملاك أخرى لأوليغارشية سوموزا.

وفي أثناء السنوات الإحدى عشر التالية، تم تعميم التعليم، وفُتحت الجامعة للطبقات الشعبية، ووضعت برامج مساعدة اجتماعية، ونظام صحة شامل، وخدمات أساسية أخرى، وأُحدثت لجان دفاع ساندينية بقصد تنظيم سكان الأحياء.

كما أرست الجبهة الساندينية سياسة ضرائب منصفة، وحقوق العمال وعدالة اجتماعية تاريخية بالنسبة للساحل الكاريبي، بسبب الاستغلال وصنوف الميز ضد الشعوب المحلية. كان ذلك إذن برنامجا محوره الاشتراكية من أجل تحضير شروطها المادية، مع مقاربات تكتيكية وإستراتيجية فتحت، رغم مصاعب السياق وتهديد الامبريالية، وعودا جديدة بالقطع مع النظام المهيمن.

 لكن الإصلاح الزراعي لم يكن يسير إلى ما يكفي من البعد، إذ تركزت عمليات نزع الملكية أساسا على ممتلكات سوموزا وحلفائه، محافظا على مصالح  المجموعات الرأسمالية الكبيرة والعائلات القوية التي كان بعض القادة الساندينيين يرومون تحويلها إلى  حلفاء أو رفقاء طريق. وفضلا عن ذلك، بدلا عن أسبقية المستغلات الصغيرة والمتوسطة، سارعت الجبهة الساندينية إلى خلق قطاع زراعة تابع للدولة وتعاونيات، ما لم يكن مطابقا لتطلعات السكان القرويين، الذين جذبت قوى الكونتراس المضادة للثورة قسما منهم.

 كما لم يحظ التنظيم الذاتي والرقابة العمالية بالتشجيع الكافي. كان قسم من قيادة الجبهة الساندينية تلقى تكوينه في كوبا في سنوات 1960-1970؛ كوبا التي كانت تشجع آنذاك، بتأثير من الاتحاد السوفييتي الستاليني، التنظيم الشعبي في إطار مراقب بإحكام ومحدود. ترتبت عن ذلك استحالة مشاركة الجماهير مشاركة تامة في تحررها الذاتي.

خيانة للبرنامج التاريخي للجبهة الساندينية للتحرير الوطني و إرساء نظام حرفوي سلطوي

لما خسرت الجبهة الساندينية الانتخابات في العام 1990، كان الوضع العالمي الجديد ملائما لليمين، إذ حرمت إعادة الرأسمالية بأوربا الشرقية نيكارغوا من حلفاء دوليين. لكن بدأ ينبثق إحباط بصدد الوجهة التي اتخذتها السيرورة الثورية. ونشأ في القواعد الساندينية انزعاج ناتج عن التبقرط وعن الطابع العمودي للقيادة الوطنية للجبهة الساندينية التي كانت تعين أعضاء لجان الدفاع الساندينية، والقادة النقابيين، والأطر المحلية والوسطى. وتدريجيا أدى غياب إضفاء ديمقراطية على هذه الهيئات إلى تطور قيادة ساندينية بيروقراطية تتمتع بامتيازات متعارضة مع واقع الأغلبية العظمى التي كانت مطالَـبة بتحمل تضحيات اقتصادية واجتماعية باسم الثورة.

ولما استولى القادة الرئيسيون، بالقيادة الوطنية وبالإدارات وبهيئات التأطير المتوسط – فيما جرت العادة على تسميته پينياتا- على الأراضي ومزارع القهوة، والمساكن والإقامات القروية، والسيارات وغيرها من ممتلكات الدولة التي أخذتها الثورة باسم الأغلبية العظمى، تعمق ذلك الانزعاج.  كان مبررات القادة أن المقصود منع استيلاء العدو على ما كلف ذلك القدر من الدماء، لكن ذلك لم يكن يكفي لتفسير الاغتناء البرجوازية الساندينية الناشئة آنذاك للسكان.

فيما بعد، تبنت الجبهة الساندينية في ظل أورتيغا موقفا متذبذبا بين المساومة والمواجهة مع حكومة اتحاد المعارضة الوطنية (UNO) لڤيوليتا تشامورو. كانت القيادة الوطنية للجبهة الساندينية، التي يتحكم بها بشكل رئيسي تيار اليسار الديمقراطي لدانيال أورتيغا، تشجع من جهة النضالات ضد عمليات الخصخصة، فيما تساند من جهة أخرى في الجمعية الوطنية حكومة تشامورو التي تقوم بها.

وفي متم  سنوات 1990، عقد أورتيغا ميثاقا مع الحزب الليبرالي الدستوري (PLC)، لأرنولدو أليمان، الرئيس منذ العام 1997، في نوع من التعايش مع  اليمين الأشد محافظة وفسادا. إنها “صداقات خطيرة” على مشروع ثوري.  لكن ذلك كان مفيدا  للجبهة الساندينية لأورتيغا وللحزب الليبرالي الدستوري، اللذين حصلا بهذا الميثاق على مزايا مختلفة.  شهدنا ذلك مع دعم الحزب الليبرالي الدستوري لأورتيغا بوجه اتهام ربيبته زوالامريكا نارڤايز له بالإساءة الجنسية. وبعد سنوات لمـا تمتع أليمان بقضاء عقوبة بعشرين سنة سجنا، بسبب فرط فساد حكومته، في إقامة اجبارية بفضل رجال كان أورتيغا قد وضعهم في الجهاز القضائي، إلى أن ألغت المحكمة العليا الحكم في 2009، في ظل رئاسة أورتيغا.

كان إصلاح  قانون الانتخابات في سنوات 2000، بتشجيع من النواب الساندينيين والليبراليين، ثمرة أخرى  لميثاق أورتيغا- أليمان. يتيح ذلك الإصلاح الفوز برئاسة الجمهورية وبنيابتها بحد أدنى من 35% من الأصوات بالتقدم على المرشح الثاني بخمس نقط. أتاح قانون الانتخابات الجديد ذاك لأورتيغا، الذي لم يحظ بدعم كاف منذ 1990، أن يُنتخب في 2006 بنسبة 38.07% من الأصوات.

 في العام 2006، صوت الفريق البرلماني السانديني، المنتمي للمعارضة، باتفاق مع النواب المحافظين، على قانون مانع كليا للإجهاض. عمد إلى ذلك في إطار الميثاق مع اليمين الذي يتيح للجبهة الساندينية العودة إلى رئاسة الجمهورية في انتخابات متم العام 2006. وفي ظل رئاسة دانيال اورتيغا- الذي رفض إلغاء القانون- جرى دمج ذلك المنع في قانون العقوبات ساري المفعول في 2008. لا يتيح ذلك المنع أي استثناء، حتى لو كانت حياة المرأة الحامل أو صحتها في خطر، أو نتج الحمل عن اغتصاب.

ترافق هذا المسعى مع أوجه التقدم المحققة في توطيد صداقات خطيرة أخرى: هذه المرة مع خصم سابق للجبهة الساندينية، الكاردينال ميغال  أوباندو إي براڤو، الذي أعاده أورتيغا إلى الحياة العامة رئيسا للجنة المصالحة والسلم والعدالة، الهيئة المكلفة بالسهر على التزام  مُسرحي الحرب بالاتفاقات. كان ذلك بداية علاقة امتيازية أخرى بين الجبهة الساندينية الأورتيغية والسلطات القائمة. فبقصد كسب أصوات المحافظين، تزوج دانيال اورتيغا روزاريو موريو في الكنيسة قبل انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني، بحضور الكاردينال أوباندو محتفلا بالقداس.

 وقامت الجبهة الساندينية كذلك، بعد عودة أورتيغا إلى الحكومة، بتقعيد الاتفاقات مع منظمة أرباب العمل الخواص COSEP، مشكلة تحالفا بين القطاعين، معتبرا مساحة من أجل اتفاق ثلاثي بين الحكومة والقطاع الخاص والنقابات. بيد أن مشاركة النقابات كانت رمزية لأنه جرى ربطها بمصالح الجبهة الساندينية، أي من قبل الشريكين أورتيغا-موريو، كما دلت مواقف اتحاد العمال السانديني في نضال الشغيلة ضد كبار المشغلين مثل عائلة بيلاس، أو بوجه الاتفاقات حول الأجر الأدنى. على هذا النحو، جرى تدريجيا، من وضع القوانين إلى المفاوضات حول الأجور، إخضاع سياسة نيكاراغوا الاقتصادية لمصالح الرأسمال الوطني الكبير. غير أن ميثاقا من هذا القبيل لن يقتصرعلى الرأسمال الكبير الوطني، لأن ديناميته الخاصة تفضي إلى الرأسمال العابر للأوطان، لاسيما إلى الصناعة الاستخراجية، وبوجه خاص المناجم. كان هذا كله أساسا للمنطق النيوليبرالي السائد بالمنطقة: توجيه الموارد العامة نحو استثمارات خاصة، وتخريج الخدمات وخصخصتها، والإعفاءات من الضريبة والمزايا للرأسمال، الخ.

صودق على اتفاق التبادل الحر مع الولايات المتحدة الأمريكية في العام 2005. رغم أن الفريق البرلماني للجبهة الساندينية صوت، وهو في المعارضة آنذاك، ضد التصديق عليه في أكتوبر/تشرين الثاني 2005، ثم في العام 2006، فقد ساند  برلمانيو الجبهة الساندينية جملة قوانين تتيح تبني الشروط المفروضة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. ومن جهة أخرى، لم تسع قط حكومة دانيال أورتيغا عند الوصول إلى السلطة، إلى إلغاء اتفاق التبادل الحر هذا مع القوة الأمريكية.  إنه تغيير إضافي للوجهة في توجه الجبهة الساندينية، التي كانت من قبل تتهم حكومة الرئيس إنريك بولانوس باخضاع نيكاراغوا لمصالح واشنطن الاقتصادية. وترافقت موافقة نواب الجبهة الساندينية على هذا الاتفاق مع مساندة لتغيير جملة كاملة من القوانين بقصد التلاؤم مع الشروط المفروضة من الولايات المتحدة.  وصودق على اتفاقات تبادل حر أخرى بمساندة من الجبهة الساندينية: اتفاق مع تايوان (مطبق منذ 2008)، واتفاق بين أمريكا الوسطى والمكسيك(2011) وآخر بين أمريكا الوسطى والاتحاد الأوربي(2012).

استفادت نيكاراغوا في العام 2006 من تخفيف لديونها في إطار المبادرة لصالح البلدان الفقيرة بالغة الاستدانة (PPTE) ، حيث ألغى صندوق النقد الدولي 206 مليون دولار من ديون نيكارغوا. وعند عودة أورتيغا إلى الحكومة في العام 2007، كان برنامج صندوق النقد الدولي قد انتهى، ولم يكن الصندوق  يرى ضرورة لتوقيع برنامج جديد معتبرا استدانة نيكارغوا قابلة  للاستمرار. إلا أن حكومة أورتيغا ألحت على وضع برنامج جديد يرمي إلى جذب المستثمرين الأجانب.  وقبل صندوق النقد الدولي في الأخير، مطالبا  الحكومة بتعميق السياسات النيوليبرالية المنتهجة من قبل اليمين وتطبيق  تقشف في الموازنة  بقصد استخراج فائض ضريبي أولي.

 ليس والحالة هذه لمؤسسات بروتن وودز ما تؤاخذ عليه حكومة نيكاراغوا. سجل صندوق النقد الدولي “نجاح نيكاراغوا في حفظ الاستقرار الاقتصادي الإجمالي” (مارس 2016). وأثناء زيارة فريقها التقني الأخيرة (فبراير 2018)، صرحت هذه المنظمة أن “الأداء الاقتصادي في العام  2017 فاق الانتظارات وأن آفاق 2018 ملائمة”. أما البنك العالمي، فقد اختار اللحظة عينها، فيما أعلنت حكومة أورتيغا تدابير نيوليبرالية تخص الضمان الاجتماعي، لتهنئة أورتيغا على سياسته الاقتصادية الحكيمة. بعبارة أخرى، لقد احترمت نيكاراغوا التوجيهات التي تفرضها تلك المنظمات على المنطقة.

 كان هذا كله ممكنا مع تحكم الجبهة الساندينية في البرلمان. وفضلا عن ذلك، قدم أورتيغا، في نوفمبر/تشرين الثاني 2013، مبادرة ترمي إلى تبني قانون يعدل دستور الجمهورية، يقضي بوجه خاص بانتخاب الرئيس بـ”الأغلبية النسبية” من الأصوات،  باستقلال عن النسبة المحققة، وإتاحة  عمليات إعادة انتخاب رئاسية غير محدودة.  تمارس الجبهة الساندينية حاليا تحكما مطلقا في البرلمان، إذ لديها 71 نائبا من مجموع 92.

لكن تبقى حالتي خيانة من الجبهة الساندينية لبرنامجها التاريخي لا يمكن السكوت عنهما. أولهما تفكيك وتدمير النسيج التنظيمي الشعبي والحركات الاجتماعية الكبيرة، التي استقطب النظام معظمها.  يجري ذلك بالتحكم في مستويات مختلفة، من التطبيع القانوني، مع منع التقدم إلى الانتخابات  بقوائم مستقلة وبالتحكم عبر مجالس سلطة المواطن (CPC)، وهي إشكال تنظيم عمودية ترمي إلى مراقبة المواطنين لغايات سلطة الثنائي الرئاسي.

تتعلق الخيانة الأخرى بحقوق النساء، تضع موضع سؤال كامل النظام السياسي والاجتماعي حول الاورتيغية، وذلك بالمنع الكلي للإجهاض، وإصلاح قانون عنف الذكور، واضطهاد الحركة النسوانية النقدية إزاء النظام، والإفلات من عقاب سنوات من الإساءة الجنسية بحق زوالامريكا، الخ.  وصادقت نيكاراغوا في العام 2012، بعد حملة هامة نظمتها منظمات نساء قاعدية تعود إلى حقبة الثورة- على قانون 779 الرادع للعنف ضد النساء. كان هذا القانون يلغي الإلزام بالوساطة في حال وجود إساءة. كان ذلك القانون نتيجة حملة تقدمية، لكنها ووجهت بحملة رجعية من طرف السلطة الكاثوليكية التي اعتبرتها “معادية للأسرة”. فتم إضعاف القانون بتعديل بعد 15 شهرا من المصادقة عليه دون أي مقاومة من جانب الجبهة الساندينية.

جبهات نضال نسائية وقاعدية فلاحية-عمالية.  ورد الدولة بالقمع

 في هذا الطور تمت البرهنة على أن برنامج الجبهة الساندينية التاريخي، المدافع عن الحقوق وتساوي الشعوب، متناقض مع انحراف الأورتيغية. ضمن كل جبهات النضال المفتوحة، كانت حركات النساء، الناقدة للحكومة، الجهة التي لم تكف عن التنديد بتعديلات قانون 779 الذي يختزل جريمة قتل النساء في مجال علاقات الأزواج من جنس مختلف والذي يعتمد الوساطة مع المعتدين آلية لحل النزاعات. بعبارة أخرى، تم تحقير القانون كما شأن أجساد نساء نيكارغوا المعرضة لهذه القوانين أو المتظاهرات في الشارع لنيل حقوقهن.

 وعلى جبهات أخرى، نجد كذلك النضال ضد  النظام الاستخراجي، وثمة أمثلة مختلفة من النزاعات بين تراكم الرأسمال وبقاء الحياة ذاتها، ناتجة عن تعارض النظام الاستخراجي كمحرك للتنمية لا يفيد الأغلبية العظمى ولا الجماعات التي تعاني من عواقبه  السلبية، كما في رانشو غراندي أو مينا إل ليمون. في كلتا الحالتين، كان الرد على تعبئة الجماعات بالقمع. ويحدث الأمر عينه مع المشاريع المنجمية، والمائية الكهربائية والصناعية الزراعية.

 لكن ثمة، ضمن هذه المشاريع كلها التي تهدد الجماعات والبيئة، مشروع أدى إلى تعبئة هامة، على صعيد وطني وآخر دولي، لم يتمكن أورتيغا من حجبه؛ إنه مشروع بناء قناة  تقسم البلد والمنطقة إلى قسمين من بحر الكارايببي إلى المحيط الهادي، مخترقة بحيرة نيكاراغوا، أهم مصدر ماء عذب بأمريكا الوسطى. وكان الرد في هذه الحالة الاضطهاد والقمع وتجريم الحركات الاجتماعية.

 على هذا النحو، لا تعمل الحكومة، التي تخدم مصالح الرأسمال الخاص (سواء الرأسماليين “التقليديين”  المحليين، أو البيروقراطيين أو الأجانب) لقمع الشعب لصالح الشركات متعددة الجنسية وحسب، بل هي متواطئة أيضا في تدمير البيئة ومرتكبة انتهاكات معممة للحقوق الإنسانية.

 أبريل 2018 والتعبئة الشعبية ضد النظام: الاورتيغية تتجاوز نقطة اللاعودة   

انقضت 11 سنة منذ عودة أورتيغا إلى السلطة، حقبة  تراكم فيها ما يكفي من استياء اجتماعي كي يسبب حدثان انفجار أبريل/ نيسان 2018: خمول الحكومة بوجه حريق محمية أنديو مايز ومشروع إصلاح مؤسسة  الضمان الاجتماعي. كان من شأن ذلك الإصلاح أن يخفض معاشات التقاعد الحالية  بنسبة 5%، وأن يحد من ربط المعاشات بمعدل التضخم، وأن يخفض معاشات مستقبلية لزهاء مليون أجير بنسبة قد تصل 13% .

انعكس الانفجار الاجتماعي  في التعبئة في شوارع مدن عديدة في نيكاراغوا، وأثار اهتمام المجتمع الدولي بنيكارغوا واستياء السكان ضد النظام.

يوم 18 أبريل/ نسيان، اندلعت مظاهرات واحتجاجات عفوية وسلمية في المدن الهامة، مثل ليون وماناغوا، وقامت الحكومة تبشتيتها فورا بعنف. وتشير تقارير عديدة حول حقوق الإنسان إلى مجموعات منظمة  مناصرة للحكومة أو “قوات صدامية” مجندة من الشبيبة الساندينية، فضلا عن شرطة مكافحة الشغب. أدى هذا اللجوء غير المتناسب إلى العنف إلى تأجيج المظاهرات والتعبئات يوم 19 أبريل/ نيسان عبر   “اتوكونڤوكادوس” (الدعوة الذاتية): يتعلق الأمر بشباب، وطلاب، وعمال،الخ بادروا إلى تنظيم نقاط مراقبة في الشوارع والمدن عبر حواجز امتدت شيئا فشيئا في البلد إلى مدن مثل مازيا وغروناد وماتاغالپا وريفاس و إستلي، بتشارك مع متحدات وحركات أخرى.  منذ ذلك اليوم، تواصل حكومة أورتيغا-موريو القمع البوليسي والعسكري، خاصة مع تصرفات المجموعات شبه العسكرية التي أطلقت النار على المواطنين دون تمييز. تلك المجموعات مقنعة، مدججة بالسلاح وتعمل بكل إفلات من العقاب، في واضحة النهار وإلى جانب قوات الشرطة، ما يدل على أنها تتصرف باتفاق تام مع النظام.

 يوم 22 أبريل/نيسان، بالنظر إلى المشاركة العريضة في المظاهرات، ألغى أورتيغا إصلاح الضمان الاجتماعي. ويوم 24 أبريل/نيسان قررت الحكومة مباشرة حوار وطني مع قسم من المتظاهرين وقطاعات أخرى تحت إشراف التحالف المواطني من أجل العدالة والديمقراطية، المكون من منظمات المجتمع المدني، وطلاب وفلاحين وحتى من عالم الأعمال، وبوساطة الكنيسة الكاثوليكية، بقصد تسوية النزاع. في تلك اللحظة، كانت الحركات الاجتماعية قد عبرت بجلاء عن متطلباتها لإرساء حوار: لا تفاوض بدون وقف القمع، وضمان العدالة والتعويض للمتظاهرين ضحايا الاغتيال في الأيام السابقة، ورحيل الثنائي أورتيغا-موريو من السلطة، بما هي أهداف غير قابلة للتفاوض.  كان إذن مطلب الحركات الاجتماعية التفاوض حول  فترة انتقال إلى ما بعد أورتيغا. لكن، بعد الإلحاح على هذه النقاط، قررت الحكومة وقف الحوار.  وكانت مواصلة الحوار في هذا السياق ستعني، بالنسبة للحركة الاجتماعية، تعزيزا للأورتيغية ونظامها القمعي.

وفي الآن ذاته، ردت مؤسسات الدولة بسرعة لإضفاء شرعية على القمع، بإصدار قانون محاربة الإرهاب مثلا، هذا الذي يجرم ويضطهد بوجه خاص قادة الحركات الاجتماعية.  وإن آلاف المنفيين وأكثر من 400 قتيل، وكذا طرد منظمات حقوق الإنسان الوطنية والدولية، منها الأمم المتحدة ذاتها، يكشف درجة اللاعودة التي بلغها النظام. بعد اللجوء الكثيف إلى الترهيب بقصد قمع السكان وتفزيعهم، استعادت الحكومة في منتصف يوليو/ تموز التحكم في الشوارع. و جرى منذئذ اعتقال مئات آلاف الأشخاص ممن تعتبرهم الحكومة “إرهابيين” دون احترام حقوق الدفاع- ولم يسمح لمنظمات حقوق الإنسان بولوج السجون، وكذا محاميي بعض المعتقلين. وتعرض بعضهم  للترويع والتعذيب بقصد إرغامهم على الإدلاء باعترافات قد تثبت زعم الحكومة أنها تواجه مؤامرة لإطاحتها بالقوة.

نتيجة القمع، كان قسم من السكان قد رُوع لدرجة الكف عن المشاركة في احتجاجات الشارع. ومع ذلك نُظمت مظاهرات عديدة، لكنها لم تُفلح في جمع قدر ما كان يتظاهر بين شهري أبريل/نيسان و يوليو/تموز 2018. نظمتها حركات ومنظمات مختلفة: تمفصل الحركات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني، والتحالف المواطني من أجل العدالة والديمقراطية، وحركات طلابية، وحركة 19 أبريل (على كامل تراب البلد)، ومنظمات جماعات سكان، وأمهات أبريل، ولجان السجناء السياسيين، وحركات النساء والشبكات النسائية، ومتحدات مثليي ومزدوجي ومتحولي الجنس LGTBIQ، وجامعات، ونقابات وجمعيات مهنية مستقلة… لكن ثمة إجماع على وجوب مغادرة أورتيغا وموريو الحكومة وعلى ضرورة إعادة بناء الساندينية دون أورتيغا.

لكنها هذه المنظمات تعارض كلها التدخلات الخارجية الساعية إلى مخرج للنزاع نحو “أورتيغية بدون أورتيغا”؛ أي الحفاظ على بنية زبونية تحمي المصالح الاقتصادية للرأسمال الوطني والعابر للأوطان. لذا فإن أحد التحديات الرئيسة بوجه الحركات هو النقاش والتوافق على هذا الانتقال وعلى خارطة الطريق هذه، وعلى كون فاعلين مثل منظمة أرباب العمل COSEP ذوي دور حاسم راهنا لرحيل أورتيغا-موريو، يمثلون خطرا على مشروع اجتماعي واقتصادي تحرري…

في نقطة اللاعودة هذه، يستعمل النظام خطابة مناهضة للامبريالية للإقناع بأن ثمة محاولة “انقلاب هادئ” كما حدث ببلدان أخرى بالمنطقة. إن الأرثوذوكسية الراهنة المناوئة للامبريالية مختزلة في إعلان مفيد لكسب شرعية على صعيد دولي، لكنه يعزو نزاعا ذي جذور عميقة ومعقدة في الواقع الوطني إلى تدخل خارجي. ولا يفيد داخليا سوى مجموعة من ذوي الامتيازات كي لا يتعرضوا لأسوأ انعكاسات النظام الذي أرسوه في نيكاراغوا.

يدافع قسم من اليسار العالمي على هذا الفهم للنزاع. ويعتبر أن القوى الامبريالية- بدءا بالولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها بالمنطقة- مسؤولة إلى حد كبير عن زعزعة استقرار وضع البلد الداخلي، وأن قطاعا مهيمنا من حركة الاحتجاج يقوده اليمين الرجعي ويتلاعب به. ويُحذر هذا القسم من اليسار العالمي من المعلومات عن مسؤولية النظام الرئيسة في مئات قتلى تلك الأحداث المأساوية، وحتى يعتبرها أخبارا زائفة.

غير أن أورتيغا وأنصاره عاجزون عن البرهنة على محاولة الانقلاب تلك المزعومة. ولم يستعمل معظم المحتجين أي وسيلة إرهابية. و لم تفلح الحكومة في إتيان الحجة عن تورط أي مرتزق أجنبي في الحركة. ولم يشهر أورتيغا بأي قطاع من الجيش بتهمة فكرة انقلاب. في نهاية التحليل، ظل الجيش إلى جانب النظام حتى اليوم.

بالنظر إلى الوقائع المعروضة آنفا، يكون مجرد خداع كل سعي  إلى إيجاد معادل للانقلابات الهادئة في حالة نيكارغوا، كما ينم عن انعدام المسؤولية اختزال التعبئات الراهنة في فعل تخريبي لبعض المجموعات، أو اعتبار حقوق الإنسان، لاسيما حقوق النساء، موضوع مفاوضات أو عملة تبادل في أي مجتمع، وأقل من ذلك في المجتمع الذي نطمح نحن اليسار الثوري إلى بنائه. ومن الخداع أيضا اعتبار حكومة أورتيغا حكومة اشتراكية، أو يسارية، بالنظر للسياسات المطبقة منذ إحدى عشر سنة لصالح الرأسمال- كما يبرز ذلك دعم صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والرأسمال الكبير لأورتيغا، وكذا دعم القوى الرأسمالية، حتى الامبريالية الأمريكية، إلى أن بلغ القمع من الشدة درجة لا تسمح بمواصلة مساندة النظام علنا. ما من شعب يجب عليه أن يقتصر على أقل مما كسب من أنبل التطلعات في مجال الحريات، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية والحقوق الإنسانية، المؤلفة والحالة هذه في المُثل الساندينية. إن منطق أهون الشرور ينتهي إلى كونه أقصر السبل نحو أكبر الشرور!

لكل هذه الأسباب مجتمعة، تدعم الأممية الرابعة، التي تكرست منذ البداية للتضامن مع الثورة الساندينية، قطاعات المقاومة اليسارية والديمقراطية، والانتفاضة والسلطة الشعبية ضد نظام أورتيغا الراهن؛ وتعبر عن تضامنها مع القطاعات المناضلة من أجل إعادة بناء ساندينية مناهضة للرأسمالية وديمقراطية ومحترمة لحقوق الإنسان، وقادرة على التخلص من الاستبداد النيوليبرالي والقمعي الذي يسحق الجماهير الشعبية النيكاراغوية.

لا لقمع الحركات الشعبية النيكاراغوية!

 الحرية الفورية  لكل المعتقلين السياسيين!

 نعم لحقوق  النساء ! ولحرية الإجهاض فورا

 يسقط نظام أورتيغا-موريو النيوليبرالي المجرم

 

لا للتدخل الامبريالي في شؤون نيكاراغوا الداخلية!

نعم لحق الشعوب، في نيكارغوا وفي أمريكا الوسطى وغيرها، في إمساك زمام مصيرها بيدها!

 من أجل إعادة بناء الساندينية! نحو بديل اشتراكية بيئية بديلا عن النموذج الاستخراجي المركز على التصدير وعن النظام الرأسمالي، ما يستتبع قطيعة تستلزم أعلى مستوى من الديمقراطية والتنظيم الذاتي!

إننا نربط هذه المطالب كلها في حملة تضامن أممية مع ضحايا القمع في نيكارغوا

 المكتب التنفيذي للأممية الرابعة

 28 أكتوبر 2018، امستردام

 ترجمة جريدة المناضل-ة

شارك المقالة

اقرأ أيضا