تضامن في ألمانيا مع نضال التحرر من الاستعمار في الجزائر

بلا حدود23 أكتوبر، 2018

 

 

 مقابلة مع هانس پايفر

  • في سنوات 1950 وأولى سنوات 1960، وضعتَ مع رفاقك في فرع الأممية الرابعة بألمانيا التضامنَ مع الثورة الجزائرية في مركز العمل الأممي. لماذا؟
  • هانس پايفر: كانت حرب التحرر الجزائرية من 1955 إلى 1962، وبدءا من العام 1956 قمنا بعمل التضامن ذاك. كانت الثورة الجزائرية تؤكد بنحو لامع تقييمنا السياسي لصعود الحركة المناهضة للاستعمار في البلدان التي أُبْقيت فقيرة وتابعة.

برأينا، كان على التحرر من السيطرة الاستعمارية أن يتطور نحو التحرر الاجتماعي، أي نحو إطاحة النظام الرأسمالي. وكانت اقتناعاتنا الأممية تستتبع أن تبدأ تلك النضالات في مختلف البلدان لتفضي أخيرا إلى سيرورة ثورة اشتراكية على الصعيد العالمي.

كان المؤتمر العالمي للأممية الرابعة قد صادق على مقرر يتحدث عن “ديالكتيك قطاعات الثورة العالمية الثلاثة”، حيث  ورد على قدم المساواة كل من التحرر من الاستعمار والثورة الاشتراكية في البلدان الرأسمالية الغنية والثورة السياسية ضد السيطرة البيروقراطية في البلدان غير الرأسمالية( الاتحاد السوفياتي وبلدان أوربا الشرقية) كمجالات معركة، وقيل إن نجاحا في أحد هذه القطاعات ستكون له آثار ايجابية على الحركات في القطاعين الآخرين. كان ذلك مناقضا لموقف الأحزاب الشيوعية الرسمية(ما بعد الستالينية)، لأن القيادة السوفياتية كانت تُخضع مصالح الثورة العالمية لمصالح دولتها كقوة عظمى في إطار ما سمي بـ”التعايش السلمي”، ما كان يعني عدم مساندة الحركات الثورية خارج النطاق الجغرافي  المتحكم به من قبلها سوى في حالات استثنائية وبكيفية محدودة.

في حالة الثورة الجزائرية، كانت شروط تحقيق الاستقلال التام تبدو لنا ملائمة بنحو خاص، لأن الجناح اليميني لجبهة التحرير الوطني، ممثلا في فرحات عباس، الذي لم يكن يطمح سوى لسيادة جزئية تبقي  السيطرة الامبريالية، كان أضعف نسبيا من الجناح المتطلع إلى الاستقلال التام على الصُّعد كافة. كانت إذن وجهة نظرنا أن النضال من أجل الاستقلال قد يؤدي، في حال نجاحه، إلى ثورة اجتماعية أوسع.

فضلا عن ذلك، كانت لألمانيا، البلد المتاخم لفرنسا، علاقات وثيقة مع هذه الدولة داخل المجموعة الاقتصادية الأوربية. كان ذلك يستتبع مسؤولية سياسية خاصة على الثوريين الألمان لدعم مقاتلي حركة التحرر الجزائرية.

عامل جزائري في مصنع السلاح الذي أنشاته الاممية الرابعة بالمغرب / مأخوذة من كتاب: المصنع اللامرئي للثورة الجزائرية – مذكرات تروتسكوي يوناني، ديميتريس ليفييراتوس

  • كنتم على صلة بأعضاء قياديين في جبهة التحرير الوطني، وساندتم هذه الجبهة ماديا وتنظيميا
  • هانس پايفر: آنذاك كان مكتب الأممية الرابعة مستقرا في باريس. لم يكن بالتالي معقدا علينا ربط صلات، عبر هذا المكتب، مع أعضاء قياديين من جبهة التحرير الوطني. كانوا طبعا في فرنسا مجبرين على العمل في سرية، وغالبا ما ساعدناهم على عبور الحدود للتشاور معنا في ألمانيا. كما كان قسم من عملنا التضامني غير شرعي في ألمانيا.. كان الأمر يتعلق بنقل وثائق ذات أهمية لعملهم، وتبادل المعلومات بين المناضلين في ألمانيا وفي فرنسا، وبنقل أموال. .. مثلا سحب مليون مارك من فرع لدويتش بنك، في فبراير/شباط 1960، لتمويل عمل لجبهة التحرير الوطني في ألمانيا. جرى نقل تلك الأموال في حقيبة  من قبيل رفيقنا القيادي چيورچ جونچكلاس المدعو “سشورش” وقائد الأممية الرابعة ميشال رابتيس المدعو “پابلو”. كان حذر مستخدمي البنك كبيرا، بالنظر إلى ضخامة مبلغ يُسحب نقدا. لكن العملية نجحت في آخر المطاف. من هنا استلهم عنوان كتاب كوفرترچر (حمّالو الحقائب) المنشور لاحقا. كان رفيقنا جاكوب مونيتا آنذاك يعمل ملحقا اجتماعيا بسفارة ألمانيا في باريس، وكان هذا الموقع يتيح له إسداء مختلف خدمات نقل البريد.

كما كنا نساعد ك في تلقي وتخزين وإيصال أسلحة لفائدة حرب التحرير الجزائرية. وكنا نستعمل لتلك الغاية مرْأبا لرفيقتنا هيلين جونپكلاس المدعوة “لني” زوجة سشورش.

  • نشرتم مجلة Freies Algerien  (الجزائر الحرة) ونظمتم أنشطة تضامن عمومية …
  • هانس پايفر: كان العمل التضامني الشرعي مع الثورة الجزائرية في ألمانيا مهما لدينا بنفس قدر أهمية عمل الدعم السري. فمن أجل تفسير تطلعات النضال التحرري الجزائري في الحركة العمالية الألمانية وللجمهور الألماني بوجه عام ولترويجها، نشرنا فعلا مجلة اسمها Freies Algerien   من 1958 إلى 1962. صدر منها 22 عددا، وكانت من حجم A4 . كنا ندعو في تلك المجلة، ضمن أمور أخرى ، إلى منح تبرعات مالية لجبهة التحرير الوطني لدعم نضالها التحرري. وكانت به مقالات عن تاريخ وواقع الجزائر، وعن مجرى الحرب في الجزائر، وأخبار عن أنشطة التضامن مع  نضال التحرر الجزائري في فرنسا وفي ألمانيا؛ ما كان يتضمن أيضا  أنشطة داخل نقابة الاتحاد العام للنقابات الألمانية، وشبيبة هذه المنظمة النقابية، والجناح اليساري للحزب الاشتراكي الديمقراطي، وكذلك منظمو الصقور (منظمة شبيبة مرتبة بالحزب الاشتراكي الديمقراطي)، ومنظمة أصدقاء الطبيعة المرتبطة بالحركة العمالية. كما نشرنا وثائق مبادئ ومواقف جبهة التحرير الوطني واستجوابات لقادتها. وغالبا ما كان يُعاد نشر تلك النصوص في جريدة المجاهد الناطقة باسم جبهة التحرير الوطني. وكان ذلك يكلفنا الكثير من العمل، بحثا وترجمة.  وكان تلفيف المجلة وإرسالها من تنظيم رفاقنا في كولونيا بالفرع الألماني للأممية الرابعة. وكنا نقوم بالدعاوة أمام الجمهور وفي المنظمات الجماهيرية للحركة العمالية التي كنا نناضل فيها، وننظم تجمعات تضامن عمومية، ونُعِدّ محاضرين، ونوزع مطبوعات جبهة التحرير الوطني، ونقترح مقررات تضامن مع نضال التحرر الجزائري. وكنا ننجح باستمرار في وضع  نضال التحرر الجزائري في جدول الأعمال، لاسيما في منظمات شبيبة الحركة العمالية.

 وفي المصانع التي كنا نشتغل فيها آنذاك، كنا نوزع أيضا مجلة الجزائر الحرة.

 وفي مظاهرة فاتح مايو في كولونيا عام 1958، قدمنا لأول مرة علم جبهة التحرير الوطني، الذي قامت رفيقتنا لني بخياطته ليلة ذلك اليوم. كنا نسير في المظاهرة رافعين تلك الراية، صائحين: الحرية للجزائر. وغالبا ما رفعنا تلك الراية، في مدن أخرى، بمناسبة اجتماعات وتظاهرات عمومية أخرى.

 وفي نوفمبر 1958، جرى في باد كوتسناخ (في رينانيا پالتينات) لقاء بين رئيس الجمهورية الفرنسية شارل ديغول ومستشار ألمانيا الغربية كونراد أدناور. قدم رفاقنا سشورش وميشي باينرت وهلموت شاور بلافتة تبرز علم جبهة التحرير الوطني، مثبتة على سيارة فولسفاكن (دعسوقة) مع شعار”الحرية للجزائر”. فقام صحافيون برجوازيون رجعيون بتمزيق اللافتة والراية.  لكن رفاقنا كانوا يوزعون أيضا  بطاقة بريد تضامنية  تدعو إلى الانضمام إلى أنشطة التضامن:” يوم فاتح مايو 1958، مظاهرة  للشبيبة العمالية في كولونيا. عنصر تضامن ودعم للجزائر”.  جرى اعتقال الرفاق موزعي تلك البطاقة ، لكن أطلق سراحهم بسرعة.

ويوم 1 نوفمبر 1959، بمناسبة  الذكرى الخامسة لبداية الانتفاضة الجزائرية، وضعنا إكليلا إحياء لذكرى ضحيا السيطرة الاستعمارية بالجزائر في كولونيا. كنا تقريبا زهاء عشرين رفيقا.  كنت أريد إلقاء خطاب. فاعتقلني شرطيان بزي مدني كانا مختبئين خلف دغل. بقيت محتجزا ساعات في مفوضية الشرطة.  كانوا يريدون إخضاعي لاستنطاق، لكني رفضت الإجابة. وبعد ساعات أطلقوني. وتناولت الصحافة المحلية في كولونيا اعتقالي  بنشر صورتين كان وجها الشرطيين واضحين فيهما (دون حجبهما بعريضة سوداء) . أغاظ الأمر شرطة كولونيا لأن الشرطيين لم يعودا صالحين للعمل بزي مدني.

  • قمتم أيضا بجمع أموال لجبهة التحرير الوطني؟
  • نعم، طبعا، وقد تحدث عن ذلك.  كنا ندعو إلى مساندة جبهة التحرير الوطني بهبات مالية، وقد حصلنا على قليل.  لكننا كنا منظمة صغيرة، وقدرتنا على جمع أموال لم تكن كبيرة جدا.، لاسيما قياسا بمنظمات جماهيرية، وبالأحرى  بالمبالغ التي بوسع حكومات أن تعطيها.  في هذا الميدان، كان إسهامنا بالأحرى متواضعا.

 لكننا كنا نساعد أيضا للحصول على قطع غيار وملحقات لإنتاج الأسلحة.  مثلا، كان سشورش يجد مواد كيميائية في الدانمرك، كان تمويلها يتم من قبل جبهة التحرير الوطني نفسها.

  • اشتغلت أيضا في مصنع سلاح بالمغرب وساعدت على صنع أسلحة لفائدة جبهة التحرير الوطني…
  • في سنوات 1957-1958، كانت السلطة الاستعمارية الفرنسية تنجح أكثر فأكثر في قطع سبل تزويد جبهة التحرير الوطني بالسلاح. بسبب هذا جرى تطوير مشروع إنتاج أسلحة من قبلنا في المغرب الذي كان مستقلا شكليا عن فرنسا منذ العام 1956، في البلد الخلفي لجيش التحرير الوطني (المنظمة المسلحة لجبهة التحرير الوطني) الذي كان بوسعه آنذاك التحرك بحرية في هذا البلد المجاور للجزائر.

 توجهت جبهة التحرير الوطني/جيش التحرير الوطني إذن إلى ميشال رابتيس المدعو  پابلو، وهو رفيق  يوناني  كان آنذاك أمينا لمكتب الأممية الرابعة وأهم قادتها (بعد الاستقلال كان مستشارا للحكومة الجزائرية ولبن بلة). نظم ميشال رابتيس، مع سشورش، تعبئة متطوعين داخل منظمات الأممية الرابعة والمتعاطفين معها للتمكن من إنتاج أسلحة في أماكن متعددة بالمغرب. نجح ذلك، وكان مهما لنضال جبهة التحرير الوطني.

أنا شخصيا اشتغلت في 1960، مدة ستة أشهر، في إحدى مصانع  السلاح بالمغرب. كنا ننتج هناك بوجه خاص بنادق رشاشة وقاذفات قنابل لفائدة نضال جبهة التحرير الوطني.  وكان محاربون من جيش التحرير الوطني ينهضون بحمايتنا. والى جانب رفاق من بلدان مختلفة، كان بذلك المصنع أيضا عمال جزائريون مؤهلون مقيمون بفرنسا.

  • ما التجارب التي تعتبرها الأهم في هذا العمل؟ 
  • هانس پايفر: كانت العلاقات بين العمال المؤهلين الجزائريين والزملاء القادمين من بلدان أجنبية جيدة، رغم الحواجز اللغوية واختلاف الثقافات. كان مناضلون من الأممية الرابعة قادمين من مختلف البلدان: الأرجنتين، فنزويلا، فرنسا، هولندا، اليونان، انجلترا، وألمانيا .

 كانت تجربة التفاهم والتعاون الأممي  تلك من أجل التضامن في النضال ضد الاضطهاد والاستغلال، ومن أجل عالم أفضل، مهمة لكل الرفاق المشاركين، سواء العمال الجزائريين أو نحن المناضلين من بلدان أخرى.  كانت الفروق الوطنية و الثقافية تتوارى  في إطار هذا التعاون التضامني، وكان الجميع يتحرق  للتعلم من رفاق البلدان الأخرى ونقل درايته إليهم.

 كنا نقضي أوقات الترفيه سويا، نلعب كرة القدم مثلا،  لكن كنا أيضا في الغالب نناقش سياسيا ونتبادل خبراتنا.  وبالأحرى اليوم، حيث  بشر مختلف البلدان والقارات والمجالات الثقافية يوضعون في تواجه بعضهم ضد بعض من قبل الطبقات السائدة وسلطاتها وخدامها السياسيين باسم الأديان وإيديولوجيات أخرى، يبدو لي من الأهم تنظيم  تجارب تضامن أممي تُعاش بحيوية شديدة بين أنداد.

 هذا ما يجعلنى ما  زلت أناضل في الأممية الرابعة، وأجهد لنقل تجاربي إلى الأجيال الجديدة.  واعتقد أن تجربة كبرى في هذا الاتجاه تتمثل في عملنا التضامني مع النضال الجزائري من اجل الاستقلال في تلك الحقبة.

 ختاما، أود أن أقول لعمال الجزائر ولعاملاتها، وكذا لشبابها، إن الثورة الجزائرية حصلت على استقلال الدولة  لكنها مع ذلك توقفت في منتصف الطريق: تبقى التبعية الاقتصادية للامبريالية، وتظل سلطة كبار ملاكي الرأسمال غير محطمة. لا يمكنني أن أتصور استكمال الثورة الجزائرية سوى كثورة اشتراكية.

 تمت المقابلة يوم 11 ابريل 2018.

المصدر : Inprecor 655-656 septembre-octobre 2018

ترجمة: جريدة المناضل-ة      

شارك المقالة

اقرأ أيضا