تخريب الصحة العمومية: ادفع أو مت.

سياسة3 مارس، 2018

بقلم، أحمد أنور

تدمير تدرجي لصحة عمومية متدهورة أصلا.
لم ينعم المغاربة أبدا بصحة عمومية جيدة، فالميزانية المخصصة للقطاع ضئيلة جدا قياسا بضخامة الحاجات الصحية لشعب ينهشه الفقر وتدهور شروط العيش، وتخلف الوعي بالوقاية والصحة. خلال سنوات 1960، تكلفت الدولة بتغطية جزء من الصحة العمومية، ومع تطبيق سياسة التقويم الهيكلي برعاية البنك العالمي وصندوق النقد الدولي في أواسط ثمانينات القرن العشرين تم التراجع عن هذا الحد الأدنى بتقليص النفقات العمومية الموجهة لقطاع الصحة. وفي سنة 1986 صدر قانون الأداء عن الخدمة العلاجية كأول خطوة في اتجاه تصفية مجانية الخدمات الصحية العمومية. تلاها صدور تقرير للبنك العالمي سنة 1998 لوضع إستراتجية بديلة لتمويل القطاع. وفي 1999 أصدرت حكومة التناوب مرسوم 30 مارس 1999 القاضي بالأداء مقابل العلاج في المستشفيات العمومية (التعريفات). وفي 2002 صدر نظام التأمين الإجباري عن المرض، ونظام المساعدة الطبية راميد في 2008 لتملص الدولة من تمويل القطاع. كما عقدت الدولة اتفاقية التبادل الحر مع الولايات المتحدة الأمريكية تشمل بنودها منع استنساخ الأدوية الذي يضرب في الصميم حق المواطن في العلاج.(1)
لم يتوقف مسلسل الهجوم بل تسارعت وتيرته في السنوات الأخيرة. لقد تم منح التدبير المفوض لخدمات صحية لصالح القطاع الخاص، وسمح لمدارس خاصة وكليات صب خاصة بتكوين الممرضين والأطباء، وفرض امتحان التخرج على خريجي معاهد تكوين الممرضين التابعة للدولة في2007 وطرح قانون يفتح المجال أمام الرأسماليين من غير الأطباء للاستثمار في القطاع الخاص في 2009– جمد بعد ذلك- ليطرحه الوزير الحالي من جديد…
وتشكل المناظرة الوطنية للصحة، وقبلها الكتاب الأبيض ثم تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي تتويجا وتجميعا لإستراتيجية هجومية أشد عمقا وعنفا يلغي الطابع العمومي عن ما تبقى من خدمات وفتحها أمام القطاع الخاص، والإجبار على الأداء، وتخصيص نظام متردي ومعتل لغير القادرين على الدفع من غير المؤمنين.(2)
لإدراك سرعة الهجوم وإصرار صلب على تنفيذ توصيات المؤسسات المالية العالمية يمكن العودة إلى العقدين الماضيين.
قبل عشرين سنة كانت الصحة العمومية ملجأ المرضى الذين ليس باستطاعتهم تسديد فواتير العلاج بالقطاع الخاص. ورغم ميزانيتها الهزيلة وطاقة الاستيعاب المحدودة، وقلة الأطر الطبية والشبه الطبية، وتقادم البنيات وتدهور معايير الصحة والسلامة، وانتشار الرشوة والزبونية، والتمييز في الاستفادة من الخدمة الصحية… كانت المستشفيات العمومية تؤدي خدمات دنيا لكادحي البلد.
المبررات الكاذبة لإخفاء الحقيقة.
بترسانتها الإعلامية الكبيرة وبمؤسساتها الرسمية العديدة والخبراء المؤدي لهم، تقصف الدولة عقول الكادحين بسيل هائل من الأكاذيب لجعلهم يتحملون جحيم سياسة خصخصة مجموعة من القطاعات والمؤسسات من قبيل: الدولة غير قادرة على التمويل، الشراكة بين القطاع الخاص والعام، توفر القطاع الخاص على النجاعة والفعالية. لكن لما الصحة العمومية في بلدان أخرى رغم السياسة الليبرالية لا زالت نواتها الصلبة ثابتة ولما بلدان أخرى تنفق بنسب أعلى وتقدم خدمات أفضل رغم أنها من نفس مستوي اقتصاد المغرب؟
الحقيقة التي تخفيها الدولة إنها تطبق سياسة مفروضة من المؤسسات المالية العالمية التي تضع استراتيجية “إصلاح قطاع الصحة” وتعمل على مراقبة دورية لتنفيذها، وتنتقد كل تباطؤ وعدم تحقيق الأهداف بما هي من شروط الحصول على القروض، وكلما ضعف النضال كلما أسرعت دكاكة التخريب وهو ما حصل خلال العقدين الأخيرين.
إن المخططات المتتالية، مشاريع قوانين، تقارير وإجراءات، مناظرة… الخ- تعد الشوط الأخير للقضاء على الطابع المجاني للخدمات الصحية، وخلق سوق مربحة للقطاع الخاص بإجبار المرضى على التوجه قسرا لخدماته أو المعاناة والموت أمام أبواب المستشفيات المتدهورة الخدمات.
النتائج المترتبة عن تخريب الصحة العمومية:
الحال الذي بلغه واقع الصحة العمومية يدركه من حملته الأقدار للاقتراب من داك الجحيم. ساهم الإعلام الالكتروني في كشف حقائق رعب مسرحها المستشفيات العمومية، وليس مبالغة أن حالها أقرب لحال بلد في حرب قاتلة، الفرق فقط في نوع الأسلحة المستعملة، فنفس النتائج التي يخلفها القصف بالبراميل والصواريخ هو حال السياسة النيوليبرالية رغم بقاء الأبنية غير مدمرة.
فأغلبية الشعب لا يشملها التأمين الإجباري عن المرض وتستفيد من نظام المساعدة الطبية، وهي غير قادرة على الدفع محشورة بين ألم المرض الدائم أو الموت جراء أمراض قابلة للعلاج (ارتفاع نسب وفيات الأمهات الحوامل والأطفال أثناء الولادة مقارنة ببلدان المنطقة)
الجماهير القاطنة في المناطق النائية لا حظ لها في الخدمة العمومية، وتنتظر الحملات الطبية الإحسانية آو كارثة تصيبهم للفت أنظار الإعلام، والاستفادة من التفاتة عابرة قبل أن يغمرهم النسيان من جديد.
أما العاملين من اطر طبية وشبه طبية فقسمان، منهم من انغمس في تيار جارف عنوانه النهب بكل الطرق لجيوب الكادحين سواء بتلقي رشاوي أو السمسرة لتهريب المرضى للقطاع الخاص. إنهم يأكلون “النعمة ويحمدون رب الملة “، أما القسم الأخر فهم محاربون يقاتلون في بيئة فاسدة ومتردية ويسحقون يوميا بين مطرقة جهاز بيروقراطي عفن وحاجات هائلة لمرضى يصارعون لتلبية جزء منها بوسائل معدومة وفي ظروف مزرية.
الرد الشعبي ضد تخريب الصحة العمومية:
الهجوم الذي شمل كل أوجه الحياة أمر محسوس عند الجميع في حياته اليومية، لكن نتائجه بالغة القسوة يلمسها الشعب في قطاعي التعليم والصحة، وبالنظر لمكانتهما الهامة فقد شكلا محور أغلب الاحتجاجات الشعبية خلال العقدين الماضيين ونذكر بعضا من أكبر تلك النضالات دلالة:
– مسيرة زاكورة 2000 دفاعا عن جودة ومجانية الخدمات الصحية
– نضالات طاطا طيلة 2005 ضد التسعيرة الصحية ومن أجل المجانية والجودة
– نضالات سيدي ايفني/ايت بعمران 2005/2008، كان مطلب خدمات صحية عمومية وجيدة من المطالب الخمس للاحتجاج البطولي.
– نضالات ساكنة المناطق المعزولة من أجل سيارة اسعاف او مولدات أو طبيب: جبال بني ملال وازيلال…
– نضالات الطلبة الأطباء من أجل الادماج المباشر في الوظيفة العمومية
– احتجاجات أوطاط الحاج وتاندرارة وطانطان وتزنيت وبيوزكارن.
– احتجاجات الأطر الطبية ضد تدهور الخدمات وانعدام الأمن وضد الضغوط التي فاقت القدرة على التحمل: مستشفي محمد السادس مراكش/ مستشفي طنجة.
سياسة تخريب الصحة العمومية لا تسمح بالجهود الجادة للأطقم الطبية:
ليس المرضى ودويهم من يعذبه بعنف وضع الصحة العمومية بالمغرب، فثمة جحيم يومي يعيشه الشرفاء من الأطر الطبية والشبه الطبية المجبرين على العمل في ظروف سيئة جدا، وانعدام وسائل وشروط طبيعية لممارسة الخدمة الطبية والاستشفاء. التدبير الإداري والاستقلال المالي للمراكز الاستشفائية تفرض منطق تدبير يستوحي القطاع الخاص نموذجا، ومحركه تقليص المصاريف (أي خدمات أقل) وزيادة المداخل، ويجبر الطاقم الطبي على العمل وفق دلك، مما يضعه في مواجهة غضب المرضى ودويهم أو تقريع المسئولين الإداريين. تسحق هذه الدوامة الأعصاب وتنتهي بهم إما بوضع شرفهم المهني جانبا أو العيش في جحيم لا قاع له. ويفضل الكثير منهم حلولا خاصة بعد أن أعيتهم المحاولة بالهجرة إلى الخارج، والهروب نحو القطاع الخاص، وفي كل الأحوال نزيف إجرامي للصحة العمومية.
سبيلنا لنضال يعم البلد من أجل صحة عمومية، مجانية وجيدة:
لم تستطع النضالات العمالية والنقابية العديدة خلال العقود الأخيرة رد عدوان الدولة التي نجحت في تمرير سياسة تحرير “الصحة العمومية ” وفقا لمصالح رأس المال الخاص وفرض الأداء. لكن التحولات الحاصلة في المغرب، خاصة التحولات في بنية السكان (السائرة نحو الانتقال الديمغرافي في أفق الشيخوخة) المقرونة باتساع الفقر والبطالة تجعل مسألة الدفاع عن الصحة العمومية أمرا يتجدد. مهما بلغ تدمير المكاسب يجب مواصلة النضال الشعبي لاستعادة وتعزيز المكاسب تلك، لأجل دلك علينا استخلاص العبر من أسباب عدم قدرة النضالات السابقة في انتزاع مكاسب فعلية وتجبر الدولة على التراجع:
– غياب نضال وطني موحد على مطالب دقيقة تنسف برمتها سياسة الدولة في الصحة يتيح للأخيرة تقديم تنازلات جزئية دون المس بجوهر سياسة تخريب الصحة العمومية، لآجل نجاعة النضال لا بد من ميزان قوى عمالي وشعبي على الصعيد الوطني، وبناء على التجربة النضالية فدون اندفاع الحركة النقابية ذات البنيات والتقاليد الأرسخ فسنناوش بنضالات شعبية معزولة تتفجر بتفاوت زمني وجغرافي مما يضعف قوتها.
– النضالات الشعبية ذاتها عليها أن تسعى لتتوسع وتنسق بينها (جرت محاولات بين نضالات طاطا وسيدي ايفني لكن صعود الأخيرة في لحظة تراجع الأولى حد من بلوغ تلك التجربة ذروتها).
– عدم إدراك جوهر خطط الدولة يجعل طلائع النضال الشعبي معصوبة العينين وقد يؤدي بها إلى مأزق ضعف الحجة والإقناع في مقارعة دعاية الدولة وألاعيبها بتقديم تنازلات شكلية لا تمس جوهر المشكلة، وقد يصبح هؤلاء مجرد وسيط سلبي وناقل رسائل وقناة تمرير مبررات الدولة.
– التشهير والفضح بواقع الصحة العمومية بروح نضالية وكشف زيف الدعاية الاشهارية التي تروجها الدولة باستعمال التقنيات الحديثة
– كشف خدع وجرائم القطاع الخاص الذي ينهب بطرق شرسة احتيالية متعددة
– التضامن ودعم الأطقم الطبية والشبه الطبية التي تخوض معارك نضال ضد الفساد المستشري، وتقاوم انحطاطا معمما.
————–
(1) جبهات الهجوم الليبرالي على الصحة العمومية بموقع جريدة المناضل-ة
(2) قانون التغطية الصحية: أحد أوجه تطبيق لسياسة البنك الدولي في مجال الصحة، جريدة المناضل-ة عدد 04.

شارك المقالة

اقرأ أيضا