ملاحظات انتقادية أولية في المسألة الأمازيغية

الامازيغية11 يناير، 2015

أزنزار

غالبا ما ُُيتناول موضوع المعاملة الدونية للأمازيغية، من زاوية ضيقة تركز على قومية و” شرقانية” نظام الحكم والأحزاب السياسية بالمغرب. لكن ما مدى صحة هذا التناول؟ إن هوية نظام الحكم والمرجعيات الثقافية للأحزاب ليست تفسيرا بقدر ما هي تجل لما يراد تفسيره. إنه تركيز على بعض المظاهر الثانوية والخارجية حسب علاقتها بمبدأ معين (هل تعترف بالأمازيغية أم لا؟). وهكذا فالملكية وأحزابها وأحزاب الكتلة واليسار الجذري والقوى السلفية كلها من طينة واحدة: قوميون عروبيون شرقانيون، يختلفون حول كل شيء ويتفقون حول إقصاء الأمازيغية، وليس في القنافذ أملس. تكمن الصفة الأساسية لهذه المقاربات الشكلية في تجاهلها الكلي للأساس المادي للتيارات المختلفة، أي لطبيعتها الطبقية، وكذلك لدورها التاريخي الموضوعي.

سنتناول في هذه الورقة موقع الأمازيغية في مشروع نظام الحكم بالمغرب (الملكية)، ولدى ما سمي أحزاب وطنية ديمقراطية (أحزاب الحركة الوطنية، أو المعارضة الليبرالية)، وعلاقة مكانة الامازيغية بالصراع الطبقي، واوجه اضطهاد الامازيغ .

الملكية

إن ما آلت إليه الأوضاع السياسية في مغرب ما بعد الاستقلال، يرجع إلى ما انتهت إليه معركة التحرر من الاستعمار. فبسبب غياب قيادة عمالية ثورية– بسبب ستالينية الحزب الشيوعي المغربي- آلت قيادة معركة التحرر من الاستعمار إلى حزب الاستقلال– العمود الفقري للحركة الوطنية- وهو عبارة عن جبهة طبقية واسعة يجمعها مطلب الاستقلال– تعميم بورجوازي لمطلب شعبي- لكن تحت قيادة “البورجوازية الوطنية”.

لكن البورجوازية المغربية، كغيرها من بورجوازيات البلدان المتخلفة، ولدت هجينة/شائخة ومرتبطة ارتباطا عضويا بالإمبريالية ودون جذور شعبية، لم تستطع أن تلف حولها الجماهير الشعبية إلا بالتحالف مع القصر وإبقاء التبعية للخارج.

مع اشتداد معارك التحرر– التي كان عمودها الفقري البورجوازية الصغيرة المدينية والقروية- عملت فرنسا على زيادة وزن الأعيان والقواد وذلك لتحجيم دور الحركة الوطنية، فردت هذه الأخيرة بالدفاع عن الملكية كرمز للوطنية المغربية. وهو ما أكد عدم قدرة البورجوازية على حكم بلد مستقل بنفسها باستقلال تام عن الإمبريالية، وهذا ما جسدته اتفاقيات إيكس- لي- بان.

استغلت الملكية هذا الوضع لتكريس وزنها السياسي، بحسم ميزان القوى لصالحها وإقصاء أحزاب الحركة الوطنية، التي تحولت إلى المعارضة والصراع من أجل تقاسم السلطات مع الملكية، مع اعتراف كامل بحق هذه الأخيرة في الحكم باعتبارها حامية امتيازاتها المادية.

ورث المغرب بعد التوقيع على اتفاقية إيكس ليبان، جهاز الدولة كما أرسته معاهدة الحماية دون تغيير جوهري. سيطرت فيه الملكية على كل مقاليد الحكم، بعد تفكيكها لجيش التحرير المغربي وتسوية تاريخية مع “الحركة الوطنية” ضمنت للملكية الانفراد بالحكم مع ضمان مكاسب سياسية لهذه الحركة (قانون الحريات العامة بالأساس).

أرست الملكية نظام استبداد، استفردت فيه بكل مقاليد الحكم ولم تترك للبرلمان وغيره من المؤسسات التمثيلية سوى دور إضفاء لون ديمقراطي فاقع على وجه استبدادها البشع. واستفراد الملكية بالحكم ليس معلقا في الفضاء بل يجد جذوره في عجز البورجوازية عن بلورة بديل سياسي عن الملكية؛ الشكل الوحيد المقبول لحكومة في عصر فقدت فيه البورجوازية القدرة على حكم الشعب ولم تتمكن فيه الطبقة العاملة بعد من تلك القدرة.

احتكار الملكية لا يقتصر على الجانب السياسي، بل يتعداه إلى الجانب الاقتصادي، فاللملكية (وهي قسم من البورجوازية) دور هام في الاقتصاد (ما يسميه الليبراليون “المخزن الاقتصادي”). احتكار الملكية للسلطة وفرص الاغتناء الاقتصادي، لا بد أن يجد تتمته المنطقية في “احتكار القيم”: احتكار القيم الهوياتية والثقافية، بجعل العروبة والإسلام الركائز الوحيدة لهوية المغرب. لقد فرضت الملكية على الشعب المغربي نظاما سياسيا غير ديمقراطي، يخدم نظاما اقتصاديا واجتماعيا يعاكس مصالح الغالبية العظمى من المغاربة.

إن إقصاء “الشعب” في الميدانين السياسي والاقتصادي، سيكتمل بإقصاء هويته ولغاته وعدم الاعتراف بها واحتقار حامليها، “.. فالقائمون على الثقافة الرسمية.. هم غالبا- أو جميعهم تقريبا- من أبناء الثقافة العربية الرسمية، فيحتقرون عادة.. ثقافة هؤلاء “العامة الجهلة عديمي الذوق والتهذيب”. (بوعلي ياسين، ينابيع الثقافة ودورها في الصراع الاجتماعي..).

إن هذا الإقصاء ليس رغبة مثالية أو أهواء ذاتية لدى حاكمين تسكنهم شياطين عروبية حمراء، بل يخدم بالضرورة مصالح اجتماعية/سياسية ومادية/طبقية بالأساس. فالتركيز على العروبة والإسلام يخدم هدف إضفاء الشرعية والقدسية على استفراد الملكية بالحكم، وتنزعها في المقابل عن الدعوات الديمقراطية المنادية بجعل الحكم بيد “الشعب”. فقيم الحاكمين “الشرفاء ذوي الدم الأزرق المنحدرين من قريش ولغتهم العربية الفصيحة” يتمتعون بقدرة لدنية تؤهلهم للحكم وتؤسس لتفوقهم وتعزيز مواقعهم ويبررون بها سيطرتهم على الشعب “غير الشريف ولغته الأمازيغية والعربية الدارجة” والعاجز عن “حكم نفسه بنفسه”.

وتكمن الخلفية الإيديولوجية لهذه الصورة في استعادة نفس المنظور الاستعماري؛ “الشعب منحط وعاجز وهجين عرقيا؛ النبلاء الأرستقراطيون غير منحطين ولهم قدرة فائقة وليسوا خليطا من الأعراق. الطبقة الحاكمة تتأسس على سلالة العائلات الأرستقراطية غير المختلطة مع المجموعات الصغيرة العرقية التي تشكل الشعب… الطبقات المسيطرة هي الأكثر تطورا وتجانسا ولغتها هي الهندية الأوربية (عنصرية لغوية)، والطبقات المحكومة أقل تطورا وغير متجانسة ولغاتها ليست إلا باتوا مستهجنة”. (بوجمعة هباز).

ما يثبت هذه الفكرة (فكرة ان تهميش الحكم للأمازيغية ليس مجرد أهواء ذاتية)، أنه بعد احتلال القضية الأمازيغية مكانة أساسية في المجتمع، عادت الملكية وبشكل محتشم في البداية للحديث عن جذورها الأمازيغية تماما كما استدمجت خطاب حقوق الإنسان والمرأة والدمقرطة..، أولا لاحتواء الحركة الأمازيغية وثانيا لتجديد مشروعيتها. وظهر مثقفون داخل هذه الحركة بالذات يدعون الملكية للاهتمام بالهوية الأمازيغية لقدرتها على تجديد مشروعية المؤسسة الملكية بعد استنفاد شعارات العروبة والإسلام لبريقها (محمد أتركين، جريدة العالم الأمازيغي، بن ميس: الأحداث المغربية).

ليس النظام المغربي- على عكس بعض الأطروحات- نظاما قوميا عربيا، إذا كان القومي من يضع مصالح “أمته” فوق كل اعتبار ويعمل لاستقلالها ووحدتها. ليست الشعارات (الوحدة العربية، بناء المغرب العربي، الوطنية والوحدة الترابية..) إلا شعارات وظيفتها إضفاء الشرعية على النظام المغربي وضمان الإجماع حوله وتغطية لدوره الحقيقي في المنطقة كدركي الإمبريالية؛ التدخل العسكري بأفريقيا، منح القواعد العسكرية للولايات المتحدة (اتفاقية 1982)، المساهمة في تصفية القضية الفلسطينية بدفع منظمة التحرير الفلسطينية ومن بعدها السلطة لمزيد من التنازلات والاستسلامات. عرض المغرب في المزاد العلني أمام الشركات متعددة الجنسية واتفاقيات الشراكة والتبادل الحر. أحزاب الحركة الوطنية أو أحزاب المعارضة البورجوازية

رأينا في ورقة سابقة “حول أصول القضية الأمازيغية”، كيف فشلت البورجوازية التجارية المغربية في توحيد المغرب الذي أوشكت عليه في عهد الموحدين. ويعتبر توحيد البلد إحدى المهام التاريخية للبورجوازية بواسطته تخلق سوقا قومية تحت سيطرتها وتسهل عمليات التبادل التجاري. بفشلها سيطرت القوى الإقليمية من زوايا وقبائل حدت من عملية توحيد السوق القومية ومن نمو هذه البورجوازية ذاتها.

فشل البورجوازية في هذه المهمة جعلت دخول الاستعمار يقوم بها نيابة عنها، وهو ما نال رضا البورجوازية المغربية، التي استحسنت عمليات “التهدئة” التي قام بها الجيش الفرنسي منذ 1912، علق محمد بن الحسن الوزاني على ظهير 16 مايو 1930: “إن كان يعترف فصله الأول بأن قبائل جديدة تنضم إلى المملكة فإنما هذا شرط صريح في معاهدة (الحماية) التزمت به فرنسا نحو المغرب وسلطانه (…) فبسط السلم وتوطيد الأمن كانا باسم السلطان ومن أجله كما كانت عملياتهما العسكرية بمشاركة الفرق المغربية، وعلى نفقة الميزانية العامة للدولة المغربية” ولم تنتقد الحركة الوطنية البورجوازية سوى سياسة فرق تسد التي حاولت بها فرنسا تفرقة المغاربة لتأبيد سيطرتها: “فاتخاذ هذا وذاك وسيلة لإبراز الجنس البربري لتلك القبائل ولإعلان أن لها قوانين وأعرافا خاصة إنما هو مكيدة ومؤامرة ضد الكيان المغربي” (الوزاني، حياة وجهاد)، أي ضد توحيد البلد تحت قيادتها هي.

رغبة البورجوازية المغربية في الإبقاء على “وحدة البلاد” كما خلفها الاستعمار الفرنسي، جعلها تحارب ما يتعارض وهذه الوحدة من منظورها السلفي والمثالي لتاريخ المغرب؛ (القوى التقليدية القروية بالأساس “أشياخ وأعيان القبائل” والإسلام الشعبي “الزوايا”)، وجاعلة من العروبة والإسلام إسمنت توحيد المغاربة، ومن الملكية حامي هذا الإسمنت، مستغلة “السياسة البربرية” وظهير 16 مايو لتعليل ذلك.

إن عجز البورجوازية المغربية التاريخي يتجلى في عدم قدرتها على بناء اقتصاد وطني باستقلال عن الإمبريالية، وعدم قدرتها عن بلورة بديل سياسي عن الملكية سينعكس أيضا في عدم قدرتها على بلورة بديل ثقافي إيديولوجي وهوياتي عن الهوية والثقافة واللغة التي تفرضها الملكية على المغاربة. وتبرر البورجوازية تجاهلها لهوية الشعب ولغته وانحنائها أمام الحكم المطلق بمصالح تطور البلد الاقتصادي ووحدته. (وحدة فوقية أرساها الاستعمار على جثث القبائل المقاومة، ودولة الاستقلال على جثث جيش التحرير، وتطور اقتصادي بني على نزع ملكية آلاف الفلاحين وتقويض الاقتصاد الحرفي..).

ثمة مسألة أخرى تتعلق بطبيعة المرحلة التاريخية التي تثار فيها القضايا القومية (بما فيها الأمازيغية)، أي الرأسمالية في مرحلتها الإمبريالية وتمييزها عن بداية الرأسمالية؛ تمييز عصر الحركات الديمقراطية البورجوازية عن عصر الإمبريالية. لقد كانت الدينامية الداخلية للقضايا القومية والثورات القومية تتجه نحو توحيد السوق القومية وتسهيل التبادل التجاري أي نحو توطيد نمط الإنتاج الرأسمالي. أما في عهد رأسمالية الاحتكارات والإمبريالية حيث يتخذ اضطهاد الأمم والشعوب طابعا همجيا فإن الدينامية الداخلية للنضالات القومية تتجه بالعكس نحو تدمير الرأسمالية (روسيا، فييتنام، الصين)، وهذا ما تحاربه البورجوازية بتضييق أفق وضبط دينامية هذه النضالات لإبقاءها في إطار المجتمع الرأسمالي.

هكذا تحول الخطاب التحريري للحركة الوطنية الذي ربط مصير الشعب المغربي المستعمر “بضرورة التعاون والتضامن مع البلدان الشرقية بحكم وجود مجال حضاري ثقافي مشترك يمكن نعته بالمجال “العربي الإسلامي”.. إلى إيديولوجيا لطمس الخصوصية الثقافية للمغرب.. وصنع هوية إقصائية لا تقيم أي اعتبار لما ليس مشتركا مع الشرق”. (أحمد عصيد، مركز طارق بن زياد..).

بعد الاستقلال وما أثاره من استياء اجتماعي لدى المغاربة، لم تجد هذه الأحزاب للإبقاء على شيء من المصداقية سوى التغني بشعارات “القومية العربية” خصوصا إذا استحضرنا تأطير هذه الشعارات للسخط الشعبي بعد هزيمة 1967 ووصول المد الناصري إلى ذروته. إن موقف هذه الأحزاب من القضية اللغوية ليس إلا امتدادا لموقفها من غيرها من القضايا الديمقراطية (الصحراء، المسألة النسائية، الحريات العامة..).

في مرحلة نشأة جمعيات الحركة الثقافية، شنت هذه الأحزاب هجوما عنيفا مفتعلة صراعا دونكيشوتيا ضد الحركة. هاجمت الجمعيات الثقافية بتهم العنصرية والتآمر مع الغرب لتمزيق وحدة البلاد بإحياء السياسة البربرية، وكانت هذه التهم بدون أساس؛ فقد تمسكت الجمعيات في كل أدبياتها بوحدة البلاد ودعت إلى مساواة الأمازيغية مع العربية وليس إقصاء هذه الأخيرة رافعة شعار “الوحدة في التنوع”. أدى هذا التصلب من طرف هذه الأحزاب إلى نمو تصلب مماثل مترجما آلية التماهي مع المتسلط داخل صفوف الحركة يغذيه إقصاء متنامي لحاملي هذه الثقافة. (على سبيل المثال لا الحصر: مقالات علي المحمدي بجريدة تاويزا التي تجعل من الأمازيغية أم اللغات على غرار الليبي فهمي علي خشيم، ما ورد في بيان محمد شفيق “الأمازيغ.. لن يهدأ لهم بال ما لم يتخل عن التنكر لأمازيغية وطنهم؛ وسيكون من حقهم أن يتنكروا لعروبته إن استمر العناد في التنكر “لبربريته””).

استحضرت هذه الأحزاب نفس المنظور الاستعماري رغم انتقادها له؛ تنتقد عمل الاستعمار على فصل “الأمازيغي” عن اللغة العربية لأنها تجر إلى الإسلام في حين أن مصلحة الاستعمار تحتم عليه جعل “الأمازيغ” ينتقلون مباشرة من الأمازيغية إلى الفرنسية (كمال عبد اللطيف، معارك فكرية حول الأمازيغية مركز طارق بن زياد..)، وتستبدل هذا المنظور بمثيله: يجب فصل الإنسان “الأمازيغي” عن الفرنسية لأنها تجر إلى المسيحية ومصلحة سيطرتها على البلاد تقتضي نقله مباشرة من الأمازيغية إلى العربية، وكلا المنظورين يقصي لغة وهوية “الأمازيغ”.

بعد ذلك وخصوصا مع بروز خطاب الحركة الثقافية الأمازيغية وبالأخص بعد تجربة القبايل البطولية بالجزائر ، انفتحت المنابر الفكرية والصحفية لهذه الأحزاب على الأمازيغية لكن بمنطق آخر، منطق يعطي الأولوية لما يسمونه “استقرار البلد وعدم الزج به في أتون الفتنة” أي استقرار نظام الاستغلال والاضطهاد؛ “إذا تمسك كل فريق بما لديه (أي بلغته) واستمرت الحركة في التصعيد، والنتيجة ستسفر عن ما يمكن تشبيهه بثلاث جمهوريات أمازيغية، يصعب تصورها مع وجود ملكية عربية موحدة..” علي العبدي (الاتحاد الاشتراكي 1996)، مؤكدا أن القضية كلها مفتعلة، وأن “مطلب تعليم الأمازيغية، وإدخالها إلى النظام التعليمي بالمغرب، مطلب عاد، بسيط ومقبول ومن حق الأمازيغية أن تعلم…”، لكن مناضلي القضية والجمعيات الأمازيغية يجب ألا يسلكوا طريق النضال الكفاحي والحازم، بل عليهم حسب نفس الكاتب “أن يعملوا على استدراك ما فاتهم من أسباب التعليم لخلق الإطارات الضرورية لاحتلال مراكز القرار في الوزارات والمصالح الإدارية، ومجلس النواب والمجالس البلدية والقروية، والأحزاب والنقابات ومن خلال تلك القنوات سيفرضون أنفسهم وسيردون الاعتبار لهم….، فهذه هي المعركة الحقيقية”، أي توجيه نضال الحركة الأمازيغية وجهة ما أسموه “نضالا ديمقراطيا” نحو مؤسسات الدولة، وهو ما وفت به هذه الحركة، ناصحا “الدولة والهيئات السياسية والنيابية أن تتعامل مع هذه الحركة بالمنطق والقيم الديمقراطية والخلقية، وألا تخلط في هذا التعامل الأوراق، أوراق هاجس الأمن وأوراق مطالب وصيحات وحقوق المهمشين، وأن تترك لهذه الحركة هامش التحرك والتنشيط..”. (علي العبدي ، معارك حول الأمازيغية ص 115) ومن تمسك من هذه الأحزاب بموقفه من الأمازيغية ، اهتدى إليها في اليوم الموالي لإعلان محمد السادس تأسيس “المعهد الملكي للغة والثقافة الأمازيغية”، وسارع الى ملاءمة خطابه مع الموضة الجديدة.

إن شوفينية هذه الأحزاب لا صلة لها باهتمام حقيقي بقضايا الأمة العربية وسعي الى تخليصها من النير الإمبريالي، بل يعري حقيقتها الديمقراطية الزائفة (رفض الاعتراف بهوية ولغة السواد الأعظم من المغاربة)، واستعمالها لقضايا إخواننا المضطهدين في الشرق (فلسطين والعراق) في خداع المواطن المغربي حول الموقع الحقيقي لهذه الأحزاب في نضاله ضد الاستبداد والاستغلال. الأمازيغية والصراع الطبقي

لا يجري الصراع الطبقي معلقا في الفضاء، بل يجري داخل أوطان. هذه الأوطان ليست كيانات مجردة وغير تاريخية، بل تتميز كل منها بخصوصياتها القومية والثقافية تعطي سمة خاصة لهذا الصراع.

إن جوهر الصراع الطبقي هو محاولة لفرض “استغلال الإنسان للإنسان” وإدامته من جانب البورجوازية، ومحاولة إلغاء هذا الاستغلال من جانب الجماهير الشعبية.

يتفق علماء اللسانيات على أن تفوق لغة وانحدار لغة أخرى لا علاقة له بالمعطيات اللسنية لهذه اللغات بل بعوامل سياسية بالأساس؛ “اللغة هي لهجة تتبناها الأمة بأكملها. ما هي آليات هذا التبني؟ الصراع الطبقي عبر تطور البنية التحتية والفوقية لمجتمع ما في مرحلة معينة. ومنه: اللغة هي لهجة سيطرت سياسيا على اللهجات الأخرى. هذا يعني أن اللغة واللهجة لا فرق بينهما من ناحية بنيتهما الداخلية اللغوية.. إن القطيعة الابستمولوجية بين اللغة واللهجة ليست لسانية… ولكن سياسية (اللغة تعني لهجة شعب أو أمة فرضت نفسها سياسيا عبر الصراع الطبقي على باقي اللهجات الأخرى لنفس الشعب” (بوجمعة هباز، من كتاب مختطف بدون عنوان لسعيد باجي)، أي أن تفوق الفرنسية والعربية الفصيحة بالمغرب لا علاقة له ببنيتهما اللسنية بل بتفوق حامليها (الإمبريالية الفرنسية والبورجوازية المغربية ونظام حكمها الملكية).

ثم إن سيطرة لغة (لغة الحاكمين) على لغات أخرى (لغات المحكومين) ليست نتيجة ثانوية للصراع الطبقي، بل إحدى آلياته. “.. بما أننا نتواجد تاريخيا في مجتمعات طبقية، فإن الطبقة المهيمنة هي التي تفرض لهجة محددة وترقيها إلى مستوى لغة ثم لغة وطنية، ولكون الطبقة المهيمنة تستغل الشعب (بلهجاته)، يصبح ضروريا لها أن ترفع من قيمة لغتها وأن تحط من قيمة اللغات الأخرى للشعب أو الأمة كي يستمر استغلال الإنسان للإنسان”. (بوجمعة هباز، نفس المرجع..).

إن إقصاء الشعب من الميدان الثقافي (بعدم تدريس لغته وثقافته)، يؤدي إلى إقصاءه من ميدان النضال والفعل السياسي، ولا يسمح للجماهير الشعبية بدخول مضمار النضال الاجتماعي بلغتها الخاصة، بل بلغة أعدائها مما يؤبد نخبوية هذا النضال. ولا يسمح لغير من تعلم لغة الحاكمين بدخول ميدان الإنتاج الفكري والأدبي والسياسي باعتبارها مجالات أسياسية للصراع الطبقي، تلعب فيه اللغات دور الناقل للمشاريع الاجتماعية المتصارعة: “بالنسبة لنا اللغة ليست فقط وسيلة للتواصل، إنها كذلك وسيلة لأدلجة الطبقات والشعوب والإثنيات والأمة (اللغة تصلح للهيمنة الأيديولوجية من أجل استغلال الإنسان للإنسان، كما تصلح للتحرر الإيديولوجي من أجل ألا يستغل الإنسان إنسانا آخر)”.(بوجمعة هباز، مختطف بدون عنوان 113/114).

ويلعب تهميش الأمازيغية ومن خلالها حامليها دورا أساسيا في سياسة “فرق تسد”. هذه السياسة التي تعيق وحدة الكادحين المغاربة (ناطقين بالأمازيغية أو الدارجة) في وجه الاستبداد والاستغلال الاقتصادي. فيفسر كل على حدة الكوارث الاجتماعية التي يفرضها النظام الاقتصادي/ الاجتماعي (بطالة وفقر وقمع سياسي) تفسيرا محرفا: يرى الناطق بالأمازيغية سبب مآسيه في احتكار الفاسيين للتجارة ومناصب الدولة، ويرى الناطق بالعربية السبب في احتكار التجار السوسيون للتجارة الكبيرة في المدن الكبرى (الاختيار هنا ليس اعتباطيا بل ترد بشكل جماهيري في الأوساط الشعبية).

إن الوضعية الدونية للأمازيغية والدارجة المغربية تفصح عن تراتب وتفاوت لغويين، لا يعكسان بدورهما سوى تراتبا وتفاوتا اجتماعيين؛ “أقلية مسيطرة اقتصاديا أداة تخاطبها الفرنسية….فئة ثانية قاسمها المشترك استعمال اللغة العربية (القوى التقليدية، القوى العصرية التي تنتمي في أغلبها إلى الطبقات الشعبية، جيوش من المثقفين المعطلين) وأخيرا فئة أخرى لا يضرب لها الحساب… ووسيلة تخاطبها الدارجة المغربية أو الأمازيغية، وهذه الفئة تأتي في أسفل الهرم الاجتماعي”. (المسألة الثقافية في المغرب” حسن حجيل، معارك فكرية حول الأمازيغية، مركز طارق بن زياد ص 64).

أما فيما يخص مشروع التعريب الذي تم انتقاده بشراسة، فيخدم أهدافا طبقية بحثة، إعادة إنتاج التفاوت الاجتماعي المذكور أعلاه، وهذا ما أكده مجموعة من مفكري الحركة الثقافية الأمازيغية: “.. المرامي الحقيقية لهذه السياسة الثقافية والتربوية- التعريب- ستنكشف بعد عقد واحد من الاستقلال، حيث ظلت هذه النخبة متشبثة باللغة الفرنسية في الإدارة والتسيير وفي تعليم أبنائها الذين سيرثون نفس المراكز المؤثرة…” (أحمد عصيد، معارك فكرية حول الأمازيغية..ص 125). “.. التعريب نفسه تصريف لسياسة نخبوية هدفها إغراء الجماهير الفقيرة بجاذبية الشعارات العامة، في حين أن هناك نخبا هي اليوم بصدد تسلم مواقع أسرها بعدما تمكنها من الحصول على تكوين علمي- مهني عال من مؤسسات جامعية أجنبية تحتكر أنواعا من التكوين النادر..هكذا يبدو اليوم أن هناك قطاعا واسعا من الرأي العام يحس بأن سياسة التعريب عموما تعد بمثابة إجراء للانتقاء الاجتماعي من شأنه أن يلعب ضد الفئات المحرومة”. (ذ. ع الإله حبيبي، نفس المرجع ص 245)، “فالمسألة ليست، ولن تكون، مسألة عرقية أو إثنية تتصارع حولها الأقوام..” بل مسألة “استلاب كما تسميه الأدبيات الماركسية التقليدية. وذلك انطلاقا من تماهي إيديولوجي بين الإسلام والعروبة. وأفضت في النهاية إلى احتكار الخيرات المادية والرمزية… فأصبحت الأمازيغية لغة الأسواق الأسبوعية ودكاكين البيع بالتقسيط، وانبرت العربية كلغة للسلطة السياسية، بينما ذهب المدافعون عن لغة السلطة تلك إلى تعليم أبناءهم في المدارس الأمريكية والفرنسية. لماذا؟ ليكسب الآباء السلطة السياسية والرمزية، وليكسب الأبناء السلطة المادية غدا” (د. عبد اللطيف أكنوش، معارك حول الأمازيغية، مركز طارق بن زياد).

أوجه اضطهاد “الأمازيغ”

يكثر الجدل حول طبيعة اضطهاد الأمازيغ بالمغرب، فمن استعمار إلى تهميش ثقافي إلى إبادة جماعية تكثر توصيفات هذا الاضطهاد التي سنحاول إبداء رأينا فيها.

لم يعرف المغرب (إذا استثنينا فترة الاستعمار) حالة واحدة من حالات الإبادة الجماعية (التدمير المنهجي لجماعة بأكملها بالقتل الجماعي الهادف لمنع إعادة إنتاجهم البيولوجي والاجتماعي. إريك توسان، البورصة أو الحياة) التي عرفتها بلدان أخرى تشهد قضايا قومية تفجرية (الأرمن والأكراد بتركيا، الأكراد بالعراق، الهنود الحمر)، فالمغرب “لم يعرف حروبا قائمة على التمييز الإثني بقدر ما كان العامل السياسي الاقتصادي الثقافي هو المحرك الحقيقي لكل الثورات والحروب الداخلية”. (عصيد، معارك فكرية حول الأمازيغية، مركز طارق بن زياد..124).

كما أن مصطلحات كالعرب والبربر/ الأمازيغ (مصطلح أمازيغ كان ولا يزال يستعمل في الأوساط الشعبية للتمييز بين الأحرار والعبيد، أي لتمييز وضعية اجتماعية وليس هوية ثقافية ما) لم تكن حاضرة في التمثلات الشعبية للمغاربة، بل مصطلحات مرتبطة بعلم الاجتماع الاستعماري الفرنسي، وورثته الحركة الوطنية بعد ذلك. قبل الاستعمار لم تكن الإحالة بالنسبة للمغربي تعبر عن انتماء عربي أو أمازيغي، بل كانت تحيل إلى مجال أضيق أي المجال القبلي (باعمراني، سوسي،ريفي، فاسي..)، أو إلى مجال أوسع يحيل إلى الانتماء إلى الأمة الإسلامية، وهذا ما أكده عالم الاجتماع والمناضل الأمازيغي الجزائري سالم شاكر بخصوص منطقة القبايل. (كتاب “الأمازيغيون اليوم”).

تختلف طبيعة الاضطهاد اللاحق بالأمازيغ، عن الاضطهاد اللاحق بغيرهم من القوميات. ففي الوقت الذي يرى فيه الصحراويون أنصار استقلال الصحراء اضطهادهم الخاص في شكل دمج قسري داخل تراب الدولة المغربية ويطالبون في المقابل بمنحهم حق تقرير المصير واستقلالهم عن الدولة المغربية. يرى “الأمازيغ” اضطهادهم الخاص في تهميش الدولة لثقافتهم ولغتهم وإقصائها من أجهزة الدولة الإيديولوجية، ويدعون بالتالي إلى دمجها والاعتراف بها داخل هذه الأجهزة. نحن إذن أمام اتجاهين متعاكسين؛ واحد يريد الاستقلال عن الدولة (الصحراويون) والآخر يريد الاندماج في الدولة (“الأمازيغ”).

سلكت الدولة المغربية طريق الإبادة الثقافية لتجفيف الينابيع الثقافية لهذه الفئة من الشعب المغربي، بمحو معالمها (تعريب أسماء الأماكن وإهمال معالم الحضارة الأمازيغية.. وفي أحسن الحوال تسليعها) وحرمان المغاربة من تدريس لغاتهم وثقافاتهم ودمجها في الإعلام والفضاءات العمومية (الإدارات العمومية، القضاء..)، مما مهد لحصر الأمازيغية في نطاقات ضيقة وخصوصية داخل الحياة العامة.

أزنزار

شارك المقالة

اقرأ أيضا