(7) الأسرة والطقوس

غير مصنف15 نوفمبر، 2017

ثمة لحظات ثلاث أساسية وطقوسية في حياة الإنسان والأسرة، تتوسل بها الكنيسة لتشد العامل إلى غلها، حتى ولو كان غير مؤمن أو ضعيف الإيمان، وهي : الولادة، والزواج، والوفاة. وقد حادت الحكومة العمالية عن طقوسية الكنيسة، وشرحت للمواطنين أن لهم كل الحق في أن يولدوا، ويتزوجوا، ويموتوا دون اللجوء إلى الشعائر السحرية لأولئك الذين يرتدون المسوح أو غيرها من الملابس الكهنوتية. بيد أن التخلي عن الطقوس أصعب بكثير بالنسبة إلى نمط الحياة منه إلى الحكومة. فحياة الشغيلة رتيبة أكثر مما ينبغي ( متماثلة أكثر مما ينبغي )، ورتابتها وحدها كفيلة بإنهاك الجهاز العصبي. من هنا الحاجة إلى الكحول : ففي زجاجة صغيرة عالم من الصور. من هنا أيضا الحاجة إلى الكنيسة بطقوسيتها. فكيف يحتفل بزواج أو بميلاد داخل الأسرة ؟ كيف يكرم قريب لاقى حتفه ؟ هذه الحاجة إلى التأكيد على مراحل الحياة الرئيسية، إلى الإحتفال بها وتجميلها، هي الركيزة التي تعتمد عليها طقوسية الكنيسة.

لكن بمَ نواجهها ؟ صحيح أننا نقابل الخرافات التي هي قاعدة الطقوسية بالنقد الماركسي، وبعلاقة موضوعية بالطبيعة وقواها. بيد أن هذا الإعلام العلمي والنقدي لا يحل المشكلة : فهو أولا لم يطل بعد – ولن يطال لفترة طويلة من الزمن – سوى أقلية من الناس، وهذه الأقلية، ثانيا تشعر هي الأخرى بحاجة إلى تجميل، وترقية، وتعظيم حياتها الشخصية، في اللحظات الهامة على الأقل.

لقد باتت للدولة العمالية أعيادها، ومواكبها، واستعراضاتها العسكرية، واحتفالاتها، وعروضها الرمزية، وأبهتها المسرحية. صحيح أن هذه الأخيرة تذكر إلى حد بعيد بمسرحية الماضي، وتقلدها، بل لا تعدو أحيانا أن تكون استمرارا لها. غير أن جوهر الرموز الثورية جديد، واضح وقوي : العلم الأحمر، المنجل والمطرقة ، النجم الأحمر، العامل والفلاح، الرفيق، والأممية. والحال أن هذه الرموز الجديدة تكاد تكون منعدمة الوجود داخل الخلية العائلية المنطوية على ذاتها، أو على الأقل ضعيفة التأثير. علما بأن حياة الفرد مرتبطة على نحو وثيق بحياة العائلة. هذا ما يفسر أن الغلبة في الأسرة، على صعيد العلاقات اليومية، هي للعناصر الأكثر محافظة، فهي تبقي على الأيقونات، وعلى العماد، وعلى المآثم الدينية، لأن العناصر الثورية في الأسرة لا تجد ما تعارضها به. فالحجج النظرية لا تؤثر إلا على العقل، في حين أن الطقوسية المسرحية تؤثر على المشاعر والمخيلة، وتأثيرها بالتالي أعظم بكثير. لذلك ينبغي، حتى في الوسط الشيوعي نفسه، معارضة هذه الطقوسية القديمة بأشكال جديدة، برموزية جديدة، وذلك لا على الصعيد الرسمي فحسب حيث تأصلت على نحو واسع، وإنما أيضا على صعيد الأسرة. فثمة نزعة لدى العمال للإحتفال بعيد الميلاد، لا بعيد القديس، ولإعطاء الطفل الوليد، لا إسم قديس، بل إسما جديدا يرمز إلى وقائع وأحداث وأفكار قريبة منهم. لقد علمت للمرة الأولى مثلا، أثناء اجتماع محرضي موسكو، أن اسم اكتوبرين قد أصبح شائعا بالنسبة إلى الفتيات. وقد ذكر كذلك إسم نينيل ( لينين بالمقلوب ) وريم ( إسم مركًّب من الأحرف الأولى لكلمات ثورة وكهرباء وسلم في الروسية ). وقد بات الناس، تأكيدا منهم على تعلقهم بالثورة وارتباطهم بها، يطلقون على أولادهم أسماء فلاديمير، وإيليتش، بل لينين أيضا. وكذلك روزا ( إكراما لروزا لوكسمبورغ ) إلخ. في بعض الأحيان يعقب الولادة طقس لا يخلو من روح دعابة : فلجنة المعمل تتولى ” فحص ” الوليد، ثم تحرر ” بيانا ” تؤكد فيه أن الوليد أصبح مواطنا سوفياتيا. بعد ذلك ينتقل الجميع إلى مائدة الطعام.

إن دخول الطفل إلى المدرسة قد يكون في بعض الأحيان مناسبة احتفال لدى الأسر العمالية. وهذا حدث هام للغاية في الواقع، لأنه يرتبط باختيار مهنة، وخط في الحياة. ويمكن أن تتدخل النقابة هنا بروية، ذلك أن النقابات على وجه التحديد هي التي ستشرف، في المرتبة الأولى، على خلق وتنظيم أشكال نمط الحياة الجديد. لقد كانت أخويات القرون الوسطى عظيمة الشأن، لأنها كانت تطوي تحت جناحيها حياة التلميذ والمتمرن والمعلم. فقد كانت تهتم بالطفل منذ لحظة ولادته، تم تقوده إلى أمام المذبح يوم قرانه، ثم تدفنه عندما ينتهي من إنجاز مهمته. ولم تكن الأخويات تقصر عملها على تجميع أهل المهنة الواحدة، بل كانت تنظم نمط الحياة برمته. إن نشاط نقاباتنا سيتطور في هذا الإتجاه على الأرجح، مع فارق أكيد : فإن نمط الحياة الجديد، بخلاف نمط القرون الوسطى، سيكون متحررا تماما من الكنيسة وخرافاتها، وقائما على الرغبة في استغلال كل فتح علمي وتقني لإغناء حياة الإنسان وتجميلها.

إن الزواج قد يستغني بسهولة أكبر عن الإحتفالات علما بأن حالات عديدة من ” سوء التفاهم ” والفصل من الحزب قد وقعت بسبب عقد القرانات في الكنيسة. ذلك أنه يصعب على نمط الحياة التكيف مع الزواج البسيط الذي لا تجمله أي أبهة مسرحية.

لكن يبقى الدفن مصدر المتاعب الأعظم. فإن دفن ميت دون تلاوة صلاة عليه شيء مألوف، غريب ومخجل كتنشئة طفل لم يعمد. وفي الحالات التي يرتدي فيها المأتم طابعا سياسيا، بسبب مكانة الميت، فإن طقوسية جديدة، مسرحية، متشبعة بالرموز الثورية، بدأت تفرض نفسها : الأعلام الحمر تعلق، والنشيد المأتمي الثوري يعزف، والرصاص يطلق حزنا على الراحل. لقد نوه بعض المشاركين في اجتماع موسكو بأهمية الترميد، واقترحوا، على سبيل المثال، حرق جتث الثوريين البارزين، الأمر الذي من شأنه أن يشكل وسيلة كفاح قوية ضد الكنيسة. لكن الترميد، الذي آن الأوان للجوء إليه، لا يعني التخلي عن المواكب، والخطب، والألحان المأتمية والرشقات النارية. فالحاجة إلى التعبير عن المشاعر حاجة قوية و مشروعة.

إذا كانت الأبهة المسرحية لنمط الحياة وثيقة الإرتباط بالكنيسة في الماضي، فهذا لا يعني على الإطلاق أن الفصل بينهما أمر مستحيل كما سبق أن أشرنا إلى ذلك. فالفصل بين المسرحية والكنيسة قد حصل في الواقع قبل الفصل بين الكنيسة والدولة. لقد حاربت الكنيسة، في العصور الأولى، المسرح ”العمومي” لأنها كانت تعتبره عن حق منافسا خطيرا لعروضها المسرحية. وإن كان المسرح قد بقي على قيد الحياة فإنما كعرض خاص، سجين أربعة جدران. أما على صعيد الحياة اليومية، فإن الكنيسة قد إحتفظت، شأنها في الماضي، باحتكار الإخراج المسرحي. ولقد نافستها في هذا المضمار بعض الجمعيات السرية كالماسونية. غير أنها كانت هي الأخرى مشبعة إلى أقصى حد بنوع من المظهرية التقوية الدنيوية. بإمكاننا خلق ” طقوسية ” ثورية على مستوى نمط الحياة ( نستخدم كلمة ” طقوسية ” لعدم توفر عبارة أفضل )، ومحاربة طقوسية الكنيسة الكنيسة بواسطتها، لا فيما يتعلق بالأحداث الجماعية الطابع فحسب، وإنما الأحداث العائلية أيضا. فالأوركسترا التي تعزف لحنا مأتميا تستطيع في معظم الأحيان أن تنافس القداس. وعلينا بكل تأكيد أن نستغل هذه الأوركسترا لنحارب طقوسية كنيسة قائمة على أساس إيمان خانع بعالم آخر، عالم يعوضنا بمئات الأضعاف عما عانينا من شر الدنيا وبؤسها. وستكون السينما أعظم فائدة أيضا بالنسبة إلينا في هذا المضمار.

نمط الحياة هذا، والأبهة المسرحية الجديدة هذه، لن يتطورا إلا بالتوازي مع تقدم محو الأمية والرفاهية المادية. عديدة هي الأسباب التي تحثنا على مراقبة هذه الاوالية بفائق الإهتمام. ولا بد من أن نستبعد أولا فكرة تدخل قسري آت من فوق، أي بقرطة الظواهر الجديدة لنمط الحياة. فوحده الخلق الجمالي للجماهير العريضة، يؤازره إبداع الفنانين وخيالهم الخلاق ومبادراتهم، قادر على أن يقودنا بالتدريج، خلال السنوات والعقود القادمة، على طريق أشكال الحياة الجديدة، الأكثر نبلا وروحية، والمشبعة بالأبهة المسرحية الجماعية. وعلينا، منذ الآن، أن نسخر سائر الوسائل لمساعدة هذه السيرورة الخلاقة على التطور والنمو، دون أن نعمد مع ذلك إلى تنظيمها وضبطها. ومن أجل ذلك لا بد أن نبدأ بإعادة النظر إلى هذا الأعمى الذي هو نمط الحياة. يجب أن ندرس بتأن كل ما يجري في الأسرة العمالية، وفي الأسرة السوفياتية عامة. فكل جديد، كل جنين، أو حتى كل إشارة إلى هذه الأشكال الجديدة، يستحق أن يرد ذكره في الصحف وأن يطلع عليه الجميع، بغية ايقاظ الإهتمام والخيال الخلاق وإعطاء دفع جديد لعملية الخلق الجماعي لنمط الحياة الجديد.

وهذه مهمة الكومسومول في المرتبة الأولى. صحيح أن كل ما نكون قد تخيلناه أو باشرنا بتحقيقه لن يعطينا نتيجة نهائية بالضرورة. لكن أي شر في ذلك ؟ فالخيارات لا بد أن تتم بالتدريج. والحياة الجديدة ستوجد الأشكال التي تناسبها. وبالإجمال ستكون أغنى، وأفضل، وأرحب، وأجمل وأزهى. وذلك هو على وجه التحديد لب المشكلة.

شارك المقالة

اقرأ أيضا