يوم 21 يناير 1924 ، توفي لينين: راهنية أفكاره ومعركته

الثورة21 يناير، 2016

 قبل 90 سنة ، يوم 21 يناير 1924 ، توفي لينين: راهنية أفكاره ومعركته

نشر على موقع المناضل-ة القديم
الخميس 30 كانون الثاني (يناير) 2014

بول سوريل  

لحظة الذكرى التسعين لوفاة لينين، تجدر العودة إلى ما تمثل اللينينية للحركة العمالية. لا سيما أن هذه الكلمة تعرضت لتزوير كبير وتشويه، و جرى إفراغها من محتواها، واستعمالها لخدمة سياسات مناقضة لما دافع عنه لينين و أتاح ظفر الثورة الروسية، أول ثورة عمالية منتصرة في التاريخ. إن تزوير ستالين و خلفائه بالاتحاد السوفييتي لليننية سبب و لا يزال كوارث في الحركة الثورية و العمالية.

إن كان لينين، بالأمس كما اليوم، ممقوتا من قبل المدافعين الصرحاء و المنافقين عن الرأسمالية، فلأنه ترجم إلى أفعال تراث ماركس و انجلز، الذي أراده البعض أن يبقى أدبيا ليس إلا. ناضل لينين، ضد كل العقبات والمصاعب، لبناء الأداة التي لا غنى للعمال عنها: حزب الكفاح، المكون من مناضلين مكرسين بالكامل للثورة البروليتارية، الحزب البلشفي. كان اختيار لينين هذا عرضة للتحقير داخل الحركة الاشتراكية قبل 1914 باعتباره عصبويا بسبب رفضه الذوبان في حزب واحد مع المناشفة الذين كانوا يقدمون أنفسهم بما هم أكثر انفتاحا، لكنهم كانوا كذلك بوجه خاص إزاء تأثيرات البرجوازية وضغوطها. هذا الخيار التنظيمي الحاسم نهجه لينين منذ 1903.
حزب ثوري ديمقراطي وممركز

كان للنقاشات الإيديولوجية دفاعا عن الماركسية ضد كل ضروب الانحراف أهمية حاسمة لتسليح سياسي وعملي للمناضلين العماليين في روسيا آنذاك . لكن لم يكن بد أيضا من الوجود المستقل ، بحزب خاص بهم، لمناضلين وقادة منتقين على أساس إخلاصهم لقضية الثورة الاشتراكية، أي الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة العالمية، للتمكن من قيادة الطبقة العاملة إلى النصر عند حلول وضع ثوري.

عندما اندلعت الثورة أول مرة في روسيا عام 1905، لم يطلقها لينين ولا الحزب البلشفي. بل حدثت انتفاضة شعبية كان مطلق شرارتها القمع الدامي لمظاهرة عمالية قادها كاهن منور.

لكن المناضلين البلاشفة كانوا في الصف الأمامي لما تلا من إضراب عام و تنظيم للمجالس العمالية (السوفييتات). ولم يتردد حزبهم، مستجيبا بذلك لعزم الجماهير، في تنظيم عمال موسكو عسكريا لما اختاروا مواجهة قوات القيصر. وبعد تراجع طور هجوم الثورة، وضع الحزب البلشفي، بإيعاز من لينين، على كاهله مواصلة محاربة العدو الطبقي حتى على الصعيد الانتخابي كمنبر للتوجه إلى تطلعات الجماهير الكادحة و الاستجابة لها.

إن كان هذا الحزب كفاحيا، منضبطا في الممارسة، فقد كان أيضا ديمقراطيا، بعكس الأكاذيب التي يروجها أعداؤه أمس و اليوم. على هذا النحو، بعد أن أصبح لينين في وضع أقلية داخل حزبه بصدد مسألة المشاركة في الانتخابات بعد العام 1905، امتثل لينين لموقف الأغلبية، مع الدفاع عن خطه، الذي انتهى إلى نصر.

لأن لينين قاتل بصرامة وحزم لبناء هذا حزب الثوريين هذا، فقد كان عمليا الحزب الوحيد عمليا الذي حافظ على راية النزعة الأممية والاشتراكية عندما اندلعت الحرب العالمية في 1914، رافضا الانضمام إلى البرجوازية كما فعل معظم الأحزاب الاشتراكية و النقابات في أوربا. لكن لينين لم يتحول إلى داعية للسلام، بل دعا الحزب البلشفي في أسوا لحظات يأس الجماهير إلى تحويل الحرب الامبريالية إلى انتفاضة عمالية لإطاحة البرجوازية.

كان لينين والحزب البلشفي يشكلان كلا واحدا. إن وجود هكذا حزب، أتاح دون غيره للثورة التي تفجرت في فبراير 1917 أن تسير حتى منتهى إمكاناتها، متيحة للطبقة العاملة بلوغ السلطة في أكتوبر 1917. لولا الحزب البلشفي، ولينين الذي كان قائده الأبرز، لم يكن للثورة أن تعرف طريق الظفر. و كانت بعض الرسائل وخطاب من لينين في ابريل 1917 كافيان لتوجيه حزبه، في لحظة تردد، نحو الثورة البروليتارية. هذا فيما كان القادة المناشفة وحلفاؤهم الحكوميون قد تحولوا إلى مدافعين عن “الديمقراطية”، أي عمليا عن البرجوازية.

هكذا كان الحزب البلشفي، حسب تعبير روزا لوكسمبورغ، قد امتلك “الجرأة” . كان لينين مرة أخرى في أكتوبر 1917 هو صاحب القرار الحاسم: الإعداد للانتفاضة المسلحة لنقل السلطة إلى مجالس العمال والفلاحين و الجنود. وهذا ضد قسم من قادة الحزب التاريخيين الذين لم يتجرؤوا على قطع الحبال مع العالم القديم.

حزب الثورة العالمي

ملايين العمال و الفلاحين الروس هؤلاء الذين قاموا بالثورة، قاوموا فيما بعد على نحو ظافر، بقيادة تروتسكي الذي أسس الجيش الأحمر وقاده، تحالف العالم الرأسمالي الذي أرسل قواته لإسقاط أول دولة عمالية.

كان لينين يتصور ضرورة السير حتى النهاية بما تحبل به الحقبة من إمكانات لقلب النظام القائم، كما فعل ماركس قبله، في إطار معركة الطبقة العاملة العالمية من أجل المجتمع الاشتراكي الجديد. بالإفادة مما كسبا من وزن نتيجة انتصار أكتوبر في روسيا، أسس لينين وتروتسكي الأممية الثالثة، المعلنة في العام 1919، في عز الحرب الأهلية. كان الأممية الثالثة، حزب الثورة العالمي، في قطع مع الاشتراكية الديمقراطية المنتقلة إلى صف النظام البرجوازي في 1914، تدعو بكل البلدان إلى خلق أحزاب شيوعية ثورية.

الإرث الثوري للحركة العمالية

تمثلت المأساة في أن الطبقة العاملة العالمية و مناضليها لم يتسع لهم وقت بناء أحزاب ذات خبرة، منغرسة في الجماهير على شاكلة حزب البلاشفة، قبل تراجع الموجة الثورية التي أعقبت الحرب العالمية. كان غياب هكذا أحزاب حاسما لمصير الثورة العمالية في أوربا، رغم المعركة الجريئة لملايين العمال و الفلاحين في ألمانيا و فنلندا وهنغاريا لا سيما من 1918 و 1923. وبتواطؤ القادة الاشتراكيين الديمقراطيين، قامت البرجوازية الألمانية باغتيال روزا لوكسمبورغ و كارل ليبكنخت، الذين حظيا بمصداقية تتيح بناء حزب شيوعي قوي.

كان لهزيمة البروليتاريا الأوربية تلك عواقب كارثية. ففي الاتحاد السوفيتي تسارع انحطاط الثورة العمالية، المعزولة ببلد متأخر. وأدى انتصار الرجعية البيروقراطية و إرساء الديكتاتورية الستالينية إلى حفر أخدود دم بين الأفكار والتقاليد التي حملها لينين، وبعده المناضلون البلاشفة حول تروتسكي، و المسخ الكاريكاتوري الذي مثلته الستالينية. وكانت إحدى نتائج تلك الخيانة، بكل مكان، تحول الأحزاب الستالينية إلى حراس للنظام البرجوازي، جنبا إلى جاب مع الاشتراكية الديمقراطية.

اليوم ، بكل مكان، تظل الطبقة العاملة محرومة من أحزاب ممثلة لمصالحها الطبقية. ومع تعمق الأزمة، وتفاقم الصراع الطبقي أي تخوضه البرجوازية العالمية، من الحيوي لمستقبل الأجيال الجديدة أن تعيد وصل ما انقطع مع التراث الثوري للحركة العمالية منذ بداياتها.

لن تستعيد الطبقة العاملة ثقتها بالنفس، وتنتصر على البرجوازية دون وعي مهمتها التاريخية، ودون بناء أحزاب ثورية شيوعية، مثل الحزب الذي كرس لينين حياته لبنائه.

بول سوريل

Lutte Ouvrière n°2374 du 31 janvier 2014

تعريب المناضل-ة

====================================

 لوحات ثورية – فلاديمير ايليتش لينين

المقدمات والمحتويات

نشر على موقع المناضل-ة القديم
الخميس 17 حزيران (يونيو) 2010

لوناتشارسكي

linine

لن أحاول هنا أن أكتب سيرة للينين ففي هذا المجال لا يوجد نقص في المصادر. وإنما سأتطرق فقط لما أعرفه بحكم علاقاتنا الشخصية وإلى انطباعاتي المباشرة عنه.

لقد سمعت لأول مرة بلينين من اكسلرود (1) إثر نشر كتاب (2) من تأليف «تولين» (3). لم أكن قرأت الكتاب بعد، ولكن اكسلرود قال لي: «الآن يمكن القول حقا أن هناك حركة اشتراكية ديموقراطية أصيلة في روسيا وأن مفكرين اشتراكيين-ديموقراطيين حقيقيين بدأوا بالظهور».

واستفسرت منه: «ماذا تعني؟ ماذا بخصوص ستروف (4)، ماذا بخصوص توغان– يارانوفسكي (5) ؟». وارتسمت على شفتي اكسلرود ابتسامة غامضة نوعا ما (في الحقيقة كان مرة امتدح ستروف امتداحا شديدا): «نعم، ولكن ستروف وتوغان-بارانوفسكي، كل ذلك صفحات كثيرة من التنظير المتحذلق، ومعطيات جمة حول تطور الانتلجنسيا الأكاديمية الروسية. أما تولين، بالمقابل، فهو نتاج الحركة العمالية الروسية، وقد أصبح صفحة في تاريخ الثورة الروسية».

وبالطبع قرئ كتاب تولين في الخارج بنهم شديد (كنت في زوريخ آنذاك، وتعرض لأشكال شتى من التعليقات ولم أسمع بعد ذلك سوى إشاعات عن اعتقاله ونفيه إلى كراسنويارسك (6)، مع مارتوف (7) وبوتريسوف (8). وبدا لينين ومارتوف وبوتريسوف أصدقاء شخصين متلازمين أبدا، وامتجزوا في الذهن في صورة جماعية تمثل القيادة الروسية الصرفة للحركة العمالية الروسية المشكلة حديثا. وكم يبدو الأمر غريبا الآن عندما يرى المرء أية سبل مختلفة سلكها هؤلاء «الأصدقاء» الثلاثة.

وكان الكتاب الثاني وصلنا هو حول تطور الرأسمالية في روسيا (9). ومع أني شخصيا لم أكن معنيا كثيرا بالمسائل الاقتصادية المحضة –واعتبرت أن خصائص وتطور الرأسمالية في روسيا ليست موضع جدل- فإني ذهلت إزاء الأساس الإحصائي المتين جدا الذي ارتكز إليه الكتاب وإزاء المهارة المتجلية في العرض. وخيل إلي في حينه (وهذا ما حدث فعلا) أن هذا الكتاب سيوجه ضربة قاضية إلى جميع أفكار إيديولوجية الشعبيين(النارودينيين(10)) الخاطئة.

وكنت في المنفى عندما بدأت تصل إلينا أنباء المؤتمر الثاني (11) كانت الايسكرا(12) آنذاك بدأت بالصدور ومكانتها قد توطدت. ودون تردد أعلنت عن تأييدي للايسكراولكني لم أكن أعرف سوى القليل من محتوياتها لأن الأعداد كانت تصلنا على فترات غير منتظمة، على الرغم من حصولنا على جميع الأعداد في المحصلة. وتكون لدينا، على أية حال، الانطباع بأن الثلاثي المتلازم –لينين، مارتوف وبوتريسوف- انصهر بصورة لا فكاك منها مع الثلاثي المهاجر المكون من بليخانوف (13) ، اكسلرود وزاسوليش (14) ، ولذلك كان للانشقاق الذي حدث في المؤتمر الثاني، وقع الصاعقة. لقد كنا نعرف أن المؤتمر الثاني سيشهد الخطوات النهائية في الصراع مع صحيفة «قضية العمال» (15) ، ولكن أن يأخذ الانشقاق المنحى الذي اتخذه ويضع لينين ومارتوف في معسكرين متقابلين، وأن «ينشق» بليخانوف ويقف في منتصف الطريق، كل هذا لم يكن في وسعنا استيعابه.

البند الأول في دستور الحزب –هل هذا حقا أمر يبرر الانشقاق؟ (16) تغيير في مهام أعضاء هيئة التحرير- ما خطب هؤلاء القاطنين، هل جن جنونهم؟ وضايقنا هذا الانشقاق أكثر من أي أمر آخر، وحاولنا أن نجلو من خلال المعلومات الضيئلة التي رشحت إلينا حقيقة ما جرى. ولم يكن هناك شحّ في الشائعات التي صورت لينين على أنه خالق المتاعب ومحدث الانشقاق، وأنه يريد أن ينصب نفسه حاكما مطلقا في الحزب بأي ثمن، وأن مارتوف واكسلرود رفضا، كما يبدو، أن يقسما يمين الولاء له. ولكن هذا التفسير، على أية حال، كان يتناقض إلى حد كبير مع الموقف الذي اتخذه بليخانوف، حيث أن موقفه الأولي، كما هو معروف لدينا، كان التحالف الوثيق والودي مع لينين. ولم تمض فترة من الوقت حتى انحاز بليخانوف إلى جانب المناشفة، إلا أننا جميعا في المنفى (وليس المنفى فقط أولئك المنفيون في فولوغدا (17) ، كما اعتقد) اعتبرنا ذلك خطوة لا تشرّف أبدا جيورجي فالينتينوفيتش. فنحن الماركسيين ليس لدينا ما نكسبه من تغير سريع في المواقع.

وباختصار، كنا غارقين نوعا ما في الظلام. وينبغي أن أضيف أن الرفاق في روسيا، الذين أيدوا لينين، لم يكونوا هم أيضا على علم بمجريات الأمور. وإن كان لنا أن نذكر أشخاصا معينين، فإن أ.أ. بوغدانوف، دون شك، هو الذي وفّر الدعم الأقوى للينين. واعتقد أن تمسك بوغدانوف بلينين كانت له أهمية حاسمة. ولولا انحيازه إلى جانبه لكان من المحتمل أن تتطور الأمور ببطء شديد.

ولكن لماذا أيد بوغاندوف لينين؟ لأنه نظر إلى النزاع في المؤتمر من زاوية كونه، أولا، مسألة انضباط: فما دامت الغالبية (ولو بفارق صوت واحد) صوتت على صيغة لينين، فمن واجب الأقلية أن تمتثل. وثانيا، نظر إليه كصدام بين الجناح الروسي في الحزب وجناح المهاجرين. فمع أن لينين لم يجد إلى جانبه اسما واحدا من الأسماء الكبيرة، فإنه وقف معه، عمليا دون استثناء، جميع المندوبين القادمين من روسيا، بينما انتقلت جميع الأسماء الكبيرة بين المهاجرين إلى معسكر المناشفة عندما انتقل إليه بليخانوف.

وقد وصف بوغدانوف المشهد فيما بعد، وإن لم يكن بدقة متناهية، على النحو التالي: لقد فشل الأرستقراطيون المهاجرون في إدراك أننا أصبحنا الآن حزبا حقيقيا وأن أهم شيء بات الإرادة الجماعية لأولئك الذين كانوا يتولون العمل الفعلي في روسيا. ولا شك في أن هذا الخط، الذي ولّد إلى جانب أمور أخرى شعار «مركز واحد للحزب- وفي روسيا»، كان له تأثير مرض ومشجع في كثير من لجان الحزب في روسيا، التي أصبحت آنذاك منتشرة في شبكة واسعة إلى حد ما في جميع أنحاء البلاد.

وخلال فترة وجيزة أصبح واضحا أي نوع من الأشخاص اجتذب كل واحد من الفريقين: فقد اجتذب المناشفة غالبية المثقفين الماركسيين في العواصم، ولاقوا أيضا نجاحا أكيدا في أوساط العمال المهرة. أما الأنصار الرئيسيون للبلاشفة فكانوا في الحقيقة أعضاء اللجان، أي الناشطين في الأرياف، والثوريين المحترفين. وكانت غالبية هؤلاء مشكّلة من مثقفين من نوع مختلف بصورة واضحة، ليسوا أساتذة جامعات وطلابا ماركسيين، بل أناس نذروا أنفسهم نهائيا لمهنتهم-الثورة. وكان هذا هو العنصر الذي عزا إليه لينين، بصورة عامة، الأهمية القصوى ودعاه «جرثومة الثورة». وكان هذا هو القطاع الذي وحّده بوغدانوف (18) ، بمساعدة فعالة من الشاب كامينيف (19) وآخرين، في ما أصبح يعرف «بالمكتب التنظيمي للجان الغالبية»، الذي أمد لينين بجيشه.

وكان بوغدانوف في تلك الفترة موجودا في الخارج لبعض الوقت بعد أن أنهى مدة نفيه. وكنت على قناعة تامة أنه لا بد وأن يكون توصل إلى تقويم صحيح إلى حد كبير للقضايا، وبالتالي، وبدافع من ثقتي فيه، اتخذت أنا أيضا موقفا مؤيدا للبلاشفة.

وعندما انتهت مدة نفيي، رتبت لقاء مع الرفيق كرجيجانوفسكي (20) في كييف. وكان آنذاك يلعب دورا كبيرا نسبيا في مجريات الأحداث وصديقا حميما للرفيق لينين، مع أنه كان يتأرجح بين الموقف المطابق للينين وبين موقف الساعين إلى التوفيق. وكان هو الذي قدم لي وصفا أكثر تفصيلا للينين. وقد اتسم وصفه له بالحماس، وركّز على عقله الجبار وطاقته الفائقة لحدود الإنسانية. كما وصفه بأنه رقيق القلب على نحو استثنائي وصديق رائع، إلا أنه لاحظ أن لينين كان قبل كل شيء مخلوقا سياسيا، وأنه ما أن يقطع علاقته السياسية بشخص ما فإنه يقطع على الفور جميع صلاته الشخصية به. وفي ما يتعلق بأمور النضال كان لينين، على حد تعبير كرجيجانوفسكي، شخصا بلا رحمة ولا يعرف الانحراف عن الخط المرسوم. وما إن شرعت في إنشاء صورة رومانسية إلى حد ما للرجل في مخيلتي حتى أضاف كرجيجانوفسكي: «ومن ناحية المظهر يبدو كفلاح ميسور الحال من ياروسلافل، «موجيك» صغير ماكر، وخصوصا عندما يطلق لحيته».

وبعد فترة قصيرة من عودتي من المنفى إلى كييف تلقيت أمر من «مكتب لجان الغالبية» بالسفر فورا إلى الخارج والالتحاق بهيئة تحرير الصحيفة المركزية للحزب (21). وهذا ما فعلته إلا أنني أمضيت عدة شهور في باريس، جزئيا لأنني أردت أن أدرس بدقة أكثر أسباب الانشقاق. ولكن ما أن أصبحت في باريس، حتى وجدت نفسي على رأس المجموعة البلشفية المحلية الصغيرة جدا، وانغمست فورا في صراع مع المناشفة. وكتب إلى لينين رسالتين قصيرتين، يحثني فيهما على الإسراع بالذهاب إلى جنيف. وفي النهاية كان هو الذي قدم إلى باريس.

وكان وصوله بالنسبة إلي مفاجئا. ولم يخلف لدي للوهلة الأولى انطباعا حسنا جدا. فقد بدا لي مظهره بصورة ما باهتا قليلا ولم يتفوه بشيء محدد باستثناء إلحاحه علي بالسفر فورا إلى جنيف.

ووافقت على الذهاب.

وفي أثناء ذلك قرر لينين إلقاء محاضرة رئيسية في باريس حول موضوع التوقعات بخصوص الثورة الروسية ومصير الفلاحين الروس. وكانت هذه أول مرة استمعت فيها إليه بصفته خطيبا. وتأثرت تأثرا عميقا بتلك الطاقة المركّزة في كلامه، والعينين النافذتين اللتين امتلأتا تقريبا بالكآبة وهما تتفحصان الجمهور بنظرة ثاقبة كالمخرز، والحركات الرتيبة إنما المسيطرة، وبذلك الأسلوب السلس المشحون بكثافة بقوة الإرادة. وأدركت أن هذا الشخص، بصفته خطيبا، مقدر له أن يخلف أثرا قويا لا يمحى، أما بالنسبة لمدى قوة لينين كداعية، فقد كنت على معرفة سابقة بها، أسلوبه غير المصقول ولكن الواضح بشكل مدهش، قدرته على عرض أية فكرة مهما كانت معقّدة على نحو بسيط إلى حد مذهل ثم تعديلها بصورة تجعلها في النهاية تنطبع في أي ذهن، مهما كان بليدا وغير معتاد على التفكير السياسي.

وفيما بعد فقط، في وقت متأخر جدا، توصلت إلى الإدراك بأن أعظم مواهب لينين لم تكن مواهبه كخطيب، كداعية أو حتى كمفكر، ولكن حتى في تلك الفترة المبكرة كان واضحا لي أن السمة الطاغية في شخصيته، المعلم الذي شكّل نصف تكوينه، هو إرادته: إرادة صلبة جدا، قوية جدا وقادرة على التركز في المهمة المباشرة بالذات دون أن تنفلت، مع ذلك، إلى ما وراء المدى الذي كان يتتبّعه عقله الجبار، والذي كان يعين لكل معضلة مفردة مكانها كحلقة في سلسلة سياسية ضخمة عالمية الاتساع.

وأظن أننا في اليوم التالي للمحاضرة، لسبب لم أعد أذكره، قمنا بزيارة النحّات أرونسون (22) ، الذي كان آنذاك صديقا لي. وعندما وقع نظر أرونسون على رأس لينين امتلأ غبطة ورجا لينين أن يسمح له على الأقل بنحت ميدالية لرأسه. ولفت نظري إلى الشبه المذهل بين لينين وسقراط. ولا بد لي من أن أضيف، بالمناسبة، أن لينين كان أقرب شبها بفرلين منه بسقراط. وأذكر أنه قبل الزيارة بفترة قصيرة نشرت صورة مطبوعة لفرلين مأخوذة عن اللوحة التي رسمها له كاريير (23) ، وكان قيد العرض آنذاك تمثال نصفي شهير له، اشتراه فيما بعد متحف جنيف. وقد علق أناس كثيرون على التشابه غير الاعتيادي بين سقراط وفيرلين، التي تجلى بصورة رئيسية في شكل الرأس الرائع. وفي الحقيقة، فإن تكوين جمجمة لينين مذهل حقا. ويكفي أن يدرسها المرء قليلا ليحل لديه محل الانطباع الأولي لرأس بسيط كبير أصلع إعجاب بالقوة البدنية والمعالم المميزة لقبة جبينه الضخمة، وسوف يشتم فيها شيئا أستطيع وصفه فقط بأنه وهج مادي يشع من سطحها.

وقد لاحظ النحّات، بالطبع، كل ذلك على الفور، وإضافة إلى ذلك، ثمة سمة أخرى تجعله شبيها بفيرلين أكثر منه بسقراط، وهي عيناه الصغيرتان الغائرتان، والثاقبتان بشكل مخيف. ولكن بينما كانت عينا الشاعر العظيم كئيبتين وتفتقران نوعا ما إلى البريق (إذا حكمنا عليهما بموجب لوحة كاريير)، فإن عيني لينين هازئتان مليئتان بالسخرية، وتلتمعان بالذكاء والمرح المشاكس. وتصبحان جديتين وقادرتين فعليا على التنويم المغناطيسي فقط عندما يتحدث. إن عيني لينين صغيرتان ولكنهما معبرتان جدا، ومشبعتان بالإلهام لدرجة أنني فيما بعد غالبا ما وجدت نفسي معجبا بحيويتهما العفوية.

أما عينا سقراط، إذا حكمنا عليهما من تماثيله النصفية، فكانتا أكثر جحوظا.

وهناك تشابه هام بين الثلاثة في الجزء الأسفل من الرأس، خصوصا عندما تكون لحية لينين مرسلة قليلا أو كثيرا. فاللحية تنمو لدى سقراط وفيريلن ولينين بصورة متشابهة، إذ أنها بارزة قليلا وغير مشذبة وتبدو المنطقة السفلى من الوجه لدى الثلاثة عديمة الشكل إلى حد ما، كما لو أنها أضيفت نتيجة لفكرة طارئة.

ويضفي الأنف الكبير والشفتان الغليظتان على لينين شيئا من مظهر التتري، وهو أمر من السهل بالطبع تفسيره بالنسبة لروسيا. ولكن نفس الأنف والشفتين تماما، أو نفسهما تقريبا، موجودان لدى سقراط، وهي حقيقة لافتة للنظر بصورة خاصة في اليونان لأن مثل النمط من الملامح كان يعزى في العادة إلى الدراما وينطبق الأمر ذاته على فيرلين. ولهذا لقّبه أحد أصدقائه الحميمين «الكالموكي». وتتسم ملامح وجه سقراط، كما يبدو في تماثيله النصفية، بصورة رئيسية بطابع التفكير العميق. وعلى أية حال، إذا كانت هناك ذرة من الحقيقة في وصف اكسينوفون وأفلاطون له، فإن سقراط لا بد وأنه كان شخصا ذا موهبة عقلية فذّة وحس ساخر، وبالامكان الادعاء أن ملامح وجهه، عندما كانت مفعمة بالحياة، تشبه ملامح وجه لينين على نحو أكثر مما تظهر ذلك التماثيل النصفية. ويسود في كلتا اللوحتين الشهيرتين لفيرلين ذاك المزاج الكئيب، وتلك النغمة الثانوية المشبعة بالانحلال التي تهيمن بالطبع على شعره. ولكن الجميع يعرفون أن فيريلن، خصوصا في المراحل الأولى من نوبات سكره، كان شخصا مرحا وذا مزاج ساخر، واعتقد أنه هنا أيضا يوجد تشابه أكثر مما يبدو في الظاهر.

ماذا يمكن استخلاصه من هذا التشابه الغريب بين فيلسوف يوناني، شاعر فرنسي عظيم وثوري روسي عظيم؟ الجواب بالطبع، لا شيء. وإن كان له أن يدل على شيء على الإطلاق، فإنه يظهر بكل بساطة أن الملامح المتشابهة يمكن أن توجد في أشخاص ربما كانوا في نفس المرتبة من العبقرية، إنما يمتلكون تكوينا عقليا مختلفا كلية. وإضافة إلى ذلك، فقد أتاح لي الفرصة لوصف مظهر لينين في عبارات تصويرية نوعا ما.

وعندما صرت على معرفة أفضل بلينين، أصبحت أقدّر جانبا آخر فيه لا يتضح بشكل مباشر حيويته المذهلة. فالحياة تمور وتتألق في داخله. ويبلغ عمر لينين الآن، وأنا أكتب هذه السطور، الخمسين عاما، ومع ذلك فهو لا يزال شابا، وتتخلل روح الصبا جميع مناحي حياته. بأي يسر يضمك، وكم مُعدٍ وساخر ضحكه، وكم من السهل اتساعه، وكم هو ميال إلى الضحك، ذلك التعبير عن انتصار المرء على المصاعب! وحتى في أسوأ اللحظات التي مررنا بها معا، كان لينين دائما راسخا في هدوئه ومستعدا أبدا للانفجار مقهقها. وكان هناك شيء ما محبب بصورة استثنائية حتى في غضبه وعلى الرغم ما أن استياءه في الفترة الأخيرة يمكن أن يدمر عشرات بل ربما مئات من الناس، فإنه يسيطر دائما على غضبه دائما على غضبه ويعبّر عنه بصورة مازحة تقريبا، إنه مثل عاصفة رعدية «تبدو وكأنها تمرح وتلهو، وهي تدمدم في سماء صافية زرقاء». وكثيرا ما كنت ألحظ أنه إلى جانب ذلك المظهر الغائر، تلك الكلمات الغاضبة وسهام السخرية السامة، كانت ثمة ضحكة خافتة في نظرته ومقدرة فورية على إنهاء المشهد الغاضب الذي طوّره ظاهريا لأنه كان يلائم غرضه. أما في الأعماق فهو ليس هادئا فحسب، وإنما مرح أيضا.

وفي حياته الخاصة أيضا، يحب لينين ذلك النوع من المرح غير المتكلف، المباشر، البسيط والصاخب. ورفاقه المفضلون هم الأطفال والقطط، ويقضي أحيانا ساعات طويلة جدا في ملاعبتهم. ويمارس لينين عمله أيضا بنفس الطريقة الصحية والمتفجرة بالحياة. ولا أستطيع القول من تجربتي الشخصية أن لينين يكدّ في عمله. ففي الحقيقة، لم أشاهده مطلقا مستغرقا في قراءة كتاب أو منحنيا على مكتبه. وهو يكتب مقالاته دون أي جهد على المبيضة مباشرة وتأتي خالية من الأخطاء أو التصحيحات. ويستطيع أن يفعل ذلك في أية لحظة من النهار، عادة في الصباح بعد الاستيقاظ، ولكنه يستطيع أن يفعل ذلك بنفس السهولة في المساء لدى عودته من نهار منهك، أو في وقت آخر.

وفي الفترة الأخيرة أصبحت قراءات لينين، ربما باستثناء فترة قصيرة قضاها في الخارج إبان الردة الرجعية، مجّزأة أكثر مما هي شاملة، ولكنه من كل كتاب، ممن كل صفحة مفردة يقرؤها فإنه يستخلص منها جديدا، ويختزن فكرة أساسية يستخدمها في ما بعد سلاحا. وما يستثيره على وجه الخصوص ليس الأفكار المشابهة لأفكاره، وإنما تلك المتعارضة معها. فالمجادل الغيور حيّ دائما في أعماقه.

ولكن لئن كان ثمة مسحة من السخف في القول أن لينين يكدّ في عمله، فإنه بالمقابل قادر على القيام بجهد هائل عندما يتطلب الأمر ذلك. وأكاد أكون مستعدا للقول أنه لا يتعب إطلاقا. وإذا كان الأمر ليس كذلك تماما، فلأني اعرف أن الجهود الفائقة لطاقة البشر التي اضطر لبذلها مؤخرا جعلت قواه تذوي نوعا ما في نهاية كل أسبوع وأرغمته على أخذ قسط من الراحة (24).

ولكن لينين واحد من الأشخاص الذين يعرفون كيف يسترخون. فهو يرتاح بنفس السهولة التي يستحم فيها، وعندما يفعل ذلك فإنه يتوقف عن التفكير في أي شيء، ويستسلم كلية للبطالة، ولتسليته المفضلة أو الضحك إن أمكن ذلك. وبهذه الطريقة يخرج لينين من أقصر فترة راحة وهو منتعش ومستعد للمعركة من جديد.

إن هذا النبع من الحيوية المضيئة والساذجة إلى حد ما، مع الاتساع الحصيف لعقله وقوة إرادته المركّزة، تشكل جميعا سحر لينين. وهذا السحر هائل: فالناس الذين يقتربون من مداره لا يصبحون مخلصين له كقائد سياسي فحسب، بل وأيضا يقعون بصورة غريبة في حبّه. وينطبق ذلك على أناس ذوي مكانة وتكوين عقل متنوع جدا، ويتدرجون من أشخاص فائقي الحساسية ومهوبين مثل غوركي إلى فلاح بليد من أعماق الريف، ومن عقل سياسي من الطراز الأول مثل زينوفييف إلى جندي أو بحار كان بالأمس ينتمي إلى عصابات «المئة السوداء» (25) المعادية للسامية، وأصبح الآن مستعدا للمخاطرة برأسه الأشعت الشعر من أجل قائد الثورة العالمية-إيليتش». وهذه الصبغة المألوفة لاسمه، إيليتش، أصبحت واسعة الانتشار إلى حد أن أناسا لم يروا لينين في حياتهم يستخدمونها.

وعندما كان لينين جريحا –على نحو مميت، كما اعتقدنا- لم يعبّر أحد عن مشاعرنا أفضل مما عبر عنها تروتسكي. ففي وسط اضطراب الأحداث العالمية المرعب كان تروتسكي، القائد الآخر للثورة الروسية، الذي لم يكن عاطفي النزعة على الإطلاق، هو الذي قال: «عندما تدرك أن لينين قد يموت، تبدو كل حيواتنا بلا فائدة، وتُفقد الإرادة في الحياة».

وأعود الآن إلى خيط ذكرياتي عن لينين قبل الثورة العظيمة: في جنيف عملت مع لينين في أسرة تحرير صحيفة «إلى الأمام» ثم «البروليتاري». وكان العمل مع لينين كرئيس تحرير أمرا جيدا. فقد كان يكتب كثيرا وبسهولة، كما سبق أن ذكرت، ويتخذ موقفا حيّ الضمير جدا إزاء كتابات زملائه: وغالبا ما كان يصحح لهم ويرشدهم، وكان يبتهج لكل مقالة موهوبة ومقنعة.

وفي الفترة الأولى من حياتنا في جنيف وحتى كانون الثاني (يناير) 1905، قضينا معظم وقتنا في نزاعات حزبية داخلية. وهنا أذهلتني لامبالاة لينين العميقة تجاه كل شكل من أشكال المعارك الجدلية. وقد أعاد أهمية قليلة جدا لكسب القراء المهاجرين، الذين أيدوا إلى حد كبير المناشفة. وتغيب عن عديد من الاجتماعات المعقودة لإجراء نقاشات جدية، ولم يبذل أي جهد للإيحاء بأن عليّ أن أذهب إليها أيضا. وكان يفضل أن أقضي وقتي في كتابة الدراسات المطولة والمقالات.

ولم يكن هناك في موقفه إزاء أعدائه أي شعور بالمرارة، ولكنه رغم ذلك، كان خصما قاسيا، يستغل أي خطأ يرتكبه أعداؤه ويضخّم كل تلميح يدل على الانتهازية –وهو أمر كان، بالمناسبة، محقا تماما فيه، إذ أن المناشفة أشعلوا فيما بعد، من شراراتهم الأولى، لهيبا ضخما من الانتهازية. ولم يشغل نفسه أبدا بالمكائد مع أنه في الصراع السياسي استخدم جميع الأسلحة باستثناء القذرة منها. ولا بد من الإشارة إلى أن المناشفة تصرّفوا هم أيضا على نحو مشابه تماما. وكانت العلاقات بين الفريقين، على أية حال، سيئة جدا، ولم يكن كثيرون من الخصوم السياسيين في ذلك الوقت مستعدين لإقامة أي نوع من العلاقات الشخصية في ما بينهم. فالمناشفة أصبحوا بالنسبة لنا أعداء. وسمّم دان، بشكل خاص، موقف المناشفة تجاهنا. وقد كره لينين دان دوما، بينما أحب مارتوف، ومازال يحبه (26)، ولكنه أعتبره، ومازال، ضعيف الشخصية وعرضة لفقدان رؤية الأهداف الرئيسية في تنظيره السياسي المحبوك جيدا.

ومع تطور الأحداث الثورية، تغيرت الأمور كثيرا. أولا، بدأنا نحرز نوعا من التفوق الأخلاقي على المناشفة. وعندما استدار المناشفة بثبات إلى شعار: ادفعوا البرجوازية إلى الأمام، وناضلوا من أجل دستور أو في أحسن الأحوال من أجل جمهورية ديموقراطية. وبدأ وضعنا كخبراء فنيين في الثورة، كما وصفنا المناشفة، يجتذب جزءا هاما من الرأي العام بين المهاجرين وخصوصا في أوساط الشبيبة. وكان لينين في تلك الفترة رائعا. طرح بحماسة فائقة توقعه حدوث صراع ثوري لا يعرف الشفقة، واندفع متأجج العاطفة إلى روسيا (27).

وسافرت أنا في أثناء ذلك إلى ايطاليا، بسبب الإنهاك واعتلال صحتي، وبقيت على اتصال مع لينين بواسطة مراسلات دار معظمها حول مسائل السياسة العملية المتعلقة بصحيفتنا.

وكان لقائي التالي معه في بطرسبورغ. وهنا أجد لزاما علي القول أن نشاط لينين في هذه الفترة، في 1905 و1906، يبدو لي غير فعال نسبيا. لقد كتب، حتى في ذلك الوقت عددا كبيرا من المقالات اللامعة، وبقي بالطبع زعيم أنشط الأحزاب السياسية آنذاك، البلاشفة، وقد راقبته بإمعان في تلك الفترة لأني بدأت أدرس بدقة حياتي كرومويل ودانتون من خلال مصادر قيّمة. وفي محاولة لفهم نفسية «القادة» الثوريين، قارنت لينين بشخصيات مثل كرومويل ودانتون وتساءلت فيما إذا كان لينين حقا قائدا ثوريا أصيلا كما بدا. وبدأت أحس أن حياته كمهاجر جعلت منزلته تقل بعض الشيء، وأن الصراعات الحزبية الداخلية مع المناشفة طغت لديه على الصراع الأهم بكثير ضد القيصرية، وأنه كان صحفيا أكثر منه قائدا حقيقيا.

وامتلأت قلوبنا بالمرارة عندما سمعنا أن المجادلات مع المناشفة، من أجل تعيين الحدود الدقيقة بين الفريقين، استمرت حتى بعد أن سقطت موسكو منهوكة القوى في أعقاب العصيان المسلح الفاشل. وإضافة على ذلك، لم يظهر لينين للتحدث علنا إلا في مرات نادرة خوفا من الاعتقال وقد فعل ذلك، حسبما أذكر، في مناسبة وحيدة فقط، تحت الاسم المستعار كاربوف. ولكن الحاضرين ميزوه واستقبلوه بترحاب حار رائع. وقد نشط بصورة رئيسية من وراء الستار، واقتصر عمله تقريبا على الكتابة وحضور الاجتماعات العديدة للجان الحزب المحلية، وباختصار، أحسست أن لينين يخوض الصراع وفقا لمقاييس المهاجر القديم، ولم يوسّع نشاطه بما يتناسب مع الأبعاد العظيمة للثورة آنذاك. ومع ذلك استمرت في اعتباره الشخصية القيادية الأولى في روسيا وبدأت أخشى من أن الثورة تفتقر إلى قائد عبقري حقيقي.

أما الحديث عن نوسار-خروستاليف (28) فكان، بالطبع، مجرد هراء. وقد أدركنا جميعا أن هذه «القائد»الذي برز فجأة ليس له مستقبل على الإطلاق. وأحاط مقدار أكبر من الضجيج بتروتسكي، ولكننا اعتبرناه في تلك الفترة خطيبا قديرا، وإن يكن نوعا ما مسرحيا، ولم نعتبره سياسيا من الطراز الأول. وبذل دان ومارتوف جهودا استثنائية للاستمرار في الصراع في أوساط الطبقة العاملة في بطرسبورغ، إلا أن هذا الصراع كان موجها كالعادة ضدنا، أي ضد البلاشفة.

وأعتقد الآن أن ثورة عام (1905-1906) فاجأتنا ونحن غير مستعدين إلى حد ما، وأنه كانت تنقصنا المهارة السياسية. وكان نشاطنا اللاحق في الدوما، ونشاطنا اللاحق في الهجر، كي نحول أنفسنا إلى سياسيين عمليين، بالتعامل مع المسائل الحقيقة للسياسة الوطنية، التي بتنا مقتنعين كثيرا أو قليلا أننا سنعود إليها إن عاجلا أو آجلا، هو الذي زاد من قدرتنا، وغيّر كلية أسلوب تناولنا لمسألة الثورة عندما أومأ التاريخ إلينا مرة أخرى. ويصدق هذا بصورة خاصة على لينين.

لم التق لينين في فنلندا (29) أثناء اختفائه عن أعين قوى الردة الرجعية. إنما قابلته فيما بعد خارج البلاد، في مؤتمر شتوتغرات (30). وهناك كنت وإياه على علاقة وثيقة جدا، بصرف النظر عن حقيقة مشاورتنا المستمرة في ضوء تكليف الحزب إياي بواحدة من أهم مهام المؤتمر. وقد أجريت معه عددا من النقاشات الثنائية السياسية الهامة، التي قوّم كل منا خلالها مستقبل الثورة الاشتراكية الكبرى. وكان لينين، في ما يتعلق بهذا الموضوع، متفائلا أكثر مني بصورة عامة. فقد اعتقدت أن الأحداث ستتطور ببطء نسبيا، وأنه من الواضح أنه ينبغي علينا انتظار توطد الرأسمالية في البلدان الآسيوية، وأنه ما يزال لدى الرأسمالية بضع طلقات في مخزن ذخيرتها وقد لا نرى الثورة الاشتراكية الحقيقية قبل حلول الشيخوخة. وقد أزعج هذا الاستشراف لينين بصورة جدية. ولاحظت، عندما شرعت في البرهنة على صحة دعواي، ظلا حقيقيا من الأسف يكسو ملامحه القوية الذكية، وأدركت كم يود بإخلاص أن يشهد وقوع الثورة في حياته، وأنه يجهد نفسه في التهيئة لأحداثها. وعلى كل، مع أنه رفض الموافقة على آرائي، فإنه كان مستعدا بصورة واضحة للاعتراف عمليا بأن المهمة أمامنا صعبة جدا، وأنه ينبغي علينا التصرف وفقا لذلك.

واتضح أن لينين يمتلك البصيرة السياسية الأعظم نفاذا، وهذا ليس أمرا مستغربا. كما أنه يمتلك القدرة على الارتقاء بالانتهازية إلى مستوى العبقرية، وأعني بها ذلك النوع من الانتهازية التي تغتنم اللحظة الدقيقة وتعرف دائما كيف تستغلها في خدمة الهدف الثابت للثورة. وقد قدم لينين، أثناء قيامه بعمله العظيم خلال الثورة الروسية، نماذج مدهشة لاستخدامه اللامع للتوقيت، وشرح الأمر في خطابه الأخير أمام المؤتمر الرابع «للأممية الثالثة» (31) ، وهو خطاب فريد في أهميته من ناحية مادة موضوعه، ووصف فيه ما يمكن أن يدعى تكتيك التراجع. ويجدر أن نذكر أن دانتون وكرومويل، كليهما، كانا يمتلكان هذه المقدرة.

وبهذه المناسبة، أود أن أضيف أن لينين كان دائما خجولا جدا ويميل إلى الاختفاء في الظلال أثناء المؤتمرات الدولية، ربما بسبب عدم ثقته بنفسه من ناحية إتقانه اللغات الأجنبية، مع أنه يتكلم الألمانية بصورة جيدة، وتتوفر لديه معرفة لا بأس بها بالفرنسية والإنكليزية. وقد اعتاد أن يكتفي بعدد قليل من الجمل في أحاديثه العامة في المؤتمرات. إلا أن الأمر تغيّر منذ أن شعر لينين، في البداية بتردد ثم دون تحفظ، أنه قائد الثورة العالمية. ففي مؤتمري تسيمرفالد وكينتال (32) ، اللذين عقدا قبل وقت طويل وكنت غائبا عنهما، يبدو أن لينين وزينوفييف ألقيا عدة خطابات رئيسية بلغات أجنبية. وفي مؤتمرات الأممية الثالثة، ألقى لينين خطبا مطولة كثيرة رفض أن يقوم مترجمون بترجمتها، وإنما ألقى بصورة عامة الخطبة بالألمانية أولا ثم بالفرنسية. وقد تحدث بهاتين اللغتين دائما بطلاقة تامة، وعبّر عن أفكاره بواسطتهما بوضوح ودقة. ولذلك تأثرت جدا عندما شاهدت مؤخرا بين معروضات متحف «موسكو الحمراء» وثيقة صغيرة، هي عبارة عن استمارة ملأها فلاديمير إيليتش بخط يده، وبجانب السؤال: «هل تستطيع التحدث بأية لغة أجنبية بطلاقة؟» كتب لينين بجزم: «كلا». مسألة صغيرة الشأن، ولكنها تظهر تماما تواضعه الفريد، ويستطيع أن يقدرها كل من شهد التصفيق الحماسي الهائل الذي كان يقابل به الألمان، والفرنسيون والأوربيون الغربيون الآخرون خطابات لينين باللغات الأجنبية.

ويسرني جدا أنني لم أشارك شخصيا أبدا في أي نزاع سياسي طويل الأمد ضد لينين. وأود أن أشير إلى الواقعة عندما تبنينا أنا وبوغدانوف وآخرون موقفا يساريا منحرفا وشكلنا مجموعة «إلى الأمام» (33)، واختلفنا مخطئين مع لينين بصدد تقديره أن الحزب بحاجة إلى استغلال العمل السياسي المشروع إبان عهد وزارة ستوليبلين الرجعية.

ولم أتقابل مع لينين خلال فترة الخلاف تلك مطلقا. وقد أزعجني جدا القسوة السياسية التي وجهها ضدنا. واعتقد الآن أن كثيرا مما فرّق بين البلاشفة ومجموعة «إلى الأمام» نتج عن سوء الفهم والمنغصّات المرافقة لحياة المهاجرين، بصرف النظر، بالطبع، عن الخلافات الجدية في الرأي حول قضايا فلسفية معينة. وعلى كلٍ، لم يكن هناك أي سبب لانقسام سياسي بيننا، لأننا مثّلنا، كلانا، نفس وجهة النظر السياسية مع اختلاف في اللون. وقد بلغ الضيق آنذاك ببوغدانوف مبلغا جعله يتنبأ بأن لينين سيهجر حتما الحركة الثورية، وحاول حتى أن يبرهن لـ إ.ك. مالينوفسكايا (34) ولي أن لينين لا بد وأن ينتهي بالانضمام إلى الاكتوبريين (35).

نعم، لقد أصبح لينين بالتأكيد اكتوبرياً، ولكن أي أكتوبر مختلف كان ذلك!

وأود أن أضيف إلى هذه الملاحظات الخاطفة التالي: كثيرا ما كان علي أن أتعاون مع لينين في صياغة مسودات قرارات من مختلف الأنواع. وكان ذلك يتم إجمالا –بصورة جماعية- ولينين يحب العمل التعاوني في هذه المناسبات. وقد دعيت مؤخرا إلى المشاركة في صياغة قرار المؤتمر الثامن (36) المتعلق بالمسألة الفلاحية.

ولينين دائما خلّاق جدا في مثل هذه المناسبات. فهو يجد الكلمات والجمل المناسبة بسرعة، يقلبها من جميع الجوانب، وأحيانا يرفضها. ويسعده جدا تلقي العون من أية جهة، وإذا وقع شخص ما على التعبير الدقيق الصحيح، فإن لينين يهتف في مثل هذه الحالة: «هذا هو، هذا هو، حسنا قلت، أمل ذلك». وإذا اعتقد أن الكلمات مبهمة فإنه يحدّق في الفضاء، يتأمل ويقول: «اعتقد أن الأمر يبدو أفضل هكذا». وعندما يتقبّل ضاحكا اعتراض شخص ما، فإنه يغيّر الصياغة التي عرضها بنفسه بكل ثقة قبل قليل.

وتحت رئاسة لينين، يأخذ مثل هذا العمل طريقه إلى الإنجاز دائما بسرعة مدهشة، وأحيانا بصورة مبهجة. ولا يؤدي عقله وظيفته على أكمل وجه فحسب، بل وأيضا يحفز عقول الآخرين إلى الدرجة القصوى.

ولن أضيف الآن مزيدا إلى ذكرياتي هذه حول فلاديمير ايليتش، التي تمثّل انطباعاتي حوله في فترة ما قبل ثورة 1917. ولديّ بالطبع ثروة من الانطباعات والآراء بخصوص عبقريته المطلقة في قيادة الثورة الروسية والعالمية، والتي تمثل مساهمة قائدنا للتاريخ.

ولم أتخل عن فكرة تقديم صورة سياسية أكثر شمولا لفلاديمير ايليتش، مبنية على أساس تلك التجربة. وهناك بالطبع مجموعة كاملة من الخصائص أغنت رؤيتي له خلال السنوات الست من العمل معا. وهي لا تتناقض مع تلك التي اخترتها، وإنما تشكل شهادة مباشرة حول شخصيته. إلا أن الوقت لم يحن بعد لرسم مثل هذه الصورة الواضحة والشاملة.

وأولئك الرفاق الذين قد يرغبون في إعادة نشر هذه الصفحات من المجلد الأول من الثورة العظيمة (التي أدخلت عليها تعديلات طفيفة في التحرير فقط) لن يكونوا مخطئين، في ظنّي، إذا اعتقدوا أن عملي أيضا يحتل مكانة ذات قيمة صغيرة في تاريخ روسيا والعالم المعاصر، وهو تاريخ اجتذب دوما، وبحق، اهتماما شديدا في أوساط واسعة جدا.

ملاحظات

كتبت النسخة الأصلية لهذه اللمحات عن حياة لينين بقلم لوناشارسكي في عام 1918 ونشرت في عام 1919. وبدلا من أن نحاول تلخيص الدراسات العديدة حول نشاطات لينين حتى تشرين الأول (أكتوبر) 1917 فقد يكون من الأجدى في هذه الحالة تقديم صورة سريعة للظروف السائدة في أعقاب قيام الثورة. فلوناشارسكي كان يكتب لأناس يعيشون في غمرة الاضطراب الكبير بعد اندلاع الثورة مباشرة، وفي فترة بدأ لينين يلعب فيها دورا معاكسا تماما لدوره السابق كشخص هدّام ومغتصب محتمل للسلطة: فقد أصبح الآن رئيسا لحكومة مزعزعة ضيقة القاعدة، ورثت فجأة، وبشكل مضخّم يحمل سمات القرن العشرين، معظم المشاكل المتراكمة التي أرّقت مضاجع حكام البلاد السابقين. إن بروتوس أصبح الآن يرتدي حلة قيصر، وكان من المحتم أن يراه في ضوء مختلف، ليس رفاقه المتآمرون معه فحسب، بل وأيضا جمهور الموجودين على المسرح والأجانب المذهولين.

في أواخر عام 1918 و1919 كان النظام البلشفي المولود حديثا مهددا من الداخل والخارج. فأولا، وقبل كل شيء، كانت تلوح الحقيقة الساطعة التي لا مهرب منها، وهي أن روسيا الثورة كانت على حافة هزيمة عسكرية كلية من قبل ألمانيا القيصرية. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن روسيا كانت منهكة من الحرب، فإن فكرة الاستسلام أثارت رد فعل «وطني» عنيف لدى السياسيين والجماهير على حد سواء، ولأسباب تشابكت فيها العواطف والحسابات تشابكا وثيقا، كانت وجهة المزاج السائد في البلاد إلى القتال. وهكذا صوتت الغالبية المطلقة للقادة البلاشفة، في اجتماع عاصف عقد في 8 كانون الثاني (يناير) 1918، ضد لينين ومع الاستمرار في الحرب، ودون أن يتأثر بأوهام زملائه، ساير لينين التيار كسبا للوقت، ولكنه ظل يناور ويضغط من أجل عقد السلم. وساعده في ذلك الألمان، الذين افزعوا البلاشفة بمواصلة تقدمهم داخل روسيا في 17 شباط (فبراير). وفي ظل تهديد لينين بالاستقالة، أجيزت سياسته السلمية بصعوبة في اللجنة المركزية في 23 شباط (فبراير). ووقعت معاهدة بريست-ليتوفسك في 3 آذار (مارس) 1918، وخسرت روسيا فنلندا، أوكرانيا، مقاطعات البلطيق، بولندا الشرقية وشريحة كبيرة من إقليم القوقاز، ولكن قلب روسيا أنقذ الثورة. واستدارت ألمانيا غربا لمواجهة الحلفاء، وانهارت بعد ثمانية أشهر. وهكذا برهن لينين على أنه سياسي روسي من مستوى عالمي. ولكن أحدا في ذلك الوقت لم يكن قادرا على إدراك هذه الحقيقة: ففي الداخل، رفع «الشيوعيون اليساريون» عقيرتهم متهمينه بخيانة الثورة، وفي الخارج لخصت «التايمز» الرأي الرسمي الغربي بقولها: «إنهم [أي الحلفاء] يعرفون أن دعاة الحد الأقصى [أي البلاشفة] هم عصابة من الفوضويون والمتعصبين، استولوا على السلطة في الوقت الراهن بسبب الشلل الذي أصاب الحياة القومية… ويعرفون أن لينين وعددا من المتآمرين معه مغامرون من أصل ألماني-يهودي ومأجورون لحساب الألمان…»

وفي أثناء فترة التقاط الأنفاس التي أتاحتها معاهدة بريست-ليتوفسك أقلقت المشاكل الداخلية لينين بنفس الشدّة. فالاقتصاد كان مدمرا وهدد الجوع المدن. وشكل انحلال المجتمع وضياع هيبة السلطة بغض النظر عن القائمين عليها، عائقين خطيرين أمام البلاشفة الذين تعيّن عليهم أن ينشطوا الآن بصورة بناءة. كما أثار الاشتراكيون الثوريون «والشيوعيون اليساريون» داخل صفوف البلاشفة متاعب من المحتمل تفاقم خطرها. ولكن هذه المشكلة الأخيرة ربما كانت أهون الصعوبات التي واجهها لينين. فبحكم خبرته الطويلة في التعامل مع «المشاغبين» في الحزب، أدرك أنه إذا سمح لهم بالثرثرة كما يحلو لهم وأبعدهم عن التأثير في القضايا الحيوية فعليا، فإنه يمكن بذلك تحييدهم وربطهم في الوقت نفسه بمهمات حيوية إلا أنها ثانوية. ويقدم لوناشارسكي بالذات، الذي عينه لينين مفوضا للثقافة، نموذجا مثاليا لهذه المعالجة الحكيمة. أما الاشتراكيون الثوريون اليساريون فكان تدجينهم أصعب، لأنهم كانوا خارج نطاق السيطرة المباشرة للينين. إلا أنهم القوا بأنفسهم بين يديه عندما تمردوا في تموز (يوليوز) 1918 ضد معاهدة بريست-ليتوفسك، واغتالوا السفير الألماني فون ميرباخ، ثم توجوا عملهم باغتيال اوريتسكي في الشهر التالي. وفي اليوم نفسه، وفرت المحاولة شبه الناجحة لاغتيال لينين، على الرغم من عدم وجود دليل يربط منفذتها فاني كابلان بالاشتراكيين الثوريين، الحجة النهائية لشن حملة إرهاب ضدهم وضد المعارضين للبلاشفة مهما كان لونهم.

أما أمراض الاقتصاد الروسي، بالمقابل، فكانت أقل قابلية للشفاء عن طريق نيران البنادق. وكان إنجاز لينين في عامي 1918 و1919 في هذا المجال قليلا نسبيا. وبدا أن أقصى ما كان البلاشفة قادرين على إنجازه في تلك الفترة هو التهديد، الحث والارتجال –وجميعها كانت غير كافية. وعاشت روسيا لمدة خمس سنوات تقريبا في حالة شبه مجاعة، ومن المدهش أن نظام لينين لم يتحطم على صخرة المشكلة الكبيرة التي فشل في حلها: الخبز.

أما بالنسبة إلى المشكلة الحاسمة المتمثلة في المحافظة على البقاء في وجه الحرب الأهلية العنيفة، فإن لينين أنجز ما كان يبدو مستحيلا. فبعد عام من سنة 1917 –حين كان الضباط عرضة للشنق والقوات المسلحة لا تعدو كونها مجموعات خطرة من الرعاع- تمكن من خلق جيش أحمر وقوة بحرية هزمت الجنرالات البيض وقوات الحلفاء المساندة لهم وشلت حركتها. ويجب إبقاء جميع هذه الحقائق في الذهن عندما يقرأ المرء ذكريات لوناشارسكي الرقيقة المليئة بالإعجاب عن لينين قبل عام 1917، والتي توحي بالقليل من القوة القاسية المتجسدة في هذا الرجل الذي ركب النمر الروسي.

(1) اكسلرود: بافل بوريسوفيتش اكسلرود (1850-1928)، الاسم المستعار لبنحاس بوروخ اكسلورد. منظر ماركسي مبكر. أحد مؤسسي مجموعة «تحرير العمال»، 1883. أصبح منشفيا بعد انشقاق الحزب في عام 1903.

(2) الكتاب: الإشارة إلى دراسة لينين المحتوى الاقتصادي للشعبية والنقد الموجه إليها في كتاب السيد ستروف، التي نشرت ضمن مجموعة من المقالات في بطرسبورغ في عام 1895.

(3) تولين: «ك. تولين» هو أول اسم مستعار للينين، استخدمه في الفترة بين 1895 و1900.

(4) ستروف: بيوتر بيرنغار دوفيتش ستروف (1870-1944). أحد المنظّرين الأوائل للماركسية الروسية. مع أنه صاغ البيان الأول للحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي في عام 1898، فإنه غيّر اتجاهه السياسي في عام 1902 وانضم إلى حزب الكاديث الليبرالي (تنظر ص 65 أدناه). أثناء الحرب الأهلية، (شغل منصب) وزير الخارجية في حكومة رانغل «البيضاء» في القرم. توفي في باريس.

(5) توغان-بارانوفسكي: ميخائيل ايفانوفيتش توغان-بارانوفسكي (1865-1919). استاذ الاقتصاد في جامعة سان بطرسبورغ. ماركسي «قانوني». كان وزيرا للمالية في الحكومة الاوكرانية التي شكّلها هيثمان سكوروبادسكي، وعاشت فترة قصيرة.

(6) كراسنويارسك: ثالثة كبريات المدن في سيبيريا، على ضفة الأجزاء الأخيرة من نهر ينسي، جنوب وسط سيبيريا. أمضى لينين فيها ثلاثة أشهر من فترة نفيه إلى سيبيريا، التي ابتدأت في شهر شباط (فبراير) 1897.

(7) مارتوف: يولي اوسيبوفيتش تسيدرباوم، الاسم المستعار مارتوف (1873-1923).

(8) بوتريسوف: الكسندر نيكولاييفتش بوتريسوف (1869-1934) اشتراكي روسي مبكر، تعاون مع لينين في الأيام الأولى لصحيفة الحزب الشرارة (ايسكرا). أصبح منشفيا يمينيا 1905، ولكنه تخلى عن المناشفة بعد عام 1917 على أساس أنهم لم يعارضوا البلاشفة بشدة كافية. هاجر في عام 1927.

(9) حول تطور الراسمالية في روسيا: نشر في سان بطسبورغ في عام 1899.

(10) نارودني: لقب يطلق على الحركة الاشتراكية الفلاحية الروسية غير الماركسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. أسست نظرياتها الإصلاحية على النظام الزراعي الروسي القائم على الأرض المشاع. استخدمت الإرهاب كسلاح سياسي.

(11) المؤتمر الثاني: المؤتمر الثاني لحزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي، المنعقد في بروكسيل ولندن، في عام 1903، حيث وقع الانشقاق الذي قسم الحزب إلى بلاشفة ومناشفة.

(12) ايسكرا: الشرارة-الصحيفة الناطقة بلسان الاشتراكيين الديموقراطيين الروس، وعمل لينين في هيئة تحريرها من كانون الأول (ديسمبر) 1900 إلى تشرين الأول (أكتوبر) 1903.

(13) بليخانوف: جيورجي فالينتينوفيتش بليخانوف (1857-1918) انظر أدناه ص 77.

(14) زاسوليتش: فيرا ايفانوفنا زاسوليش (1851-1919). بدأت نشاطها السياسي مع النارودنيين. حاولت، وهي في السابعة عشرة من العمر، اغتيال تريبوف، الحاكم العسكري لبطرسبورغ. قدمت للمحاكمة ولكن أخلي سبيلها وسمح لها بالفرار إلى الخارج. أصبحت ماركسية في أوائل العقد الثامن من القرن التاسع عشر وكانت أحد الأعضاء الأوائل في الحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي.

(15) «قضية العمال»: أول صحيفة اشتراكية ديموقراطية في روسيا. من 1898 إلى 1903 مثلث التجمع الرسمي للحزب الاشتراكي الديموقراطي في المهجر. «الصراع» المشار إليه كان بين قضية العمال والشرارة من أجل الاعتراف بواحدة منهما على أساس أنها هي الصحيفة الرسمية للحزب.

(16) البند الأول في دستور الحزب: صياغة هذا البند، الذي يعرّف العضوية في الحزب، كانت إحدى أهم نقاط الخلاف بين لينين ومارتوف أثناء انشقاق الحزب الديموقراطي الاشتراكي الروسي إلى جناحي البلاشفة والمناشفة.

(17) أولئك المنفيون في فولوغدا: الإشارة إلى لوناشارسكي نفسه، الذي كان منفيا إلى فولوغدا بين 1900-1902. وفولوغدا هي مدينة في شمال روسيا الأوربية، واقعة في منتصف الطريق تقريبا بين موسكو وأرشنجل.

(18) أ.أ. بوغدانوف:ألكسندر السكندروفيتش مالينوفسكي، الاسم المستعار بوغدانوف (1873-1928). فيلسوف، عالم اجتماع، اقتصادي وجرّاح. انضم إلى الحزب الاشتراكي الديموقراطي في العقد التاسع من القرن التاسع عشر، وأصبح بلشفيا لدى انشقاق الحزب في عام 1903. أصبح زعيم الجناح اليساري البلشفي المتمثل في مجموعة «إلى الأمام» (تنظر أدناه). خدم في الحرب العالمية الأولى طبيبا في الجيش. بعد عام 1917، مع أنه أصبح خارج الحزب البلشفي، فإنه مارس نفوذا كمنظر شيوعي متنوع الآراء ومنظر لحركة «الثقافة البروليتارية» (انظر أدناه) بعد عام 1923 كرّس نفسه للطب. توفي أثناء إجراء تجربة على شخصه.

(19) كامنيف: ليوبوريسوفيتش روزنفلد، الاسم المستعار كامينيف (1883-1936). انضم إلى الحزب الاشتراكي الديموقراطي في عام 1901. بلشفي في عام 1903. زميل مقرب من لينين. اعتقل ونفي إلى سيبيريا في تشرين الثاني (نوفمبر) 1914. أطلق سراحه في شباط (فبراير) 1917. رئيس اللجنة التنفيذية المركزية لمجالس السوفييت. ساند تروتسكي أثناء المعارضة المعادية لستالين. أدين وأعدم أثناء محاكمات «التطهير» الكبيرة الأولى في عام 1936.

(20) كرجيجا نوفسكي: غليب مكسيميليانوفيتش كرجيجانوفسكي (1872-؟). أصبح ماركسيا في عام 1891. تخرج مهندسا من جامعة بطرسبورغ في عام 1894 وبلشفيا مبكرا. في عام 1895 ألقى القبض عليه ونفي إلى سيبيريا. هاجر إلى ميونيخ في عام 1901. وتعاون مع الايسكرا. انتخب عضوا في اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي الديموقراطي في المؤتمر الثاني في عام 1903. منظم إضراب السكك الحديدية في ثورة عام 1905. عضو سوفييت موسكو خلال عام 1917. واضع خطة كهربة روسيا. أسس وادار غوسيلان (اللجن المركزية للتخطيط) من 1921 إلى 1930. نائب رئيس الأكاديمية السوفيتية للعلوم.

(21) الصحيفة المركزية للحزب: في عام 1904، في جنيف، ساهم لوناشارسكي في تحرير الصحيفة البلشفية «إلى الأمام». بعد المؤتمر الثالث للحزب في عام 1905 جرى إغلاق صحيفة «إلى الأمام » رسميا، ولكنها عادت إلى الصدور فورا تحت اسم «البروليتاري». تسمية لوناشارسكي لها «الصحيفة المركزية للحزب» ضرب من الحذلقة، إذ أنها كانت صحيفة بلشفية فئوية.

(22) النحات ارونسون: ناؤووم ارونسون. ولد في كيسلافكا، في أوكرانيا. نحات يهودي أشهر أعماله تمثال بيتهوفن في بون. منح ميدالية ذهبية في لييج في عام 1906. عرض التمثال النصفي الذي نحته للينين في الجناح السوفييتي في المعرض العالمي في باريس في عام 1937.

(23) لوحة فيرلين لكاريير: يوجين كاريير (1849-1906) رسام ونحات فرنسي.

(24) وأنا أعيد قراءة هذه السطور الآن، في آذار 1923، ولينين مريض جدا أجدني مضطرا إلى الاعتراف أنه لا نحن ولا هو حرصنا كفاية عليه. إلا أنني مع ذلك واثق أن بنية فلاديمير إيليتش الهرقلية ستتغلب على المرض وأنه قبل مضي فترة طويلة سيعود إلى قيادة الحزب الشيوعي الروسي وروسيا. (لوناشارسكي)

(25) عصابات المئة السوداء: تسمية أطلقها الخصوم على المنظمات اليمينية الفاشية المتطرفة في أوائل القرن العشرين في روسيا. مارست لأول مرة على نطاق واسع «البوغروم» بصفته شكلا منظما للإرهاب اللاسامي.

(26) في اليوم الذي كنت أقرأ منه المسودة النهائية لهذا «التصوير» لملامح شخصية لينين وصلني نبأ وفاة مارتوف. (لوناشارسكي)

(27) اندفع… إلى روسيا:وصل لينين إلى بطرسبورغ في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 1905.

(28) نوسار-خروستاليف: جيورجي ستيبانوفيتش نوسار-خروستاليف (1879-1919). (يشار إليه أحيانا باسم «خروستاليف»). الرئيس الأول لمندوبي سوفييت العمال في بطرسبورغ أثناء ثورة 1905. أصبح منشفيا في عام 1907 هجر السياسة وأصبح صحافيا عاملا في الصحافة اليمينية. ترأس «جمهورية خروستاليف» العابرة في أوكرانيا أثناء الحرب الأهلية. أعدمه البلاشفة.

(29) فنلدا: من أجل تحاشي شرطة القصر، ذهب لينين إلى فنلندا في كانون الثاني (يناير) 1907، حيث أمضى أربعة شهور في كوكّالا.

(30) مؤتمر شتوتغارت: مؤتمر الأممية الثانية الاشتراكية المنعقدة في عام 1907.

(31) المؤتمر الرابع للأممية الثالثة: عقد في عام 1922-1923 في موسكو. كانت الأممية الثالثة حركة دولية شيوعية تحت سيطرة البلاشفة، وتعرف عادة باسم «الكومنترن» تمييزا لها عن الأممية الثانية (أو الاشتراكية).

(32) تسيمرفالد وكينتال: في أيلول (سبتمبر) 1915، نظم اشتراكيون معينون بينهم بعض البلاشفة والمناشفة من الحزب الروسي، مؤتمرا ضد الحرب في تسيمرفالد في سويسرا، معارضين بذلك زملاءهم الاشتراكيين الذين أيدوا الجهود العسكرية لأقطارهم في الحرب. وقد اتخذ لينين موقفا «يساريا» متطرفا ضد الحرب وشارك في الحملات ضدها. كما عقد مؤتمر ثان مشابه (دعي باسم مؤتمر «تسيمرفالد الثاني») في نيسان (ابريل) 1916 في كينتال. وقد أيد هذا المؤتمر بقوة موقف لينين المتطرف وصدر عنه بيان يحث الطبقة العاملة الأوروبية على الكف عن مقاتلة بعضها وتوجيه البنادق ضد المستغلين الرأسماليين.

(33) مجموعة إلى الأمام: جناح فرعي راديكالي بلشفي، أسسه بوغدانوف ولوناشارسكي وغوركي في عام 1909. كان ملهمه الإيديولوجي بوغدانوف، واختلف مع لينين حول تكتيك المشاركة في الدوما. فقدت المجموعة أهميتها السياسية بسرعة وعاد لوناشارسكي إلى البلشفية القومية في عام 1917

(34) إ.ك. مالينوفسكايا: زوجة أ.أ. بوغدانوف (مالينوفسكي).

(35) الاكتوبريون: حزب سياسي شكله الليبراليون اليمينيون في عام 1905، وتزعمه أ.إ. غوشكوف وم.ف. رود زيانكو. اللقب مشتق من الإعلان القيصري الصادر في 17 أكتوبر 1905، الذي منحت البلاد بموجبه دستورا.

(36) المؤتمر الثامن: مؤتمر الحزب البلشفي الذي عقد في آذار (مارس) 1919. نص أهم قرار اتخذ فيه على الفصل بين الحزب والتنظيمات السوفيتية.

========================

لينيــن

الاحد 3 أيلول (سبتمبر) 2006

536.6 كيلوبايت
نسخة معدّة للطباعة
جورج لوكاش

LENIN_Lukacs
تقديم

يحتفل العالم هذا العام بالذكرى المئوية الأولى لميلاد فلاديمير إيليتش أوليانوف، الذي خلده التاريخ باسم لينين، نسبة إلى نهر اللينا في سيبيريا، التي نُفي إليها لمدة ثلاث سنوات في زهرة عمره.
وهناك بلا شك أكثر من طريقة لتكريم ذكرى لينين. وأسوء تلك الطرق على الإطلاق هي تلك التي حذرنا منها لينين بنفسه. فقد كتب في «الدولة والثورة» يحتج على تحنيط الثوريين: «تبذل المحاولات بعد مماتهم لتحويلهم إلى أيقونات لا تنفع ولا تضر، لتطويبهم إن صح التعبير، لإحاطة اسمهم بهالة معينة بهدف تعزية الطبقات المضطهَدة وتضليلها. وعن طريق مثل هذا العمل يُفرغ مذهبهم الثوري من محتواه، ويُذل وتثلم حدته الثورية».
وقد نحتفل اليوم بذكري ميلاد لينين، ونحتفل غدا بذكرى وفاته. ولكن هذا لا يعني أن لينين هو اليوم بالنسبة إلينا والى ملايين البشر مجرد ذكرى. فلينين حي بيننا، وفي التاريخ. وتكريمه لا يكون عن طريق تحنيطه، لأن التحنيط هو، في أحسن الأحوال، تكريم لجثته. والحال أن لينين الذي نحن بحاجة إليه هو لينين الحي، لا لينين الميت.
إن ستالين هو الذي أسس طقوس عبادة لينين، وبتعبير لينيني: طقوس عبادة أيقونة لينين. ذلك أن الردة الستالينية، التي هي ردة على اللينينية، كانت بحاجة إلى إحاطة جثة لينين بكل ضروب التكريم والتطويب لأنها كانت بحاجة قبل كل شيء إلى تحويل لينين إلى مجرد جثة: جثة تُعبَد وتقدَّس ولكنها تظل جثة، أي بلا حول ولا قوة، وبلا انفتاح على المستقبل.
وفي أيامنا هذه التي بدأت تعود فيها إلى الستالينية أبعادها الحقيقية كجثة تثقل بوطأتها على التاريخ الحي للاشتراكية، يجدر بنا أن نتذكر أن هذه الجثة لم توار بعد التراب نهائيا، وأن روائح تفسخها ما تزال تلوّث الأجواء، وأن تركتها الثقيلة لم تُصفّ تماما، وأن ورثتها ـ والطامحين في أن يكونوا ورثتها ـ ما زالوا على قيد الحياة.
وطقوس عبادة لينين هي أحد الأشكال التي ما زالت الجثة الستالينية تنفث عن طريقها سمومها في الجسد الحي للاشتراكية. وإذا كنا نحتفل اليوم بذكرى ميلاد لينين، فإن هذه قد تكون مناسبة إضافية لتحرير اللينينية من إسار الأيقونة التي حبست فيها. ولا نظنن أننا ننتهك بذلك القدسيات: فاللينينية يجب أن تبقى، وكما كانت فعلا، نفيا حيا لكل وثنية.
وتحطيم أيقونة لينين، حتى تعود للّينينية كل حيويتها، قد يتطلب منا من الجرأة اليوم أكثر مما تطلب قبل حوالي نصف قرن من الزمن عندما ارتفعت أصوات اللينينيين، غداة وفاة لينين، للاحتجاج على مشروع تحنيطه الستاليني. ونحن نخص بالذكر ههنا صوت شاعر ثورة أوكتوبر الأكبر، ماياكوفسكي، الذي كتب في افتتاحية العدد الأول من مجلته «ليف» الصادرة غداة وفاة لينين، تحت عنوان «لينين ليس للبيع»، منددا بالمحاولات الأولى لتطويب قائد ثورة أوكتوبر:
«رأينا في صحفنا الإعلان التالي:
تماثيل نصفية
لـ ف. إ. لينين
من الجص، من البرونز، من الرخام،
من الغرانيت، بالحجم الطبيعي أو
بضعفي الحجم الطبيعي، بالنسبة إلى
الأصل، مع إذنٍ بنسخه وتوزيعه
صادر عن لجنة تخليد ذكرى
ف. إ. لينين
من صنع النحات
س. د. ميركولوف
عرض
من منشورات الدولة
على منظمات الحزب والنقابات
والإدارات العامة والتعاونيات الخ.
كل نسخة
مأذون بها بالشكل القانوني.
الزيارات وتلقي الطلبات
في فرع المنشورات التجارية
4 شارع رويد ستفنسكا، موسكو
ترسل النماذج المصورة مجانا
بمجرد الطلب.
النسخ والتقليد
يعاقب عليهما القانون.
إننا نحتج.
إننا نوافق عمال سكك حديد ريازان الذين اقترحوا على مصمم الديكور أن يصمم قاعة لينين في ناديهم بدون تمثال نصفي وبدون صورة للينين قائلين: «لا نريد أيقونات».
إننا نلح.
لا تجعلوا من لينين خاتما.
لا تطبعوا صورته على الإعلانات، على الأقمشة المشمعة، على الصحون، على الأقداح، على مشارب السكاير.
لا تصبوه في البرونز.
لا تنزعوا عنه مشيته ووجهه الإنساني الحي الذي عرف كيف يحتفظ به وهو يقود مسيرة التاريخ.
إن لينين ما يزال معاصرنا.
إنه بين الأحياء.
إننا بحاجة إلى لينين حيا لا إلى لينين ميتا.
إذن.
ادرسوا لينين، ولا تطوبوه.
لا تخلقوا طقوس عبادة حول اسم رجل ناضل طوال حياته ضد جميع أنواع العبادات.
لا تتاجروا بأشياء هذه العبادة.
إن لينين ليس للبيع».
فلندرس لينين !
إن صيحة ماياكوفسكي المفجوعة هذه تذكرنا بأنه ليس هناك من طريقة أخرى اليوم لتكريم ذكرى لينين.
ولعلنا نسهم بقسط متواضع في إحياء تلك الذكرى، إذ نقدم للقارئ العربي هذه النصوص الثلاثة التي يحاول كل منها أن يدرس لينين من منظور محدد.
نص جورج لوكاكش الذي صدر في فيينا بعد شهر واحد من وفاة لينين.
ونص نيقولاي بوخارين الذي هو في أساسه خطاب ألقي، بعد شهر من وفاة لينين أيضا، في الأكاديمية الشيوعية بموسكو.
ونص روجيه غارودي الصادر في باريس في عام 1968.
نصوص أربعة تحاول أن تعيد بناء فكر لينين.
الأول يعيد بناءه انطلاقا من الممارسة اللينينية العملية.
والثاني انطلاقا من الممارسة اللينينية النظرية.
والثالث والرابع من الممارسة اللينينية الفلسفية.
وقد تتداخل وتتشابك هنا وهناك النصوص الثلاثة. وليس في هذا من عجب. فاللينينية واحدة. والتمييز بين مختلف لحظاتها ليس إلا ضرورة منطقية عارضة يفرضها التحليل.
وأعظم طموحنا أن تكون هذه النصوص الثلاثة صُواة على طريق إعادة اكتشاف البرنامج الماركسي والمضمون الثوري والروح الحية للنظرية والممارسة اللينينية في إطار الثورة العربية.
جورج طرابيشي

================================

مصائر مذهب كارل ماركس التاريخية

كتب لينين مقال »مصائر مذهب كارل ماركس التاريخية« بمناسبة الذكرى الثلاثين لوفاة كارل ماركس.
الاربعاء 23 آذار (مارس) 2005

لينين

إن الرئيسي في مذهب ماركس، هو أنه أوضح دور البروليتاريا التاريخي العالمي، بوصفها بانية المجتمع الاشتراكي. فهل أكد مجرى الأحداث في العالم بأسره صحة هذا المذهب منذ أن عرضه ماركس؟
لقد صاغ ماركس هذا المذهب للمرة الأولى في عام 1844، و«البيان الشيوعي»، الذي كتبه ماركس وانجلس، والذي صدر عام 1848، يعطي عن هذا المذهب عرضا كاملا منهاجيا، هو خير عرض لهذا المذهب حتى اليوم. ومذ ذاك ينقسم التاريخ العالمي بوضوح إلى ثلاث مراحل رئيسية: 1) من ثورة 1848 إلى كومونة باريس (1871)؛ 2) من كومونة باريس إلى الثورة الروسية (1905)؛ 3) ابتداء من الثورة الروسية.
لنر إلى مصائر مذهب ماركس في كل من هذه المراحل.
1) في بداية المرحلة الأولى، كان مذهب ماركس أبعد من أن يكون المذهب السائد. فلم يكن سوى فرع أو تيار من فروع أو تيارات الاشتراكية، الكثيرة جدا. أما الأشكال التي كانت سائدة في الاشتراكية، فقد كانت الأشكال التي تتقارب، من حيث الجوهر، مع «الشعبية» عندنا: عدم فهم الأساس المادي للتطور التاريخي، العجز عن اكتناه دور وأهمية كل من طبقات المجتمع الرأسمالي، تمويه الطبيعة البرجوازية للتحولات الديموقراطية بمختلف التعابير الاشتراكية المزيفة حول «الشعب»، و«العدالة»، و«الحق» الخ..
وقد جاءت ثورة 1848 تسدد ضربة قاتلة لجميع هذه الأشكال الصاخبة، المبرقشة، اللاغطة، لاشتراكية ما قبل ماركس. ففي جميع البلدان، أظهرت الثورة مختلف طبقات المجتمع قيد النشاط والعمل. وجاءت مذبحة العمال من جانب البرجوازية الجمهورية في أيام حزيران (يونيو) 1848، بباريس، تحدد نهائيا الطبيعة الاشتراكية للبروليتاريا وللبروليتاريا وحدها. فإن البرجوازية الليبرالية قد خشيت استقلال هذه الطبقة أكثر مما خشيت الرجعية أيا كانت بمئة مرة. وقد زحفت الليبرالية الجبانة أمام هذه الرجعية. واكتفى الفلاحون بإلغاء بقايا الإقطاعية وانتقلوا إلى جانب النظام؛ ونادرا ما ترجرجوا بين الديموقراطية العمالية وبين الليبرالية البرجوازية. وتكشفت جميع المذاهب التي تقول باشتراكية لاطبقية، وبسياسة لاطبقية، عن ثرثرة باطلة.
وكانت كومونة باريس (1971) خاتمة هذا التطور من التحولات البرجوازية. وفقط لبطولة البروليتاريا، تدين الجمهورية برسوخها، أي هذا الشكل من تنظيم الدولة، التي تتجلى فيه العلاقات بين الطبقات بأقل المظاهر تمويها.
وفي جميع البلدان الأوروبية الأخرى كان التطور أشد غموضا وأقل اكتمالا، إلا أنه أدى إلى نشوء مجتمع برجوازي كامل التطور نفسه. وفي أواخر المرحلة الأولى (1848 – 1871)، مرحلة العواصف والثورات، ماتت اشتراكية ما قبل ماركس؛ وولد حزبان بروليتاريان مستقلان: الأممية الأولى (1864 – 1872) والاشتراكية-الديموقراطية الألمانية.
2) تمتاز المرحلة الثانية (1872 – 1904) عن المرحلة الأولى بطابعها «السلمي»، بانعدام الثورات. فقد انتهى الغرب من الثورات البرجوازية، ولما ينضج الشرق لهذه الثورات.
ودخل الغرب في مرحلة التحضير «السلمي» لعهد التحويلات المقبلة: ففي كل مكان تشكلت أحزاب اشتراكية، أساسها بروليتاري، أخذت تتعلم استخدام البرلمانية البرجوازية، وإصدار صحافتها اليومية، وإنشاء مؤسساتها التثقيفية، ونقاباتها، وتعاونياتها. وأحرز مذهب ماركس انتصارا كاملا وأخذ يمتد ويتسع. وببطء، ولكن برسوخ، تطور انتقاء وحشد قوى البروليتاريا، وإعدادها للمعارك المقبلة.
إن ديالكتيك التاريخ يرتدي شكلا يجبر معه انتصار الماركسية في حقل النظرية أعداء الماركسية على التقنع بقناع الماركسية. وقد حاولت الليبرالية، المهترئة في داخلها، أن تستأنف نشاطها تحت ستار الانتهازية الاشتراكية. وقد فسروا مرحلة إعداد القوى للمعارك الكبيرة بأنها عدول عن هذه المعارك. وكانوا يقولون أن تحسين أوضاع العبيد بغية النضال ضد العبودية المأجورة ينبغي أن يجري بطريقة يتنازل فيها العبيد عن حقوقهم في الحرية لقاء فلس واحد. وكانوا يدعون بجبن إلى «السلام الاجتماعي» (أي إلى السلام مع العبودية)، والى الإقلاع عن النضال الطبقي، الخ.. وكان لهم أنصار عديدون جدا بين البرلمانيين الاشتراكيين وبين مختلف الموظفين في الحركة العمالية وبين المثقفين «المحبذين».
3) وكان الانتهازيون لما ينتهوا من تمجيد «السلام الاجتماعي» وإمكانية اجتناب العواصف في ظل «الديموقراطية» حتى تفجر في آسيا ينبوع جديد من العواصف العالمية الكبيرة. فبعد الثورة الروسية، قامت الثورة التركية، والإيرانية، والصينية. وإننا لنعيش اليوم بالضبط في عصر هذه العواصف و«تأثيرها بالاتجاه المعاكس» في أوروبا. وأيا كان مصير الجمهورية الصينية العظيمة، التي تستثير اليوم لعاب شتى أضراب الضباع «المتمدنة»، فما من قوة في العالم تستطيع أن تعيد الإقطاعية القديمة في آسيا، ولا أن تكنس من على سطح الأرض النزعة الديموقراطية الباسلة لدى الجماهير الشعبية في البلدان الآسيوية وشبه الآسيوية.
إن المماطلات الطويلة لخوض نضال حاسم ضد الرأسمالية في أوروبا قد دفعت إلى أحضان اليأس والفوضوية بعض الناس الذين قليلا ما يهتمون بشروط تحضير النضال الجماهيري وبشروط تطويره. وإننا لنرى الآن إلى أي حد من صغر النفس وقصر النظر يبلغ هذا اليأس وهذه الفوضوية.
إن ما ينبغي أن نستمده من كون آسيا التي تعد ثمانمئة مليون إنسان قد انجذبت إلى غمرة النضال في سبيل نفس المثل العليا الأوروبية، ليس اليأس، بل الشجاعة.
إن الثورات الآسيوية قد بينت لنا نفس ما تتصف به الليبرالية من ميوعة وخساسة، نفس الدور الاستثنائي الذي يضطلع به استقلال الجماهير الديموقراطية، نفس التمايز الدقيق بين البروليتاريا وبين البرجوازية من كل شاكلة وطراز. إن من يتحدث، بعد تجربة أوروبا وآسيا، عن سياسة لاطبقية وعن اشتراكية لاطبقية، إنما لا يستحق غير وضعه في قفص وعرضه إلى جانب كنغر أوسترالي.
وعلى اثر آسيا، أخذت أوروبا تتحرك ولكن على غير الطريقة الآسيوية. لقد ولّت إلى الأبد المرحلة «السلمية»، مرحلة 1872 – 1904؛ فإن الغلاء ووطأة التروستات يؤديان إلى تفاقم النضال الاقتصادي تفاقما لا سابق له، تفاقم هز العمال الإنجليز بالذات، الذين أفسدتهم الليبرالية أكثر من سائر العمال. وأمام أنظارنا، تنضج أزمة سياسية حتى في أكثر بلدان البرجوازية واليونكر ]] اليونكر، طبقة من كبار ملاكي الأراضي النبلاء في روسيا. (الناشر)[[ «عصمة»، أي في ألمانيا. إن جنون التسلح والسياسة الإمبريالية يجعلان من أوروبا الحالية «سلاما اجتماعيا» يشبه بالأحرى برميلا من البارود. ناهيك بأن تفسخ جميع الأحزاب البرجوازية ونضوج البروليتاريا ما ينفكان في اطراد دائم.
منذ ظهور الماركسية، جاءت لها كل من المراحل الكبيرة الثلاث من التاريخ العالمي بتأكيدات وبانتصارات جديدة. ولكن المرحلة التاريخية المقبلة ستحمل للماركسية، بوصفها مذهب البروليتاريا، انتصارا أروع أيضا.
«البرافدا»، العدد 50، 1 آذار (مارس) 1913
التوقيع: ف . ا

شارك المقالة

اقرأ أيضا