تعثر تشكيل حكومة الواجهة: دلالات ودروس

سياسة12 يناير، 2017

 

 

 جرت انتخابات مجلس النواب يوم 7 أكتوبر 2016، وبعده بيومين عين الملك الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، بناء على تصدر حزبه تلك الانتخابات، رئيسا للحكومة. ويجب على هذا ان يقترح أعضاء الحكومة على الملك الذي  سيعينهم.

مضت ثلاثة اشهر دون وصول هذه الآلية الى نتيجة، وظل الناس المهتمون بالسياسة يعاينون أطوار مصاعب تشكيل الحكومة، من قبيل أن هذا الحزب يشترط استبعاد ذلك الحزب، فيما  يوجد بين كل الاحزاب الممثلة بمجلس النواب، بدون استثناء، اجماع على جوهر السياسة التي ستتولى حكومة الواجهة أمر تفاصيل تنفيذها. وهي السياسة التي تضعها الحكومة الفعلية، في توافق تام مع القوى المتحكمة بالمغرب، من اتحاد أوربي ومؤسسات مالية للبرجوازية العالمية.

منذ استحواذ الملكية على كامل السلطة، وتهميشها للقوة السياسية المنافسة، المتمثلة في احزاب الحركة الوطنية البرجوازية، عملت على خلق احزاب تابعة بمثابة أدوات للتدخل في الحياة السياسية، وفي الآن ذاته ترك حيز ضيق للأحزاب المتحدرة من تلك الحركة القابلة لقواعد “اللعبة الديمقراطية”، مع سعي دائم وحثيث الى تطويعها وإخضاعها لأهداف الملكية. وقد بلغ الامر بالحسن الثاني تكليف حزب الاحرار بلعب دور المعارضة لما انسحب فريق الاتحاد الاشتراكي من البرلمان سنة 1981.

والوجه الآخر لهذا الاصطفاء والتطويع هو إفناء القوى السياسية الرافضة فعلا للاجماع على الحكم الفردي وعلى الرأسمالية التابعة المفروضة على اغلبية الشعب. لذا تم القضاء على الجناح الراديكالي الشعبوي من الحركة الوطنية، وتفكيك اليسار الماركسي بشدة القمع والتنكيل.

الاحزاب المصطنعة التابعة مطلقا، وتلك المسماة “وطنية ديمقراطية” التي تقبل الاجماع على الحكم الفردي وعلى الرأسمالية، ُتمنح مؤسسات تمثيلية تُـشركها من موقع ثانوي جدا، بحكم تفاهة السلطات المتروكة لتلك المؤسسات. هكذا تنحصر الحياة السياسية في لعبة تسيرها الملكية بقواعد مسطرة واخرى عبارة عن اعراف وقنوات غير رسمية.

هذه اللعبة سبق ان فضح أحد أوجهها شخص من الاحزاب المشاركة فيها، وهو من خدام الملكية الأوفياء، وهذا ما تشهد عليه أفعاله قبل أقواله، كان ذات يوم حلم بإشراك فعلي لحزبه على غرار أمجاد “حكومة عبد الله ابراهيم” [1] الوهمية. ففي اندفاع مخل بقواعد اللعبة صرح الأموي بما يضمره إخوانه في الحزب، وفيما سمي آنذاك “كتلة ديمقراطية”، إذ قال في مقابلة مع جريدة حرية المواطن (فبراير 1992):

“المبادرة قد لا تكون إلا بوحي من الحاكمين، والحاكمون هم الذين يوحون لبعض الاحزاب أن يُطلب استقبالهم، والحاكمون هم الذين يفتون أن تقوم بعض الأحزاب بالمبادرات. فكل شيء يأتي إما بتوجيه وإما بإيحاء. حتى ملتمس الرقابة لم يطرح إلا بعد أن ُأُشعرت بعض الأحزاب أن لا مانع إذا ارتأت أن تلتجئ الى مجلس النواب   لتقدم ملتمس الرقابة. هذا وجه من الصورة المأساوية للمهزلة الديمقراطية التي تعرفها بلادنا”.[2]

هل ُيعقل ان تقوم أحزاب خارجة من عباءة الملكية، مثل حزب الأحرار، بعرقلة شأن سياسي ترعاه الملكية مثل تشكيل حكومة الواجهة؟ كانت مجرد إيماءة بسيطة كافية لإفهام هذا الحزب  وسواه ما يريده القصر. كل الأخذ و الرد الذي لعب فيه بنكيران دوره المرسوم حبكة سياسية لها غايات.

لم تطق الملكية قط وجود قوة سياسية تحظى بقدر من القوة الجماهيرية والمصداقية  يجعلها مزاحما، أو منافسها، لها. انها كلية السلطة والقوة. ألم تنزع السلطة بكل ما أوتيت من أحزاب الحركة الوطنية بعيد الاستقلال، تاركة لها فتات سلطة زائفة في مؤسسات زائفة. ولتحقيق هذه الغاية عملت الملكية على تحطيم مصداقية الاحزاب وتحميلها مسؤولية كل سلبية من سلبيات “التدبير الحكومي” ومجمل الحياة السياسية.

لما بدأت قطاعات شعبية تتحرك بحفز من حركة 20 فبراير، تحت شعار الحد من سلطة الملك، او حتى نزعها على منوال ملكيات أوربية، سواء بمطلب الملكية البرلمانية او المجلس التأسيسي، كان من آليات دفاع الحاكمين عن سلطتهم المطلقة ترويج ان سلطات الملك يجب ان تبقى له، إذ لا يوجد بالبلد من هو جدير بانتقال تلك السلطات اليه. فالأحزاب السياسية فاسدة، وفاشلة، وعديمة الكفاءة ، الخ. و الضمانة الوحيدة لحسن سير شؤون البلد هو استمرار استحواذ الملك على السلطات كافة.  تسفيه الاحزاب السياسية مندرج في منطق الغاء أي منافس قد يرشح نفسه للنيل من سلطات الملكية.

ما جرى لبنكيران طيلة ثلاثة اشهر نتيجته الجوهرية والاعمق تأثيرا في المجتمع هو تلقين جماهير عريضة أن الأحزاب السياسية ما تولت أمرا إلا و أفسدته، ومن ثمة فهي غير جديرة بالنهوض بالشأن العام، وأن حظ البلد، وضمان سلامته، إنما يكمنان في الملكية التي تتدخل في آخر المطاف لتصويب ما اعوج بفعل تدخل قوى أخرى.

ما جرى طيلة ثلاثة اشهر درس في السياسة، بالتجربة و ليس بالخطاب، لملايين ضحايا نظام الاستبداد و الاستغلال القائم مفاده أن لا فائدة ترجى سوى من الملكية. الحفاظ على تخلف الجماهير السياسي وتعميقه، تلك غاية الغايات من المسرحية الجارية فصولها منذ اعلان نتائج انتخابات 7 أكتوبر 2016.

توجد الملكية اليوم في وضع الحاجة الى حزب العدالة والتنمية لمواصلة تنفيذ السياسية النيوليبرالية، بعد كل ما ابان عليه من استعداد لتحمل السخط الشعبي نيابة عن الواضعين الحقيقين، خلف الستار، لتلك السياسة.

 الظهور بمظهر الديمقراطية التي تتسع حتى للإسلاميين، في محيط اقليمي بالغ الاضطراب، وما ينتج عنها من استقرار سياسي واجتماعي، والنجاح في مواصلة النيوليبرالية، كسب كبير للنظام. لذلك فإن هدف الجلبة الحالية هو إجبار العدالة والتنمية على قبول دور هامشي أكثر في حكومة واجهة موفرا الغطاء السياسي المسنود انتخابيا، ومتحملا الكلفة السياسية لمستتبعات الهجمات المقبلة، وإن رفض فالذهاب لانتخابات جديدة ولو بعد حين.

سيرك سياسي هزلي

شهدنا خلال الأشهر الثلاث الأخيرة فرجة مملة أبطالها أحزاب لا تملك من قرارها شيئا، بل تنتظر إشارات الحاكمين إلى ما ينبغي فعله. بعد الانتخابات مباشرة، جمع حزب الأصالة والمعاصرة طيفا حزبيا لا يوحده سوى الموالاة التامة للنظام، جمعهم فيما سمي محاولة للانقلاب على نتائج الانتخابات. حينها رفض حزب الاستقلال الدخول في “المؤامرة” وندد بها.

توالت فصول هذه المسرحية سيئة الإخراج، بالصعود الصاروخي لنجم عبد العزيز أخنوش الذي تولى رئاسة التجمع الوطني للأحرار بعد مؤتمر خاطف لمباشرة مهمة التفاوض مع الأمين العام لحزب العدالة والتنمية المعين. كان على هذا الأخير أن ينتظر تفرغ زعيم الأحرار الجديد لبدء مشاوراته، وكان حينها ضمن وفد الملك في جولته الإفريقية.

عبر حزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية عن مشاركتهم في الحكومة، وتردد الاتحاد الاشتراكي، وتوالت اشتراطات حزب الأحرار، وكان أهمها استبعاد حزب الاستقلال من المفاوضات، لكن بن كيران تمسك بحليفه وأقسم أغلظ الأيمان ألا يتخلى عنه، وأنه لن يخضع للابتزاز. لكن الرياح جرت بما لا تشتهيه سفينة بن كيران، واضطر للتخلي عن أول حلفائه، وهو الثالث انتخابيا.

صعد شباط، الأمين العام لحزب الاستقلال، هجومه على حزب الأحرار وزعيمه، ووصل للمحظور، فتم التوقيع على صك وفاته. أعلن شباط في مناسبات متوالية أن أمر الحكومة بيد الملكية، وقدم دليلا على دلك بواقعة ارسال الملك مستشاريه الى عباس الفاسي حاملين له أسماء الاستقلالين المراد استوزارهم ضدا على قرارات الأجهزة الحزبية سنة 2012. ولم يكن حديثه حول موريتانيا سوى دريعة لتصفيته.

ليس قرص أذن القيادات الحزبية التي تتخطى الحدود المرسومة بفعل سخونة المناوشة لنيل المواقع المجزية، مقتصرا على حميد شباط، فقد سبق سبق أن وقع نفس الأمر خلال الحملة الانتخابية من خلال بلاغ للقصر يشير لاستيائه من استعمال مفاهيم من قبيل “التحكم”، وجرى الأمر عينه مع نبيل بن عبد الله الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية الدي أثار تدخل أجهزة الدولة لدعم “حزب مستشار الملك”.

كل هذه الاحزاب تنويعات لا فرق جوهري بينها، تنويعات للحزب الوحيد: الحزب الرأسمالي الملكي. قد تتقاسم الأدوار طبقا لمرامي الملكية، ولا يميزها غير حسابات المصلحة الشخصية لكوادرها المتطلعة الى كراسي الوزارات و الدواوين الوزارية، وشتى صنوف المواقع المجزية، وما تتيح مقاعد المؤسسات من علاقات مع عالم المال و الأعمال و النفوذ. إنها مشاتل وصوليين محترفي السياسة من خدام نظام الاستبداد و الاستغلال.

باستسلام المعارضة التاريخية التام، انتفى أي فرق بين أحزاب صعدت من المجتمع وأخرى خرجت من عباءة القصر.

الملهاة

ليست مجمل الأحزاب السياسية المناوشة لحزب العدالة والتنمية سوى أدوات بيد الملكية، وغاية مناوشاتها إفهام بنكران وحزبه حدود مكانته في الآلية السياسية للملكية. الكل بانتظار تدخل الملكية (التحكيم الملكي) لترتيب تشكيل حكومة الواجهة، وغاية الأمر كله إبراز الملكية ضابطة للأمور، وتسفيه الأحزاب السياسية. إنها مشاهد من لعبة ديمقراطية الهدف منها إقناع الناس بأن سلطة واحدة ووحيدة هي ضامنة الاستقرار وهي الملكية، وأن ترك الأمور للأحزاب السياسية لن يفيد في شيء إذ هي غير مهتمة سوى بمصالحها السياسية الضيقة.

مع ذلك، تعبر اشتراطات الأحزاب وتجاذباتها عن تنافس من أجل نيل أكبر حصة من المناصب الوزارية، ولهذا التنافس حدود لا ينبغي تجاوزها تفرضها الملكية، وحتى ما يعتبره خبراء قانونيون والأحزاب الليبرالية والمثقفون البرجوازيون مكتسبات دستورية، من قبيل الصلاحيات التي يمنحها الدستور لرئيس الحكومة، يتم العصف بها، والعرقلة الحالية لتشكيل الحكومة تبرز ذلك بجلاء.

الملكية في هذا المخاض تحافظ على صورة تظهرها بعيدة من الشنآن الحزبي، وفي نفس الوقت تتدخل مباشرة لإبراز مكانتها وحرصها على السير السليم للأمور: خطاب الملك من دكار الذي دعا خلاله إلى ما يعتبره المنهجية الملائمة لتشكيل الحكومة، الفعالية والكفاءة واحترام مقتضيات الالتزامات الدولية للمغرب. تم ارسال الملك لمستشاريه لحث بنكران على الإسراع في تشكيل الحكومة…

لقد مرت الانتخابات بشكل عادي وحققت في المجمل غاية النظام في إبراز وجود حياة سياسية وحزبية حقيقية بالمغرب، وبعدها مباشرة احتلت الملكية واجهة الحياة السياسية من جديد، وشحنت كفاية واحدة من آليات حكمها التقليدية القاضية بأن لا يبرز أي حزب أو شخصية سياسية بمكانة تنافس مكانة الملكية.

بعد الانتخابات تبين أن حزب الأصالة والمعاصرة ليس كافيا لمنافسة العدالة والتنمية، لذا تم الدفع بعبد العزيز أخنوش بسرعة فائقة للواجهة

كل هذا والملكية تمارس الحكم الفعلي بشكل عادي: عقد اتفاقات في مجالات اقتصادية شتى، ومشاريع ضخمة ببلدان افريقية عديدة، وهي تواصل قيادة تعديات كبيرة يجري تقريرها وتنفيذها تقريبا دون مقاومة…

أكد رئيس البنك المغربي للتجارة الخارجية بنك أوف أفريكا، عثمان بنجلون  أنه في المغرب “ليس هناك بتاتا عطلة مؤسساتية، رغم أنه من المؤسف تأخر تشكيل الحكومة”. وأضاف أن “الحكومة المنتهية ولايتها”، تصرف، دون شك، “الأعمال الجارية”. لكن في نفس الوقت، فإن إنجاز المشاريع الكبرى يتم “بقيادة جلالة الملك بانخراطه الشخصي، الذي يساهم في تموقع الاقتصاد والمجتمع المغربيين، دائما بشكل أفضل، على المستوى الإقليمي والدولي، وخاصة القاري.” مستعرضا “الأنشطة الملكية المكثفة” التي تتم منذ أزيد من ثلاثة أشهر، ومنها في المقام الأول، تنظيم المؤتمر التاريخي للأمم المتحدة حول التغيرات المناخية (كوب 22) بمراكش، وهو المؤتمر الذي شكل تقدما كبيرا للمجتمع الدولي على درب نموذج اقتصادي أكثر احتراما للبيئة ويكافح بنجاعة أكبر التغيرات المناخية”.

المغرب بحاجة ملحة لمجلس تأسيسي

لقد أبقى دستور 2011 نفسه مستقبل حكومة الواجهة مرتبطا برغبة الملك، فلا بنكيران ولا أخنوش بيدهما الأمر.  سيختار النظام القائم حكومة على المقاس الذي يريد، وسيمنح حزب العدالة والتنمية المكانة التي يراها ملائمة لمخططاته. سيستمر  حزب العدالة والتنمية في قيادة حكومة لا تملك من السلطة الفعلية  شيئا، لأن النظام لا يزال بحاجة إلى حزب العدالة والتنمية في ظل غياب حزب بديل لتدبير الأمور الجارية. أحزاب النظام، بما فيها أحزاب الحركة الوطنية البرجوازية، توجد في أوضاع مختلة، وتفتقر للشرعية الشعبية ولا مصداقية لها.

حزب العدالة والتنمية واع بكل دلك، وهو في ورطة حقيقية، من جهة فهم أن الماسكين الفعليين بزمام الأمور يريدون حكومة على المقاس يقبلها دون تردد، ومن جهة ثانية يرفض المواجهة والتنازل أكثر مما فعل حتى الآن خوفا على تهالك رصيده الشعبي ومصداقيته.

إن ما يتيح للنظام التصرف على هذا النحو، مستعملا ادوات حزبية متنوعة، منها المصنوعة صنعا، وأخرى مطوعة تطويعا، هو غياب أحزاب معبرة عن مصالح الطبقات الشعبية. وفي القلب من هذه المعضلة بقاء عمال المغرب صفرا سياسيا. ما مارست أقسام وازنة من شغيلة المغرب السياسة إلا ضمن أحزاب برجوازية لم تتجاوز غاية إصلاح الملكية وتطهير الرأسمالية التابعة. إن التخلف السياسي البالغ لعمال المغرب هو ما يجب تركيز الجهد النضالي على محاربته:

  • بتنوير سياسي للعمال، ولمجمل ضحايا النظام، يكشف حقيقة الحكم المطلق، وطبيعة الأحزاب، باستعمال حقائق الحياة السياسية اليومية
  • بالدفاع داخل منظمات العمال النقابية عن خط نضال طبقي على طرف نقيض من سياسة القيادات النقابية المتعاونة مع البرجوازية ودولتها، وإبراز حاجة العمال إلى حزب سياسي خاص بهم.

بؤس الحياة السياسية لا فكاك منه إلا بنهوض القوة العمالية و الشعبية المكافحة من أجل ديمقراطية حقيقية، لا سبيل اليها غير التعبئة و النضال من أجل مجلس تأسيسي يستند على نهوض عمالي وشعبي عميق يضع دستورا ديمقراطيا وخطة لإعادة بناء البلد بما يحقق تطلعات القاعدة العريضة من من شعبنا الكادح.

بقلم، بوغافري 

هوامش

1 حكومة عبد الله ابراهيم: حكومة فرضها ميزان القوى السياسي بعيد الاستقلال، تبنت اجراءات إصلاحية سرعان ما انقلب عليها القصر، دامت من ديسمبر 1958 إلى مايو 1960، ومثلت الفردوس المفقود للأوهام  الإصلاحية للحركة الاتحادية .

2 في كتاب: عن قرب، حوارات مع نوبير الاموي – منشورات الكونفدرالية الديمقراطية للشغل – طبعة مارس 2001 دار النشر المغربية، صفحة 70

شارك المقالة

اقرأ أيضا