حوار مع جلبير الأشقر: انتكاسة السيرورة الثورية…

 

 

 

 

 

الأشقر يُشرِّح الربيع العربي وانتكاسته ويُعرِّي اليسار “الزائف

تناولت بعض الدراسات الربيع العربي بنوع من الرومانسية الثورية المغرقة في الحلم والتفكير الرغبوي، وبعضها الآخر تناولها من زاوية التطبيل للنظم القائمة والتفسير المؤامراتي للأحداث، وأخرى تناولتها بتبسيط شعبوي ساذج ديماغوغي. فكيف يفسر جلبير الأشقر ظاهرة الربيع العربي وانتكاساتها؟ وإلى أين تمضي مسيرتها؟ وكيف يرى الماركسي العتيق دور اليسار في الربيع العربي؟ وعلاقة اليسار بسؤال الحرية؟ ومَن هو “اليسار الزائف”. خالد سلامة حاوره لموقع قنطرة.

وأنت واقف أمام بوابة برلين وعلى بعد خطوات من مكان مرور جدار برلين، الذي مثل هدمه ذروة الموجة الديمقراطية الثانية في أوروبا بعد الموجة الأولى التي شهدتها أوروبا الجنوبية (إسبانيا والبرتغال واليونان) في السبعينيات، كيف تصف حال الموجة الديمقراطية العربية (الربيع العربي) اليوم؟

جلبير الأشقر: المقارنة بين واقعنا العربي وتلك الموجات الديمقراطية التي ذكرتها مفيد. ولكن أرى أن نوسع دائرة المقارنة ونقارن مع تحولات ديمقراطية أخرى خارج أوروبا في الثمانينيات: في أمريكا اللاتينية، كما في شرقي آسيا وخصوصا في كوريا الجنوبية وتايوان. في كافة الحالات المذكورة، جرى التحول من أنظمة دكتاتورية إلى أنظمة ديمقراطية ليبرالية، غير أن عمق التحول مختلف جداً بين حالة وأخرى.

في أوروبا الجنوبية وأمريكا الجنوبية وشرقي آسيا، جاء التحول تكريساً لمرحلة نمو اقتصادي سريع ترافق بالتصنيع والتحديث. أما في أوروبا الشرقية، فقد جاء الانفجار بعد مرحلة جمود اقتصادي مديدة، ولم يؤد فقط إلى الانتقال من نظام دكتاتوري إلى آخر ديمقراطي ليبرالي، بل ترافق بتغير جذري في النظام الاقتصادي-الاجتماعي: من نظام مركزي تشرف عليه بيروقراطية الدولة إلى نظام سوق حر اندمج باقتصاد أوروبا الغربية. وهنا فارق جوهري بين التحول في أوروبا الشرقية والتحولات في أوروبا الجنوبية وأمريكا اللاتينية وشرقي آسيا، حيث حدث التحول في النظام السياسي لا غير. ويمكن أن نضيف تركيا هنا، حيث أدّى النمو الاقتصادي إلى تغيير سياسي وتقليص جذري لسطوة الجيش، كما بيّنت المحاولة الانقلابية الفاشلة التي جرت ليل أمس [15 / 07 / 2016] والتي كانت محاولة لاستعادة تلك السطوة المفقودة.

أما الحالة العربية فتتشابه مع أوروبا الشرقية أكثر من غيرها من حيث عمق التحول. فالربيع العربي ناتج عن جمود اقتصادي مديد تجلى بوتائر نمو منخفضة جداً وبطالة بالغة الارتفاع، خصوصا بطالة الشباب. بيد أن الفارق الجوهري هو أن أوروبا الشرقية كانت تحكمها قبل انفجارها شرائح بيروقراطية تستفيد من التسلط على الدولة، ولكنها لا تملك الدولة ولا تملك الاقتصاد ملكاً خاصاً لأفرادها، فلم تكن مستعدة بالتالي للاستماتة والاستشراس بالدفاع عن النظام، بل أمَلت في إعادة إنتاج امتيازاتها في إطار مجتمع رأسمالي. والحال أن الكثير من حكام اليوم في أوروبا الشرقية هم أبناء النظام السابق على نسق بوتين في روسيا.

الحالة العربية أكثر تعقيداً بكثير: نحن أمام تملك خاص للدولة من قبل جماعات حاكمة على طريقة “الدولة الميراثية” (حسب المفهوم الذي صاغه عالم الاجتماع الألماني، ماكس فيبر)، أو أمام جهاز دولة قائم على نهب منظم للبلاد لصالح التملك الخاص للأفراد المشرفين عليه. في مثل هذه الحالات، يتمسك المتربعون على النظام بنهبهم للدولة ويقاتلون حتى آخر جندي لديهم دفاعاً عن نظامهم، لا سيما في الدول الميراثية حيث قام الحكام بتشكيل حرس خاص بهم بحيث لا يمكن الإطاحة بهم إلا بإلحاق الهزيمة بهذا الحرس. ناهيك بأن المطلوب أكثر من ذلك إذ لا بدّ من تغيير جذري في النظام الاقتصادي-الاجتماعي برمّته، أي لا بدّ من الإطاحة بكافة الفئات الاجتماعية المستفيدة من النظام القائم، وهو أمر لم يحصل في أي بلد عربي حتى الآن.

هل أستنتج من كلامك أن الربيع العربي موجة استمرت لفترة واستنفدت أغراضها ثم ذهبت في حال سبيلها؟

جلبير الأشقر: ساد وهم في عام 2011 في أن إسقاط بن علي ومبارك كان تحقيقاً لشعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، غير أن “النظام” في البلدين يقوم على بنية أوسع بكثير من شخص الحاكم وحاشيته. أما في دول ميراثية كسوريا وليبيا، فحتى إسقاط الحاكم أمر غير ممكن من دون التغلّب على قواته الخاصة. تم ذلك في ليبيا، ولكن الدولة برمّتها انهارت مع النظام، لأن النظام كان قد أعاد بناء الدولة بأسرها بما يناسبه. وفي الحالة السورية، لم تفلح الثورة بإسقاط النظام وجلّ ما ينظر إليه اليوم هو مساومة مع النظام، يدور السؤال بخصوصها حول دور بشار الأسد الشخصي فيها.

بيد أن ما شهدناه منذ عام 2011 في المنطقة العربية لم يكن سوى بداية سيرورة ثورية عسيرة وطويلة الأمد ستستغرق عقوداً، مثلما استغرقت سيرورات ثورية تاريخية أخرى كالإنكليزية والفرنسية والصينية والعديد سواها. وفي السنوات والعقود القادمة، إما أن تُستكمل شروط دخول مرحلة جديدة من التاريخ العربي من خلال تغيير البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية تغييراً جذرياً، وإما أن يفشل ذلك، فنكون أمام مرحلة خطيرة من الانحطاط التاريخي والتفسخ المجتمعي على نسق ما بدأنا نراه في بعض بلدان المنطقة.

ما هو تصورك المثالي لتغيير النظام الاقتصادي-الاجتماعي بنقاط محددة واضحة؟

جلبير الأشقر: نحن بحاجة لتكنيس الطبقات الحاكمة الطفيلية المتربعة على عروش الممالك والجمهوريات والجملوكيات (جمهورية -ملكية كسوريا الأسد وليبيا القذافي سابقاً) في المنطقة العربية، وإحلال حكم ديمقراطي يخلص في صيانة مصالح الشعب بطبقاته الكادحة، ينتخبه الشعب ويبقى خاضعاً على الدوام للرقابة الشعبية الديمقراطية. ونحن بحاجة إلى نظام اقتصادي يُحدث تنمية حقيقية إنتاجية لا طفيلية، يختلف عما هو سائد لدينا من اقتصاد نيوليبرالي، قام على خصخصة القطاع العام والفساد والمحسوبيات. فدون إحداث مثل هذا التغيير العميق، لن نخرج من الأزمة العميقة التي نعيشها. خذ مثلاً حالة مصر حيث لم يتغيّر النظام الاجتماعي ولم تتبدّل السياسة الاقتصادية منذ 2011 حتى الآن، من مبارك إلى المجلس العسكري إلى مرسي إلى السيسي. ومن يعتقد أن عهد السيسي هو نهاية المطاف واهم، إذ أن الأزمة الاقتصادية-الاجتماعية في مصر ما زالت في تفاقم مستمر، بل ومتصاعد، بينما سياسات السيسي عاجزة تماماً عن مواجهتها.

بعد ما يقارب ست سنوات على الربيع العربي، هل أنت متفائل أم متشائم، أم “متشائل” على حد تعبير إميل حبيبي؟

جلبير الأشقر: بداية، يتوجب علينا تجنب إسقاط الرغبات على الواقع. في عام 2011 في أجواء النشوة والتفاؤل، حذرتُ من أن سقوط مبارك وبن علي لا يعنيان سقوط النظام في البلدين واستعملت مجاز جبل الجليد: لو تم قطع رأسه الطافي فوق الماء، يظهر على الفور رأس جديد فوق سطح الماء. آنذاك ساد إفراط في التفاؤل وبدا تحذيري كأنه تشاؤم بينما رأيت فيه واقعية. أما اليوم فبات التشاؤم يسود. وأقول لمتفائلي الأمس ومتشائمي اليوم أن العملية لم تنته ولا بدّ من التحلي بالنفس الطويل وبالصبر الثوري لمواجهة الثورة المضادة. صحيح أننا نعيش مرحلة ردة وانتكاسة، غير أن الطاقة الثورية الشبابية لا تزال موجودة ولم تُستهلك أو تُسحق. وتعبر هذه الطاقة عن نفسها كلما سنحت الفرصة، مثلاً بالإضرابات والمظاهرات في مصر، وأحداث القصرين في تونس في بداية هذا العام وعودة التظاهر في سوريا مؤخراً خلال الهدنة. بالنسبة لي هذا أمل وليس تفاؤلاً، أي أنه ليس تفاؤلاً بأن الأفضل سوف يحصل، بل قناعة بأن الأفضل ممكن الحدوث شريطة اقترانه بالعمل.

من خلال كلامك يبدو أنك على قناعة تامة أن المفجر الأساسي لثورات الربيع العربي هي المشكلة الاقتصادية-الاجتماعية (“التنمية المعاقة” كما أسميتها في كتابك “الشعب يريد”). وطبعاً ينسجم هذا التحليل مع خلفيتك كماركسي لا يزال يربط المسائل بجذورها الاقتصادية والاجتماعية؟ ألا تعتقد أن الربيع العربي كان ثورة للحرية والكرامة بالدرجة الأولى؟

جلبير الأشقر: تأمَّل في الهتاف الذي برز في ميدان التحرير في الانتفاضة المصرية: “عيش (أي خبز بالعامية المصرية)، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة وطنية”. أنا لا أغيّب أي من هذه الجوانب. غيري هم من غيّبوا بعض الجوانب ولم يروا في “الربيع العربي” سوى توق إلى الحرية والديمقراطية متغافلين عن العمق الاقتصادي-الاجتماعي، فوقعوا في مطب الاعتقاد بأن إجراء انتخابات حرة و تغيير الدساتير يحل المشكلة.

لو عدنا قليلاً إلى الوراء في التاريخ، لوجدنا أنه في الخمسينيات والستينيات شيّدت أنظمة قومية عربية – وخصوصا مصر عبد الناصر – دولاً تنموية حقاً، لكنها دول شابها الاستبداد السياسي والفساد البيروقراطي. ما حدث منذ السبعينات والثمانينات وباسم “الانفتاح” أنه جرى التخلي عن الطابع التنموي للدولة وتصفية المكاسب الاجتماعية مع الإبقاء على الفساد والاستبداد. تراني أقول دائماً أن المطلوب اليوم هو عكس ذلك: المطلوب هو تكنيس الفساد والاستبداد وإعادة تشييد دولة تنموية إنما على أسس ديمقراطية حقاً.

في سوريا، حيث كانت المطالب بالتغيير أكثر جذرية من غيرها من دول الربيع العربي، طغت مسألة الحرية والكرامة.

جلبير الأشقر: هذا أمر طبيعي. فكلما كانت الدولة أكثر قمعية، تطغى مسألة الحرية على غيرها. ولكن المسألة الاقتصادية-الاجتماعية لم تقل تفجراً في سوريا عنها في مصر وتونس. قبل الربيع العربي حذّر تقرير لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية من أن سوريا مقبلة على انفجار، ليس احتجاجاً على القمع  -فالدولة القمعية قائمة في سوريا منذ عقود- بل بسبب الوضع الاقتصادي-الاجتماعي: إفقار الأرياف، الهجرة من الريف إلى المدينة وتضخّم أحزمة البؤس حول المدن، والبطالة المرتفعة، وتحوُّل سوريا من بلد جرت فيه محاولة بناء اقتصاد إنتاجي إلى بلد ساد فيه اقتصاد ريعي طفيلي واستشرت فيه المضاربات من عقارية وسواها.

إن نضوج تلك العوامل الاقتصادية-الاجتماعية هو ما سبّب الانفجار في سوريا. كررت مراراً خلال عام 2011 أن السؤال الأكثر تعقيداً ليس لماذا انفجر الوضع آنذاك، بل لماذا تأخر الانفجار حتى ذلك الوقت. قبل الربيع العربي بسنوات عديدة، كنت أدرّس مقرر “مشاكل التنمية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا” وكنت أنهي تدريسي بمناقشة الانفجار القادم والفاعلين المحتملين فيه.

ذكرتَ قبل قليل الثورة المضادة ومواجهتها. هلا تفسر أكثر ماهية هذه الثورة المضادة والقوى الفاعلة فيها؟

جلبير الأشقر: من المعلوم أن المد القومي اليساري في الخمسينيات والستينيات واجهته الرجعية العربية، والمملكة السعودية على وجه الخصوص، مسنودة من الولايات المتحدة الأمريكية. وقد استعمل هذا التحالف الأيديولوجية الدينية بصورة انتهازية ومميّزة، فغدا الفكر الديني الأصولي والسلفي سلاحاً أساسياً في تلك المعركة. وقد بلغ هذا التحالف أوجّه في أفغانستان في الثمانينيات. بعد ذلك ارتدّ السحر على الساحر وانتقل قسم من التيار الأصولي السنّي إلى محاربة الغرب، والكل يعرف سيرة أسامة بن لادن. غير أن الحركات الأصولية، سواء كانت سلفية مرتبطة بالسعودية أو إخوانية مرتبطة بقطر أو خمينية مرتبطة بإيران، تتعارض جميعاً وبالعمق مع أماني الشبيبة التي صنعت “الربيع العربي” وتعادي تلك الأماني، فهي إذا ركبت موجة الثورة في معاداة الأنظمة كان ذلك لتجيّر الزخم الثوري لصالحها وفي اتجاه مضاد للثورة.

ما لدينا ليس ثنائية ثورة وثورة مضادة، بل نقف إزاء مثلث أضلاعه الثلاث هي: ثورة، نظام قديم (ثورة مضادة أولى)، وقوى أصولية دينية (ثورة مضادة ثانية). تراجع القطب الثوري إلى الهامش بسبب فشل القوى السياسية التي مثّلته في التعبير بصدق وبصرامة عن أماني الشباب الثورية بدل تأرجحها في التحالفات مع أحد قطبي الثورة المضادة ضد الآخر. فساد على الساحة القطبان المضادان للثورة وهيمن الصراع على السلطة بينهما، وقد أخذ شكلاً دموياً في سوريا ومصر وليبيا واليمن.

ما هي شروط العودة الفعالة للقطب الثوري إلى الساحة؟

جلبير الأشقر: الشرط الأول هو تراجع حدة الصراع بين قطبي الثورة المضادة. من المفارقة أنني أتمنى اليوم للولايات المتحدة وللغرب التوفيق في مساعيهم للمصالحة بين القطبين الرجعيين المضادين للثورة. وقد نجحت مساعي المصالحة في تونس، ويحاولون تسويق اتفاقاً بهذا الشأن في ليبيا والتوصّل إلى مثله في سوريا وفي اليمن. لماذا تراني أتمنى نجاح تلك المساعي؟ لكي ينجلي أمام الأعين بوضوح أن هذين القطبين لهما نفس البرامج السياسية والاقتصادية، وإن اختلافا في مدى إقحام الدين في السياسة. فإن المصالحة بينهما من شأنها أن توفّر شروطاً أفضل لعودة جماهير الشبيبة إلى سكة الثورة وقيام القوى التقدمية بمعارضة القطبين المضادين للثورة على حد سواء.

ألا ترى أن وقوف أغلب اليسار الرسمي ضد الربيع العربي يطرح علامة استفهام حول علاقة اليسار نفسه بالحرية؟

جلبير الأشقر: تنبع قيم اليسار التاريخية من تجذّر قيم الثورة الديمقراطية الكبرى، التي تجد تلخيصاً لها في شعار الثورة الفرنسية الشهير: حرية، مساواة، أخوّة. الحرية والمساواة قيمتان لا يمكن الفصل بينهما، بل هما متلازمتان إذ أن المساواة بلا حرية تؤدي حتماً إلى اللامساواة والحرية بلا مساواة تؤدي حتماً إلى الاستبداد الاجتماعي، إن لم يكن الاستبداد السياسي. وإدراك هذا التلازم هو الذي يجب أن يميّز اليسار الحقيقي. من هذا المنظار، فإن قسماً كبيراً من “اليسار” العربي لا علاقة له بقيم اليسار الأصلية، وكم بالأحرى لو أخذت بعين الاعتبار أن الحرية تقتضي العلمانية، أي فصل الدين عن الدولة، وأن المساواة لا بدّ أن تشمل المساواة الكاملة بين الرجال والنساء وحقوق الأقليات على اختلاف أنواعها.

هل ترى أن هذه القوى تحمل “رايات زائفة”؟

جلبير الأشقر: وكيف يمكن أن يكون المرء “يسارياً” ويؤيد نظام آل الأسد في سوريا اليوم، ونظام القذافي في ليبيا الأمس، ونظام صدام حسين في عراق قبل الأمس. انظر إلى النظام السوري، لا يوجد فيه أي شيء “يساري”، بل طفيلية وقمع وبطش واستبداد ودرجة فاحشة في نهب الدولة بحيث بات ابن خال الرئيس أثرى رجل في البلاد. هذا نظام ذو سمات أقرب بكثير إلى الفاشستية منها إلى قيَم اليسار. أما الذين يرون فيه نظام “ممانعة” فهم يتعامون عن أن هذا النظام بعينه هو من تصدّى للمقاومة الفلسطينية واليسار اللبناني في الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1976، واستكمل في 1983 طرد منظمة التحرير الفلسطينية من مناطق لبنان التي لم يطردها منها الاجتياح الصهيوني عام 1982، وأشرف على “حرب المخيمات” ضد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان من عام 1985 حتى عام 1988، وشارك في الحرب الأمريكية على العراق تحت قيادة الولايات المتحدة سنة 1991، ونسج في عهد بشار الأسد علاقات وطيدة بأنظمة الخليج والحكومة التركية اللواتي يعاديها اليوم لا لشيء إلا لأنها تعاديه هي، وذلك لأسباب طائفية، ويفضّل بالتأكيد أن تواصل دعمها له وهو لا ينفك يتوسّل لدى الدول الغربية، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، كي تؤازره بحجة أنه أهون الشرين بالمقارنة مع “داعش” وما شابهها من القوى التي حفز هو تطورها.

قد يخرج عليك أحد من سلالة بكداش، المتربعة على رأس الحزب الشيوعي السوري منذ ثلاثينيات القرن العشرين (أولاً الأب ثم الأم والآن الابن)، ويقول لك: قف! أنت لست “أمين الهيكل” اليساري لتصنّف؟

جلبير الأشقر: إذا لم يكن هناك من معايير موضوعية للحكم على صدق من يدّعي الانتماء إلى فلسفة ما، وقعنا في عبث تاريخي كامل. فإنني أحكم على شخص يدّعي الانتماء إلى اليسار بناء على القيم التي تحدثت عنها. أما الذين يعرّفون اليسار بأنه كل من تعاديه أمريكا فأبعد ما يكونون عن المنطق اليساري، بل يتعاملون بمنطق “عدو عدوي صديقي” البائس للغاية. نحن نعادي أمريكا عندما تحارب القيم التي ذكرتها – وهذا ما تفعله أمريكا في أغلب الأحيان؛ لكن منطلقنا ليس محاباة من تعاديه أمريكا، وإلا وقفنا مع النازية في الحرب العالمية الثانية.

هل تؤيد الحديث عن فصل بين يسار تحرري ويسار طغيانيّ، كما جرى الحديث في القرن العشرين عن يسار طفولي، ويسار مغامر، ويسار ستاليني، ويسار موسكوفي (يتبع الاتحاد السوفيتي)، ويسار تحريفي…إلخ؟

جلبير الأشقر: أميل في كتاباتي إلى استخدام تعبير “القوى التقدمية”، وتشمل بعض القوى التي تعرف عن نفسها باليسارية، وبعض القوى الليبرالية بالمعنى السياسي، والإصلاحية اجتماعياً والمعارضة للنيوليبرالية اقتصادياً. هذه القوى التقدمية هي التي أراها معبرة عن أماني الشبيبة التي قامت بالثورة. فالأيديولوجية الغالبة في أوساط الشبيبة التي نهضت بالربيع العربي هي تعبير عن هذا المنحى التقدمي بالمعنى العريض.

لك رأي مميز بالدعوة إلى التخلي عن ماركسية القرن العشرين والعودة إلى ماركسية القرن التاسع عشر. ألا ترى في ذلك “سلفية ماركسية”؟

جلبير الأشقر: أنا مع “سلفية ماركسية” لو أخذنا تعبير “سلفية” بمعنى محمد عبده، أي العودة إلى روح “السلف الصالح” في تحديث العقيدة بعد الانحطاط، وأبعد ما أكون عن “السلفية” بالمعنى الوهّابي. أرى أن ماركسية القرن العشرين حادت تماماً عن روح الماركسية الأصلية. لذا فإن سقوط الاتحاد السوفييتي لم يؤدِّ إلى سقوط الماركسية برمّتها، بل أدى إلى انتعاش الفكر الماركسي من خلال العودة إلى ماركس. فلا بدّ من العودة لتراث ماركس وإنجلس وتخليص الماركسية مما شابها من تشويهات خلال القرن العشرين بغية صياغة ماركسية صالحة للقرن الواحد والعشرين.

ما هي قراءتك الأولية لما حدث في تركيا ليل أمس [15 / 07 / 2016]؟

جلبير الأشقر: أنا ضد الانقلابات العسكرية بوجه عام، ولا سيما في هذه الحالة حيث تدعم إردوغان أكثرية فعلية عبّرت عن نفسها من خلال انتخابات ديمقراطية نزيهة نسبياً. أما حالة محمد مرسي فكانت مختلفة، إذ حصل على ربع الأصوات فقط في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية سنة 2012، ولم يفز في الدورة الثانية سوى بفضل أصوات من أرادوا سد الطريق أمام منافسه أحمد شفيق، ممثل النظام القديم. إلا أن مرسي قد تصرّف وكأن الأكثرية تدعمه وتدعم جماعة الإخوان المسلمين التي ينتمي إليها، فأدى سلوكه الأرعن إلى قلب غالبية الرأي العام العظمى ضده، مما فسح المجال أمام الجيش بقيادة عبد الفتاح السيسي لينقض على حكمه. فعاد النظام القديم إلى مصر بصورة أكثر قمعية من سابق عهده قبل الثورة. ولا شك لديّ أن السيناريو نفسه كان سوف يجري في تركيا لو نجح الانقلاب، أقصد العودة إلى الحكم العسكري الدكتاتوري. أقول هذا مع معارضتي الصارمة للميول الأوتوقراطية والسلطانية لدى إردوغان.

ما تصورك للحل المثالي للوضع في سوريا اليوم؟

جلبير الأشقر: أرى أن أولوية الأولويات في سوريا اليوم هي وقف النزيف والدمار، لأن البديل هو ألا يبقى شعب في البلاد ولا حجر على حجر. لقد وصلت الأوضاع في سوريا إلى حالة متردية جداً بحيث بات مستحيلاً في الأمد المنظور تحقق ما كان يحلم به المتظاهرون في عام 2011 من إسقاط لنظام بشار الأسد وإحلال لنظام ديمقراطي تقدمي محله. ولا بدّ اليوم من وقف الحرب كي يعاد بناء حراك شعبي تقدمي، وهذا من باب ما قلته لك سابقاً عن تفضيلي للمصالحة بين الأقطاب الرجعية كي تنجلي القواسم المشتركة بينها وتتمكن القوى التقدمية من مواجهتها مجتمعة بحيث يحتل الصدارة من جديد التعارض بين الثورة والثورة المضادة، بدل أن يستمر التعارض بين قطبي الثورة المضادة في الهيمنة على الوضع مع تهميش للقطب الثوري.

فما أقصى ما تتمناه الآن لسوريا ؟

جلبير الأشقر: وقف الحرب وقيام سلام بشروط تتيح مواصلة الحراك السياسي التقدمي، وأنا لم أفقد الأمل باستنهاض الطاقة الثورية العظيمة التي انجلت في سوريا في عام 2011.

حاوره: خالد سلامة

حقوق النشر: موقع قنطرة 2016

ar.Qantara.de

د. جلبير الأشقر (65 سنةً) أكاديمي وكاتب وباحث لبناني. يعمل حالياً أستاذاً لدراسات التنمية والعلاقات الدولية في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية (SOAS) في جامعة لندن، كما درّس سابقاً في جامعة باريس الثامنة، ومن ثم باحثاً بين عامي 2003 و2007 في مركز مارك-بلوك في برلين. تتمحور كتاباته وأبحاثه حول قضايا: الاقتصاد السياسي وعلم اجتماع العولمة، دراسات التنمية، العلاقات الدولية، النظرية الإمبراطورية والكشف عن الهيمنة الأمريكية في العالم وفي الشرق الأوسط الكبير، السياسة واقتصاد التنمية لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، علم اجتماع الدين، النظرية الاجتماعية والتغيير الاجتماعي. من أهم كتبه: “الشعب يريد”، “انتكاسة الانتفاضات العربية: أعراض مرضية”، “العرب والمحرقة النازية”، “صدام الهمجيات”. تُرجمت كتبه إلى 15 لغة.

شارك المقالة

اقرأ أيضا